تختلف اشكال العلاقات الاجتماعية فيما يتعلق بالزواج والعائلة والنسب من مجتمع لآخر ، فلكل مجتمع على الاغلب شفرة اخلاقية تشير الى منع التزواج بين افراد العائلة الواحدة ، كحرمة التزاوج بين الاخوة والاخوات والابناء والامهات مثلاً . ففي المجتمع الرأسمالي يحرم النظام القضائي على الفرد التزوج من الام ، والجدة ، والبنت ، والاخت ، والعمة ، والخالة ، وبنت الاخ ، وبنت الاخت . وفي تسع وعشرين ولاية من الولايات المتحدة يحرم القانون الزواج بين ابناء وبنات الاعمام ويعتبره غشيانا للمحارم (1)
والقاعدة في التزاوج في المجتمع الصناعي ان قضية الزواج والمعاشرة بين الرجال والنساء قضية شخصية مبنية على اساس الحب الرومانتيكي ، فللفرد مطلق الخيار في البحث عن شريكة لحياته ، عن طريق الاعجاب المتبادل بينهما . وعلى ضوء ذلك فان رواد النظرية الرأسمالية يدينون الزواج المبني على اساس اقتصادي ، كما يحصل غالباً في المجتمعات الريفية ويوصمونه بالتخلف والبدائية . ولكنهم يتجاهلون تناقض فكرتهم التي تدعو من جانب الى التنافس الاقتصادي في الانتاج وجمع الثروة ، ومن جانب آخر الى اهمال الجانب الاقتصادي الذي تدره المؤسسة العائلية عن طريق التزاوج !
وتتهم النظرية الاجتماعية الرأسمالية ، التزاوج في المجتمعات غير الصناعية بالقصور والعجز عن تحريك العواطف الانسانية ، لان ذلك اللون من التزاوج لايتولد نتيجة علاقة حب بين الرجل والمرأة قبل الزواج ، بل انه ينشأ بسبب التقاليد والاعراف الاجتماعية . ولذلك ، فان زواجاً بهذا الشكل لن ينتج حباً متبادلاً بين الزوجين بعد الزواج ايضاً . ولكن التزاوج المنعقد بين الافراد في المجتمع الرأسمالي ـ حسب زعمها ـ غالباً ما يبنى على الحب ، لان هذا المجتمع اكثر تطوراً من الناحية الاجتماعية والفكرية من المجتمعات غير الصناعية ، ولذلك فان الزواج في المجتمع الرأسمالي اكثر نجاحاً من الزواج في المجتمعات غير الرأسمالية . ويرد على هذا الرأي انه لو كان هذا الزعم صحيحاً ، فلماذا اذن يعيش المجتمع الصناعي الرأسمالي اليوم اشد ازماته العائلية ؟ فكيف تفسر النظرية الاجتماعية الرأسمالية انتهاء نصف عدد الحالات الزوجية في الولايات المتحدة الى الطلاق (2) ؟ فلو كان الحب والاعجاب الاساس في التزاوج ، فكيف يفسر انتهاء ذلك الزواج الرومانتيكي بالانفصال ثم الطلاق ؟ ألا يناقض هذا الانفصال والطلاق قواعد الزوجية السعيدة والحياة العائلية الطبيعية ؟
ويزعم رواد النظرية الاجتماعية الرأسمالية ايضاً ، ان من اعظم خصائص النظام العائلي الرأسمالي هو اقرار النظام بحرمة تعدد الزوجات ، اي انه لايجوز للفرد التزوج باكثر من امرأة في نفس الفترة . وهذا الزعم يتناسب مع الفكرة الرأسمالية التي تؤكد على دور الفرد في الحياة الاجتماعية والانتاجية ، لان اباحة تعدد الزوجات يناقض مفهوم « المذهب الفردي» الذي تنادي به النظرية الرأسمالية ، وتعتبره سر نجاحها الاقتصادي . ولكن هذه النظرية تتجاهل الازمات الاجتماعية التي تمر بها الانسانية بعد الحروب الطاحنة مثلاً ، وما يترتب عليها من خسائر عظيمة في عدد الرجال ، فيكون نظام تعدد الزوجات من افضل الانظمة الاجتماعية التي تساعد على اعادة بناء الاسر المحطمة بعد الحرب . وليس الاسلام الدين الوحيد الذي يجيز تعدد الزوجات ، بل ان اليهودية وبعض المذاهب النصرانية تجيز تعدد الزوجات ايضاً . وأهم المذاهب النصرانية التي تؤمن بتعدد الزوجات هو مذهب المورمن النصراني المتمركز في ولاية يوتا الامريكية ، الذي يبيح تعدد الزوجات دون حدود .
