يكاد يجمع المؤرخون أن أدب الأطفال يوجد حيث توجد الطفولة، وهو جزء لا يتجزأ عن باقي احتياجاتها المادية والنفسية والروحية، فكما يحتاج الطفل إلى الطعام والشراب، وإلى الرعاية والحنان، فإنه في حاجة ماسة إلى ما يثري فكره، ويسعد روحه ووجدانه، وإذا لم يستوف الطفل تلك الاحتياجات المادية والمعنوية، فسوف يكون عرضة للمعاناة والاضطراب. لأنها جزء من فطرته، وقد كانت الأم من قديم الزمان تدرك احتياجات طفلها بالفطرة، فتقدم له ما يرفه عنه ويثري خبرته، ويتواءم مع طبيعته.
ولا ينقض هذا الرأي ما درج عليه المؤرخون من تجاهل يكاد يكون تاماً لأدب الأطفال شعراً ونثراً. فلم يحظ قديماً بالدراسة والتسجيل والتبويب. خاصة وأن أدب الأطفال في السنوات الأولى كان من واجبات الأسرة، الجدة أو الأم أو الأب وغيرهم من أفراد المنزل، ولذلك كان خاضعاً للإجتهاد الشخصي والتقليد. وتوارث التراث جيلاً بعد جيل، شأنه في ذلك شأن الكثير من روايات وأشعار الكبار التي كان يتناقلها الرواة المتخصصون.
وكان أدب الكبار فيه الكثير مما يصلح للصغار، وخاصة القصص والأخبار. وشعر الملاحم أو الربابة، وكان للقبائل قصَّاصُوها ورواتها وشعراؤها الرسميون، وكان الناس يحترمونهم ويستمعون إليهم في شغف. والأطفال ـ لا شك ـ يختلطون بجمهور السامعين، ويلتقطون ما يستطيعون فهمه من حكايات ومغامرات وأساطير وخاصة ما يتعلق بالقبيلة وأيامها وانتصاراتها. كما كانت النسوة في البيوت أو الخيام يروين لأطفالهن تلك القصص بأسلوب أبسط سلس. ويركزون على ما فيه من عظة وعبرة.
ونلاحظ حتى أيامنا هذه الدور الذي يلعبه (شعراء الربابة) في البادية العربية، وفي القرى والأوساط الشعبية. فهؤلاء الشعراء يلجأون إلى قصص أو ملاحم مثيرة شيقة، يسيرة الفهم. مفهومة العبارة، رنانة القافية والإيقاع، وكان هؤلاء الشعراء القصاصون أو الملحميون يطربون سامعيهم كباراً وصغاراً، ويهولون في وصف المعارك والبطولات، وأساليب التحايل والدهاء، وألوان الحب والشقاء، والتشبُث بقيم الشجاعة والكرم والفتوة، على غرار ما نسمعه من هؤلاء الشعراء اليوم عن سيف بن ذي يزن اليماني. وعنترة بن شداد، والأميرة ذات الهمة، وأبي زيد الهلالي وغيرهم، كان لكل عصر بطولاته وقيمه واهتماماته، ولم يكن أطفال العصور العربية في معزل عن هذه الألوان الفريدة من التسلية والفن والعبرة.
ونقرأ بعد ذلك في سيرة الرسول(صلی الله عليه وآله وسلم)، كيف أرسله قومه إلى البادية ـ شأن أطفال العرب في ذاك الزمان ـ حيث يتلقى اللغة العربية صافية من الشوائب واللكنات والتحريف، ويتعود على حياة الصحراء وما فيها من كفاح وتقشف وتحمل، ويتشرب تقاليدها التي تبرز قيم التآلف والمحبة والكرم والصبر، والشجاعة والجرأة، وحيث ينعكس امتداد الصحراء ورحابتها والانطلاق فيها على نفس الإنسان، وحيث يكون لكل فرد دور بنَّاء يقوم به لخدمة نفسه ومجتمعه، كانت البادية في ذلك الوقت هي أول مدرسة يتلقى فيها الطفل ما يفيده: نفسياً. وبدنياً. وعقلياً. وإجتماعياً.
