علم العقيدة أشرف العلوم، وأعظمها، وأهمها.وإن من أجلّ النعم وأوفاها وضوحَ العقيدة الإسلامية، وموافقتَها للفطر القويمة، والعقول السليمة، وسلامتها من التناقض والاضطراب واللبس والغموض؛ فألفاظها سلسة، ومعانيها بينة يفهمها العالم والعامي، والصغير والكبير.
وأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة تسبق إلى الأفهام ببادئ الرأي، وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها؛ فهي مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي والرضيع، والرجل القوي والضعيف؛ فأدلة الكتاب والسنة سائغة جلية تقنع العقول، وتسكن النفوس، وتغرس الاعتقادات الصحيحة الجازمة في القلوب.
ألا ترى أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر [وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ] (1)، وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمُدبِّرين فكيف في جميع العالم؟! [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] (2)، وأن من خلق علم، ثم خلق كما قال تعالى [ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ](3).
فهذه الأدلة وأمثالها تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي(4)
هذا وإن باب القدر لمن أعظم أبوب العقيدة، وشأنه شأن غيره من الأبواب الأخرى من حيث الوضوح والبيان، بل إن له شأناً عجيباً؛ لأن عامة الناس أعلم به من المتكلمين والفلاسفة؛ لأنه مسألة بديهية، والبديهي كلما زاد التعمق فيه بعد عن الإدراك، فالإيمان بالقدر أمر فطري، والعرب في جاهليتها وإسلامها لم تكن تنكر القدر، كما صرَّح بذلك أحد أئمة اللغة وهو أحمد بن يحيى ثعلب بقوله: (ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية وأهل الإسلام)
وإثباتهم للقدر مبثوث في ثنايا أشعارهم وخطبهم فهم يثبتون القدر ولا ينكرونه، وإن كان هذا الإثبات قد يشوبه بعض التخبط والجهل في فهم حقيقة القدر.
فنجد - على سبيل المثال - زهير بن أبي سلمى يقول في معلقته المشهورة:
فلا تكتُمنَّ الله ما في نفوسكم *** ليخفى ومهما يُكْتَمِ الله يعلمِ
يؤخر فيوضع في كتاب فَيُدَّخَرْ *** ليوم الحساب أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ(5)
ثم تراه في موضع آخر من تلك المعلقة يقول:
رأيت المنايا خبطَ عشوَاءَ من تُصِبْ *** تُمِتْهُ ومن تخطىءْ يُعَمَّرْ فيهرمِ(6)
فهو لا ينكر القدر، وإنما يرى أن الأقدار كالناقة العشواء _ ضعيفة البصر _ تسير في الطريق، فمن أصابته مات، ومن أخطأته عاش.
وهذا جهل وتخبط في باب القدر؛ ذلك أن المنايا مكتوبة مقدرة، كما صرح بذلك غيره من أهل الجاهلية، كعمرو بن كلثوم أحد شعراء المعلقات حيث قال:
وأنَّا سوف تدركنا المنايا ***مقدرةً لنا ومقدرينا(7)
وكما قال لبيد بن ربيعة العامري في معلقته المشهورة يصف البقرة الوحشية وحالها مع الوحوش الضارية:
صادفنَ منها غِرَّةً فأصبنها *** إن المنايا لا تطيش سهامها
وعندما بعث النبي " بيَّن هذا الأمر غاية البيان؛ فإن كلماتِه الجوامعَ النوافع في هذا الباب وغيره كفت وشفت، وجمعت وفرقت، وأوضحت وبينت، وحلَّت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده، وتلقوا ذلك عنه، فاتبعوا طريقه القويم، وساروا على نهجه المستقيم، فجاءت كلماتهم كافية شافية، مختصرة نافعة؛ لقرب العهد، ومباشرة التلقي من مشكاة النبوة، التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى؛ فكانوا بذلك أعظم الناس فهماً وفقهاً لهذا الباب، وأكثرهم إيماناً به وعملاً بمقتضاه، فأثَّر ذلك فيهم أيما تأثير، فكانوا أتقى الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس بعد الأنبياء عليهم السلام.
ثم بعد ذلك دبَّ في هذه الأمة داء الأمم، فركبت سنن من كان قبلها، فدخلت الفلسفات اليونانيةُ، والهنديةُ، والفارسيةُ، وغيرُها بلادَ المسلمين، وظهرت بدعة القدرية في البصرة ودمشق، فوقع أول شرك في هذه الأمة، وهو نفي القدر، وكان ذلك في عهد أواخر الصحابة - رضي الله عنهم - الذين أنكروا تلك البدعة، وأعلنوا البراءة منها ومن أهلها.
