قامت هذه المملكة والمسماة مملكة يهوذا (931 - 586 ق. م) بزعامة (رحبعام بن سليمان) يتبعه قبيلتين واتخذت المملكة (أورشاليم) عاصمة لها. وهؤلاء يقيمون العهد القديم بأقسامه الثلاثة: التوراة والكتب والأنبياء.
دخل (رحبعام) في معارك طاحنة مع (يربعام) ملك إسرائيل، ولأن يربعام كان مدفوعا من مصر، ويحمل في قلبه عقيدة العجل التي كانت تدين بها الأسرة الفرعونية الثانية والعشرين (945 - 712 ق. م). لم يتركه فرعون مصر شاشنق وحده في أرض المعركة، وتقدم بقواته نحو أورشاليم ليأخذ منها الخزائن. ويرعى عقيدة العجل التي بدأت تنمو في المملكة، يقول العهد القديم " وعمل يهوذا الشر.. وبنوا هم أيضا لأنفسهم مرتفعات وأنصابا وسوارى على كل تل مرتفع وتحت كل شجرة خضراء.. وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشاليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شئ وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان، فعمل الملك رحبعام عوضا عنها أتراس نحاس " (1).
وملك رحبعام 17 سنة ، وبعد وفاته ملك أبنه (إبيام) ثلاث سنين (2). وبعد وفاته ملك إبنه (أسا) 41 سنة. نزع خلالها جميع الأصنام إلا أنه لم ينزع المرتفعات (3) ثم ملك إبنه (يهوشافاط) 25 سنة (4) وصاهر بيت الملك آخاب ملك إسرائيل، وكانت هذه المصاهرة بابا دخلت منه الأوثان بصورة أكبر وأشمل في عهد إبنه (يهورام). الذي ملك يهوذا ثماني سنوات. قال فيها العهد القديم " سار في طريق ملوك إسرائيل كما فعل بيت أخاب لأن بنت أخاب كانت له امرأة " (5)، " وتشدد وقتل جميع أخوته بالسيف " (6)، " وعمل مرتفعات في جبال يهوذا وجعل سكان أورشاليم يزنون " وملك من بعده ابنه (أخزيا) لمدة سنة واحدة (7). وقتل بيد (ياهو) ملك إسرائيل الذي خرج في إسرائيل على بيت آخاب وقتلهم جميعا.وعندما قتل (أخزيا) قامت أمه بإعتلاء العرش في أورشاليم لمدة 6 سنوات، ثم انتهت حياتها بالقتل (8). وتولى الحكم (يهواش). وكان ابن سبع سنين حين ملك، وملك 40 سنة (9)، وسمح لرؤساء يهوذا بعبادة الأصنام، يقول العهد القديم " جاء رؤساء يهوذا وسجدوا للملك، حينئذ سمع الملك لهم، وتركوا بيت الرب إله آبائهم وعبدوا السوارى والأصنام، فكان غضب على يهوذا وأورشاليم لأجل إثمهم هذا، وأرسل إليهم أنبياء لإرجاعهم إلى الرب واشهدوا عليهم فلم يصغوا ". وانتهت حياة يهواش بالقتل. قتله عبيده في بيت القلعة (10)، وملك عوضا عنه ابنه (أمصيا). وكان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك. وملك 29 سنة (11)، يقول العهد القديم " أتى (أمصيا) بآلهة بني ساعير وأقامهم له آلهة. وسجد أمامها وأوقد لها " (12)، وملك من بعده ابنه (عزريا) وكان ابن ست عشرة سنة حين ملك. وملك 52 سنة (13). وملك من بعده ابنه (يوثام) وكان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك وملك 16 سنة.وملك بعد يوثام ابنه (آخاز) وكان ابن عشرين سنة حين ملك. وملك 16 سنة. يقول العهد القديم: " سار في طريق ملوك إسرائيل. وعمل أيضا تماثيل مسبوكة للبعليم.. وأحرق بنيه بالنار حسب رجاسات الأمم.. وذبح وأوقد على المرتفعات وعلى التلال. وتحت كل شجرة خضراء " (14). وعندما أغار ملك آرام على مملكة يهوذا بعد الملك (أحاز) برسالة إلى ملك آشور (تغلث فلاسر) يقول له فيها: (أنا عبدك وابنك. اصعد وخلصني من يد ملك أرام ومن يد ملك إسرائيل (15) القائمين علي، وأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب. وأرسلها إلى ملك آشور هدية. فسمع له ملك آشور " (كانت هذه الأحداث قبل سقوط مملكة إسرائيل الشمالية).
