طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت بعد عصر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كفيلة بأحداث تراكماً في الأسئلة، سواء في القضايا الشرعية أو العقيدية، وسواء ما يتعلق بالأحوال الشخصية، أو الأحوال المدنية والإدارية والسياسية.
خصوصاً وانّ عمر التجربة المحمديّة كان قصيراً، فقد مضى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وبعد لم يكمل فتح الجزيرة، ولم يعش محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) الاّ عشر سنوات كانت مكرّسة لبناء المجتمع الإسلامي ووضع خطوطه الأُولى.
أمّا الآن:
فهناك الوقائع التي لم يُسئل عنها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم يكن له فيها حديث، وهناك المسائل المستحدثة التي طرأت على المجتمع الإسلامي ، كمسائل الإقتصاد، والإدارة.وهناك الإحراجات العلمية العنيفة التي يثيرها علماء اليهود والنصارى ممن لم يواجهوا رسول الله أيام حياته.ولقد كانوا سألوا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أيام حياته عن مسائل شتى، سألوه عن الروح، وعن الساعة، وعن الأهلة، وكان رسول الله مسدّداً بالوحي فلا يقف عند سؤالهم.
أمّا وقد غاب شخص الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فإن على أمّة الإسلام أن تجيب وتواجه كلّ التحديات.
وتاريخ الإسلام في هذه الحقبة سرد لنا العديد من الأسئلة التي تقدم بها علماء أهل الكتاب، بغاية إحراج المسلمين، وانتزاع ثقتهم بأنفسهم ورسالتهم، هذا عن أصل المشكلة العلمية.
وما يهمّنا الآن هو التعرف على مستوى استعداد الأمة، وقدرتها على مواجهة المشكلة، وتذليل صعابها، والتعرف ثانياً على درجة خطورة هذه المشكلة، وعن أثرها في تاريخ الرسالة.
أمّا استعداد الأمة فانّه بلا شك لم يكن بمستوى المشكلة، ولم يوفّر الحدّ الأدنى لحلّها.
والاّ لم تلجأ الخلافة الحاكمة إلى فتح باب الرأي، والاجتهاد الشخصي، ولم تتورط الأمة في اختلافات فقهية كثيرة وعريضة بين الصحابة أنفسهم، حتّى انّهم اختلفوا في أبسط المسائل في طريقة الوضوء، والصلاة على الميت، والتشهد في الصلاة، والتيمم، وغسل الجنابة، فكيف بالمسائل النادرة، والمعقّدة، والجديدة. بل كانت الخلافة الحاكمة تمنع من السؤال وتعاقب عليه أحياناً، لقد أثقلت المشكلة العلمية ظهر الخلافة الحاكمة، حتّى كان أبوبكر يستقيل بيعته، وكان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن.
أمّا درجة خطورة هذه المشكلة فيمكن تسجيلها فيما يلي:
أولا: حينما تكون الأمة عاجزة عن مواجهة التحديّات العلمية، كما وعاجزة عن التعرّف على وجهة نظر رسالتها في مجموعة كبيرة من الأحداث والمسائل نتيجة لعدم استيعابها للرسالة، فإنّها ستقترب إلى الشك برسالتها تدريجياً، وتفقد الثقة بها، بوصفها الرسالة الشاملة والصحيحة.وإذا لم يدعها ذلك إلى الشك في رسالتها، فانّه سيدعوها حتماً إلى الشك في امكانية العمل في ضوء تلك الرسالة، والحال انّها لا تملك تفاصيلها، ولا مستوعبة لها.انّ أخطر مشكلة تواجهها الرسالات عموماً هي الفراغ الذي يحدث بموت القائد، وعدم وجود البديل الكفؤ له، والمستوعب لكل مفاهيم وأبعاد الرسالة. وفي كثير من الأحيان تعتبر ساعة موت القائد ساعة موت الرسالة كلّها.
ومنشأ الخطورة انّ هذا الفراغ يكون باعثاً على القلق، وداعياً إلى الشك في حقانيّة تلك الرسالة، أو في قدرتها على النجاح.
وهذا الشك يعني انّ الأمة سوف لا تكون مستعدّة للتضحية من أجل رسالة مشكوكة، ولا حريصة كلّ الحرص على مستقبلها، وبالتدريج يتحول هذا الشك إلى انسحاب عن الرسالة واستبدالها.
وفي تاريخ الإسلام شاهد على هذه الحقيقة.
