اقول ونحن نعیش ذکرى الامام الشهید ، أین نحن من تلک الصورة التی کانت مرسومة فی مخیلته للعراق والعراقیین اذا ما تحرر من الطاغیة صدام ، وهی صورة رسم جوانب منها لحوارییه وخاصته وتلامذته ، وهم کثر فی العراق ما بعد الدکتاتوریة؟.
اما أمثالی الذین لم یتشرفوا برؤیة الشهید الصدر ولم یجلسوا فی مجلسه ولم یسمعوا خطابه ، تعرفوا على الخطوط العریضة للصورة التی اراد ان یکون العراق على شاکلتها بعد الدکتاتوریة ، من خلال النداءات الشهیرة للشهید الصدر المعروفة بالنداءات الثلاثة التی سجلها الشهید بصوته على اشرطة کاسیت قبل استتشهاده ، وطلب من تلامذته ان ینشرونها بین الناس فی حال اعتقاله او اعدامه ، الا انها وصلت الینا بعد مدة من استشهاده ، لخوف حوارییه وتلامذته على اهله واقاربه من وحشیة صدام وجلازته.
استطیع ان ارى ملامح القائد فی عراق الصدر من خلال هذه العبارات من ندائه الاول عندما یقول الصدر: "وأنی أود ان أؤکد لک یا شعب ابائی وأجدادی انی معک وفی أعماقک ولن أتخلى عنک فی محنتک، وسأبذل آخر قطرة من دمی فی سبیل الله من أجلک" ، وفی جانب اخر یقول: " وأنی أعلم ان هذه الطلبات سوف تکلفنی غالیاً وقد تکلّفنی حیاتی، ولکن هذه الطلبات هی مشاعر امة، وطلبات امة، وأرادة امة، ولا یمکن ان تموت امة تعیش فی أعماقها روح محمد وعلی والصفوة من آل محمد واصحابه" ، لماذا یکون هذا هو القائد فی عراق الصدر ؟، الشهید نفسه یجیب على ذلک فی ذات النداء فیقول : " اذ تدفقوا إلى أبیهم یؤکدون ولائهم للاسلام بنفوس ملؤها الغیرة والحمیة والتقوى یطلبون منّی أن أظل أواسیهم وأعیش آلامهم عن قرب لانها آلامی".
مثل هذا القائد یتقدم شعبه ولا یبخل بتقدیم روحه من اجله ، وانه على استعداد ان یرکب کل المصاعب من اجل شعبه ، ویعیش افراحه واتراحه ، وفی ذلک مواساة لکل عراقی یعیش فی العراق بغض عن موقعه الاجتماعی.
وقائد عراق الصدر ، هو قائد الجمیع عربا وکوردا وشیعة وسنة ، وفی اخر نداء الى الشعب العراقی قبل استشهاده ، وهو النداء الثالث ، یقول الشهید الصدر: " یا شعبی العراقی العزیز.. أیها الشعب العظیم.. انی اخاطبک فی هذه اللحظة العصیبة من محنتک، وحیاتک الجهادیة بکل فئاتک، وطوائفک بعربک، وأکرادک بسنتک، وشیعتک، لان المحنة لا تخص مذهباً دون آخر، ولا قومیة دون اخرى، وکما ان المحنة هی محنة کل الشعب العراقی فیجب ان یکون الموقف الجهادی، والرد البطولی، والتلاحم النضالی هو واقع کل الشعب العراقی".
وعندما یتربص المتربصون بالعراق ویحاولون العزف على وتر الطائفیة لزرع الفتن بین ابناء الشعب الواحد ، یعمل القائد على توعیة الشعب للمخاطر المحدقة به ، وخاصة تحذیره من المؤامر الکبرى ، التی تنبأ بها الشهید الصدر بعبقریته المعهودة ، وهی مؤامرة بث الفرقة الطائفیة بین ابناء الشعب الواحد ، وهی المؤامرة التی تواجهها الیوم بلدان وشعوب المنطقة برمتها ، یقول الصدر فی ندائه الثالث للشعب العراقی قبل 34 عاما من الان :" وانی منذ عرفت وجودی ومسؤولیتی فی هذه الامة بذلت هذا الوجود من أجل الشیعی والسنی على السواء، ومن أجل العربی والکردی على السواء، حیث دافعت عن الرسالة التی توحّدهم جمیعاً وعن العقیدة التی تهمهم جمیعا، ولم أعش بفکری وکیانی الاّ للاسلام طریق الخلاص وهدف الجمیع" ، ویقول ایضا :" ان الطاغوت وأولیاءه یحاولون ان یوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة ان المسألة مسألة شیعة وسنة ولیفصلوا السنة عن معرکتهم الحقیقیة ضد العدو المشترک.