وهذا التعارض بين النظرية الاجتماعية الرأسمالية والنظرية اليهودية ـ النصرانية في فكرة تعدد الزوجات ، ليس الاول ولا الاخير . لان النظريتين متعارضتان ايضاً في قضية التغشي بين الرجل والمرأة قبل الزواج . فالنصرانية تؤكد على ضرورة عذرية المرأة قبل الزواج تأسياً بمريم العذراء ( عليها السلام ) ، بينما تدعو النظرية الاجتماعية الرأسمالية الى احترام حرية الفرد في انشاء علاقات خاصة مع الجنس الآخر . وهذا الصراع بين العذرية والحرية الغريزية يعكس التناقض الفلسفي ، بخصوص دور المؤسسة العائلية ، بين الفكرة الدينية والمذهب الرأسمالي .
ولاشك ان اتساع وتفصيل دقة النظام العائلي وشموله لجزئيات عديدة ومعقدة لا يشجع اي نظرية وضعية على الخوض في غمار مناقشة الدور الاجتماعي للعائلة . وليست النظرية الرأسمالية استثناء من هذه القاعدة . فهي تفتقد الصورة الواضحة والمنهاج الدقيق الذي يعالج مشاكل المجتمع الرأسمالي الزوجية المتمثلة بالاسئلة التالية : ايهما احق بالولاية القانونية العائلية : الزوج ام الزوجة ؟ وايهما افضل للنظام الاجتماعي : نظام تعدد الزوجات ام نظام الزواج المتعدد ؟ وايهما افضل للنظام الاجتماعي : زواج الاقارب ام زواج الاباعد ؟ وايهما اكثر اقتصاداً للازواج الجدد : السكن مع عوائلهم ام انشاء وحدات سكنية جديدة بهم ؟ وأيهما اولى بالميراث : الاحفاد من جانب الام او الاحفاد من طرف الاب ؟ وايهما افضل واكثر انتاجاً للمجتمع الانساني : العوائل النووية الصغيرة او العوائل الممتدة الكبيرة التي تضم ـ اضافة الى الزوجين ـ الاجداد والاولاد واحفادهما ؟ وهذا الفشل في الاجابة على هذه الاسئلة المهمة على الصعيد الاجتماعي يعطي للعقيدة الدينية تفوقا واضحا على العقائد الوضعية في التعامل مع القضايا العائلية .