ويعود الطفل من بعثته تلك في البادية، بعد أن يكون قد تعلم اللغة على أصولها. وحفظ قدراً من أشعارها وقصصها ومغازيها، وتسلح بالكثير من قيمها وتقاليدها وانسابها. كي يواصل حياته بين أهله على أسس تربوية معترف بها.
يعود الطفل ليسمع سجع الكهان، وأساطير الأديان القديمة المحرفة، وخرافات الوثنيات والأصنام، ويتلقى العلوم الخاطئة السائدة عن أسرار الكون. وتحليل الظواهر الطبيعية، بصورة اقرب إلى الإختراع والسذاجة والتوهم منها إلى الحقائق العلمية الصحيحة.
ثم يشرق فجر الإسلام الوضَّاء، على تلك البقاع الشاسعة، ويدعو إلى عقيدة نقية أبيَّة، سهلة الفهم والتناول، الله واحد لا شريك له، خالق كل شيء، بيده الأمر كله، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، كما يدعو إلى الطهر والنقاء، وإلى العدل والحرية، وإلى التآخي والصدق والمحبة ويجابه العصبيات والوثنيات، وينفر من الظلم والإستغلال، والتعالي بالأحساب والأنساب (كلكم لآدم وآدم من تراب)، ويحذر من مغبة الإنخراطٍ في التطاحن والتحارب والتعادي من أجل أمور دنيوية تافهة، أو أمجاد زائفة، ويضع أسساً جديدة للبطولة والكرم والعلاقات الإنسانية. وهكذا يحدث الصراع الخالد بين المؤمنين الأوائل وعلى رأسهم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم). وبين سنة الشرك القديم، والقيم الفاسدة العالية، وينتصر الحق ـ بعد تجربة مريرة ـ وتتبدل الحياة شكلاً وموضوعاً، ويولد عالم جديد ينبض بالحق والخير والحب والجمال تحت راية التوحيد، وعلى هدى القرآن ـ دستور الحياة الأوحد ـ وبتوجيه من القيادة الراشدة الحكيمة لمحمد عبد الله روسوله.
ويعنى الإسلام ضمن ما يعني (بالطفولة)، فيعلم أصحابه كيف يحنون ويبرون بأطفالهم، ويدعوهم إلى العدل بين أولادهم ولو في القلب، ويجعل من ظهره الشريف مركباً لحفيديه الحسن والحسين ويداعبهما في رقة وحب، ويغرس فيهما الفضيلة، ويعلمهما القرآن والوضوء والصلاة وطاعة الله، ويمشي في الشارع ويلقي على الأطفال التحية، ويبتسم في وجوههم، ويرد ـ في رحابة صدر ـ على تساؤلاتهم، ويبين للمسلمين حقوق الطفل الشرعية جنيناً ورضيعاً وطفلاً وصبياً وغلاماً، وهو أمر يذكره فقهاؤنا الأعلام في أبواب التربية والحضانة والنفقة والميراث، وحقهم في التعليم والرعاية، كما ذكر(صلی الله عليه وآله وسلم)الكثير حول التعامل معهم، وما يجب عليهم من صلاة وصوم وتعلم ما يحتاجه في الجهاد من فروسية، وهي جوانب شتى تتعلق بحياة الطفل بدنياً ونفسياً ووجدانياً وفكرياً. واهتم القرآن الكريم باليتيم وماله ورعايته وحقوقه والوصاية عليه، وأشار(صلی الله عليه وآله وسلم)إلى ما ينتظرنا من ثواب الله، إذا ما نفذَّنا تعاليم الكتاب والسنة نحو هؤلاء الأطفال..
ولهذا فإن القائم بالتربية الصحيحة لهؤلاء الأطفال له عند الله ـ وعند الابناء ـ الجزاء الأوفى (وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً).
ترى هل تجد في أي دين من الأديان السابقة على الإسلام روعة وشمولاً واهتماماً برعاية الطفولة كما نراها في ديننا الحنيف؟؟
وجاء عصر الخلفاء والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فاقتدوا بتعاليم نبي الإسلام في تربية الأطفال والعناية بهم من شتى الوجوه..
