
يرى النقد الحديث في موزيل ناثراً من مقام رفيع، منح الأدب النمساوي في القرن العشرين صفة العالمية، إلى جانب كل من ريلكه [ر] وهوفمنْستال[ر]. فقد ابتكر أسلوباً خاصاً، ساخراً، امتاز بقابليته لتأويلات متعددة بالاعتماد على التلميحات والاحتمالات الكثيفة. كما اتصف باتخاذه بعداً نقدياً تهكمياً حيال المجتمع الإقطاعي ـ البرجوازي، على الرغم من عدم تجاوزه مواقع المثالية الفردانية؛ إذ بقي موضوعه الرئيسي في أعماله كافة تحليل اغتراب الذات وعزلة الإنسان في المجتمع البرجوازي في إطار امبراطورية الهابسبورغ [ر] Habsburg ولاسيما في ڤيينا، ما قبل الحرب العالمية الأولى.
نشر موزيل في عام 1906 روايته الأولى «اضطرابات التلميذ تورْلِس» Die Verwirrungen des Zöglings Törless التي اقتبسها المخرج الشهير شلونْدورف Schlondorf للسينما في منتصف السبعينيات. عُدت الرواية تمهيداً للحركة التعبيرية [ر] وقد حلل فيها الكاتب التطلعات الفكرية والحاجات الروحية والجسدية لبطله التلميذ في «معهد التربية العسكرية» مستخدماً للمرة الأولى فنياً أدوات التحليل النفسي التي طورها فرويد[ر] أواخر القرن التاسع عشر. وبعد خمس سنوات نشر موزيل في كتاب واحد قصتين طويلتين Novelle [ر: القصة]؛ الأولى بعنوان «اكتمال الحب» Die Vollendung der Liebe والثانية بعنوان «إغواء ڤيرونيكا الهادئة» Die Versuchung der stillen Veronika، تطرّق فيها إلى مشكلة كبت المشاعر الجنسية. وعلى الرغم من أنهما لم تلفتا النظر آنذاك، فقد وجدهما النقد من بعد وفاة الكاتب من درر النثر الحديث شكلاً ومضموناً. وفي العشرينيات التفت موزيل إلى المسرح وكتب مسرحيتين مهمتين لم تلقيا نجاحاً تجارياً؛ الأولى بعنوان «المتحمسون» Die Schwärmer ت(1921) التي فازت بجائزة كلايست والثانية بعنوان «ڤيتسِنْس وصديقة الرجال المهمين» Vizenz und die Freundin bedeutender Männer، تناول فيهما أيضاً التناقض الصارخ بين أخلاقيات البرجوازية المعلنة وبين الواقع الموضوعي الفاسد، لكن اهتمامه انصب على أزمة تعبير الفرد عن حقيقة مشاعره إزاء الآخر والمحيط، وانعكاس ذلك في البنية النفسية للإنسان، كمعوقات في طرق تفتح الذات.
إلا أن أسلوب موزيل الخاص لم يتبلور إلا في عام 1924، عندما نشر المجموعة القصصية «ثلاث نساء» Drei Frauen التي تبدَّت فيها محاولاته التجريبية بغرض بلوغ الإيجاز الواضح تعبيرياً عن أدقّ الحالات والمِحن التي يحتمل أن يتعرض لها البشر مع الطموح إلى تحقيق جمالية لغوية عالية. وهو ما تجلى من ثم في إنجازه الأكبر رواية «رجل بلا صفات» Der Mann ohne Eigenschaften التي استهلكت قرابة نصف عمره لتحقيقها، وبقيت مع ذلك غير مكتملة. لقد تبين للنقد في هذه الرواية تأثير الفكر الفلسفي عند ماخ وعند هوسِرْل[ر]؛ إذ أمسك موزيل في روايته هذه بعالمٍ دائب الحركة، فرداني، ولا عقلاني في الوقت نفسه، يتولد الواقع الاجتماعي فيه غالباً من أفكار وآراء، لكنه لا يمنح سوى إطارِ الحدِّ الفاصل ما بين القدرة على الإدراك العقلاني وبين المواجهة الانفعالية، مما يُنتج كثيراً من الانهيارات الفردية بصور وتجليات متباينة.
صدر الجزء الأول من هذه الرواية عام 1930 بعنوان «رحلة إلى حدود الممكن» Reise an den Rand des Möglichen، والثاني عام 1932 بعنوان «نحو امبراطورية الألف عام» Ins Tausendjährige Reich، والثالث عام 1943ـ بعد وفاة الكاتب ـ بعنوان «شذرة من التركة» Fragment aus dem Nachlass. إن مسرح أحداث الرواية هو ڤيينا عشية الحرب، وأبطالها هم صفوة المجتمع، من المثقفين والموظفين ورجال المال والأرستقراطيين وأصناف لاتحصى من البيروقراطيين. وليست ڤيينا هنا سوى نموذج عن أزمة البرجوازية الأوربية عامة. إلا أن محور اهتمام الكاتب كان مركّزاً على العلاقة بين الذات والعالم، أي على حالة بطله فكرياً ونفسياً واجتماعياً، وتبدلاتها المتكررة، بحيث ليس ثمة ما يجعله يتمسك بأي موقف أو فكرة أو قيمة أو ارتباط، مما يؤدي إلى التشكيك بأي إيديولوجية، مع تأكيد عدم وجود مخرج من الأزمة. ويرى بعض النقاد في فكر الرواية تقارباً مع طروحات الفرنسي بروست[ر] والإيرلندي جويس [ر]، مع افتراقٍ بيِّنٍ في المعالجة والأسلوب اللغوي، بما ينفي أي تأثر محتمل. إضافة إلى ذلك قدّم موزيل على صعيد فن المقالة أعمالاً تجديدية مهمة، منها مثلاً «في المبتذل والمَرَضي في الفن»Das Unanständige und Kranke in der Kunst ت(1911)، و«الروح الدينية والحداثة والميتافيزيقيا» Der religiöse Geist, Modernismus und Metaphysikت(1912)؛ فقد فسر الحداثة على أنها ببساطة حقن الدين بالعقل البرجوازي مع نبذ العواطف العقلانية العلمانية التي تعدّ الهدف الأول للعالم المعاصر.
نبيــل الحفــار
مراجع للاستزادة:
- J. STRELKA, Kafka, Musil, Broch und die Entwicklung des modernen Romans, (Wien, Hannover, Basel 1950).
- H. ARNTZEN, Satirischer Stil. Zur Satire R. Musils im “Mann...”, (Bonn 1960).
- STEFAN JONSSON, Subject Without Nation: Robert Musil and the History of Modern Identity (2000).