
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت عليه خلة من خلال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأت بها (1). لقد اعتنى أهل البيت (عليهم السلام) بتعليم أصحابهم وتلامذتهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة لتجسيد العقيدة والأخلاق والأحكام والمفاهيم الإسلامية سلوكا في واقع الحياة، وبناء وتربية الإنسان المسلم وفق كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لإيجاد شخصيات إسلامية تحمل منار الهداية والدعوة إلى الإسلام فتشع على الآخرين العلم والعمل، وتقودهم نحو الالتزام، لتكوين تيار إسلامي في المجتمع بعد أن طرأت عليه عوامل التخريب والتحريف، والقيام بمهمة التغيير والإصلاح الاجتماعي. ونشاهد هذه الحقيقة متجسدة في سلوكهم وأخلاقهم (عليهم السلام)، كما نشاهد هذا الاهتمام والاتجاه واضحا في وصاياهم وتربيتهم لتلامذتهم وأصحابهم، فهذا الإمام أبو جعفر محمد الباقر (عليه السلام) يزيح الشبهات التي روجها بعض معاصريه ممن أرادوا تحريف الإسلام وهدمه: من أن حب أهل البيت (عليهم السلام) والموالاة لهم يكفي الإنسان المسلم، ولا حاجة إلى الالتزام بالفرائض وما أراد الله، ويوضح لهم المنهج الحق الذي يسير عليه أهل البيت (عليهم السلام)، ويجب أن يسير عليه المسلمون ويلتزموا به، وهو منهج العلم والاعتقاد الحق، والعمل والتطبيق لكل ما جاء به القرآن وبلغه نبي الهدى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسار عليه في حياته. لنستمع له وهو يوضح هذه الحقيقة بقوله: والله ما معنا من الله براءة، وما بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة، ولا يتقرب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعا نفعته ولايتنا، ومن كان منكم عاصيا لم تنفعه ولايتنا (2). وروى عمرو بن سعيد بن هلال، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك، إني لا أكاد أن ألقاك إلا في السنين، فأوصني بشيء آخذ به؟ قال: أوصيك بتقوى الله، والورع والاجتهاد، واعلم أنه لم ينفع ورع إلا بالاجتهاد (3). وأوصى الإمام جعفر بن محمد الصادق أحد أصحابه - أبا أسامة - وأمره أن ينقل هذه الوصية لأتباعه، نقتطف منها موضع الحاجة. فاتقوا الله وكونوا زينا، ولا تكونوا شينا، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل لنا فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله، وولادة طيبة لا يدعيها أحد غيرنا إلا كذاب ، أكثروا ذكر الله وذكرالموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن للصلاة عليه عشر حسنات (4). وأوصى الإمام الصادق (عليه السلام) أحد أصحابه - إسماعيل بن عمار - بقوله: أوصيك بتقوى الله والورع وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار وكثرة السجود، فبذلك أمرنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (5). وروى هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لحمران: انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإن ذلك أقنع لك بما قسم لك، وأحرى أن تستوجب الزيادة من الله، واعلم أن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين، واعلم أنه لا ورع أنفع من اجتناب محارم الله والكف عن أذى المسلمين واغتيابهم، ولا شيء أهنأ من حسن الخلق، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي، ولا جهل أضر من العجب (6). وروى الصادق (عليه السلام) في صفة المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن . هذه صفة المسلم المثالي الملتزم كما سعى لصناعته وتربيته وتكوينه أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو منهجهم في بناء وتربية الأمة المسلمة والمجتمع المسلم، وهذه دعوتهم التي خاطبوا بها أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبناء الحياة على أساس ذلك الهدى وهذا المنهج القويم، فما أحرى المسلم أن يهتدي بهداهم ويقتدي بوصاياهم ويستمع إلى تذكرتهم!
أخلاق الإمام وسيرته
كان يتميز بطلاقة الوجه على الآخرين، وبالهدوء والقلب الكبير في مواجهة الأزمات، ويعيش محنة الناس وآلامهم ومشاكلهم، وبالوفاء بالعهد إلى حد التضحية، وكذلك في إنفاق كل ما يملكه من مال، وبالسعي في قضاء حوائج الناس كلما أمكنه ذلك، وقد عرف ذلك عنه تلاميذه وأصحابه ومعارفة الكثير فيما يبذله لهم حتى الإيثار على نفسه، ويصبر على السلبيات التي تستتبع ذلك. خلق الإمام الصادق (عليه السلام) وأدبه، ينطلق من واقع أصالته ومحتده العريق بالنبوة، والشامخ بالإمامة، حيث تتجمع الكمالات الإنسانية في أروع مثلها وقيمها، قولا وعملا، وإطارا ومحتوى، وخلقه امتداد طبيعي لخلق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدبه، فهو وغيره من أئمة أهل البيت ما ورثوا عن جدهم صفراء ولا بيضاء، وإنما رثوا علومه وصفاته المثلى التي كان لهم شرف احتوائها والحفاظ عليها، فهم الأمناء على معطيات رسالته، والحفظة لمبادئه ومثله، يروونها عنه قولا، ويجسدونها في ممارساتهم عملا... فعن ابن أبي يعفور، قال: رأيت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ضيفا، فقام يوما في بعض الحوائج، فنهاه عن ذلك وقام بنفسه إلى تلك الحاجة وقال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يستخدم الضيف. وعن حفص بن أبي عائشة: بعث أبو عبد الله غلاما له في حاجة، فأبطأ، فخرج أبو عبد الله على أثره لما أبطأ فوجده نائما، فجلس عند رأسه يروح له حتى انتبه، فقال له أبو عبد الله: يا فلان، والله ما ذلك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار.فهو (عليه السلام) لا يأخذ عبده بالقسوة والغلظة عندما يقترف الذنب الذي يستحق عليه العقوبة، بل يروح له حينما يراه نائما حتى يستيقظ من نفسه، ثم يخاطبه مؤنبا بالكلمة الطيبة، والعتاب الهادئ، الذي يبعث الاطمئنان في نفس العبد، ويوحي له بالثقة بسيده ويدفعه للإطاعة. ومن تواضعه ما رواه أبو بصير قال: دخل أبو عبد الله (عليه السلام) الحمام، فقال له صاحب الحمام: أخليه لك، فقال: لا حاجة لي في ذلك، المؤمن أخف من ذلك. وهذه الحادثة على بساطتها، لا ينبغي أن نمر بها من غير أن نفهم المغزى البعيد الذي يرمي إليه الإمام في سلوكه الإنساني منها، فقد دأب الكبار من ذوي المقامات العالية من الناس، على تجنب الاختلاط بالعامة في مثل هذه الموارد ترفعا وكبرا، وشعورا منه بالامتياز والطبقية، ولكن الإمام أراد أن يثبت للآخرين عمليا، أن رفعة الإنسان وامتيازه إنما هي بقيمه ومثله، وبإنسانيته الفاضلة التي ترتفع به إلى المستوى اللائق به. أما فيما يرجع للحياة العادية وقضايا العشرة، فإن على الإنسان أن لا يظلم الآخرين بسلوكه المتميز، ليشعرهم بالتفاوت الطبقي الذي يمزق الوحدة الاجتماعية، ويفتت القاعدة الأساسية التي يقوم عليها بناؤها المتماسك، وهي التلاحم المتمثل بالإيمان والمحبة والمساواة. وعن يعقوب بن السراج قال: كنا نمشي مع أبي عبد الله (عليه السلام) وهو يريد أن يهنئ ذا قرابة له بمولود له، فانقطع شسع نعله، فتناول نعله من رجله ثم مشى حافيا، فنظر إليه ابن أبي يعفور فخلع نعل نفسه من رجله، وخلع الشسع منها، وناولها أبا عبد الله، فأعرض عنها، وأبى أن يقبلها، وقال: لا، إن صاحب المصيبة أولى بالصبر حتى يجد لها حلا، فإن غيره ليس بأولى منه بالصبر عليها.
والإمام يريد أن يشعر الآخرين بأن الإنسان فيما يطرأ عليه من المشاكل، عليه أن يتحمل همها بنفسه ولو كانت مما يخدش بكبريائه، فالإمام يرفض أن يتحمل الآخرون مسؤوليته. وقد بدأت تلك التعقيدات تسيطر على سلوك الحاكمين والمنتسبين إليهم، عندما تولى معاوية بن أبي سفيان إمارة الشام، ثم استولى على الخلافة بعد ذلك. فقد أحاط نفسه بهالة من التجلة والتعظيم، وفرض لنفسه امتيازات معينة جرت عليها سنة الخلفاء من بعده، واقتدى بهم ولاتهم والمقربون إليهم، وكان من جراء ذلك أن انقلب ميزان السلوك الاجتماعي الإسلامي المتكافئ بين فئات الأمة، إلى تناقضات طبقية مفتعلة، تولدت عن رواسب قبلية جاهلية، كانت لا تزال حية في نفوس هؤلاء الحاكمين، الذين لم ينسجم واقعهم النفسي مع مبادئ الرسالة ومعطياتها الإنسانية الخالدة. ويمكننا أن نتعرف على مدى ابتعاد مثل هذا السلوك عن روح الإسلام ومنهجه في السلوك الاجتماعي مما ورد على لسان الإمام علي (عليه السلام) في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنه: كان فينا كأحدنا، وما قيل من أن بعض من لا يعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشخصه، كان إذا دخل المسجد لا يمكنه تمييز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن غيره من أصحابه إلا بعد أن يسأل عنه. ومن روائع أخلاق الإمام الصادق ومثاليته ما ذكر: من أنه نام رجل من الحاج في المدينة، فتوهم أن هميانه سرق، فخرج فرأى الإمام مصليا ولم يعرفه، فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني. قال الإمام: ما كان فيه؟ قال الرجل: ألف دينار. فحمله الإمام إلى داره، ووزن له ألف دينار وعاد إلى منزله، فوجد هميانه،
فرجع إلى الإمام معتذرا بالمال، فأبى قبوله وقال: شيء خرج من يدي لا يعود إلي، فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا الإمام جعفر الصادق. قال: لا جرم هذا فعال مثله. وهكذا يمثل الإمام بسلوكه الأخلاقي المتواضع: السلوك الرسالي الذي أراده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون الطابع العام الذي يتميز به المجتمع الإسلامي عن غيره من المجتمعات الغريبة عن مبادئ السماء. حلمه والحلم هو الطابع العام الذي يغلب على سلوك الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) في حياتهم العامة والخاصة، فلقد عانى الإمام الصادق (عليه السلام) الأشد من تجاوزات أهل بيته من جهة، والسلطة الحاكمة من جهة أخرى، ومن المناوئين له والحاقدين عليه من جهة ثالثة، ولكنه كان يقابل الإساءة منهم بالحسنى، والعنف والشدة منهم باللين، تمشيا مع خلق القرآن وتعاليمه *(ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)*(7). فعن الجنابذي قال: وقع بين جعفر وعبد الله بن الحسن كلام في صدر يوم، فأغلظ عبد الله بن الحسن له في القول ثم افترقا وراحا إلى المسجد، فالتقيا على باب المسجد، فقال أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) لعبد الله بن الحسن: كيف أمسيت يا أبا محمد؟ فقال: بخير... كما يقول المغضب. فقال الإمام: يا أبا محمد، أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب؟ فقال: لا تزال تجئ بالشئ لا نعرفه. فقال الإمام: إني أتلو عليك قرآنا. قال: وذلك أيضا؟ قال الإمام: نعم. قال: فهاته. قال الإمام: قول الله عز وجل:
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)*(8). قال: فلا تراني بعدها قاطعا رحما. وهكذا يتخذ الإمام من حلمه رسالة ينفذ بها إلى أخطاء الآخرين وتجاوزاتهم، في عملية تصحيح رقيقة، تعكس الأسلوب الإسلامي الهادئ في العمل الهادف من أجل عمل الآخرين على الانفتاح على روح الرسالة، والتمسك بمثلها الأخلاقية وقيمها الإنسانية. وحينما نتطلع إلى الأسلوب الذي يتسم بالقسوة والعنف، الذي يواجه به بنو الحسن الإمام الصادق، والرد الجميل الهادئ الذي كان يقابلهم به، ترتسم أمامنا الملامح الرائعة للخلق السمح الوديع الذي كان ينطوي عليه صدر ذلك الإمام العظيم، فبرغم مواقفهم الظالمة معه، وانتقاداتهم القاسية له، والتي لا نفهم لها مبررا سوى شعورهم بأنه المنافس الوحيد لهم في دعوة الإمامة والخلافة، وعدم استجابته لمطاليبهم منه بموافقته لهم فيما يدعون، وحسدا له على المقام الذي حباه الله به، وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: ليس منا إلا وله عدو من أهل بيته، فقيل له، بنو الحسن لا يعرفون لمن الحق؟ قال: بلى، ولكن يمنعهم الحسد. رغم كل هذا وغيره، نرى الإمام عندما حمل المنصور شيوخ بني الحسن ورجالهم من المدينة إلى الكوفة، قد أظهر (عليه السلام) الجزع، وحم أياما، متناسيا ما لاقاه منهم بالأمس من القسوة والعنف والمواجهات الظالمة. وليس من خلق الإمام مواجهة الآخرين بنظير فعالهم، والرد عليهم بمثل عملهم، إذ الإمامة في مركزها امتداد لمركز الرسالة... والخلف لها في قيادة الأمة، قولا وعملا... توجيها وتطبيقا... وأي إنسان بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى من الإمام جعفر الصادق وغيره من الأئمة (عليهم السلام) بتطبيق الرسالة والحفاظ على تعاليمها نصا وروحا؟ وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: إذا بلغك عن أخيك شيء يسوؤك فلا تغتم، فإن كنت كما يقول القائل كانت عقوبة قد عجلت، وإن كنت على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها . ومن حلمه وسماحته: أنه عندما حضرته الوفاة أغمي عليه، فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي بن الحسن الأفطس سبعين دينارا، واعطوا فلانا كذا وفلانا كذا. فقالت مولاته سالمة: يا سيدي، أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال الإمام: أتريدين ألا أكون من الذين قال الله تعالى فيهم: *(الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)* ، نعم يا سالمة، إن الله خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم . عبادته وتهجده إن عبادة الإمام تنطلق من صفاء نفسه وإيمانه بالله، وإشراق اليقين في قلبه، بفعل انفتاحه على أسرار المعرفة الإلهية وانسجامه روحا بحقائقها الواقعية السامية. ومن هنا كان الإمام (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، فإن العبادة عندما تقترن بالمعرفة الصادقة ، تتجلى فيها أعمق معاني الخشوع وأورعها ، أو ليست العبادة إلا الخشوع والنبل ؟ وكلما ازدادت المعرفة بالله سبحانه وتعالى ازداد العمق العبادي . يقول مالك بن أنس : كان الإمام جعفر بن محمد [الصادق (عليه السلام)] لا يخلو من إحدى ثلاث خصال : إما صائما ، وإما قائما ، وإما ذاكرا ، وكان من عظماء العباد [في عصره بالتهجد والتبتل ، وكان من] أكابر الزهاد [في الدنيا] الذين يخشون الله عز وجل ، وقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الإحرام ، كان كلما هم بالتلبية [تلجلج و] انقطع الصوت في حلقه وكاد أن يخر من راحلته . وقال مالك : ما رأت عين ، ولا سمعت أذن ، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق علما وعبادة . وقال ابن طلحة في مطالب السؤول : ذو علوم جمة ، وعبادة موفورة ، وأوراد متواصلة ، يقسم أوقاته على أنواع الطاعات . وعن ابن أبي يعفور قال : سمعت أبا عبد الله [الصادق] يقول وهو رافع يده إلى السماء : رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ، لا أقل من ذلك ولا أكثر ، فما كان بأسرع من أن تحدرت الدموع من جوانب لحيته . ثم أقبل علي فقال : يا ابن أبي يعفور ، إن يونس بن متى وكله الله إلى نفسه أقل من طرفة عين ، فأحدث ذلك الذنب . قلت : فبلغ كفرا أصلحك الله ؟ قال : لا ، ولكن الموت على تلك الحال هلاك . وفي هذا الحديث يتجلى لنا عمق المعرفة التي كانت تنطوي عليها روح الإمام ، فينطلق لسانه في تبتل خاشع بتلك الكلمات المفعمة بالإيمان ، والتي بالأحرى هي دموع المعرفة الصادقة .