معنى التغير في المؤسسة العائلية الرأسمالية
ولم يكن التأثير الذي احدثته الفكرة الرأسمالية في القرن الثامن عشر منحصرا بالجانب الاقتصادي من المجتمع الاوروبي ، بل تعدى بشكل مباشر الى المؤسسة العائلية بكل تشكيلاتها الاجتماعية . فكان من اهم التأثيرات التي عصفت بالمؤسسة العائلية الرأسمالية هو تغير ولاء الافراد تجاه بعضهم البعض ؛ حيث اصبح الافراد يحصرون جل اهتماماتهم العملية على تحقيق رغباتهم الشخصية دون الاكتراث لمسؤولياتهم الاجتماعية تجاه عوائلهم الكبيرةواقاربهم وارحامهم . وهذا التغير في الولاء افرز نتائج لها تبعات خطيرة على الحياة العائلية ، تصورها كتابة ( بتي يوربيرك ) في كتاب « دور الغريزة الجنسية في التغير الاجتماعي » :(يبحث الافراد عن فرص للعمل حتى لو كان ذلك البحث يكلفهم كسر العلاقات الاسرية مع ارحامهم . النساء المتزوجات من الطبقة المتوسطة والعليا يذهبن للعمل حتى مع معارضة ازواجهن . وبعد ذلك يتركن زواجهن المليء بالتعاسة ، واحيانا يتركن اطفالهن مع ازواجهن ويذهبن للبحث هن حياة جديدة فيها عمل وظيفي . الازواج يتركون زوجاتهم اللاتي بذلن حياتهن كربات للبيوت . ووجود الاطفال لايردع الزوجين عن التفكير بالطلاق ... والابن الاكبر لا يترك الجامعة لمساعدة ابويه او اخوته المحتاجين ، بل يتركهم وحاجاتهم ويذهب لتأسيس مستقبله بعيدا عن العائلة . الشباب يختارون حياة زوجية او حياة منحرفة حتى لو عارض الابوان ذلك )(3)
وهذه الحياة الجديدة التي افرزتها التجربة الرأسمالية غيرت النظرة الانسانية في المجتمع الصناعي تجاه الزواج والاسرة . فالعوائل الكبيرة التي كان يرأسها جد الاسرة تحولت الى عوائل صغيرة تضم الاب والام وطفليهما ، ونظام تعدد الزوجات استبدل بنظام الزوجة الواحدة ، والبيوت الكبيرة التي كانت تضم بين جدرانها عوائل متعددة استبدلت بوحدات سكنية تضم عوائل صغيرة ، والتزاوج بين الاقارب استبدل بالتزاوج عن طريق العمل والمؤسسات التعليمية . واصبحت القاعدة في الزواج في المجتمع الرأسمالي ، الميول نحو الاختيار الشخصي القائم على الاعجاب ، والكفاءة ، والثقافة ، والجمال . وبذلك انحسر العامل الاقتصادي الذي كان محور التزاوج في المجتمع الريفي الاوربي .
وتبدل الشكل العائلي في المجتمع الرأسمالي من العصر الزراعي الى العصر الصناعي له عوامله الخاصة التي جعلت فكرة التغيير سبباً اساسياً حسماً في تثبيت اسس النظام الاقتصادي الرأسمالي . ولولا ضعف الاسرة الكبيرة وانفراط عقدها لما نجح النظام الرأسمالي في تنويع وزيادة الانتاج . فالاسر الصغيرة ايسر للانتقال الجغرافي من منطقة الى اخرى حسبما يقتضيه العمل في حقول الانتاج . والعامل في المجتمع الرأسمالي ينتقل حيثما وجد عملاً مناسباً يهيئ له عيشة رغيدة . فاذا كان ذلك العامل مرتبطاً باسرة كبيرة ، اصبح ارتباطه عائقاً في التكسب : ولذلك مالت الكفة الاجتماعية نحو انشاء العوائل الصغيرة القادرة على الانتقال الجغرافي بيسر بحثاً عن ظروف انسب للعمل .
