تعرض المحققون الی العبادة بشيء من التفصيل وطرحوا نظريات متنوعة حول العبادة نسلط الضوء علی جملة من المحقّقين واحداً بعد الآخر:
1ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة
إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكر حول العبادة حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل لايرد عليه الاِشكال، ولذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة:أ : العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدّ النهاية.
ب: ناشىَ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها.
ج: واعتقادٍ بسلطة لا يُدرَك كنهُها و ماهيتها.
ويلاحظ على هذا التعريف:
أوّلاً: أنّ التعريف غير جامع، و ذلك لاَنّه إذا كان مقوُّم العبادة، الخضوعَ البالغَ حدّالنهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يوَديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة، و ربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من خضوع هوَلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبأً و جهداً.و ثانياً: ماذا يريد بقوله «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الاَنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّغيرهم يستشعر عظمة المعبود و يعرف منشأها، وهو أنّه سبحانه: الخالق البارىَ، المصوّر، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس، السّلام، الموَمن، المهيمن العزيز الجبّار المتكبر.
و ثالثاً: ماذا يريد بقوله: «و اعتقادٍ بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها»؟.
فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة، فلازم ذلك عدم صدقها على عبادة الاَصنام والاَوثان، فإنّ عُبّاد الاَوثان يعبدونها و كانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند اللّه سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.
2ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر
وقد عرّف شيخ الاَزهر الاَسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار، و لكنّه يختلف عنه لفظاًو يتّحد معه معنًى، فقال: العبادة خضوع لا يحدُّ، لعظمة لا تحد.(1)وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً و إشكالاً، و ذلك أنّالعبادة ليست منحصرة في «خضوع لا يحدّ» بل الخضوع المحدود أيضاً ربّما يعد عبادة، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه. و كذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ، إذ ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الاَصنام، و مع ذلك يعبدها و كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند اللّه.
3ـ تعريف ابن تيمية
و أكثر التعاريف عرضة للاِشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه اللّه و يرضاه من الاَقوال والاَعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام، والحجّ، و صدق الحديث و أداء الاَمانة، و برّالوالدين و صلة الاَرحام».(2)
وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة و التقرّب، و تصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى اللّه، فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّ الاَمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا اللّه، و تستوجب ثوابَه لكنّها قد تكون عبادة كالصوم و الصلاة والحجّ، و قد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة، كالاِحسان إلى الوالدين، و إعطاء الزكاة، و الخمس، فكلّ هذه الاَمور (الاَخيرة) توجب القربى إلى اللّه في حين لا تكون عبادة. و إن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها او شرطيّة قصد القربة في صحّتها.
و بعبارة أُخرى: إنّ الاِتيان بهذه الاَعمال يعدّ طاعة للّه و لكن ليس كلُّ طاعة عبادة.
وإن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عباديّة و أُموراً قربية، و كلّ عبادة مقرِّبة، و ليس كلّ مقرِّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام، و العطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب و لكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداًبعمله للّه تعالى.
و إذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين، كلّ يلازم الآخر.
التعريف الصحيح:
العبادة هي الخضوع للشي بما هو إلـه أو العبادة هي الخضوع للشيء بما هو ربّإنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة، و ربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الاِمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين و المشركين، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه:"وَ لكِنْ أَعبدُ اللّهَ الّذي يَتَوفّاكُمْ" (3) وقال سبحانه:"قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ" (4)
وقال في النهي عن عبادة غيره:"إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً" (5) وقال: "أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ" (6): فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة من أفعال العباد، و عقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين و عبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.
إنّ الاِمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّالعبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران:
1ـ الفعل او القول المنبىَ عن الخضوع و التذلّل
2ـ العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له
أمّا الفعل، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبه، كالتكلّم بكلام يوَدي إلى الخضوع له أوبعمل خارجي كالركوع و السجود بل الانحناء بالرأس، أو غير ذلك ممّا يدلّ على ذلّته و خضوعه أمام موجود.
وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع و التذلّل فهي عبارة عن:
1ـ الاعتقاد بأُلوهيته .