وبعد آحاز. ملك ابنه (حزقيا) وكان ابن خمس وعشرين سنة. وملك 29 سنة (16). وعاصر حزقيا سقوط مملكة إسرائيل وسبي أهلها إلى آشور، وكانت هذه إشارة تحمل عبرة، ولأنهم لم يسمعوا ولم يطيعوا، جاء إليهم ملك آشور (سنحاريب) واستولى على مدن يهوذا الحصينة، يقول العهد القديم: " صعد سنحاريب ملك آشور على جميع مدن يهوذا الحصينة وأخذها، وأرسل حزقيا ملك يهوذا إلى ملك آشور.. يقول:
قد أخطأت! ارجع عني! ومهما جعلت علي حملته! فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا. ثلاث مئة وزنة من الفضة. وثلاثين وزنة من الذهب فدفع حزقيا جميع الفضة الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك، وفي ذلك الزمان. قشر حزقيا الذهب عن أبواب هيكل الرب والدعائم التي كان قد غشاها حزقيا، ودفعه لملك آشور " (17).
وبعد وفاة حزقيا. ملك ابنه (متي) وكان ابن اثنتي عشرة سنة.
وملك 55 سنة (18). يقول العهد القديم عنه: " عمل سواري وسجد لكل جند السماء وعبدها، وبنى مذابح في بيت الرب... وبنى مذابح لكل جند السماء في دارى بيت الرب، وعبر بنيه في النار.. وعاف وتفاءل وسحر واستخدم جانا.. ووضع تمثال الشكل الذي عمله في بيت الله " (19) " وسفك منى دما بريئا جدا. حتى ملا أورشاليم من الجانب إلى الجانب " (20)، وبعد موت منى ملك ابنه (آمون)، وكان ابن اثنين وعشرين سنة، وملك سنتين، وسار على طريق أبيه وعبد الأصنام التي عبدها وسجد لها، وتمرد عليه عبيده وقتلوه في بيته ، ثم ملك عوضا عنه ابنه (يوشيا) وكان ابن ثمان سنين حين ملك، وملك 31 سنة (21)، وكان يوشيا مرتبط بمعاهدة مع ملك آشور، وفي خضم الأحداث بين فرعون مصر وملك آشور، قتل فرعون مصر يوشيا (22)، وقام بتعيين ابنه (يهواحاز) عوضا عنه، ثم قام بعزله وأخذه أسيرا، وعين أخوه (الياقيم) عوضا عنه ملكا على يهوذا، بعد أن غير اسمه إلى (يهوياقيم) وكان ابن خمس وعشرين سنة حين ملك. وملك 21 سنة. يقول العهد القديم:ودفع يهوياقيم الفضة والذهب لفرعون. إلا أنه قوم الأرض لدفع الفضة بأمر فرعون. كل واحد حسب تقويمه. وطالب الشعب بالفضة والذهب.ولم يدم الحال لفرعون مصر في بسط سلطانه على مملكة يهوذا، ففي أيام يهوياقيم. ظهر نجم ملك بابل (نبوخذ ناصر) يقول العهد القديم: " في أيامه صعد نبوخذ ناصر ملك بابل، فكان له يهوياقم (ملك يهوذا) عبدا ثلاث سنين " (23). " ولم يعد ملك مصر يخرج من أرضه، لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر إلى نهر الفرات. كل ما كان لملك مصر " ، وبعد يهوياقيم الذي قيده نبوخذ ناصر بسلاسل نحاس (24) ملك ابنه (يهوياكين) عوضا عنه. وكان ابن ثمان عشر سنة حين ملك، وملك ثلاثة أشهر (25). يقول العهد القديم: " في ذلك الزمان... جاء نبوخذ ناصر ملك بابل على المدينة وكان عبيده يحاصرونها، فخرج يهوياكين ملك يهوذا إلى ملك بابل، هو وأمه وعبيده ورؤساؤه وخصيانه. وأخذه ملك بابل.. وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك.. وسبى كل أورشاليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة البأس عشرة آلاف مسبي، وجميع الصناع والأقيان.. لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض، وسبى يهوياكين إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه.. سباهم من أورشاليم إلى بابل "، وقام ملك بابل بتعيين (متينا) عوضا عنه، وغير اسمه إلى (صدقيا) وكان ابن إحدى وعشرين سنة حين ملك. ثم عاد نبوخذ ناصر مرة أخرى إلى أورشاليم، وأخذ (صدقيا) وقتل أولاده أمام عينيه.