وطالما كان المجتمع الرأسمالي يوفر فرصاً اكبر للعمال لتطوير شخصياتهم وفرصاً اكبر للنجاح والصعود الى الطبقات الاجتماعية العليا ، فان الافراد الطامحين للصعود الاجتماعي لا يلزمون انفسهم بالالتزام بالقيم والتقاليد التي تفرضها عليهم الاسر الكبيرة ؛ لان الاسرة الكبيرة المتكونة من اجيال متعددة تحترم لوناً معيناً من القيم الاجتماعية الصارمة . ولكن الحركة الاجتماعية التي تنقل الفرد من طبقة الى طبقة اعلى تحمل في طياتها قيماً تختلف عن قيم الطبقة الاخرى نحو العلم والتحصيل والاخلاق والمورد المالي . والاصل في الفكرة التي تعتنقها النظرية الرأسمالية ، هو ان الدرب الاساس نحو الصعودالاجتماعي الى طبقة اقتصادية ارقى من الطبقة الاولى للفرد ، لايتم الا عن طريق تحطيم الاواصر الاجتماعية مع العائلة الكبيرة .
وعندما بدأ النظام الرأسمالي بتقديم شتى الخدمات الاجتماعية التي كانت العوائل الكبيرة تقدمها لافرادها ، بدأت الحاجة الى استمرار وجود تلك العوائل الصغيرة تنتفي تدريجياً ، حسب زعم النظرية الرأسمالية . فالنظام الرأسمالي يقدم لافراد العوائل الصغيرة الخدمات التعليمية ، والطبية ، واعانة العجزة ، ورعاية الاطفال ، وكوبونات الطعام للمحتاجين . واذا كان النظام الرأسمالي يقدم كل هذه الخدمات ، فما هو الداعي في الاعتماد على الاقارب او الارحام بخصوص المساعدات المالية وقت الازمات ؟ وماهو اللزوم في عيش الزوجين مع آبائهما اذا كانت الحاجة المالية والاخلاقية منتفية ؟ وهذا التوجه نحو تغير الولاء من العشيرة والاقارب الى الدولة والنظام ساهم في انشاء وانتشار العوائل الصغيرة القائمة على قاعدة « الزوجين واطفالهما » فقط . وبذلك تحقق حلم النظام الرأسمالي بزيادة الانتاج الصناعي عن طريق تحطيم الاواصر العائلية في العشيرة والعائلة الكبيرة ، واستبدالها بنظام العوائل الصغيرة التي تستطيع الانتقال جغرافيا بسرعة من مكان لآخر حسبما تتطلبه العملية الانتاجية .
ومن اسباب التبدل في شكل الاسرة الرأسمالية ايضاً ، ان الابناء الذين كانوا في المجتمع الزراعي رصيدا اقتصادياً للعمل والانتاج ، اصبحوا في الاسرة الرأسمالية عبئاً اقتصادياً على الابوين . فالابوان مكلفان باطعام وكسوة وتعليم ابنائهما من الطفولة وحتى البلوغ . وبعد البلوغ ، وعندما يصبح الفرد قادرا على التكسب والاستقلال ، يمسي همه الاكبر الانفصال عن ابويه لانشاء اسرة صغيرة جديدة . وهذا التوجه العام يفسر سبب ميول الابوين نحو انشاء اسر صغيرة ذات عدد محدود من الابناء ، لان كثرة الابناء ليس لها مردود اقتصادي على الاسرة ، فالابناء المنتجون ينفصلون عن ابويهم بعد بلوغهم ومباشرتهم العمل خارج البيت . وهذا التوجه الرأسمالي الحديث يناقض الفكرة الكاثوليكية القائلة بحرمة تحديد النسل .
وفوق كل ذلك ، فان السبب الرئيسي الحاسم في تبدل شكل الاسرة الرأسمالية هو فكرة « الحرية الفردية » ، فالفرد مكلف باشباع حاجاته وتحقيق طموحاته الشخصية ، وليس مكلفاً باشباع حاجات الآخرين . وهذه « الفردية » هي اساس الفكرة الرأسمالية في العمل والانتاج . فالفرد هو محور كل الافكار والتوجهات الاجتماعية . بل ان كل الخدمات الاجتماعية ينبغي ان تتوجه ـ حسب رأي النظرية الرأسمالية ـ نحو تسهيل حياة ذلك الانسان وترفيهه حتى لو كان ذلك على حساب التقاليد والالتزامات الاجتماعية . فان كانت القضية التي تواجه الفرد قضية مالية او عناية صحية او قضية زواج او طلاق ، فذلك الفرد الرأسمالي غالباً ما يسأل : « ما هو نفعي وربحي من هذه القضية ؟ » على عكس الفرد في المجتمع غير الرأسمالي الذي يسأل : « ماذا يتوقع ارحامي واخواني مني ان اعمله لهم ؟ » وهذا الفارق في السؤال يعكس الفارق بين المذهب الفردي الذي جاءت به الرأسمالية ، والفكرة الجماعية التي كانت سائدة في العالم قبل مجيء الرأسمالية .