ويطيب للإمام (عليه السلام) بمستوى معرفته أن يطيل وقوفه بين يدي ربه في لقاء روحي سعيد ، تنسجم إحساساته فيه مع خالقه وبارئه ، قضاء لحق العبودية الحقة للمعبود الحق . فعن أبان بن تغلب ، قال : دخلت على أبي عبد الله [الصادق] وهو يصلي ، فعددت له في الركوع والسجود ستين تسبيحة . وعن حفص بن غياث ، قال : رأيت أبا عبد الله يتخلل بساتين الكوفة ، فانتهى إلى نخلة فتوضأ عندها ، ثم ركع وسجد ، فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة ، ثم استند إلى النخلة فدعا بدعوات . وعبادة الإمام هي امتداد لعبادة جده أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي روي عنه قوله في دعائه : إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك . وبعد هذا يا ترى ؟ أي عبادة أعمق وأي يقين أوثق ؟ هيئته عن حماد بن عثمان ، قال : حضرت أبا عبد الله (عليه السلام) ، فقال له رجل : أصلحك الله ، ذكرت أن علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن ، ويلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، ونرى ما عليك اللباس الجديد ؟ فقال له الإمام : إن علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر ، ولو لبس مثل ذلك اليوم شهر به ، فخير لباس كل زمان لباس أهله ، غير أن قائمنا إذا قام ، لبس ثياب علي ، وسار بسيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) . والذي نلحظه في هذا الحديث : أن الإمام يؤكد على ضرورة الانسجام مع الواقع الحياتي الذي يعيش فيه الإنسان ، فليس للإسلام سلوك معين فيما يرجع لمظهر الإنسان في الخارج ، سوى ما نبه عليه الإمام في حديثه ، وهو الانسجام مع مظهر العصر الذي يعيش فيه . وقد كانت هذه النظرة الواقعية الواعية للإمام إزاء المظهر ، مثار اعتراض ونقد بعض المتصوفة في عصره ، الذين وجدوا في مرونة الإمام الصادق (عليه السلام) وانفتاحه في هذا المجال ، ما يفقد مظهرهم وزهدهم المتزمت وقيمته المثالية ، وامتيازهم الاجتماعي ، بعد أن كان الإمام في موقعه من الأمة يمثل القمة في الواجهة الرسالية السليمة من كل شائبة انحراف أو تزييف في عرض المفاهيم وتطبيقها . ومن ذلك ما رواه الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : بينا أنا في الطواف ، وإذا رجل يجذب ثوبي ، وإذا عباد بن كثير البصري ، فقال : يا جعفر تلبس مثل هذه الثياب وأنت في هذا الموضع ؟ مع المكان الذي أنت فيه من علي ؟ ! فقلت : فرقبي (ثورب فرقبي : منسوب إلى فرقب ، وهو اسم موضع ، وقيل : هي ثياب بيض من كتان) اشتريته بدينار ، وقد كان علي في زمان يستقيم له ما ليس فيه ، ولو لبست مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس : هذا مرائي مثل عباد . وما رواه الكليني أيضا ، أن سفيان الثوري دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فرأى عليه ثيابا بيضاء كأنها غرقئ البيض ، فقال له : إن هذا اللباس ليس من لباسك . فقال له الإمام : اسمع مني وع ما أقول : فإنه خير لك عاجلا وآجلا ، إن أنت مت على السنة ولم تمت على بدعة ، أخبرك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في زمان مقفر مجدب ، فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق الناس بها أبرارها لا فجارها ، ومؤمنوها لا منافقوها ، ومسلموها لا كفارها ، فما أنكرت يا ثوري ، فوالله إني ما ترى ، ما أتى علي منذ عقلت صباحا ولا مساء ولله في مالي حق ، أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته . ولا نحسب أن عبادا كان بعيدا عن مفهوم الإسلام المنفتح ونظريته المتطورة للحياة ، ولكنه كان بعيدا عن الواقعية والمثالية الرسالية . ومن هنا نرى الإمام يرفض تلك الموعظة غير البريئة منه ، كما أوضح الإمام في حديثه مع سفيان الثوري ، أن الزهد ليس مظهرا رخيصا يتلبس به الإنسان وابتعادا عن المعطيات الطيبة من أنعم الله عليه به ، وإنما هو انفصال نفسي عن عوامل الفتنة ، وأسباب التعلق بالدنيا . كما إن لكل زمان معطياته ، ففي زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما لم تكن الحياة في سعة ، وكان الناس لا يزالون يعيشون خشونة البداوة وشظف العيش لقلة الناتج وضيق ذات اليد ، كانت البساطة في المظهر والشكل ، هي الطابع العام الذي يغلب على الحياة العامة . أما في زمان الإمام (عليه السلام) حيث انتقلت حياة الناس إلى وضع جديد من السعة والوجدان ، فعلى الإنسان أن يتكيف بالطابع السلوكي العام ، في حدود ما يكون فيه رضا الله سبحانه وتعالى ، ولا ينفرد بمظهر متميز يفصله عن الآخرين مما يكون مظنة للرياء ومنطلقا للشهرة - فليس الزاهد أن لا يملك شيء ، بل الزاهد أن لا يملكه شيء - . وقد ندد