وقلعوا عينه. وقيدوه بسلاسل من نحاس. وجاؤوا به إلى بابل (26) وأحرقوا بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشاليم. وأعمدة النحاس التي في بيت الرب. والقواعد كسروها وحملوا نحاسها إلى بابل.
لقد انطلقت المسيرة تحت سقف الامتحان والابتلاء، تحيط بهم حجة موسى عليه السلام في عهد خيمة الاجتماع وحجة داوود وسليمان في عهد الهيكل، ولقد أخبر الله تعالى في كتابه أن موسى عليه السلام قد أحاطهم علما. بأن استخلافهم في الأرض من أنواع الامتحان بالملك، قال تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (27) وشهد العهد القديم بأن
مسيرة الشعب لم تسير على هدى الأنبياء. ولم تفتح للفطرة الإنسانية بابا وصدت عن سبيل الله. وانطلقت بزاد ووقود مرابط العجول والتيوس التي انتشرت عبادتها في مصر على امتداد العصور الفرعونية، ولقد ذكر القرآن الكريم أنهم بعد خروجهم من مصر عبدوا العجل في زمن موسى عليه السلام، وتوعد الله تعالى الذين أشربوا في قلوبهم حب العجل بغضب الله والذلة في الدنيا، ومن لطفه تعالى بالمسيرة وهي في مهدها أمرهم سبحانه بأن يذبحوا بقرة. ليعلموا أن الله هو الذي يحيي ويميت، فذبحوها وما كادوا يفعلون، وظل فقه كهنة البقر يدفع مسيرة الانحراف حتى صارت عبادة البقر والتيوس عبادة رسمية. الخارج عنها خارج عن الشرعية في مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وتحت هذا الفقه جرى القتال على الملك. وذكر العهد القديم: أن ملك إسرائيل قتل من يهوذا مائة وعشرين ألفا في يوم واحد، وسبى بنو إسرائيل من إخوتهم مئتي ألف من نساء وبنين وبنات، ونهبوا أيضا من غنيمة وافرة وأتوا بالغنيمة إلى السامرة. وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق بأن لا يفعلوا ذلك. قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ.) (28).
وذكر العهد القديم أن فقه كهنة البعل والقتال على الملك. أنتج في نهاية المطاف أنماطا بشرية لا يمكن بحال أن تقود مسيرة في إتجاه الفطرة، وفي هذا يقول أشعيا " ألان أيديكم تنجست بالدم، وأصابعكم بالإثم، وشفاهكم تكلمت بالكذب، ولسانكم يلهج بالشر، ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق " (29) وقال " رؤساؤك متمردون ولقضاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم. ودعوى الأرملة لا تصل إليهم " (30) وقال " تكلمنا بالظلم والمعصية، حبلنا ولهجنا من القلب بكلام الكذب، وقد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدا. لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول " (31) وقال " قد حبلوا بتعب وولدوا أثما، فقسوا بيض أفعى ونسجوا خيوط العنكبوت الأكل من بيضهم يموت. والتي تكسر تخرج أفعى، خيوطهم لا تصير ثوبا، ولا يكتسبون بأعمالهم، أعمالهم أعمال إثم، وفعل الظلم في أيديهم، أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي، أفكارهم أفكار إثم، في طرقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سبلا معوجة وكل من يسير فيها لا يعرف سلاما ".
لقد قال أشعيا أن رؤساء الشعب فيهم لصوص يحبون الرشوة ويتبعون العطايا. وقال تعالى في كتابه (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) (32) وقال أشعيا أن الشعب تكلم بالظلم والمعصية والكذب. وبأن أيديهم تنجست بالدماء وأصابعهم بالإثم.
وقال الله تعالى في كتابه: (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان)(33) وقال أشعيا أن بيضهم بيض أفعى الأكل منه يموت والتي
تكسر تخرج أفعى. وقال تعالى في كتابه: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (34) وقال أشعيا إن أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي. وقال تعالى في كتابه: (يسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) (35) وقال أشعيا أن في طرقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه. وقال تعالى في كتابه:
(ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) (36) وقال أشعيا إنهم جعلوا لأنفسهم سبلا معوجة وكل من يسير فيها لا يعرف سلاما. وذكر تعالى في كتابه حركة الذين كفروا من أهل الكتاب. فقال: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) (37) وقال (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا) (38) وقال (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) (39) إلى آخر هذه الآيات التي تكشف مناهج سبلهم في الصد عن سبيل الله.
فالمسيرة لم تنتج هدى وإنما ظلاما. ولم تنتج خبزا وإنما دما.