ولاريب ان شكل العائلة الصغيرة ، التي هي احدى ثمار سيكرة النظام الرأسمالي على المقدرات الاجتماعية ، لها مساوئها وعيوبها . فقد كان الفرد في العوائل الكبيرة يستند على دعم عائلته في الازمات الاجتماعية والاقتصادية ، فوجود العائلة الكبيرة هو مولد اطمئنان الفرد نحو سد حاجاته اقتصادياً وعاطفياً دون الاضطرار الى استجداء الآخرين من خارج الحدود العائلية . اما الفرد الرأسمالي فانه لايملك الا زوجته وقت الازمات ، واذا كانت الزوجة لاتعمل الا في حدود واجباتها البيتية ، فان الاسرة لا تصمد امام الهزات الاقتصادية التي تعصف بالفرد المعيل ، كالبطالة ، وترك العمل ، والعجز الصحي ، والتقاعد .
بمعنى ان الفرد في الاسرة الكبيرة اذا عجز عن احتلال دوره الطبيعي في النظام الاجتماعي والاسري ، فان بقية افراد الاسرة يساهمون في اشغال ذلك الدور دون ان يؤثر ذلك على وضع الاسرة اقتصادياً او اجتماعياً . اما في الاسر الصغيرة فإن عجز احد الابوين عن اداء دوره الانتاجي قد يؤدي الى تحطيم الاسرة من الناحية الاقتصادية . وتتحقق نفس النتيجة اذا مات رب الاسرة ، او مرض مرضاً مزمناً ، فان كل ذلك يضع الاسرة الصغيرة في ازمة اقتصادية واجتماعية خانقة .
وفي الاسر الكبيرة ، يكون الزواج قضية طبيعية لا يتوقع الفرد منها ان تخلق المعجزات . فالزوجة تساهم في عمل البيت وتربية الاطفال ، وقد تضطر للعمل احياناً خارج البيت ، ولكن كل ذلك يخضع للحدود والقيم والتعليمات التي تلتزم الاسرة الكبيرة بها . وهذا كله يساهم في استقرار النظام الاسري ، حتى لو كان المردود العاطفي بين الزوجين ضعيفاً . اما على مستوى الزواج في المجتمع الرأسمالي ، فقد يتوقع الزوجان ، من احدهما الآخر ، اموراً بعيدة عن الواقع بسبب الصورة الحيالية المسبقة الموضوعة في ذهنيهما قبل الزواج . واذا فشل الزوجان في تحقيق الصورة الخيالية التي رسماها في مخيلتهما ، انفرط عقد الزواج ، واصبح الطلاق المنفذ الوحيد لاعادة ترتيب اولويات حياتهما الاجتماعية والاقتصادية . ولا شك ان هذه المشكلة تعتبر من اخطر مشاكل التغير في المؤسسة العائلية الرأسمالية .
