جاءت الزهراء عليها السلام، وجاء شيعة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ، ينسفون علانية وفي الجامع النبوي وبمسمع من الناس ومشهد كل اساس شرعي لهذه الخلافة.جاءت الزهراء تطالب بالميراث وتطالب بفدك، لكنّها لم يكن من قصدها ذلك بمقدار ما كانت تقصد إلى شيء آخر.
تقصد إلى تحطيم مزاعم الخلافة حين أقصت عليّاً عن الحكم، ووضعت نفسها، فاذا هي تبتعد عن الميراث، وتبتعد عن فدك، وتقول للناس:
" أيّها الناس اعلموا:انّي فاطمة، وأبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم. وأخا ابن عمي دون رجالكم.. ".
ثم بعد أن تعرّفهم مقامهم من الرسالة، انهم حملة دين الله ووحيه، وأمناء الله على أنفسهم، وبلغاؤه إلى الأمم، وبعد أن تعرّفهم مقامها من الرسول، تجرّهم إلى قضية الخلافة، وتتهمهم بالنكوص والخذلان والانحراف قائلة:
" قد لسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لمّا يغبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين.
فهيهات منكم، وكيف بكم، وانّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلَّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بَدَلا... ".
ليست الزهراء بصدد فدك. لا نخلات ولا نخيلات، هل تستنهض الأنصار، وتحدث أكبر شقاق، لأجل فدك؟
ماذا كانت تعني حين خاطبت الأنصار:
".. وأنتم ذو العدد والعدّة، والأداة والقوّة، وعندكم السلاح والجنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.... فأنّى صرتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الاعلان؟ وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم.. ".وما فدك؟! حتّى تثور لها الزهراء (عليه السلام) هذه الثورة، فتجردهم من الإيمان، وتتهمهم بالإشراك، ونكث العهد، والاسرار بعد الاعلان؟ وتذكرهم بأنهم الخيرة التي اختيرت لنصرة أهل البيت.
ومرّة أخرى أسمعتهم مقالها، وعرَّفتهم رأيها، يوم اجتمعت بنسائهم قائلة:
" ويحهم انّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة ومهبط الروح الأمين، الطبين بأمور الدنيا والدين ـ تقصد عليّاً ـ ألا ذلك هو الخسران المبين..!
وما الذي نقموا من أبي الحسن؟!
نقموا والله منه نكير سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافأوا على زمام نبذه إليه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لاعتقله وسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشه، ولا يتتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا روياً فضفاضاً... ".
حتّى تقول:
" وان تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أي لجأ التجاؤا؟ وبأي عروة تمسكوا، لبئس المولى ولبس العشير، وبئس للظالمين بدلا.
استبدلوا والله الذنابا بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعاً، ألا انّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
ويحهم! أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمَّن لا يهديّ الا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون؟ ".
الزهراء صريحة هنا كل الصراحة، ما الذي نقموا من أبي الحسن؟
أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع أمّن لا يهدي الا أن يهدى؟
وَلِمَ أَبعدوه عن زمام نبذه إليه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)؟
فهي إن بدأت بحقها في فدك، جاوزته سريعاً إلى حقّ علي في الإمامة.
وهي إن بدأت بحقّ علي انتهت بحقّ علي أيضاً.
وكان ذلك اعلاناً بعد إعلان، وبياناً بعد بيان.
وهي إذ تموت توصي أن تدفن ليلا، ولا يشهد جنازتها أحد من هؤلاء الذين ظلموها!
وهي قبل أن تموت تعلن غضبها وسخطها على أبي بكر وعمر أمام الناس مرّة، واليهما مرّة اخرى حين جاءاها معتذرين فما عذرتهما.أمّا شيعة علي فقد كان لهم نصيب في هذا الإعلان، وقد نقل المؤرخون احتجاجاً لاثني عشر رجلا من أصحاب علي (عليه السلام) صرحوا به أمام الملأ العام في مسجد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم).
اما علي فهو لم يقنع برفض البيعة.