يقول عمر بن الخطاب (علموا أولادكم السباحة والفروسية، وارووهم ما سار من المثل، وحسن من الشعر) ويقول هشام بن عبد الملك لمعلم ولده: (وأول ما أوصيك به، أن تأخذه بكتاب الله، ثم أروه من الشعر أحسنه. ثم تخلل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم، وبصره، بطرف من الحلال والحرام، والخطب والمغازي) ويقول الإمام الغزالي: (إن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه. وقلبه الطاهر جوهرة نفسية ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقش، ومائل لكل ما يُمال إليه، فان عُوِّر الخير وعُلِّمة نشأ عليه. وسعد في الدنيا والآخرة) وبعد أن يفيض الغزالي في بيان الطريق لتربية الطفل في المرحلة الأولى، مرحلة التقليد والتلقين، وهي من أهم المراحل في حياة الإنسان، من حيث تحديد الخلق والشخصية. ينتقل إلى التالية، وهي مرحلة التعليم فيقول: (ثم يشتغل في (المكتب)، فيتعلم القرآن، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار.. الخ)(1)
ووجد القصاصون في قصص القرآن الكريم مادة ثرية للأطفال، فكانت تروى لهم بصورة مبسطة، وكذلك بعض ما ورد في الأحاديث النبوية، ومغازي رسول الله. وحرب الصحابة ومن أتى بعدهم، وجهاد المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومعاربها، وأخبار العلماء والصالحين والرحالة والمسافرين للتجارة. وأخبار الأمم الأخرى كذلك، كل تلك المصادر أغنت القصص التي تروى للأطفال، وخاصة بعد أن تم الفتح واتسعت الدولة، وتوفر عدد من المؤلفين المسلمين وكتَّاب التراث؛ على تسجيل حكايات وأساطير عن مختلف الأزمنة والأمكنة؛ ونذكر هنا بعض المؤلفات القديمة الخاصة بهذه الجوانب:
ـ (نهاية الأرب).
ـ (مختصر العجائب والغرائب) المنسوب للمسعودي
ـ (الوزراء والكتاب)
ـ (الأغاني)
ـ (البخلاء)
ـ (كليلة ودمنة)
ـ (ألف ليلة وليلة).
ـ (القدح المعلى)
ـ (مقامات الحريري) و (مقامات بديع الزمان الهمذاني) وغيرهما.
ـ (والكثير من قصص الوعَّاظ) الخ.
وعلى الرغم من أن معظم هذه الكتب لم تسطر أساساً للأطفال إلا أنها كانت مصدراً غنياً بشتى ألوان القصص والأشعار، يستلهمها المربُّون والجدات والأمهات والآباء، ويخرجون منها ما يناسب عمر الطفل وأخلاقه وعقيدته، ويقدمونها إليه في ثوب قشيب جذاب، ففي (ألف ليلة وليلة) الكثير من الخرافات والخزعبلات والتصوير الجنسي الفاضح، وهذا ما دعا عدد كبير من الكتاب المحدثين إلى تنقيتها من الشوائب، وتقديم بعض قصصها في كتب أو تمثيليات في المذياع والتلفاز بطريقة مبسطة ممتعة ومفيدة، كذلك نرى أن كتاب (كليلة ودمنة) يحتوي على عدد كبير من قصص الطير والحيوان. لكنها تنحو المنحى الفلسفي، والإغراق الرمزي، مما يدق على فهم الطفل، ولهذا حاول الذين يكتبون للأطفال في أوروبا والعالم الإسلامي تحويلها إلى قصص هادف مبسط ذي منحى أخلاقي.
لقد أدرك الأقدمون من علماء الإسلام أن المنهج التربوي الشامل للطفل لا يتم اكتماله إلا إذا راعى النواحي المختلفة التالية:
ـ العقيدة الدينية.
ـ المنجزات والحقائق العلمية.
ـ الجوانب الترفيهية والفكاهية.