العائلة الرأسمالية الامريكية
ولاشك ان ايمان العائلة الامريكية بالنظرية الرأسمالية كان قد اوقعها في وضع مأساوي خطير ، بسبب افتقاد النظرية لمنهج موضوعي ينظم الحياة العائلية ويساهم في بنائها العلوي . وبطبيعة الحال ، فان الاحصاءات الحكومية تعكس واقع هذاالوضع الاجتماعي . فعشرين بالمائة من مجمل الولادات فيامريكا في العقود الاخيرة من القرن العشرين لاتحصل نتيجة الزواج الشرعي المتفق عليه اجتماعياً ، وربع حالات الحمل تنتهي بالاجهاض ، ونصف عدد الزيجات في امريكا تنتهي بالطلاق (4) ، وعشرين بالمائة من البالغين الامريكان يعيشون حياة العزوبيةاختياراً (5) ، علما بان وسائل الزواج ميسورة . وهذه الصورة الاجتماعية القاتمة دليل على فشل النظرية الرأسمالية الغربية في تقديم حل اجتماعي مقبول لمعالجة مشاكل الانسان الحياتية ، خصوصاً في عصر تدعي فيه النظرية الرأسمالية نجاحها الباهر في كل الميادين العلمية والتقنية والاقتصادية .واذا كانت صورة الحاضر تعيش ضمن هذا الاطار المنحل ، فان صورة الماضي انما اختلفت في الشكل لا الجوهر . فخلال الحرب الاهلية الامريكية ، على سبيل المثال ، كان القانون الرأسمالي الامريكي يمنع الزنوج من التزاوج فيما بينهم ويسمح لهم بممارسة عملية الجماع دون زواج شرعي لغرض انجاب العبيد وبيعهم في اسواق النخاسة . لان العبد ، في العقيدة الرأسمالية ، ملك للسيد المالك حتى في القضايا الخاصة وليس له الحرية في اختيار الشريك في عملية الزواج او في اي عمل آخر . وبذلك تدر عملية الجماع هذه اموالاً على المالك ، دون الاكتراث لشرعية الزواج او الاهتمام بحق الانسان في التزواج الطبيعي والتأهيل العائلي . وكان معتنقو مذهب المورمن النصراني يمارسون عملية تعدد الزوجات لحد 1896 م . والذي منعهم قانوناً من ذلك ، شرط الحكومة الفيدرالية لولاية يوتا التي يسكنونها ، بعدم السماح للهم الدخول في الاتحاد الامريكي ما لم يعلنوا صراحة توقفهم عن ممارسة عملية تعدد الزوجات ، وذلك لمعارضته لاصل الفكرة الرأسمالية حول مفهوم « الفردية » التي تحترم ارادة الفرد وتعتبر فكرة تعدد الزوجات اهانة لكرامة الزوجات جميعاً !
ولاشك ان تعنت النظرية الرأسمالية في رفض فكرة تعدد الزوجات لم يحل المشكلة الاجتماعية التي تواجهها الاسرة الرأسمالية . فثلاثة ارباع الحالات الزوجية الامريكية تعاني من خيانات زوجية من كلا الطرفين في العائلة الواحدة (6) . وازدياد عدد حالات التشرد بين النساء المطلقات والفتيات من العوائل المنحلة لا يساعد مفهوم النظرية الرأسمالية الزاعم بان الحب في المجتمع الحضاري الصناعي يخلق الزواج المثالي ، وان التمتع بزوجة واحدة يجني الفرد الخيانة الزوجية . ولو كان زعم النظرية الرأسمالية صحيحاً ، فَلِم انحدر اذن ثلاثة ارباع المجتمع في مستنقع الرذيلة بممارسة الخيانة الزوجية عن طريق الزنا ؟ وليس هناك ادنى شك من ان الاقرار بالانحراف عن الحياة الزوجية السليمة من جهة ، ورفض قبول الحلول الاجتماعية التي يقدمها الفكر الديني المتمثل بالاسلام بخصوص نظام تعدد الزوجات من جهة اخرى ، يعتبر تعنتاً واستكباراً لامبرر له ، من قبل النظام الاجتماعي الرأسمالي .