ولم يقنع أن كشف للناس رأيه في هذه الخلافة.
إنّما ظلَّ يصطحب الزهراء (عليها السلام)، يطوف بها ليلا على بيوت الأنصار، ولمدّة أربعين يوماً على ما تتفق عليه المصادر التاريخية.
وهو في هذا الطواف يشرح للأنصار واقع المنحى الذي اتجهت إليه التجربة الإسلامية حين أخذ الزمام من قيادتها الحقيقية، والزهراء معه تشرح لهم أبعاد ما يؤول إليه هذا الواقع.
وباستمرار كان علي (عليه السلام) وكان الخط الشيعي كلا يعمل إلى ترسيخ هذا المفهوم عن خلافة السقيفة، واعتبار الوضع وضعاً استثنائياً، وفي حالة غير طبيعية.
كان ينبه الأمة على أنها لا تعيش التجربة الإسلامية الحقيقية، وكما أرادها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأرادها الإسلام، وبالتالي يجب أن لا يفهم الإسلام من هذه المداخل غير الطبيعية.
حينما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على العمل بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين، إمتنع، وقال: على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي.
أي موقف أغرب من هذا الموقف، وأوضح منه دلالة في نفس الوقت.
كان علي في هذه اللحظة بالذات قادراً على أن يربح الحكم، لكن ذلك يكلفه الاعتراف بالشريعة لخلافة السقيفة، وهو لا يريد ذلك، فرفض رفضاً وهو يعلم انّ القيادة ستبتعد مرّة ثالثة، وهو يعلم انّ القيادة ستصير إلى عثمان، لكنّه كيفما كان لا يرى من صالح الرسالة أن يقبل البيعة وفيها الاعتراف بقيموميّة الشيخين على الرسالة.وبهذا كان واضحاً لدى الرأي العام انّ علياً غير منسحب عن رأيه في خلافة السقيفة، وهو ما يزال يرى نفسه صاحب الحقّ الشرعي، رغم أنه عملياً قد بايع هذه الخلافة.
الخليفة الثاني كان يعرف هذه القضية جيداً. وكان يودُّ من أعماقه لو انّ علياً يتنازل له حقيقة وينسى الماضي.
كان يقول لابن عباس:
" حدّثني في صاحبكم هل بقي في نفسه من هذا الأمر شيء؟ ".
وحين صارت الخلافة لعلي لم ينس ضرورة التأكيد على هذه الحقيقة ذلك انّ المسألة لم تكن مسألة خلافة وحكم، وإنّما أصبحت مسألة خطوط للتعبير عن الإسلام.
فخلافة السقيفة لم تحكم فقط وإنما رسمت للرسالة خطاً معيّناً، في المفاهيم، والأهداف، وطريقة فهم الشريعة عموماً، بينما علي (عليه السلام) لا يؤمن بذاك الخط ويرفضه، ونحن سنرى إن شاء الله ان حكم الشيخين أصبح فيما بعد هو المستقى الذي اخذت عنه المدرسة السنيّة مجموع تصوراتها عن الرسالة.
إذن فالامام علي عليه السلام حين جاء إلى الحكم وبمقدار ما كان يسعى عملياً وممارسة مسح الأخطاء والتحريفات المتقدّمة سعى نظرياً لتأكيد وجهة نظره في خلافة السقيفة. فأعلن صريحاً أنها خروج عن الخط الطبيعي الذي وضع للتجربة الإسلامية.
ولعل خطبة الشقشقيّة كانت من أوضح تصريحاته في هذا السبيل." أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وانّه ليعلم انّ محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عين السيل، ولا يرقى إليَّ الطير، فسلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين ان أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه... ".
ويستمر في عرض أصدق صورة عن خلافة السقيفة، وحين استشهد الإمام علي (عليه السلام) جاء الامام الحسن (عليه السلام) ليؤكد للناس ان الفشل السياسي الذي أصيب به الخط لا يزعزع من قيمة الخط نفسه، ولا يقتضيه للانسحاب ونقض تصوّراته وقناعاته.