2ـ الاعتقاد بربوبيته) قد وقفت على معنى الاِله و الاَلوهيّة، و الربّ والربوبيّة، فلو حكمنا على المشركين بأنّهم كانوا يعتقدون بألوهيّة اصنامهم و ربوبيّتها، فانّما تعنى من اللفظين ماذكر لهما من المعنى) او مايعادلهما و تعلّم صحة التعريفين من دراسة عقيدة المشركين في أصنامهم و أوثانهم .
عقيدة المشركين في آلهتهم
إنّ الذي يسبر حياةَ المشركين يقف بوضوح على انّهم معتقدين بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها بشكل واضح و على القارىَ الكريم أن يستشفه عن كثب وما هو إلاّ حكم التاريخ أوّلاً، و حكم القرآن ثانياً، و نحن نذكر شيئاً يسيراً منهما:حكم التاريخ في عقيدة المشركين
إنّ المشركين العرب و إن كانوا لا يعاونون من أيّ انحراف و إشكال في مسألة التوحيد في الخالقية و كانوا يعتقدون أنّه سبحانه هو الخالق وحده و أنّه لاخالق سواه و قد نقله سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات:قال تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالاَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزيز الْحَليمُ" (7) إلاّ أنّهم كانوا في مسألة التدبير الّتي نعبر عنها بالربوبيّة على طرف النقيض من الحق و على خلاف الصواب، فكانوا يعتقدون بأرباب مكان الربّ الواحد، و لكلّ ربٍّ شأن في عالم الكون. و ما اشتهر بين الناس من أنّ المشركين يعتبرون الاَصنام مجرّد شفعاء عند اللّه لا أكثر تصوّر خاطىَ، بل كانوا يعتقدون أنّ لها وراء هذا، شأناً أوشوَونا. ولاَجل هذه المكانة لها كانوا يعبدونها و يستشفعون بها، وإليك شواهد على ذلك:
لقد دخلت الوثنية في مكة و ضواحيها أوّل ما دخلت في صورة «الشرك في الربوبية» فقصة «عمرو بن لُحيّ» الخُزاعي دليل على أنّ أهل الشام كانوا يعتبرون الاَوثان و الاَصنام مدبرة لجوانب من الكون .
يكتب ابن هشام في هذا الصدد فيقول:
كان «عمرو بن لُحيّ» أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة و ضواحيها فقد رأى في سفره إلى البلقاء من بقاع الشام أُناساً يعبدون الاَوثانَ و عند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً: ما هذه الاَصنام التي أراكم تعبدونها؟قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا، و نستنصرها فَتَنصُرنا ، فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.
وهكذا استحسن طريقتَهم و استصحب معه إلى مكّة صنماً كبيراً اسمه هُبل و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته.(8)
فاستمطار المطر من هذه الاَصنام و الاستنصار بها يكشف عن عقيدتهم فيها و أنّ لها مدخلية في تدبير شوَون الكون و حياة الاِنسان.
يقول هشام بن محمد بن السائب الكلبي: مرض لُحيّ بن حارث بن عامرالاَزدي و هو أبو خزاعة فقيل له: إنّ بالبلقاء من الشام حَمَّة) بالفتح و تشديد الميم كلّعين فيها ماء حارّ ينبع)، و يستشفي الاَعلاّء.
إن أتيتَها بُرِئتَ فأتاها فاستحمّ بها فبَرىَ بها فوجد أهلها يعبدون الاَصنام، فقال: ما هذه ؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا فقدم بها إلى مكة و نصبها حول الكعبة.(9)
وقال السيّد الآلوسي: وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة و كانت أعظمها هبل عندهم و كان ـ فيما بلغني ـ من عقيق أحمر على صورة الاِنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداًمن الذهب وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة و كان يقال له هبل خزيمة... إلى أن قال: فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية... الخ.