الإمام علي (عليه السلام) بالزهد عندما يكون حرمانا مما أحل الله لعباده ، فقد شكا إليه العلاء بن زياد الحارثي أخاه عاصما ، فقال له الإمام : وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا ، قال الإمام : علي به . فلما جاء قال له : يا عدو نفسه ، لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ، أترى الله أحل لك من الطيبات وهو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على الله من ذلك . قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك . قال : ويحك ، لست كأنت . . . إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيغ بالفقير فقره . فالإمام في خشونة ملبسه ، وجشوبة عيشه ، وابتعاده عن مظاهر الترف والتمتع بالطيبات ، إنما يمثل الحاكم الذي ينسجم مع مسؤولياته القيادية بالنسبة لجميع أفراد الأمة على اختلاف مستوياتهم ، فمن أجل أن لا يجد الفقير نفسه غريبا بفقره ، بين مظاهر الترف التي يعيشها أهل الجدة من قومه وبني أرومته ، يجب على الحاكم المسؤول أن يساوي نفسه به ، وتلك مسؤوليته الإنسانية والشرعية ، ليشعره بكرامة الحياة وعدالة النظام الذي يتحمل مسؤوليته ، ويشاركه فيما يعانيه من آلام ، كما أنه في نفس الوقت يقلل من الشعور بالامتيازات الطبقية لدى الأغنياء ، ويضعف من طغيانهم وجبروتهم ، يقول الإمام علي (عليه السلام) : إن الله جعلني إماما لخلقه ، ففرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس ، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه . ويقول (عليه السلام) في نهج البلاغة : ولو شئت لاهتديت إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع . وقد أشار الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في بعض إجاباته ، إلى أن سيرة الإمام في ملبسه ومطعمه إذا تصدى للحكم ، تختلف عما إذا كان خارج الحكم والمسؤولية ،انسجاما مع مقتضيات العدالة ومبادئ الحق . فعن المعلى بن خنيس قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يوما : جعلت فداك . . . ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم فقلت : لو كان هذا إليكم لعشنا معكم . فقال : هيهات يا معلى . . . أما والله أن لو كان ذاك ، ما كان إلا سياسة الليل وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل الجشب ، فزوي ذلك عنا فصرنا نأكل ونشرب ، فهل رأيت ظلامة قط صيرها الله تعالى نعمة إلا هذه ؟ فحينما يكون الإمام في مركز الحكومة ، فعليه أن يعيش كما يعيش ضعفاء الناس وفقراؤهم ، ليكون قدوة لهم ، وليخفف عنهم مرارة مأساة الحرمان والفقر . . . بمشاركته لهم في ذلك ، أما حينما يكون في خارج المركز المسؤول ، فإن عليه أن يعيش كما يعيش أوساط الناس ، بما يتفق وكرامة الإنسان في الحياة . ويعطينا الإمام الصادق في موقف آخر له مع سفيان الثوري ، صورة معبرة عن واقعية الزهد التي لا تصطدم مع إرادة التمتع بطيب الحياة ومعطياتها الخيرة ، فعن سفيان قال : دخلت على الإمام الصادق وكان عليه جبة خز دكناء ، فجعلت أنظر إليها متعجبا ، فقال لي : يا ثوري ، ما لك تنظر إلينا ، لعلك مما رأيت ؟ فقلت : يا ابن رسول الله ، هذا ليس من لباسك ولا لباس آبائك . فقال لي : يا ثوري ، كان ذلك الزمان مقفرا مقترا . . . ثم حسر عن ردن جبته ، وإذا تحتها جبة صوف بيضاء ، وقال : يا ثوري ، لبسنا هذا لله - وأشار إلى جبة الصوف - وهذا لكم - وأشار إلى الخز - فما كان لله أخفيناه ، وما كان لكم أبديناه . فهذا المظهر الأنيق من الإمام ، الذي تحدثنا به الروايات ، لا يتنافى مع سلوك الزهد والتقشف ، فهو حين يظهر بالمظهر المتجمل في لباسه ، والذي ينسجم
مع المستوى الحياتي لعصره ، يريد أن يبتعد عن فتنة الرياء ، كما صرح به الإمام لعباد ، وأشار إليه في حديثه مع سفيان ، ولكنه في نفس الوقت لا يعطي لنفسه حق التمتع بنعومة اللباس وليونته ، التي تترك في واقع النفس أثرا ماديا ، يشوش بها الصفاء الروحي ، الذي يقترب به الإنسان من ربه . فعن الحسين بن كثير الخزاز ، قال : رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وعليه قميص خشن تحت ثيابه ، وفوقه جبة صوف ، وفوقها قميص غليظ ، فمسستها فقلت : جعلت فداك ، إن الناس يكرهون لباس الصوف . . . فقال : كلا . . . كان أبي محمد بن علي يلبسها ، وكان علي بن الحسين يلبسها ، وكانوا يلبسون أغلظ ثيابهم إذا قاموا إلى الصلاة ، ونحن نفعل ذلك . . . . فالإمام بمظهره المتجمل يريد أن يكون منسجما مع مظهر أهل عصره حياتيا ، وفيما يستر وراء ذلك المظهر من اللباس الخشن ، يريد أن يكون منسجما مع واقع نفسه البعيد عن مفاتن الحياة ومباهجها ومتعها ، التي هي الواجهة الأخرى التي