لهذا قال أشعيا " نلتمس الحائط كعمي. وكالذي بلا أعين نتجسس. قد عثرنا في الظهر كما في العتمة " (40) وقال " كيف صارت القرية الآمنة زانية.. كان العدل يبيت فيها. وأما الآن فالقاتلون " (41) لهذا وقعوا تحت العقاب الإلهي، بما قدمت أيديهم. قال تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا، إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) (42) فالعقاب كان نتيجة لمقدمة. سلكوا فيها سبل الضلال بعد أن بين لهم الأنبياء والرسل والهدف الذي من أجله خلقهم الله. وبينوا الإمكانيات الإنسانية والإمكانيات التي في الكون التي تسمح لتحقيق هذا الهدف، ودعم الأنبياء والرسل أقوالهم بالحجة والمعجزة ليكون لكلامهم مشروعية القبول من أقوامهم ومن العصر، ثم بينوا لهم أصلح وأنضج العناصر التي ينبغي أن تكون في ذروة المسيرة لقيادة الناس نحو الهدف، ولكن المسيرة الإسرائيلية ضلت الطريق. لأن سلوكها كان استجابة لحاجة معينة صرخت بها بعض الغرائز التي تصنمت أمام لافتات التزيين والإغواء والإلقاءات الشيطانية، وتحت إلحاح هذه الحاجة نظمت المسيرة عمليات الدوافع والانفعالات والإدراك والمعرفة، فكان تغيير الاتجاه من النور إلى الظلام، وتغيير الاتجاه يبدأ حين يبدأ إما بالانقلاب على معالم اتجاه النور وإما بإضافة معلومات تحط من شأنه وتجعل الناس ينفضون من حوله، ولقد ترتب على تغيير الاتجاه الفطري أن المسيرة لم تنتج إلا ظلاما ودما كما ذكر أشعيا، ولهذا ضربها عذاب الذلة والمسكنة والاستدراج لتركيب طريق جهنم كما ذكر القرآن، ويخطئ من يظن أن المسيرة من بعد الأنبياء قد قدمت زادا فطريا، أو قاتلت وفقا لتعاليم الأنبياء، ولقد تبينا من خلال سردنا لحركة المملكتين إسرائيل ويهوذا أن القتال لم يكن إلا على الملك، وأن ما تاجر به الخلف فيما بعد بأن القتال كان من أجل أرض الميعاد أو لإقامة مملكة داوود، أو للمحافظة على نقاء الدم اليهودي.
فكل هذا وغيره. لا وجود له إلا على موائد التبرير والترقيع والتماس الأعذار وتغليب الأهواء.
فالمسيرة خرجت على تعاليم داوود ومزقت دولة سليمان، وقدمت كنوز الهيكل إما هدية وإما جزية للحفاظ على الملك، وأقامت داخل الهيكل أصنام الأمم. وفي نهاية المطاف أغلقوه، يقول العهد القديم " وجمع أحاز آنية بيت الله، وقطع آنية بيت الله، وأغلق أبواب بيت الله، وعمل لنفسه مذابح في كل زاوية في أورشاليم وفي كل مدينة من يهوذا. وعمل مرتفعات للايقاد للآلهة الأخرى ".
وبتدبر انطلاقة المسيرة تحت سقف الامتحان والابتلاء، وبالوقوف أمام انحرافهم في اتجاه العجول، وما ترتب عليه من دق أوتاد الضلال في طريق التقدم البشري لتتعثر القافلة في طريق الاختيار، نجد أن الشباك التي صنعها الذين كفروا من بني إسرائيل ليقع فيها الناس، قد وقع فيها الذين كفروا وهم لا يشعرون قبل أن يقع الناس، فالقوم صنعوا الفتن أولا فقادتهم الفتن إلى فتنة الدجال، والطريق إلى الدجال لا يحمل إلا معالم الذلة والمسكنة وغضب الله، فتحت هذا السقف يسير الذين صنعوا الفتن وصدوا عن سبيل الله. بعد أن ضلوا ضلالا بعيدا وكفروا وظلموا، لأن الله تعالى أوجب على نفسه أن لا يهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها.