ـ الالتزامات الأخلاقية.
ـ تنمية المهارات الرياضية.
ـ تنمية المواهب أو المهارات والإبداعات الفنية.
ـ إثراء الحصيلة الثقافية.
ولا يصح أن يأنف المربون الإسلاميون من مراعاة الفكاهة والترفية، فقد كان رسول الله (يمزح) ولا يقول إلا (حقاً)، وكان(صلی الله عليه وآله وسلم)يأمر المسلمين بأن (يروحوا) عن قلوبهم ساعة بعد ساعة، لأن القلوب إذا كلَّت عميت.
لقد حظى الأطفال في تاريخنا الإسلامي والعربي بقسط وافر من أدب الطفولة، ولا ينقض هذا الرأي تجاهل المؤرخين والمنصفين له، ويمكننا أن نوجز ألوان هذا الأدب في الآتي:
أولاً: قصص الأخبار والمغازي والمثل وحكايات الأبرار والصالحين (قصص واقعية وتاريخية)
ثانياً: ما ورد في القرآن من قصص.
ثالثاً: ما ورد في الأحاديث النبوية من قصص.
رابعاً: قصص الفتوحات الإسلامية، وقصص الشعوب الأخرى ـ غير العربية، التي تم فتحها ونشر الإسلام فيها، والقصص الشعبي.
خامساً: قصص الأسفار والتجار والرحلات.
سادساً: بعض قصص الجن والملائكة والسحر.
سابعاً: قصص على لسان الحيوانات والطيور.. بل والحشرات أيضاً.
ثامناً: قصص خرافية وأساطير (انظر كتاب (القدح المعلى) لابن سعيد الأندلسي عن اساطير العرب، وكتاب (مختصر العجائب) وفيه حكايات عن الجن والخوارق، وكتاب (الوزراء والكتاب) للحيشاري المتوفي عام 942م، وفيه الكثير من الخرافات والأسمار.
تاسعاً: الأناشيد والأغاني والأشعار.
عاشراً: الحكم والأمثال والخطب.
حادي عشر: بعض الألغاز شعراً ونثراً.
ثم جاء العصر الحديث، وامتدت الآفاق أمام الدراسات الإنسانية على مختلف صورها وأشكالها، واستطاع علم (الفسيولوجيا) ـ علم وظائف الأعضاء، والإجتهادات المختلفة في علم النفس والإجتماع ومدارس التاريخ المختلفة، ودراسة الظواهر الاجتماعية قديماً وحديثاً، وتحديد المدراس الأدبية والفكرية والفنية بصفة عامة، وكتب الكثير عن (سيكولوجية) الطفل وسلوكه وعاداته وإمكاناته، واتخذ الدارسون في هذا المجال وسائل شتى في دراساتهم وتحليلاتهم، وكان لعلماء التربية جهود مكثفة حول التعليم والتربية.
وبدأ أدب الأطفال يظهر بصورة مبلورة محددة في القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا، متتلمذاً على التراث الإسلامي والعربي، ولم تتضح صورته الجديدة في عالمنا العربي إلا في العشرينات من هذا القرن، وكان أهم سمات تلك الحركة التاريخية الخاصة بأدب الأطفال:
1- الكتابة خصيصاً للأطفال.
2- مراعاة مراحل العمر المختلفة للطفل.
3- محاولة إيجاد قاموس للألفاظ يناسب الطفل في كل مرحلة.
4- تحديد تعريف ومفهوم أدب الأطفال.
5- تحديد ألوان أدب الاطفال من قصة وشعر وتمثيلية.. الخ.
6- محاولة إبراز الموضوعات المناسبة لكل مرحلة من عمر الطفل.
7- الاستفادة من خبرات علماء التربية والدين والنفس والاجتماع ومؤرخي الأدب والنقاد في هذا المجال.
8- اهتمام كبار الكتاب ـ على المستوى الإقليمي والعالمي ـ بالكتابة للطفل.
9- ظهور مجلات وصحف خاصة بالطفل.
10- تخصص بعض دور النشر لطباعة ونشر كتب الأطفال.