تقابل الزهد والتقشف في الحياة . أما حين يقف بين يدي ربه ليؤدي واجب العبودية الحقة ، فإنه يرفض ذلك المظهر المتجمل ، ويتجرد بواقعية وصفاء عن كل ما له تعلق بشؤون هذه الحياة الزائفة ، وهذا موقف من عرف الله حق معرفته ودان له بالعبودية كما هو أهله . وقد أعطى الإمام بسلوكه المنفتح . . . رؤيا واضحة عن مرونة الإسلام ، ومراعاته لمزاج التطور ، فيما يرجع لبناء الحياة العامة عندما لا تصطدم مؤثرات التطور بالجانب التكليفي أو الأخلاقي من التشريع ، أما تلك السلبيات الشكلية التي يمارسها المتصوفة ومدعو الزهادة ، فهي انحراف متعمد عن المسلكية الواقعية في مفهوم الإسلام ، أو جمود على الواقع الفعلي لمظهر الحياة في بدء الدعوة ، الذي اقتضته ظروف حياتية ضيقة ، ظنا منهم أن ذلك المظهر هو الظاهرة السلوكية المتميزة ، التي دعا إليها الإسلام ، والتي تمثل فكرة الرفض للدنيا ومفاتنها الزائفة ، وكاندور الإمام العملي ، هو الكشف عن واقع ذلك الانحراف المسلكي ، وإعطاء التفسير الواقعي لموقف الإسلام من قضية المظهر . فليس التصوف والزهد عند الإمام مظهر الحرمان وشظف العيش ، وإنما هو غنى النفس بالإيمان ، وابتعادها عن التعلق بالدنيا ومفاتنها ، بنحو لا تمثل الدنيا وما اشتملت عليه من مفاتن ومتع ، هدفا أصيلا يسعى إليه الإنسان في حياته ، فإن هي أقبلت فنعمة تستحق الشكر ، وإن هي أدبرت فما عند الله خير وأبقى . وقد دعا الإمام إلى ضرورة إظهار النعمة والتجمل بها ، وإن الله ما بسط النعم على عباده إلا من أجل أن يكرمهم بها ، وإهمال النعمة رفض لذلك الإكرام . . . فقد روى الكليني عنه (عليه السلام) أنه قال : إذا أنعم الله على عبده بنعمة أحب أن يراها عليه ، لأنه جميل يحب الجمال . . . . وروى الشيخ الطوسي في التهذيب عنه أنه قال : إن الله يحب الجمال والتجمل ، ويبغض البؤس والتباؤس ، فإن الله إذا أنعم على عبده بنعمة أحب أن يرى أثرها عليه . فقيل له : وكيف ذلك ؟ قال : ينظف ثوبه ، ويطيب ريحه ، ويجصص داره ، ويكنس أفنيته . . . . وعن الكليني ، عنه (عليه السلام) ، أنه قال : إلبس وتجمل فإن الله جميل يحب الجمال ، وليكن من حلال . . . .
تسليمه لأمر الله
بعد أن كان الإمام أعرف الناس بالله وأقواهم بصيرة به ، فلا بد أن يكون أكثرهم تسليما لأمره ، فيرتضي ما به رضاه ، ويحب ما أحبه له ، ويتجسد لنا هذا التسليم الواقعي فيما يحدثنا به الحسين بن محمد بن مهزيار عن قتيبة الأعشى ، قال : أتيت أبا عبد الله أعود ابنا له ، فوجدته على الباب ، فإذا هو مهتم حزين ، فقلت : جعلت فداك ، كيف الصبي ؟ فقال : والله إنه لما به . . . ثم دخل فمكث ساعة ، ثم خرج إلينا وقد أسفر وجهه ، وذهب التغير والحزن . قال : فطمعت أن يكون قد صلح الصبي . . . فقلت : كيف الصبي جعلت فداك ؟ فقال : لقد مضى لسبيله . . . فقلت : جعلت فداك ، لقد كنت وهو حي مهتما حزينا ، وقد رأيت حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال ، فكيف هذا ؟ فقال : إنا أهل بيت إنما نجزع قبل المصيبة ، فإذا وقع أمر الله رضينا بقضائه وسلمنا لأمره . . . . وعن العلاء بن كامل ، قال : كنت جالسا عند أبي عبد الله (عليه السلام) ، فصرخت الصارخة من الدار ، فقام أبو عبد الله ثم جلس فاسترجع وعاد في حديثه حتى فرغ منه ، ثم قال : إنا لنحب أن نعافى في أنفسنا وأولادنا وأموالنا ، فإذا وقع القضاء فليس لنا أن نحب ما لم يحب الله لنا . . . . بهذه الكلمات الصافية . . . يحدد لنا الإمام عمق الإيمان وأصالة المعرفة ، اللذين يمثلان الامتياز الفريد الذي يتميز به الواقع الروحي للأئمة من أهل البيت . . .ولا ينافي تسليمهم لأمر الله ما جرت عليه سيرتهم من إظهار الأسى والحزن بالنسبة لمأساة الإمام الحسين (عليه السلام) وما جرى عليه وعلى أهل بيته وأنصاره في واقعة الطف بكربلاء وتأكيدهم على الآخرين بإحياء ذكرى تلك المأساة في كل سنة ، إذ الباعث على ذلك لهم ليس هو الجزع وثقل المصاب فحسب ، بل الحرص على إبقاء الهدف الذي من أجله استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) والخيرة الطيبة من أهل بيته وأنصاره ، حيا في ضمير الأمة ، تعيشه كرمز للرفض المستمر ضد الطغيان والاستبداد ، والانتهاكات الظالمة ، التي يمارسها الحاكمون الغرباء عن واقع الرسالة ، والحاقدون عليها . كرمه وسخاؤه الكرم والسخاء ليسا بأمرين غريبين عن الواقع النفسي لأهل البيت ، بل هما أمران أصيلان يمتدان عبر الجذور العميقة لتأريخهم ، وقد عرف الكرم الهاشمي بالطيبة والعفوية ، البعيدة عن عوامل التكلف والامتنان ، ويمتاز عطاء أهل البيت وبذلهم بارتباطه الوثيق بالله ، ورعاية جانب التقرب إليه فيه ، دون أن يشوبه من نوازع النفس الإنسانية ما هو غريب عن هذا الارتباط ، فعن مسمع ابن عبد الملك ، قال : . . . كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) بمنى وبين أيدينا عنب نأكله ، فجاء سائل فسأله ، فأمر له بعنقود فأعطاه ، فقال السائل : لا حاجة لي في هذا ، إن كان درهم ؟ فقال له الإمام : يسع الله عليك . فذهب ثم رجع فقال : ردوا العنقود . فقال له الإمام : يسع الله لك ، ولم يعطه . ثم جاء سائل آخر ، فأخذ أبو عبد الله ثلاث حبات عنب فناولها إياه ، فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين الذي رزقني . فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : مكانك ، فحثا مل ء كفيه عنبا فناولها إياه ، فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين الذي رزقني . فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) : مكانك ، يا غلام ، أي شيء معك من الدراهم ، فإذا معه نحوا من عشرين درهما فيما حزرناه ، فناولها إياه فأخذها ، ثم قال : الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك . فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) : مكانك ، فخلع قميصا كان عليه ، فقال : إلبس هذا ، فلبسه فقال : الحمد لله الذي كساني وسترني ، يا أبا عبد الله ، أو قال : جزاك الله خيرا ، ولم يدع لأبي عبد الله إلا بذا ، ثم انصرف فذهب . قال مسمع : فظننا أنه لو لم يدع له لم يزل يعطيه . . . . وفي هذا الحديث نلاحظ رعاية ذلك الارتباط في العطاء من الإمام بصراحة ، فحين كان شعور السائل بالامتنان لله خالصا فيما أولاه الإمام من إحسان ، كان عطاء الإمام يتضاعف ، وعندما أبدى السائل امتنانه للإمام بدعائه له أخيرا ، كف الإمام عنه ، أما امتناع الإمام عن إعطاء السائل الأول عند عوده إليه ثانيا ، فلأن رد السائل لعطاء الإمام أولا واستخفافه به ، يكشف عن أن السائل لم يكن سؤاله عن حاجة ، بل هي حرفة اتخذها لنفسه لجمع المال من سبيل حرام ، وكانت عملية الرد هذه عليه تأنيب وتأديب له . ومن صور كرمه وسخائه الفريدة ما ذكره يونس عن بعضهم ، قال : إنه سأل الإمام : جعلت فداك ، بلغني أنك تفعل في غلة عين زياد (اسم ضيعة له) شيئا ، وأنا أحب أن أسمعه منك . . . فقال لي : نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ، ليدخل الناس ويأكلوا ، وكنت آمر في كل يوم أن يوضع عشرة بنيات ، يقعد على كل بنية عشرة ، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى ، يلقى لكل نفس منهم مد من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم ، الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة ، ومن لا يقدر أن يجئ فيأكل منها ، لكل إنسان منهم مد ، فإذا كان الجذاذ ، وفيت القوام والوكلاء والرجال أجرتهم وأحمل الباقي إلى المدينة ، ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين الراحلتين والثلاثة ، والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم ، وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار ، وكان غلتها أربعة آلاف دينار . . . .
ومن آيات كرمه ما نقله أبو نعيم في الحلية عن أبي الهياج ابن بسطام أنه قال : كان جعفر بن محمد يطعم حتى لا يبقي لعياله شيئا . ومنها ما ذكره مفضل بن قيس بن رمانة ، قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فشكوت إليه بعض حالي ، وسألته الدعاء . . . فقال : يا جارية ، هاتي الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر ، فجاءت بالكيس . . . فقال : هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به . . . فقلت : والله جعلت فداك ما أردت هذا ، ولكن أردت الدعاء لي . . . فقال لي : ولا أدع الدعاء ، ولكن لا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم . . . . ويحدد لنا الإمام المفهوم الإنساني للمعروف بأعمق ما يتصور له من تحديد ، فالمعروف عنده هو العطاء بدون مسألة وطلب ، والذي ينطلق عن يد كريمة إلى يد لم يدنسها ذل الاستجداء ، فهو عطاء لا يقابله شيء سوى إرادة وجه الله ، وحب المعروف لأنه خير ، أما العطاء بعد المسألة فليس معروفا بالمفهوم الذي حدده الإمام ، لأنه مكافأة على ما بذل السائل من ماء وجهه للمسؤول . . . فعن الذهلي ، عنه (عليه السلام) ، أنه قال : المعروف ابتداء ، وأما من أعطيته بعد المسألة فإنما كافيته بما بذل لك من ماء وجهه ، يبيت ليلته أرقا متململا ، يمثل بين الرجاء واليأس ، لا يدري أين يتوجه لحاجته ، ثم يعزم بالقصد لها ، فيأتيك وقلبه يرتجف وفرائصه ترتعد ، قد ترى دمه في وجهه ، لا يدري أيرجع بكآبة أم بفرح . . . . وهذه الصورة الواقعية المؤثرة التي أوردها الإمام في حديثه ، هي تعبير حي للحالة