ألا ترون إلى احتکار هؤلاء السلطة احتکاراً عشائریاً یضفون علیه طابع الحزب زوراً وبهتاناً؟ وسدّ هؤلاء ابواب التقدم امام کل جماهیر الشعب سوى اولئک الذین رضوا لأنفسهم الذل والخضوع وباعوا کرامتهم وتحولوا إلى عبید أذلاء".
هذه الخطوط العریضة وغیرها الکثیر ، التی توضح ملاحم العراق الی کان فی مخیلة الشهید الصدر ، والتی تلمسناها من النداءات الثلاثة الخالدة للشهید الصدر الى الشعب العراقی ، والتی سجلها فی الفترة الواقعة من (15/ 6/ 1979) وحتى (19/ 7/ 1979).
اما عن المکانة العلمیة للسید الشهید الصدر ، فهو موضوع لا یختلف علیه اثنان ، فالشهید الصدر عبقریة فذة قلما تجود بها الدنیا على اهلها ، ولکن الملفت انه الى جانب هذه المکانة العلمیة الضخمة ، هناک صفة التواضع التی کان یتصف بها الصدر ، ویکفی موقفه من الثورة الاسلامیة فی ایران ومن الامام الخمینی (رضوات الله تعالى علیه ) شخصیا ، دلیلا على تواضعه الجم ، فکان ینظر باجلال واکبار للامام الخمینی رغم محاولات البعث الصدامی لضرب الحوزة العلمیة فی النجف عبر العزف على وتر العنصریة الخبیث.
هنا من حقنا ان نتساءل عن تلک الدولة التی کان یسعى الشهید الصدر لتاسیسها فی العراق ، والتی ذکرنا بعض معالمها عبر ذکر معالم قائدها ، ترى این نحن الان من هذه الدولة ؟ ، این قادة العراق الیوم من فکر وتراث الشهید الصدر ؟ ، هل یکفی ان نرفع صور الشهید الصدر لیل نهار لنقول للاخرین نحن من انصاره واتباعه والسائرین على نهجه؟, هل یکفی ان نطلق اسم الصدر على احزابنا وتنظیماتنا لکی نثبت للعالم اننا من مدرسته؟ ، هل یکفی ان نحتفل کل عام فی ذکرى استشهاده لکون من تلامذته؟.
ما سیکون موقف الشهید الصدر عندما یرى من ضحى بنفسه لاجلهم یتقاتلون على المناصب وعلى حطام الدنیا ؟ ، ماذا سیقول الصدر عندما یرى من یرفعون لوائه الیوم یعیشون فی ابراجا عاجیة ؟ ، ترى ماذا سیکون وجهة نظر الشهید الصدر فی کل التفاخر والغرور والتکبر لدى من یدعون العلم ممن یرفعون اسمه ؟ ، این اخلاق الصدر من اخلاق البعض الذین لا یرقبون فی منافسیهم السیاسیین إلا ولاذمة ؟، کیف سینظر الصدر الى رائحة الطائفیة النتنة التی اخذت تفوح فی ربوع العراق بعد ان سمحنا لهذه الظاهرة ان تتسلل الى ربوعنا من الصحراء ؟، وقبل کل هذا وذاک ماذا یمکن ان یقول الصدر وهو یرى الصدامیین الذین قتلوه بالامس وقتلوا اخته العلویة الفاضلة بنت الهدى ومئات الالاف من خیرة ابناء العراق ، وهم یتبؤون مناصب رفیعة فی العراق ما بعد السفاح ؟.
اخیرا ترى هل هذا هو العراق الذی اراده الشهید الصدر لنا واستشهد من اجله ؟ ، ام هذا عراقنا نحن ولیس عراق الصدر ؟، لذا یجب ان یکف البعض عن استغلال اسم الصدر وتراثه العظیم ورفع اسمه وصوره لیل نهار ، اذا کان هناک من یرید ان یدخل قلوب العراقیین فلیدخلها بفعله ونشاطه وفکره ، وهذا من حقه ، ولکن لا یجب ان یتم استغلال اسم الشهید الصدر لتحقیق اهداف سیاسیة ودنیویة رخیصة ، ترتد سلبا على هذه القمة الشامخة من قمم العلم والجهاد.
*نبیل لطیف
المقالة تعبر عن رأی الکاتب، وهیئة التحریر غیر مسؤولة عن فحواها