و يقول أيضاً: وكان لمالك و مِلْكان ابني كنانة، بساحل جدّة صنم يقال له سعد، وكان صخرة طويلة فأقبل رجل من بني مِلْكان بإبلٍ له موَبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته، فلما أدناها منه و رأته و كان يُهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كلّ وجه فغضب ربّها فتناول حجراً فرماه به فقال: لا بارك اللّه فيك إلهاً أنفرْتَ إبلي ثمّ خرج في طلب الاِبل حتى جمعها ثمّ انصرف يقول:
أتيـنا إلى سـعد ليجمع شـملنا * فشتتـنا سعد فما نحن من سعد
و هل سعدُ إلاّصـخرة بتنوفة * من الاَرض لايدعى لغيّولا رشد(10)
هذا شأن عبدة الاَصنام وأمّا شأن عبّاد الاَجرام العلوية فحدّث عنهم ولا حرج، فقد كانوا يعتقدون فيها ربوبية وتدبيراً للعوالم السفلية، و لم تكن مناظرة إبراهيم - عليه السلام - لهوَلاء إلاّ لاَنّهم كانوا يعتقدون بربوبية الكواكب والقمر والشمس، و لاَجل ذلك يصف إبراهيم آلهتهم بالربوبية مجاراة لهم حتى يقضي على تلك الفكرة ببرهان قاطع، يقول:
"فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللّيلُ رَأى كَوكباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ" (11) وقد كرر لفظ الربّ أيضاً عند مواجهته للقمر والشمس
يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس:
زعموا أنّها ملك من الملائكة لها نفس وعقل و هي أصل نور القمر و الكواكب وتكوّن الموجودات السفلية كلّها عندهم منها و هي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها انّـهم اتّخذوا لها ، صنماً بيده جوهر على لون النار، و له بيت خاص قد بنوه باسمه و جعلوا له الوقوف الكثيرة في القرى والضياع، وله سدنة و قوّام و حَجبة يأتون البيت و يصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم، و يأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم و يصلون و يدعونه و يستشفعون به.(12)نعم إنّالشوَون التي كانوا يعتقدونها لآلهتهم كانت متنوعة و أقلّها شأناً انّها تملك الشفاعة، و قد فوض إليها أمرها لتشفع لمن شاءت و تقبل شفاعتها عند اللّه بلا قيد و لا شرط.
قد وقفت على قضاء التاريخ في عقيدة المشركين و أنّهم ما انفكّوا في حياتهم عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها، و إليك دراسة حكم القرآن في عقيدة المشركين من غير فرق بين عبّاد الاَجرام السماوية أو الاَرضية وحتى المشركين من أهل الكتاب الذين يعدّهم القرآن مشركين أيضاً.
قضاء الكتاب في عقيدة المشركين
1ـ إنّ الذكر الحكيم يصف المشركين بأنّهم قاطبة جعلوا للّه أنداداً فلذلك عبدوا غير اللّه، والمراد من جعلهم أنداداً للّه هو إشراكهم مع اللّه في شأن ممّا يرجع إلى اللّه سبحانه: و يختص به سواء أكان تدبيراً للكون و الحياة أم مغفرةللذنوب ، أو مالكيتهم للشفاعة.يقول سبحانه: "فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (13)
وقال سبحانه: "وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُ كَحُبِّ اللّهِ" (14)
وقال سبحانه: "وَجَعَلُوا للّه أنداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصيرَكُمْ إِلَى النّارِ" (15)
وقال سبحانه: "إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنداداً" (16)
وقال سبحانه: "وَ إِذا مَسَّ الاِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ للّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْهُ سَبيلِهِ " (17)
وقال سبحانه: "قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرونَ بِالّذي خَلَقَ الاَرْضَ في يَومَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمينَ" .(18)
2ـ يحكي سبحانه عن المشركين انّهم يعترفون في يوم القيامة بانّهم كانوا يسوُّون بين اللّه وآلهتهم .
قال سبحانه : حاكياً عن لسان المشركين يوم القيامة: "تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ" (19)
فهذه الآيات ـ التي تحكي عقيدة المشركين و هي أنّهم جعلوا للّه سبحانه تعالى ندّاً بل أنداداً و أنّهم كانون يسوّون آلهتهم بربّ العالمين ـ تكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ، وهو انّ الاَصنام بزعمهم كانت موَثرة في الكون و لو في قسم منه، موَثرة في مصير عبادها، و لذلك سميت الآلهة أرباباً، أي مالكين لاَزمّة الاَمور و مصير حياة العابد و إن كان فوق هذه الاَرباب ربّالعالمين.