فيوم ظنّ المسلمون انّ محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) قد قتل ـ في معركة أحد ـ ماذا حدث؟ لقد تخلى الجميع ـ عدا نفر قليل ـ عن الرسالة، ونفضوا أيديهم منها، لا خوفاً من القتل، وانّما يأساً من الانتصار الحقيقي، لأنّهم لم يكونوا بمستوى الرسالة، ولا هضموها فكيف يقاتلوا من أجلها؟ويوم مات رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ارتدّ كثير من الأعراب لماذا؟
لا حبّاً في الجاهلية، واعتزازاً بالشرك، وانّما لفقدان الأمل بالرسالة الجديدة، واليأس منها.
والواقع انّ المشكلة لم تكن تواجه الأعراب وحدهم، كما ان قمع حركة الردَّة بإرسال الجيوش لها لم يكن ليمنع من ردّة بطيئة تجتاح الأمة المسلمة كلّها وليس الأعراب وحدهم.
انّ المهاجرين والأنصار سيقعون في أسر المشكلة يوم يستشعرون الفراغ، ويوم لا يجدون رسالتهم عند كل نداء، وكل سؤال.
وحينذاك تتحقق ردّة غير معلن عنها، لكنّها ردّة على أي حال، وتنكُّر للرسالة، وابتعاد عنها، وكفر بقيمها وقيمومتها.ثانياً: حينما تعيش الأمة وقيادتها أيضاً درجة من القصور العلمي، فإنّها ستضطر لا محالة إلى اصطناع وسائل من أجل سدّ الفراغ.
وتسبغ عليها طابع الشرعية في الوقت نفسه.
لكن هذه الوسائل بطبيعة الحال ليست شرعية، ولا مدوّنة في أصول الرسالة، وانّما هي مصطنعة، وموضوعة لسدّ الفراغ، والتغلب على المشكلة العلمية.فإنّ اصطناع مثل هذه الوسائل ليس في صالح الرسالة، ولا يعالج المشكلة جذرياً، ما دامت وسائل دخيلة، ومتطفلة على الرسالة.
ونستذكر هنا على سبيل المثال الوسائل التي اتّخذتها خلافة السقيفة لسدّ الفراغ.
أوّلا: النهي عن السؤال حول معاني الآيات القرآنية.
ثانياً: فتح باب الرأي والاجتهادات الشخصية.
أمّا الأسلوب الأول فواضح انّه لا يحل المشكلة فإنّ السؤال سيبقى مادام لهذا القرآن بقاء، والنهي عن السؤال اعلان عن العجز، وخلق حالة غير طبيعية ولا صحيحة في تعامل الناس مع الكتاب الكريم.
أمّا الأسلوب الثاني فهو من ناحية لا يضمن لنا صحّة الموقف المتخذ على أساسه، مادام رأياً شخصياً غير مستند إلى الوحي.
وهو من ناحية ثانية سوف لا يقتصر على دائرة المسائل الخالية من نصّ شرعي وإنّما يتجاوزها طبيعياً إلى دائرة النصوص الشرعية.
لأن الرأي حينما يوضع مصدراً للشريعة، وفي صف الكتاب والسنّة، فإنّ ذلك سيهوّن كثيراً الخروج على الكتاب والسنّة مادام الرأي متَّبعاً.
ومن هنا لوحظ انّ خلافة السقيفة لم تعمل بالرأي في حالة عدم وجود النص الشرعي فقط، وإنّما استهانت بقيمة النص، وخرجت عليه في أكثر من مرّة، بل وأعطت نفسها الحقّ في أن تنسخ الأحكام الشرعيّة وتبدلّها إذا شاءت. حتّى كان عمر يقول: " متعتان أحلّهما محمد وأنا أحرّمهما " ومعلوم انّ الرسالة حين تخضع لاختيارات الناس واجتهاداتهم الشخصية فإنّها تسير إلى الموت المحتوم.
والآن ما هو دور علي؟ ودور الطليعة الشيعية عموماً.كان وحده القادر على انقاذ الأمة من هذا المأزق، لكنّه لا يستطيع أن يفعل كل
شيء بالطبع، لأن تحفظات الخلافة الحاكمة سياسياً كانت تنعكس على هذا الجانب بالذات، وبالتالي فإنّ علياً مدعو للتوفيق بين مهمّته وبين تحفظات الخلافة قدر الإمكان.
كان عليه أن يؤدي مهمّته دون أن يثير الشكوك، ودون أن يدع الخلافة الحاكمة تتحفز للحذر منه.