11- استخدام الوسائل الجذابة في إخراج مطبوعات الأطفال من ألوان ورسوم.
12- اختيار حجم الحروف المناسب للطفل، ومدى استخدام الترقيم طبقاً للعمر والقواعد.
13- استخدام حوافز وجوائز لتشجيع أدب الأطفال.
14- وضع الخطط والبرامج للنهوض بأدب الأطفال ثم التقويم المستمر لما يُقدم لهم.
15- البحث الدائب في إيجاد مسرح وتمثيليات وبرامج إعلامية خاصة بالطفولة، وتتناول كل ما يهم الطفل ويؤثر في سلوكه وتربيته.
16- الإيحاد للطفل بقيم وأفكار وسلوكيات مستهدفة. باعتباره ثروة حقيقية للغد، وباعتبار ذلك حقا أكيداً له، لا يمكنه التعبير عنه بصدق وطلاقه.
أينكر أحد أن معظم (أدب الطفل) ـ قديماً وحديثاً ـ يهتم بتربية الطفل وتهذيبه، وفق قيم الخير والحق والفضيلة؟؟
هل خلا أدب الطفل قديماً وحديثاً ـ من قصص العلم والبطولة والتضحية والصبر والطهارة والأمانة، وتوجيه الطفل إلى ما يسعده وينفعه ويسمو بأمته؟؟
لقد كان أهم ما استفدناه من الدراسات الإنسانية والعلمية الحديثة، هو التأكيد على صحة الأسس التي قامت عليها مناهج تربية الطفل في المجتمع الإسلامي الأول.
ولقد كان المرحوم كامل كيلاني رائد أدب الأطفال الحديث، وعلى الرغم من أنه قدم نماذج شتى في هذا المجال، منها المقتبس والمترجم والمعرب، وقد بلغت ما يربو على مائتي قصة ومسرحية، فقد كان في قمة ما قدم... قصصه (من حياة الرسول)، إذ أفاض فيها بأسلوب سلس ميسور الفهم عما اتصفت به سيرته(صلی الله عليه وآله وسلم)من أعمال وخلق وسلوك، تعتبر المثل الأعلى للكبار والصغار في أي زمان ومكان..
هذا في مجال القصة..
أما في مجال الشعر، فقد قدم أمير الشعراء (أحمد شوقي) والمرحوم محمد الهواري (1885 ـ 1939) نماذج متقبلة من شعر الأطفال. أمكنها أن تفتح الطريق أمام من أتى بعدهم من الشعراء والأدباء.
واليوم نرى مطبوعات الأطفال تملأ المكتبات وأرصفة التوزيع. إن عشرات الملايين من أطفالنا يريدون أن يقرأوا برغم وجود التلفاز والمذياع ودور الخيالة...
ولنا الآن أن نتساءل:
أ ـ هل أدت دور النشر رسالتها الصحيحة نحو الطفل؟؟
ب ـ وهل أدى المؤلف واجبه؟؟
حـ ـ وهل قامت المدرسة بوظيفتها؟؟
د ـ وهل استطاع الإعلام الرسمي أن يستوعب دوره؟؟
أسئلة أربعة حاسمة لا بد من أن نحاول الإجابة عليها، لأن الإجابة عليها هي التي تؤكد ضروروة وضع هذا المصنف.
