
أن وظيفة الإنسان الأولى والغاية من وجوده هي العبودية ، فماذا تعني هذه الكلمة وما مدلولاتها ؟ هل هي نطق بالشهادتين فقط ؟! أم أنها حركات بالجوارح ؟! أم يكفي الاعتقاد بالقلب ؟! أم غير ذلك من الأقوال والآراء ؟ الواقع أنها تشمل ذلك كله فهي نطق باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان وذلك في حدود ما شرعه الرحمن .
والعبودية تعني أن يستسلم المرء لخالقه بكل جوارحه وطاقاته وتصرفاته وأفكاره وشعوره . كما تعني أن ينقاد للشرع ويحكمه في نفسه وأهله وما ملكت يمينه ، تاركا أهواءه وشهواته وراءه ظهريا . ويوضح سيد قطب حقيقة العبادة في أسلوب أدبي رفيع قائلا : إن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس ، أي استقرار الشعور أن هناك عبدا وربا . عبدا يعبد وربا يعبد ، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله (1) .
نعم ... بهذا الاستسلام وبهذا الانقياد يكون الفرد عبدا لله ، عبدا يوظف كل ما يملك من نعم مادية أو معنوية ابتغاء مرضات الله ويجعلها ذخرا وزادا ليوم المعاد استعدادا . قال تعالى : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } (2) وليعلم الإنسان أنه إن لم يعبد الله حق العبادة فإنه لا شك سيعبد الشيطان الذي أخذ عهدا على نفسه بأن يغوي بني آدم ويزين لهم الضلال ويحبب إليهم المنكرات . فينبغي على كل مسلم أن يكون حذرا حتى لا يقع في حبائل الشيطان ومصائده فيسلم من شره ويصبح من عباد الله المخلصين كما قال تعالى في حوار مع الشيطان : { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } (3)
فعبد الله المخلص يوحد الله بالعبادة ولا يدع للشيطان مجالا أو منفذا يصل إليه منه . فالإنسان يحدد بنفسه إما أن يكون عابدا لله أو عابدا للشيطان ، وبيده تحقيق غاية وجوده ، وبالتالي تحديد مصيره .
إن أي مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره فإن له نهاية محتمة ، فكل نفس ذائقة الموت ، الموت الذي قدره الله عز وجل على خلقه وكتبه على عباده وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام ، قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت } (4)
وقال أيضا : { ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر } (5)، ففي آيتين من خمس كلمات فقط يصور القرآن الكريم حال الدنيا وما بعدها ، فهي حياة ملهية ثم زيارة وأي زيارة ، زيارة منتهية لا محالة ويكون بعدها الانتقال إلى دار الحساب ، ولكن تلك الزيارة أي فترة البقاء في القبور لا يعلم مداها إلا الله ومع ذلك فنحن نعلم من ديننا أن تلك الحفرة الضيقة ستكون على صاحبها أحد أمرين : إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، كما ورد في حديث البراء بن عازب الطويل (6)وغيره من الأحاديث . يقول ابن القيم : مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العباد ، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.(7)
فإذا مات الإنسان فهذه قيامته وهي القيامة الصغرى ، أما القيامة الكبرى فتكون عندما يؤذن بالنفخ في الصور فيحشر جميع العباد ، قال تعالى : { يوم ترجف الراجفة ، تتبعها الرادفة } (8)عندئذ ترتجف القلوب والأفئدة وتحتار العقول والأفهام كما قال تعالى : { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } (9). ويصور هول ذلك اليوم أيضا قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (10)
وإذا تأملنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة جدا تعرض لذلك اليوم من زوايا متعددة ومشاهد مختلفة ، وتعني هذه المشاهد بتصوير الهول في يوم القيامة ، ذلك الهول الذي يشمل الطبيعة كلها ويغشى النفس الإنسانية ويهزها ولا يكاد يخلو مشهد واحد من اشتراك الأحياء فيه ...، وتعني هذه المشاهد أيضا بتصوير مواقف الحساب قبل النعيم والعذاب ، وهنا نلتقي بألوان شتى من طرق العرض الكثيرة وسمات شتى للموقف المعروض(11)
وتبين السنة كذلك بعض أهوال ذلك اليوم العصيب ، ففي حديث الشفاعة يقول صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الناس ـ الأولين والآخرين ـ في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ، (12) ومن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا فقلت يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض (13)
ومن حديث المقداد ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ، قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه (14)
فهذه الأهوال وغيرها تنتظر كل إنسان ولن ينجو منها أحد فالكل صائرون إلى الله يقول تعالى : { يقول الإنسان يومئذ أين المفر ، كلا لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبؤا الإنسان يؤمئذ بما قدم وأخر } (15)
وبعد أن يقوم الناس لرب العالمين تجازى كل نفس بما كسبت ويلاقي كل عبد ما قدم ، قال تعالى : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } (16) وقال : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين }(17) ويقول صلى الله عليه وسلم فيم يرويه عن ربه عز وجل : ....يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، (18)
ويقول تعالى أيضا : { إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى } (19)
فهذه هي الخاتمة ، خلود دائم وحياة لا تنتهي ، فمن زكى نفسه فإلى دار النعيم ومن دساها فإلى الجحيم والعياذ بالله ، فليختر كل امرئ ما يريد ، قال تعالى : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } (20)
نخلص من هذا القول بأن العبد يمر بثلاث مراحل : الحياة الدنيا فالقبر ثم الخلود ، وهذه المراحل لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى ، وهناك مغيبات كثيرة في هذه المراحل لا نعلم منها إلا ما ثبت في الكتاب والسنة ، والمسلم الحق يؤمن ويصدق بها وإن لم يستطع عقله أن يتصورها أو يدرك كنهها .
يقول ابن أبي العز الدمشقي : والحاصل أن الدور ثلاث : دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ، وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها فجاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا(21)
المصادر : 1- في ظلال القرآن
2- القصص : 77
3- الحجر : 39-42
4- آل عمران : 185
5- التكاثر : 1، 2
6- انظر سنن أبي داود حديث رقم 3212
7- الروح : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ، 1406 هـ ، ص 97
8- النازعات : 6 ، 7
9- الحج : 2
10- لقمان : 33
11- مشاهد القيامة في القرآن : سيد قطب ، دار الشروق ، بيروت ، ص 41-43
12- البخاري : 3/250
13- مسلم : 4/ 2194
14- مسلم : 4/ 2196
15- القيامة : 10 ـ 13
16- البقرة : 281
17- النور : 25
18- مسلم : 4/ 1994
19- طه : 74- 76
20- الشمس : 7-9
21- شرح العقيدة الطحاوية : أبو العز علي بن علي بن محمد ، 1400 هـ ، ص 453
/ج