ثم جاء من بعدهم علماء السلف، فتصدوا لتلك البدعة، وبينوا زيفها، وهتكوا سجفها، ودحضوا باطلها، وأظهروا الحق ونشروه، ودعوا الأمة إليه.
ولهذا فإن موضوع هذا البحث هو: (الإيمان بالقضاء والقدر)
أهمية موضوع القدر:
من خلال ما مضى يتبين لنا شيء من شأن القدر، وفيما يلي مزيد بيان لأهميته:
1- ارتباطه بالإيمان بالله: فالقدر قدرة الله والمؤمن به مؤمن بقدرة الله، والمكذب به مكذب بقدرة الله - عز وجل.
ثم إنه مرتبط بحكمة الله عز وجل وعلمه، ومشيئته، وخلقه.
2- كثرة وروده في أدلة الشرع: فنصوص الكتاب والسنة حافلة ببيان حقيقة القدر، وتجلية أمره، وإيجاب الإيمان به.
وهذا ما سيتضح في ثنايا هذا البحث.
3- أنه من الموضوعات الكبرى: التي خاض فيها جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم؛ والتي شغلت أذهان الفلاسفة، والمتكلمين، وأتباع الطوائف من أهل الملل وغيرهم.
4- ارتباط القدر بحياة الناس وأحوالهم: فهو مرتبط بحياتهم اليومية وما فيها من أحداث وتقلبات ليس لهم في كثير منها إرادة أو تأثير.
ولو لم يكن هناك إلا مسألة الحياة والموت، وتفاوت الناس في الأعمال والمواهب، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والهداية والإضلال لكان ذلك كافياً في أن يفكر الإنسان في القدر.
5- كونه أعوصَ أبواب العقيدة: فمع أن باب القدر معلوم بالفطرة وأن نصوص الشرع قد بينته غاية البيان إلا أنه يظل أعوص أبواب العقيدة؛ فدقة تفاصيله، وتشعب مسائله، وكثرة الخوض فيه، وتنوع الشبهات المثارة حوله _ كل ذلك يوجب صعوبة فهمه، وتعسر استيعابه.
فلا غرو أن يحار الناس في شأنه في القديم والحديث؛ فلقد سلك العقلاء في هذا الباب كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وقصدوا إلى الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته؛ فلم يرجعوا بفائده، ولم يعودوا بعائده، لأنهم التمسوا الهدى من غير مظانِّه، فتعبوا وأتعبوا، وحاروا وتحيروا، وضلوا وأضلوا.
6- ما يترتب على الإيمان به على الوجه الصحيح: فذلك يثمر السعادة في الدنيا والآخرة، ويورث اليقين، ويكسب الأخلاق الفاضلة، والهمم العالية، والإرادات القوية.
7- ما يترتب على الجهل به: فالجهل به، أو فهمه على غير الوجه الصحيح يورث الشقاء، والعذاب في الدنيا والآخرة.
والواقع يشهد بذلك في أمم الكفر؛ إذ يشيع فيها قلة التحمل، والانتحار، والقلق.
وكذلك الحال في أمة الإسلام؛ فما تخلفت في عصورها المتأخرة إلا لأسباب أبرزُها جهلُ كثير من المسلمين، وانحرافهم في باب العقيدة عموماً وفي باب القدر خصوصاً .
وذلك عندما اتخذ كثير منهم من الإيمان بالقدر مسوغاً واهياً لعجزهم، وانهيارهم، وإخلادهم إلى الأرض، تاركين الأخذ بالأسباب، ناسين أو متناسين أن أقدار الله إنما تجري وَفْقَ سنته الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحداً كائناً من كان.
فلعل الأمة الإسلامية تفيق من رقدتها، وتتولى قوامة البشرية، وتأخذ مكانها اللائق بها، وذلك بعودتها إلى عقيدتها الصافية النقية التي هي مصدر مجدها، ومنبع عزها.
المصادر :
1- سورة الروم:27
2- سورة الأنبياء: 22
3- سورة الملك:14
4- ديوان زهير بن أبي سلمى ص 25
5- ديوان زهير بن أبي سلمى ص32
6- شرح القصائد المشهورات لابن النحاس 2/91
7- شرح المعلقات العشر للزوزني ص 176 وديوان لبيد بن ربيعة العامري ص171
/ج