النفسية التي يعيشها صاحب الحاجة ، عندما تضيق عليه السبل ، وتنغلق في وجهه منافذ الانفراج ، وأي شيء عند الإنسان أغلى من ماء وجهه يبذله ، أو عزة نفس بذلها ، وأي ثمن يمكن أن يقدمه الإنسان في مقابل ذلك البذل السخي . صدقاته : والصدقة من أعظم القربات إلى الله وأحبها إليه ، وهي بذاتها عمل إنساني فاضل ، ومشاركة عملية يمارسها الإنسان في تخفيف آلام الفقراء والمعوزين ، ممن لم تسعهم قدراتهم المعاشية فقصرت بهم خطى العمل عن أن تستوعب احتياجاتهم وضروراتهم الحياتية ، وأفضل الصدقة ما كان معروفا من غير سؤال ، وسرا من غير إعلان ، وهي التي كان يمارسها أهل البيت لتكون خالصة لوجهه ، فعن المعلى بن خنيس قال : خرج أبو عبد الله (عليه السلام) في ليلة قد رشت السماء ، وهو يريد ظلة بني ساعدة ، فاتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء ، فقال : بسم الله ، اللهم رده علينا ، قال المعلى : فأتيته فسلمت عليه . قال : معلى ؟ قلت : نعم ، جعلت فداك . فقال : التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه إلي ، فإذا أنا بخبز منتشر ، فجعلت أدفع إليه ما وجدت فإذا أنا بجراب من خبز . فقلت : جعلت فداك احمله علي عنك . فقال : لا ، أنا أولى به منك ، ولكن امض معي ، فأتينا ظلة بني ساعدة ، فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدس الرغيف والرغيفين تحت ثوب كل واحد منهم حتى أتى على آخرهم ، ثم انصرفنا . فقلت : جعلت فداك ، يعرف هؤلاء الحق ؟ فقال : لو عرفوا لواسيناهم بالدقة . . . . وعن الفضل بن أبي قرة قال : كان أبو عبد الله (عليه السلام) يبسط رداءه وفيه صرر الدنانير ، فيقول للرسول : اذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته ، وقل لهم : هذه بعث بها إليكم من العراق ، فيذهب بها الرسول إليهم فيقول ما قال ، فيقولون : أما أنت فجزاك الله خيرا بصلتك قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما جعفر فحكم الله بيننا وبينه ، قال : فيخر أبو عبد الله (عليه السلام) ساجدا ويقول : اللهم أذل رقبتي لولد أبي . . . . وعن أبي جعفر الهيثمي ، قال : أعطاني الصادق صرة فقال لي : ادفعها إلى رجل من بني هاشم ، ولا تعلمه أني أعطيتك شيئا ، قال : فأتيته ، فقال : جزاه الله خيرا ، ما يزال كل حين يبعث بها ، فنعيش به إلى قابل ، ولكن لا يصلني بدرهم في كثرة ماله . . . . وعن هشام بن سالم قال : كان أبو عبد الله إذا اعتم وذهب من الليل شطره ، أخذ جرابا فيه خبز ولحم والدراهم ، فحمله على عنقه ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة ، فقسمه فيهم ولا يعرفونه ، فلما مضى أبو عبد الله ، فقدوا ذلك فعلموا أنه كان أبو عبد الله (عليه السلام).
وعن البرسي ، قال : إن فقيرا سأل الصادق (عليه السلام) ، فقال لعبده : ما عندك ؟ قال : أربعمائة درهم . قال : إعطه إياها فأعطاه ، فأخذها وولى شاكرا . . . فقال لعبده : أرجعه . فقال السائل : يا سيدي ، سألت فأعطيت ، فماذا بعد العطاء ؟ فقال الإمام : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : خير الصدقة ما أبقت غنى ، وإنا لم نغنك ، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم ، فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة . . . . هذه بعض الأمثلة الرائعة التي وردتنا عن الإمام الصادق في هذا المجال الإنساني ، وحسبنا بها عظة ودرسا وبيانا للرعاية الإنسانية التي أولاها الأئمة من أهل البيت للمحرومين من كرامة العيش ، والمعذبين في الأرض . رأفته : وتتجسد لنا فيما رواه سفيان الثوري قال : دخلت على الصادق فرأيته متغير اللون ، فسألته عن ذلك . فقال : كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت ، فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها ، فلما بصرت بي ارتعدت وتحيرت ، وسقط الصبي إلى الأرض فمات ، فما تغير لوني لموت الصبي ، وإنما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب . . . وكان (عليه السلام) قال لها : أنت حرة لوجه الله ، لا بأس عليك . . . . ومن هذا الخبر يستوحي الإنسان عمق ذلك الحنان الذي كانت تجيش به نفس ذلك الإمام العظيم والرقة التي كانت تعمر ذلك القلب الكبير ، والذي وسع الحياة بما تحمل من مشاعر إنسانية ، ومهام قيادية .
المصادر :
1- الطبرسي، مكارم الأخلاق: 39.
2- الطبرسي، مكارم الأخلاق: 67
3- الطبرسي، مكارم الأخلاق: 66
4- يشير إلى شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق أمهم فاطمة الزهراء عليها السلام
5- الطبرسي، مكارم الأخلاق: 66
6- المجلسي، بحار الأنوار 78: 198، وفروع الكافي 8: 244. ص 94
7- سورة فصلت، الآية 34
8- الرعد: 21
/ج