وانّه في ظل وضع سياسي من هذا القبيل لا يستطيع أن يرتبط بالأمة مباشرة ضمن حلقات تدريس كبيرة أو صغيرة، كما لا يستطيع أن يدعو الأمة لنفسه، ولترجع إليه في مسائلها العلمية، فمن المتوقع جدّاً أن لا تكون هذه النشاطات مسموحة له، طالما تخلق له في الأمة مكانة اجتماعية تحذر منها الخلافة الحاكمة.
كان عليه أن يتحرك بكل هدوء، وينتظر فرصة اضطرار الخلافة الحاكمة للرجوع إليه، دون أن يقدّم نفسه أولا بأول.
وانّ له تجربة سابقة مع الخلافة الحاكمة عرّفته كم يجب أن يتخذ من الهدوء في هذا المجال، والاّ فإنّه سيحرم الأمة من طاقاته العلمية.
ذلك يوم جمع القرآن، وقدّمه بين يدي الخليفة الأوّل فرفضه. انّ هذه التجربة ذات معنى كبير وواضح.
ومن هنا وجدنا علياً حتّى في عهد الخليفة الثاني، حيث برز نجمه، فكان مرجعاً للمسلمين وللخليفة علناً، حتّى في هذا العهد كان كثيراً ما يجتنب الابتداء بالقول، وينتظر أن يسأله الخليفة فيجيب.
وعلى الرغم من صعوبة هذا الوضع فقد استطاع علي أن يكون مرجعاً للخليفة الأوّل وللثاني ولعموم المسلمين.
كان علي هو الذي يجيب علماء اليهود والنصارى الذين وفدوا بلاد الإسلام لاختبار الخليفة، وزعزعة ثقة المسلمين برسالتهم.
والتاريخ يجمع لنا أكثر من قضيّة في هذا المجال.
كما انّ الصحابة أنفسهم كانوا يرجعون الناس إلى علي علیه السلام فيما أشكل عليهم من الأمور.أمّا في عهد الخليفة الثاني فقد أصبح هو الرجل الأول والأخير في هذا الجانب، حتّى كان الخليفة يمشي إليه سائلا حين يعزب عنه الجواب.ولقد بلغت مشاركة علي (عليه السلام) إلى حدّ كان يتعوّذ الخليفة من معضلة ليس لها أبو الحسن، وانّه ليفزع إليه في كل ملمّة، ويشعر بالاطمئنان مادام علي موجوداً، لقد كان يقول حين يواجه مسألة لا يعرف حلّها: " ليس لها الاّ أبو الحسن ".
على انّ قيمة هذه المشاركة ليس ـ فقط ـ فيما يعطيه علي من اجابات عن مسائل متفرقة هنا وهناك، وإنّما في تعزيز ثقة الأمة برسالتها، وربطها بها أكثر فأكثر.
انّ المردود النفسي لهذه المشاركة، في نفس الخليفة، وفي مجموع الأمة أهم للرسالة، وأكثر نفعاً.
لقد استطاع الامام علي علیه السلام علي من خلال تصدياته لكل الأسئلة والإحراجات العلمية، سواء ما تقدّم بها علماء أهل الكتاب، أو ما تورّط فيها المسلمون أنفسهم، ان يُقبع الأمة جميعاً بأنها تملك الحقيقة، وتملك التفوق على كل الخصوم، وانّ رسالتها لا تنفد، ولا تعجز عن اجابتهم عند كل نداء.
وكان الامام علي علیه السلام يشارك لا بنفسه فقط، وإنّما بامتداده وبتلاميذه.
كان هناك (عبد الله بن عباس) حبر الأمة، وعلماً كبيراً في القرآن والسنة، وكان له مع الخليفة الثاني صلة وثيقة غاية الثقة.
لكن ابن عباس هذا يعترف بإنّه تلميذ من تلامذة علي (عليه السلام) وانّه علمه لا يساوي إلى علم علي الاّ كقطرة من بحر.
الرقابة الرسالية: ما زال الباحثون يؤكدون القول بأن علياً كان معارضاً للخلفاء الثلاثة، على اختلاف في درجة هذه المعارضة بين عهد الأول والثاني وبين عهد عثمان.
وهذه الظاهرة هي ما نريد أن نشرح حقيقتها الآن، ونعرف موقعها من مهمات الخط الشيعي في هذه المرحلة بالذات.انّ المدلول الحقيقي لهذه المعارضة ذو عمق رسالي وبعد ديني كبير. وليس كما قد يبدو للخيال أن طبيعة الصراع القديم بين علي والخلافة الحاكمة هي التي خلقت هذه الظاهرة، ووضعت علياً في موضع المجابه للخلافة.