وجرياً مع الأطروحة التي أعطاها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، وأرادها الوحي، في وضع قيادة التجربة الإسلامية بيد أهل البيت (عليهم السلام).
وحينما جاء الإمام الحسن (عليه السلام) واضطرته الظروف السياسية لأن يصالح معاوية صالح معاوية، لكن دون أن يعطيه أي قدر من الشرعية، وأي اعتراف بالقانونيّة.
صالحه على أن لا يدعوه بأمرة المؤمنين، وأمام الناس جميعاً قرئ كتاب الصلح، وكشف النقاب عن محتواه.
فقد جرّده إذن ـ ولو نظرياً ـ من إمرة المؤمنين، ومن الزعامة.
وحينما إشترط في الصلح أن تكون الخلافة له بعد معاوية، ثم لأخيه الحسين إن لم يكن هو في الوجود، كان ذلك كافياً لترسيخ المضمون الفكري للخط، وتحديده وتعميقه للناس رغم كل الحراجة والضغوط السياسية. إذن فالحسن الآن هو الخليفة الحقيقي، والزعيم الشرعي، ومن بعده الحسين، وليس لمعاوية شيء في ذلك سوى انّه غاصب، وغاصب فقط. كان المطلوب والمقصود في هذه المرحلة جرّ الرأي الإسلامي نحو الإعتراف بزعامة أهل البيت، واعتبارهم الممثل والزعيم والموجّه الحقيقي.وكانت كلّ الخطوات مرسومة وموضوعة من أجل هذه الغاية، من علي وعمار وسلمان وأبي ذر، وإلى الحسن وأصحاب الحسن، ثم إلى الحسين (عليه السلام).
علي (عليه السلام) حين كان يدعو لنفسه، ويرشح نفسه، كان لا ينسى التأكيد على المحتوى الحقيقي للفكرة، فهو لا يرشح نفسه لأنّه علي، وانّما لأنّه واحد من أهل البيت الذي أعطيت لهم القيادة بوصفهم:
" القارئ لكتاب الله، الفقيه لدين الله، العالم بالسنّة... ".
بهذا الإتّجاه استخلف الحسن عليه السلام.
وبهذا الإتّجاه رفض الحسن أن يعترف لمعاوية ـ رغم انّه مضطر لمصالحته ـ وبهذا الإتّجاه اشترط أن تكون الخلافة له ثم للحسين.
وسياسياً كان الامام الحسن (عليه السلام) يرعى صالح الخط، لأنّه يرعى صالح الإسلام نفسه.
والأمة اليوم أمام مفترق طرق، والإسلام يواجه ضربة عنيفة، ضربة يسدّدها معاوية لتركيع الوجود الإسلامي كلّه، والإنزلاق به إلى وادي معاوية وبني معاوية، حيث تتحرَّف وتموّه وتزيَّف كلّ مفاهيم الرسالة ثم تخرج إلى الناس باسم الرسالة وهنا كان الحسن (عليه السلام)..كان مسؤولا عن وضع العلائم والدلائل على الخط الآخر، والايضاح للناس انّ خط معاوية ليس هو خطّ الإسلام الحقيقي، انّما خط (أهل البيت).
وإذا كان هذا هو خطّ الإسلام فالحسن عليه السلام يسعى لصالح هذا الخطّ..
كان من أهم أهداف الحسن (عليه السلام) في الصلح الحفاظ على الوجود الشيعي المهدّد، والذي يواجه أخطر محاولة لتصفية نهائية أخيرة.
ولقد استطاع (عليه السلام) أن يستخدم حتّى معاوية نفسه لترسيخ هذا الخط من حيث لا يشعر فقد إشترط عليه " أن لا يتتبع شيعة عليّ وأن يعطي من له شهيد وأن لا يسبّ علياً ".
وبالرغم من انّ معاوية لم يلتزم بذلك عملياً، الاّ انّه سجَّل على نفسه وفي التاريخ محتوى هذا الخط، ووجود هذا الخط.