وطريق الذلة والمسكنة له معالم في العهد القديم وبينة القرآن الكريم، وما كانت آشور وبابل أول الزمان إلا بداية لهذا الطريق، بعد أن تعمقت المسيرة في الضلال ولم يكن تقدمها إلا إلى الخلف، يقول العهد القديم بعد سقوط مملكة إسرائيل في يد آشور " لم يبق إلا سبط يهوذا وحده. ويهوذا أيضا لم يحفظوا وصايا الرب إلههم. بل سلكوا في فرائض إسرائيل التي عملوها. فرذل الله كل نسل إسرائيل
وأذلهم " (43) فالمسيرة تحت سقف الذلة، وبداية هذا السقف تبدأ من عند الذين عبدوا العجل أيام موسى وهارون عليهما السلام، وقال فيهم تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) (44). فالجزاء يقف تحت سقفه الذين اتخذوا العجل عند المقدمة، ثم المفترين الذين ساروا على طريقهم، ويقف تحته قتلة الأنبياء. وقال تعالى في الذين كفروا من بني إسرائيل (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
قال في الميزان: الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفلز، أو كضرب الخيمة على الإنسان، فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة، قال تعالى في آية أخرى (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة) وقد كرر الله تعالى لفظ الحبل بالإضافة إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة، فإنه من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا، ومن الناس البناء والعمل. والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، والدليل على ذلك فوله تعالى: (أينما ثقفوا).
وظاهر المعنى: أينما وجدهم الناس تسلطوا عليهم، والذلة التشريعية من آثارها الجزية إذا تسلط عليهم المؤمنون، ومعنى قوله تعالى: (وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة) باؤا: أي اتخذوا مباة ومكانا والمسكنة: أشد الفقر. والظاهر أن المسكنة: أن لا يجد الإنسان سبيلا إلى النجاة والخلاص مما يهدده من فقر وغيره. ومن معالم الذلة بعث البعوث عليهم ويشهد بذلك قوله تعالى: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يومهم سوء العذاب. إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم). قال في الميزان: والمعنى: ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم ويوليهم سوء العذاب، وهو تعالى غفور رحيم بعباده، لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب لاستيجابهم ذلك بطغيان وعتو ونحو ذلك، فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه ولا عائق يعوقه. وآشور وبابل أول الزمان صورة تحمل معالم هذا العقاب وهذا الغضب.
لقد وقعوا تحت العقاب نتيجة لمقدمات قدموها وسار عليها الذين من خلفهم، وهذا العقاب له محطة في آخر الزمان يرفع أعلامها المسيح الدجال. وهو الفتنة الكبرى التي من أجلها صنعت جميع الفتن صغيرة أو كبيرة منذ كانت الدنيا، فالذين سقطوا أول الزمان يحمل بصماتهم الذين سيسقطون آخر الزمان، والله تعالى أعز وأمنع من أنه يظلم أو أن ينسب إلى نفسه الظلم.
المصادر :
1- مقارنة الأديان / إبراهيم خليل ص 87
2- الملوك الأول 14 / 27.-21
3- أخبار الأيام الأول 13 / 2
4- الملوك الأول 15 / 9
5- المصدر السابق 22 / 41
6- الملوك الثاني 8 / 17
7- أخبار الأيام الثاني 21 / 4-11
8- المصدر السابق 22 / 2-9
9- أخبار الأيام الثاني 23 / 15
10- المصدر السابق 24 / 1-17-19
11- الملوك الثاني 12 / 20
12- المصدر السابق 14 / 1
13- أخبار الأيام الثاني 25 / 14
14- الملوك الثاني 15 / 2-34
15- أخبار الأيام الثاني 28 / 3 - 4
16- الملوك الثاني 16 / 7 - 9
17- أخبار الأيام الثاني 29 / 1
18- الملوك الثاني 18 / 13 - 16
19- المصدر السابق 21 / 1
20- أخبار الأيام الثاني 33 / 4 - 7
21- الملوك الثاني 21 / 15 – 16-21-24
22- المصدر السابق 22 / 1
23- المصدر السابق 23 / 29-26-35
24- المصدر السابق 24 / 1-6
25- أخبار الأيام الثاني 36 / 7
26- الملوك الثاني 24 / 8-10-16-18
27- المصدر السابق 25 / 6-9 وما بعدها
28- البقرة : 84/ أخبار الأيام الثاني 28 / 6 - 9
29- سورة البقرة آية 84
30- أشعيا 59 / 3 - 4
31- المصدر السابق 1 / 22
32- المصدر السابق 59 / 14-5-8
33- سورة التوبة آية 34.
34- سورة المائدة آية 62
35- سورة المائدة آية 82
36- سورة المائدة آية 64
37- سورة آل عمران آية 186
38- سورة البقرة آية 105
39- سورة البقرة آية 109
40- سورة آل عمران آية 69
41- أشعيا 1 / 21
42- المصدر السابق 59 / 10
43- أخبار الأيام الثاني 28 / 6 - 9
44- الملوك الثاني 17 / 19
/ج