إن دور النشر تعرف مدى الحاجة إلى مؤلفات الأطفال، وهي تستغل هذه الظاهرة تجارياً، وتقدم العديد من المنشورات في أحيان كثيرة على غير أسس علمية وتربوية ونفسية وعقيدية. لأنها تتوهم أن سهولة الأسلوب، وإمكانية الفهم والإستيعاب هما الأساس في توزيع الكتاب، لذلك فهي تقدم المترجمات التي تتنافى مع عقيدتنا الإسلامية. وتنقل عن الغرب أسلوبه في السلوك والعادات والمعتقدات. ويكفي أن تعلم أن إحدى المدراس الخاصة في بلد عربي مسلم كبير كانت تدرس قصة إنجليزية مليئة بالمشاهد الجنسية، والإختلاط المحرّم بين الفتى والفتاة. وقد شغل هذا الموضوع الصحافة آنذاك، وأصدر وزير التربية والتعليم في هذا البلد الشقيق قراراً بإيقاف تدريس القصة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن دور النشر لا يهمها أن تجند لتلك المطبوعات (فريق مراجعة) من الناحية النفسية أو التربوية كما قلنا، لأنها لا تدرك الأبعاد الخطيرة لهذا الموضوع، ناهيك بما تغص به الكتب المترجمة والمسلسلات المصورة، بخيالات مريضة، ومغامرات فارغة، لاترتبط بواقع الحياة، ولا بالفترة الزمنية في الدول النامية، ولا تدفع الطفل مستقبلاً إلى قناعات علمية عملية واقعية، تمهد له الإبداع والإبتكار، كما أنها لا تهتم ـ بل لا تعرف أصول العقيدة الإسلامية ومبادئها، وبالطبع فإن هذا التصور لا ينطبق على دور النشر كلها: ففي مصر والمملكة العربية السعودية والكويت وغيرها مؤسسات عريقة للنشر تحت إشراف المختصين في تربية وأدب الاطفال، وتقوم بدورها البنَّاء الرائد في هذا المجال، سواء في الكتاب أو مجلة الطفل، أو الصفحة الخاصة بالأطفال في بعض الصحف اليومية والأسبوعية.
أما بالنسبة للمؤلفين للأطفال، فهناك فئة قليلة استطاعت أن تؤمن بقضية الطفل، وتدرك احتياجاته الشديدة لما يرفع مستواه فكرياً ونفسياً ووجدانياً، واتخذت العدة لذلك، بل إن البعض تفرغ له تماماً. وأخذ يكتب للطفل عن هدى وبصيرة، لكن الغالبية الكبرى من المؤلفين، استسهلوا الأمر، وأضرُّوا من حيث توهموا النفع، ولم يسيروا في منهج أو خطة، ولم يعدوا أنفسهم الأعداد الكافي لهذه المهمة الصعبة، مهمة الكتابة لأطفال، وهؤلاء يشاركون دور النشر التجارية في مسيرتهم الفاسدة، ويستغلون شراهة سوق كتب الأطفال، ويقدمون السُم في العسل بقصد أو بغير قصد، ومن المعروف أن النوايا الحسنة وحدها لا تصنع أدباً أصيلاً مؤثراً صادقاً للأطفال، إننا نريد أدباء مخلصين للطفل، ومؤهلين تأهيلاً سليماً لتلك الرسالة، مثلما فعل الأستاذة كامل كيلاني ومحمد الهواري ومحمد سعيد العريان ومحمد عطية الإبراشي وأمير الشعراء ومحمود أبو الوفا وبهيجة صدقي، وأمين دويدار ومحمد زهران وحسن توفيق وسيد قطب وتوفيق بكر ومحمد عبد المطلب وحامد القصبي وعلي فكري وغيرهم. كما نريد مجلات على غرار مجلات السندباد وسمير وباب صادق و (إفتح يا سمسم)... الخ.
أما وزارات المعارف أو التربية والتعليم فقد كانت بحق ـ في بلادنا العربية ـ هي الجهات المتميزة التي استطاعت أن تلعب دوراً إيجابياً علمياً في إعداد وتقديم مطبوعات الأطفال، شعراً ونثراً، فقد كان لها في غالبية الأحيان لجانها المتخصصة، وعلماؤها المؤهلون، وبرامجها الواعية، فقد تضمنت مناهجها لمراحل الدراسة الأولى الكثير مما يناسب الطفل، ويرفع مستواه العلمي والأخلاقي والديني، والأدبي بالطبع، بل إن رجال التربية والتعليم كانوا أول من نادى بالإهتمام بأدب الطفل. وإعطائه حقه من التدقيق والتنظيم والتقويم؛ لما لذلك من أثر خطير على مستقبل الطفل والأمة. وكان التركيز الأكبر على قيم العقيدة والتاريخ والوطنية والعلم، ولولا بعض المداخلات السياسية والمذهبية الموجهة، لاستطاعت المدرسة ان تؤدي دورها كاملاً، وأتت بأعظم النتائج وأروعها، ولقد رأيت اهتمام وزارات المعارف والتربية والتعليم بهذه القضية عن طريق إحتكاكي المباشر، عندما كتبت للطلبة عدداً من القصص أذكر منها رواية (اليوم الموعود) وهي عن الحروب الصليبية، وقصة (رمضان العبور) عن الحرب مع إسرائيل عام 1973، ورواية (الطريق الطويل)، وتحرص وزارات المعارف والتربية على تعديل المؤلفات لكتّاب كبار، بل إنها تنتخب لمكتبات المدارس كتباً متميزة، التربوية، وتشكل لجاناً للاختيار، وفق قواعد موضوعة سلفاً.