الواقع انّ هذه المعارضة كانت تمثيلا لمهمة الرقابة الرسالية على مسير التجربة بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
فلقد كان متوقعاً أن تسير الأمة بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) باتجاه منحرف، ولقد شهدت الأمة حقّاً بدايات الانحراف، كما انّ خلافة السقيفة ـ على ما تقدّم ـ لم تكن بمستوى حاجة المرحلة، بل هي نفسها قد تورّطت في عثرات انعكست آثارها بسرعة على الرسالة.
كان لابدّ من رقيب يشرف على كلّ خطوة خطوة، سواء لمجموع الأمة أو لخصوص الخلافة الحاكمة. ولقد كانت الخلافة نفسها تعترف بحاجتها لهذا الرقيب كان أبوبكر يقول: " ولّيت عليكم ولست بخيّركم " و يقول: " إذا زغت فقوّموني ".
لكن من هو هذا الرقيب..؟
الأمة بمجموعها لا يمكن أن تكون هي الرقيب، لأنّها لم تستوعب رسالتها، ولم تهضم قيمها، ولا تخلصت من رواسب الماضي تماماً. ومثل هذا المستوى كيف يعطى حقّ الرقابة؟!هذه الأمة نفسها هي التي أخبر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) انّها ستشهد الفتن، وستعيش الانحراف، وتتبع سنن اليهود والنصارى، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلوه، كما في النص النبوي.
وهذه الأمة هي التي ستعرض على محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فاذا بقوم من أصحابه يجاؤون دونه فيقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال: انّك لا تدري ما أحدثوا بعدك كما جاء في الحديث الشريف عنه (صلی الله عليه وآله وسلم).
مثل هذه الأمة كيف يمكن أن تكون هي الرقيب على مسير التجربة؟! ومتى تستطيع أن تقوّم الخليفة إذا زاغ، وترشده إذا انحرف؟ ومن يضمن أن لا تنحرف هذه الأمة بانحرافه، وتسير مثل سيره؟ أليس شهدنا ذلك عياناً في عهد عثمان؟! حتّى كان ليحرّف الصلاة فيتبعه الناس خوف الفتنة، وخوف الشقاق؟!
على انّ الأمة لم تكن مستعدّة لجلب غضب الخلافة وعدائها.وهي لا تملك من الوعي قدراً يشعرها بضرورة التضحية في هذا السبيل، كما انّها لا تملك قدراً من الوعي والنضح يمكنها من تشخيص الانحراف ثم محاربته.
ومن هنا لم يجرأ أحد لمعارضة أبي بكر يوم أسقط الحدّ عن خالد سوى عمر. ولم يجرأ أحد أن يعارضه حين أراد مخالفة السنّة في قطع يد السارق، بينما أراد قطع رجله، الاّ عمر بن الخطاب أيضاً، حيث كان يأمن سطوة الخليفة، ولا يخشى سخطه.
ويوم حكم عمر بن الخطاب كان الناس يهابون درّته، حتّى ليخافونها أكثر مما يخافون الله، وفي مثل هذا الحال من كان يعترض على الخليفة؟ ولأدنى شيء كانت الدرّة تعلو الرؤوس، وتلوّع الأبشار.
قليل هم الذين يملكون القدرة على مواجهة الخليفة، والاستعداد لتحمل غضبه.
إذن مثل هذه الأمة كيف تعطى القيمومة، ويوكّل إليها الإشراف على الرسالة.
ومهمة الإشراف والرقابة تتطلب زائداً على الاستيعاب لكل تفاصيل الرسالة التأثر المطلق بها، والالتحام التام مع مفاهيمها وقيمها، والقدرة على تجسيدها عملياً وتوجيه السلوك على اساسها، وهذا ما لم يكن متوفراً حتّى للخلافة الحاكمة، على ما تقدّم الحديث فيه مفصلا.
انّما شخص واحد كان هو القادر على اداء هذه المهمة، لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أعدّه خصيصاً لهذه المهمّة.
ولقد سبق أن أعطاه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) هذه القيمومة على الرسالة وعلى التجربة.
فكان يقول: " إذا أقبلت الفتن فعليكم بعلي ".
لكن علياً بعد أن صرف عنه الحكم، كان مسؤولا عن توجيه وتصحيح مسيرة التجربة الإسلامية، والسعي من أجل إنجاحها لفترة أطول.
وإذا كانت التجربة قد بدأت بالتعثر، والإبتعاد التدريجي عن واقع الإسلام، فإن ما كان في مقدور علي، وتحت مسؤوليّته، هو مواصلة الجهد من أجل تخفيف سرعة الانحراف، ومن أجل الحفاظ على قيمومة الرسالة في الأمة لعمر أطول.