فهناك علي، وهناك شيعة علي، والحرب ليست حرب أشخاص وإنّما حرب خطوط.
لقد اشترط عليه أن يرفع السبّ عن علي.ولقد كان معاوية يدرك حقيقة المعركة، كما كان الحسن والخطّ الشيعي كلا يدرك حقيقة المعركة.
والاّ فما معنى أن يتخذ معاوية سبّ علي سنّة، وما معنى أن يعلن للناس البراءة ممن ذكر حديثاً في علي.
وما معنى أن يكتب لعملائه في الأقطار أن يضعوا في الشيخين وفي عثمان وفي عموم الصحابة مئات الأحاديث، ولا يدعوا فضيلة لعلي الاّ وجاؤوا بمثلها وأحسن منها للشيخين.
لقد بدأت معالم الخطوط تتّضح أكثر وتتجدد، وأصبح خط علي يأخذ موقعه، بعد سنوات، وبعد أن استشهد الامام الحسن عليه السلام ومات معاوية وجاء يزيد، ظهر أكبر تكتل في الوسط الإسلامي يحمل اسم علي.
لقد ظهر أكبر تكتل يحمل اسم شيعة علي، والآن دعا لبيعة الامام الحسين علِه السلام .
والامام الحسين حينما ثار ماذا قال للناس؟ لقد جمع الحجيج وخطبهم معلناً عن بطلان حكومة يزيد، وداعياً للثورة عليها.
كان واحداً من أهداف الامام الحسين عليهن السلام في نهضته أن يركز الخطّ ولو نظرياً، وفي فهم الناس. كيف؟
لأن آلاف الناس في الكوفة دعوا الحسين علیه السلام لمبايعته، وقالوا نحن شيعتكم وأنتم قادتنا ولا غيركم.
لماذا لم يكتب هؤلاء إلى رجل آخر من رجالات الإسلام؟
إلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير؟ لماذا الحسين خاصة؟ صحيح انّ الحسين هو ابن علي، ولكن عبد الله بن عمر هو أيضاً ابن عمر؟!
انّهم أصبحوا يدكرون انّ خطّ علي هو الخط الذي يحمل هموم الرسالة، ولذلك فهو الذي يعاديه خصوم الرسالة.
والحسين يريد أن ينمي هذا الشعور، ويعمق هذا الفهم، وهو لذلك لا يريد أن يخيب ظن هؤلاء به، وبالتالي يفقدوا ثقتهم بالخط كلّه.
وهو حتّى لو علم بأنّهم خاذلوه فيما بعد وتاركوه، فانّه لا يترك الجهر بهذا الصوت لكي يعرف هذا الصوت.تركيز الخط، ووضع قواعده، وجرّ الناس إليه، كان واحداً من أهداف ثورة الامام الحسين عليه .
انّ الدم الذي سال في كربلاء لم يجف حتّى عرّف الناس كلّهم انّ أهل البيت هم رمز الإسلام ومركزه. ليس الحسين وحده ولا وحده ولا، انّما أهل البيت كلّهم.
ولذا فإنّ الدعوات والثورات التي اعقبت ثورة الحسين، كانت جميعاً تحمل اسم أهل البيت.
أرأيت الآن ماذا صنع علي والحسن والحسين (عليهم السلام).
انّهم وضعوا القاعدة، أو بالأحرى ركزوا القاعدة التي وضعها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، ركزوها نظرياً.. من خلال تأكيد وتعميق وترسيخ صوت أهل البيت. وركزوها وجوداً وخارجاً.. من خلال رعاية المؤمنين بالخط وتحصينهم، وجرّ الناس الآخرين للدخول في قواعد الخط.
وبهذا بدأ يتكاثف بسرعة هائلة عدد الشيعة المؤمنين بأهل البيت، ورسخ في فهم الناس خطّ أهل البيت بوصفه الطريقة الصحيحة للإسلام.
المصدر :
بتصرف من کتاب تاریخ التشیع الفکری والسیاسی /السید صدر الدین القبانجی
/ج