3ـ و هناك مجموعة من الآيات تحكي عن مناظرة إبراهيم لمشركي عصره من عبدة الاَجرام السماوية يقول سبحانه: "وَ إِذْقال إِبْراهيمُ لاَبيهِ آزَرَأَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلهة إِنّي أَراكَ وَقَومكَ في ضَلالٍ مُبينٍ".ثم إنّه سبحانه يسرد مناظرته معهم بشكل بديع و يذكر أنّ بطل التوحيد حاجّهم بالنحو التالي:
"فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلينَ* فَلَمّا رَءَا الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَومِ الضّالّينَ* فَلَمّا رَءَا الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَالسَّمواتِ وَالاَرْضَ حَنيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ" (20)
نرى أنّ إبراهيم يركز على كلمة " ربّي" و يعترف مجاراة للقوم بربوبية الاَجرام السماويّة، و لم يزل يُظهر لهم أنّه على هذا الاعتقاد قبل أُفولها، ثمّ يعود و يبطل ربوبيتها بأُفولها.
فماذا كان المشركون يقصدون من الاعتقاد بربوبية الاَجرام السماوية ؟! وماذا أراد بطل التوحيد حسب الظاهر من الاقرار بربوبيتها؟! أليس الربّ بمعنى الصاحب، أليس سياسة المربوب و تدبير حياته بيد الربّ فهل يمكن أن يعبد هوَلاء هذه الاَجرام من دون اعتقاد بتأثيرهم على حياتهم و مسيرتهم.
كلّ ذلك يعرب عن كيفية عقيدة المشركين بالنسبة إلى آلهتهم و أربابهم، وإنّما جرّتهم إلى عبادتها لاعتقادهم الخاص بها.
4ـ إنّه سبحانه: «يصف اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم و رُهبانهم أرباباً. قال سبحانه: "اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ"(21)
و ليس المراد أنّهم اعتقدوا بأنّ علماء دينهم و رهبانهم خالقون أو مدبرون للكون بل كانوا يعتقدون أنّ لهم شأناً من شوَونه سبحانه: وهو أنّ لهم تحليل الحرام و تحريمه و انّه فوض إليهم زمام التشريع و بالتالي مصيرهم بأيديهم و يكفي ذلك في صدق الربوبية.
روى المفسرون عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللّه و في عنقي صليب من ذهب فقال لي : يا عدي إطرح هذا الوثنَ في عنقك قال: فطرحته ثم انتهيتُ إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية "اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً" حتّى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرِّمون ما أحل اللّه فتحرّمونه ، ويُحلّون ما حرّم اللّه فتستحلونه ؟ قال: فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم.(22)
هذا قليل من كثير ممّا يعرب عن عقيدة المشركين القدامى والجدد في حقّ معبوداتهم.
ونختم المقال بشيء من شعر زيد بن عمر بن نوفل الذي أسلم قبل أن يبعث النبيّ الاَكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ يقول بعد استبصاره معرباً عن عقيدته في الجاهلية:
أرب واحد أم ألف رب * أدين إذا تقسّمت الاَمور
عزلتُ اللاة والعُزى جميعاً * كذلك يفصل الجلد الصبور
فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها * ولا صنَمَي بني عمرو أزور
و يقول في شعر آخر:
إلى الملك الاَعلى الذي ليس فوقه * إله و لا ربّ يكـون مداينـا(23)
هذه الاَشعار و سائر الكلمات المروية عن الاَمّة الجاهلية قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تثبت أمراً واحداً وهو أنّ آلهتهم كانت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبة مالكة لها موَثرة في الكون و مصير الاِنسان و انّ هوَلاء آلهة و أرباب واللّه سبحانه إله الآلهة و ربّالاَرباب.
المصادر :
1- تفسير القرآن الكريم:37
2- مجلة البحوث الاِسلامية، العدد2: 187، نقلاً عن كتاب العبودية:38
3- يونس/104
4- الزمر/11
5- العنكبوت/17
6- الصافّات/95
7- الزخرف/9
8- ابن هشام: السيرة النبوية1:79
9- الكلبي/ الاَصنام ص8، شكرى الالوسي : بلوغ الارب في معرفة العرب2:201
10- شكري الالوسي: بلوغ الارب :2:205 و 208
11- الاَنعام/76
12- الالوسي: بلوغ الارب2:215ـ 216
13- البقرة/22
14- البقرة/165
15- إبراهيم/30
16- سبأ/33
17- الزمر/8
18- فصلت/9
19- الشعراء/97ـ 98
20- الاَنعام/74ـ79
21- التوبة/31
22- الطبرسي: مجمع البيان :3/23ـ24
23- الالوسي: بلوغ الارب2:249
/ج