وهذا الهدف هو الذي جعله يبرز بصفة معارض للحكومات الثلاثة.ورغم انّ العلاقة بينه وبين الخليفة الثاني تحسَّنت فيما بعد، فإن ذلك لم يمنع من تسجيل طابع المعارضة في مواقف علي، لكنّها المعارضة التي تحمل معنى التصحيح والتوجيه واحياناً الضغط والمواجهة من أجل التحفظ على قيمومة الرسالة قدر الإمكان.
انّ أخطر مشكلة كانت تواجه الرسالة بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هي أن تفقد تدريجياً قيمومتها في الأمة، وفي نظام الحكم، وتسقط كلمتها عن الاعتبار، وتنسحب تدريجياً من الساحة، ويتحوّل مجتمع الإسلام إلى مجتمع غير ملتزم، كما يتحوّل نظام الحكم إلى فرديّة مطلقة مستبدّة لا تخضع لأحكام الإسلام، ولا تلتزم بها، كما حدث أيام معاوية بكل وضوح حيث أعلن صريحاً: " ما قاتلتكم لتصوموا أو تصلّوا ".
وخلافة السقيفة مهما جهدت في التزام الإسلام، وتسيير الأمة على أساسه، الاّ انّ الضرورة كانت ما تزال قائمة لاشعارها بالمقاومة لو دخلت بدايات الانحراف أليس أبوبكر نفسه كان يقول: " إذا زغت فقوموني ".
وكان يقول أيضاً: " إذا غضبت فاجتنبوني ".
ربما تقع الخلافة في غفلة، وربما وقعت تحت تأثير عواطف، ونزعات، وميول نفسية تحرفها عن تطبيق حكم الرسالة، وربما انحرفت وهي لا تشعر بالانحراف، وربما اتخذت موقفاً وهي لا تعرف خطورته على الرسالة في المستقبل القريب أو البعيد.
كل هذه الاحتمالات موجودة، مادامت الخلافة الحاكمة غير مستوعبة للرسالة تماماً، ولا متخلصة من رواسب الماضي العتيق.
وإذا لم يقف أحد بوجه الانحراف، يقوّم زيغ الخليفة، ويضطره إلى اتباع الحق، فانّ الانحراف سيتسع لا محاله، وسوف يكبر وينمو ويتزايد، وتنهار التجربة الإسلامية في أسرع وقت، وفي أقصر عمر.
كما انّ الإستسلام لرأي الخليفة ولو كان على حساب حكم الشريعة سيهدم قيمومة الرسالة في نظر الناس، وسوف لا تكون كلمة القرآن، وسنّة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هي الحاكمة، وهي القيّمة.وهذا أمر حدث بالفعل فقد كان الناس يتبعون رأي الخليفة وهم يعلمون مخالفته للقرآن والسنّة.
ومن هنا سعى الخطّ الشيعي في هذه المرحلة لأمرين:
أولا: الضغط على الخلافة الحاكمة، من أجل التطبيق الحرفي لأحكام الرسالة، القرآن والسنّة.
ثانياً: اعلام الأمة باستمرار انّ كلمة الرسالة هي القيّمة، وأن ليس من صلاحيات أحد مهما كان موقعه في المجتمع أن يتصرّف في أحكام الرسالة، أو يخرج عليها. وانّ من حقّ كل شخص بل من مسؤوليّته أن يعترض على أية مخالفة للقرآن والسنّة مهما كان عنوانها وبأي غاية، مادام ذلك خرقاً لقيمومة الرسالة وخروجاً عليها.
وعلينا أن لا ننسى ونحن ندرس هذه المهمة، أثر الوضع السياسي الذي كان يعيشه الخطّ الشيعي في هذه المرحلة. ففي الوقت الذي التزم الخطّ هذه المهمة، كان يدرك انّ قدراً كبيراً من التحفظ والاحتياط والاناة يجب التزامه، والاّ فانّ المجازفة في هذا السبيل تعني انتحار الخطّ كلّه والقضاء عليه.
ومن ذلك وجدنا انّ مستوى النشاط في هذه المهمة يتبع تقلبات الوضع السياسي. كما ويتبع أيضاً حجم المخالفات التي تتورط بها الخلافة الحاكمة وعلى العموم كان الشيعة يمثّلون دور الرقيب والمصحّح.
المصدر :
بتصرف من کتاب تاریخ التشیع الفکری والسیاسی /السید صدرالین القبانجی
/ج