وهذه شهادة حق..
لكن الأمر الذي تحتاجه المدرسة هو كيف تنَّمي في الطفل الرغبة في القراءة؟؟ إن أساليب التدريس والإمتحانات العقيمة لاتجعل من الطفل قارئاً ممتازاً، وكثيراً ما تتحول القصة المقررة أو الكتاب الثقافي (كتب ذات الموضوع الواحد) إلى مادة كالفيزياء أو الرياضيات، ولا يرى الطفل أو الطالب فيها إلا النقاط التي سوف تأتي فيها الأسئلة.. وهذه قضية أخرى جديرة بالدراسة والبحث، ووضع مقترحات محددة شاملة.
ـ أما الإعلام الرسمي، خاصة في التلفاز والمذياع والصحافة فحدِّث ولا حرج، وما أظن أن آفات الإعلام خافية على المستنيرين المخلصين في بلادنا، لأن حرص الإعلام على التسلية والإثارة والتشويق، قد أهدر الكثير من القيم الفكرية والعلمية، وهذا لا يعني أننا ضد القيم الفنية أو الجمالية، فهي أساس لا يمكن تجاهله، لكن الذي نريده هو أن تكون الدماء التي تسري في شرايين الأولون الأدبية الإعلامية، دماءً زكية إسلامية، خالية من السموم والميكروبات، وإلا كان الأمر وخيم العاقبة.
لقد مرَّ تاريخ أدب الأطفال بمراحل كثيرة، وتقلب بين أحضان الوثنيات والخرافات والأساطير القديمة، وواكب أحداث التاريخ الكبرى بوقائعها المثيرة، وشخصياتها المؤثرة، وتأثر بالتراث العالمي شرقاً وغرباً، كما كان وعاء للكثير من العقائد والأفكار والسلوكيات الوافدة من هنا وهناك من قدامى الفرس والهنود والرومان والإغريق والفراعنة وغيرهم، لكن انبلاج فجر الإسلام كان حدثاً كونياً هائلاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني واسعة شاملة.
لقد أرسى الإسلام القواعد والأصول لكل مناحي الحياة فكراً وسلوكاً وفناً. وتوالت عصور الإسلام الزاهرة، وهي تضع في حسبانها حقوق الطفل في الحياة والمال والرعاية والتعليم، ولم تكن الحضارة الإسلامية لتنهض وتترسخ وتؤثر إلا على أيدي الأعلام من رجال العقيدة الذين خاضوا بحار العلم والمعرفة، وأدركوا عن يقين أهمية تربية الطفل تربية صحيحة...
الحضارة يصيغها الرجال المؤمنون الأقوياء.
وتنميها وتحرسها العقيدة الصحيحة...
ولا يمكن ـ منطقياً وتاريخياً ـ أن يعلو شأو أمة، أو تسود حضارتها إلا إذا تربى أطفالها في مناخ صحي سليم.
ألم نقل ـ بادئ ذي بدء ـ أن قضية الطفولة دائما وأبداً تكتسب أولوية مطلقة؟؟؟
المصدر :
1- من أدب الأطفال. ص 239 وما قبلها ـ تأليف دكتور علي الحديدي.
/ج