
قال الشيخ جعفر كاشف الغطا (1156ـ1228 ) في كتابه الذي ألّفه رداً على رسالة عبد العزيز بن سعود:
لا ريب انّه لا يُراد بالعبادة (التي لا تكون إلاّ للّه، و من أتى بها لغير اللّه، فقد كفر)مطلقُ الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، و إلاّ لزم كفر العبيد والاَجراء و جميعُ الخدّام للاَمراء، بل كفر الاَنبياء في خضوعهم للآباء، و جميع من تواضع للاخوان، أو لاَحد من أصحاب الاِحسان.
وإنّما الباعث على الكفر، إنقياد البعض لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الاَمر من الكريم المتعال، و أنّ لهم تدبيراً و اختياراً.
إين حال المسلمين مِنْ حال مَنْ جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، و اتخذ الملائكة أرباباً دون اللّه، وبعض المخلوقين أنداداً و شركاء، يعبدونها من دون اللّه أومع اللّه، إمّا لاَهليتهم، أو لترتب التقرب إلى اللّه زلفى، من دون أمر اللّه لهم بذلك، قال تعالى:
"وَ ما أنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ". (1)
إعلم انّ الاَلفاظ اللغوية والعرفية العامة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواء وردت في السنة و القرآن أم لا.
وأمّا إذا انقلبت عن المعاني الاَوّلية إلى غيرها، أو استعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان، كلفظ الصلاة، و الصيام، و الحجّ، فانّه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والاِمساك والقصد، بل معنى جديد تتوقف معرفته على بيان و تحديد.
و من هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فانّه لايراد بهما في لحوق الشرك بهما، المعنى القديم، و إلاّ لزم كفر الناس من يوم أدم إلى يومنا هذا، لاَنّ العبادة بمعنى الطاعة، و الدعاء بمعنى النداء والاستعانة بالمخلوق لايخلو منها أحد.
ومن أطوع من العبد لسيّده، و الزوجة لزوجها، و الرعية لملوكهم، ولا زالو ينادونهم و يطلبونهم إعانتهم و مساعدتهم، بل الروَسا، لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم و يندبونهم.
فعلم انّه لا يراد بهذه المذكورات المعاني السابقات، و تعينت إرادة المعاني الجديدة.
وقال في تحقيق الدعاء الذي هو مخّ العبادة: إن أُريد بدعوة غير اللّه والاستغاثة، اسناد الاَمر إلى المخلوق على انّه الفاعل المختار، الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار، و المسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة، و من قائلها، و ما أظن أنّ أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي، ولاسمعناه من أحد إلى يومنا هذا.
وإن أريد انّ المدعوّ و المستغاث به، له اختيار وتصرّف في أمر اللّه، فيحكم على اللّه، فهذا أشدّ كفراً من الاَوّل.
وإن أُريد دعاوَه و الاستغاثة به، للدعاء والشفاعة (أي ليدعوَ له أو يشفع له عند اللّه)، فهذا من أعظم الطاعات، و فيه محافظة على الآداب من كلّالجهات.
وكون الدعاء عبادة إنّما يجري في قسم منه، و هو الطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الاَشياء والنظائر، ولو جعلت كلّ دعاء عبادة، للزم أن يكون دعاء زيد لاصلاح بعض الاَمور، أو دفع بعض المحذور، من قبيل الكفر.(2)
إنّ العلاّمة الحجّة المحقّق ، الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي(1284ـ 1352هـ) قد قام بتفسير العبادة في تفسيره الشريف المسمى بـ «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» بنفس التعريف الذي ذكرناه فقد أدى حقّ المقال و نقتبس منه ما يلي:
لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رِسْلِهم و مجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر، و يعرفون بذوقهم مجازه و وجه التجوز فيه. و إنّالمحور الذي يدور عليه استعمالهم و تبادرهم هو أنّ العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالالهيّة. أو بعنوان أنّه رمز أو مجسمة لمن يزعمه إلهاً، تعالى اللّه عمّا يشركون. و لكن الخطأ و الشرك أو البهتان و الزور أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة:
الاَوّل:
الاِتيان بما تتحقّق به حقيقة العبادة لما ليس أهلاً لذلك بل هو مخلوق للّه كعبادة الاَوثان مثلاً.الثاني:
مقام البهتان والافتراء و خدمة الاَغراض الفاسدة لترويج التحزبات الاَثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الاِمام شيئاًمن الاحترام بعنوان أنّه عبد مخلوق للّه، مقرّب عنده لاَنّه عبده و أطاعه، أنّه عَبد ذلك المحترم وأشرك باللّه في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك، يبهتون من يحترم النبي أو الاِمام تقرباًإلى اللّه، لاَنّه اختاره و أكرمه بمقام الرسالة أو الاِمامة التي هي بجعل اللّه و عهده كما وعد اللّه بذلك إبراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة:"وَ إِذِابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ" (3) و هذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه و لا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هوَلاء المتحزبين، لملوكهم، وزعمائهم، وحكّامهم، وخضوعهم لهم بالقول والعمل.
المقام الثالث:
كثيراً ما فُسِّرت العبادة بأنّها ضرب من الشكر، مع ضرب من الخضوع، أو الطاعة وهل يخفى عليك أنّ هذه التفاسير مبنيّة على التساهل بخصوصيات الاستعمال، أو الارتباك في مقام التفسير، وهل يخفى أنّ أغلب الاَفراد من كلّ واحد ممّا ذكروه لا يراه الناس عبادة و يغلطون من يسمّيها أو بعضها عبادة إلاّ على سبيل المجاز. و إنّ لفظ العبادة و ما يشتق منه كَعَبَدَ و يَعْبُد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلاّفيما ذكرناه من معاملة الاِنسان لمن يتخذه إلهاً معاملة الاِله، المستحق لذلك بمقامه في الآلهية.(4)المصادر :
1- يوسف/40
2- جعفر النجفي المعروف بكاشف الغطاء، منهج الرشاد:86ـ91 بتلخيص
3- البقرة/124
4- البلاغي: آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1:57ـ 58
/ج