واذا كان الحب العذري الكائن في المجتمع الصناعي كأساس للزواج الناجح هو الذي يساعد الزوجين ـ كما تزعم النظرية الرأسمالية ـ على بناء علاقات زوجية حميمة بعد الزواج ، فلماذا اذن ، تنتهي نصف الحالات الزوجية الرأسمالية الامريكية المفترض قيامها اساسا على قاعدة الحب العذري ، الى الطلاق ؟ اليس هذا تناقضاً مع الفكرة القائلة بان نجاح اي قضية نسبياً يتوقف على حل ثلاثة ارباع اجزائها على الاقل ؟ فكيف نعتبر الزواج في المجتمع الرأسمالي نجاحاً للفكرة الرأسمالية ؟ وكيف نعتبر نصف الحالات الزوجية التي تنتهي الى تهديم الاسس الاسرية نجاحا للفكرة الاجتماعية الرأسمالية ؟
ويتساءل الفرد ما هو الحب العذري ، الذي تزعم النظرية الرأسمالية اعتباره من اهم اركان النظام العائلي في المجتمع الانساني ؟ وللجواب على هذا السؤال فلنفترض انه الشعور الذي يتملك الفرد ، فتظهر عليه اعراضه . وهذه الاعراض تنقسم الى قسمين ؛ اولاً : اعراض جسدية ، وهي الشهوة وخفقان القلب ، وثانياً : اعراض نفسية ، وهي تنشيط الملكة الوجدانية بالتركيز على فرد معين ذي مواصفات جذابة ، ثم المجازفة في سلوك اي طريق يوصل ذلك المحب الى حبيبه . وهذا النوع من الحب يشجعه النظام الرأسمالي وتوصي به الثقافة الغربية المرئية والسمعية والكتيبة . هنا ، قد يتساءل المرء لماذا تتحمس النظرية الرأسمالية الى نشر هذا النوع من الحب بين افراد المجتمع ؟ ولماذا تحاول النظرية الرأسمالية تقديس هذه الظاهرة التي غالباً ما تحصل بين فردين ينجذب احدهما الى الآخر ، ثم يتطور هذا الانجذاب الى علاقة شخصية تنتهي بالزواج ؟
وللجواب على ذلك تدعي الفكرة الرأسمالية ان الحب العذري مهم في انشاء حياة عائلية في عالم صناعي رأسمالي ، لاسباب منها :
اولاً : ان الحب العذري يساعد الفردين المتحابين على نزع ارتباطاتهما العائلية مع العائلة الكبيرة ، وهذه الخطوة مهمة في تنشيط الانتاج الرأسمالي وتشجيع المتزوجين الجدد على الانتقال الى اي منطقة او مدينة تحتاجها العملية الانتاجية . اما ، لوكان الحب العذري منعدما وكانت الاسرة كبيرة ، فان الزواج سيأخذ مساره الطبيعي دون الانغماس بالناحية النفسية والعاطفية للحب والتركيز على شهوات الفرد بشكل مطلق وتناسي العالم والواقع الخارجي المحيط بجدران ذلك الشعور .
ثانياً : ان الحب العذري يساهم في اشباع الناحية العاطفية التي حرمها انكسار وتحطم الاسر الكبيرة . ففي وقت الازماتتساهم الاسرة الكبيرة في التخفيف عن الآلام التي يتعرض لها الانسان المصاب بازمة من تلك الازمات ، وتساهم ايضاً في تقديم المساعدة العاطفية والمادية : في حين ان الاسر الصغيرة تفتقد الى هذا النوع من الحنان والتعاون الجماعي : ولذلك فان الرأسمالية تشجع الافراد على ممارسة الحب العذري حتى يساهم ذلك الحب في رأب الصدع الذي سببته لهم العملية الرأسمالية الانتاجية . ثالثاً : وخوفاً من تناقص النسبة المئوية السنوية للمواليد ، فان الفكرة الرأسمالية تشجع الافراد على ممارسة الحب العذري لانه يؤدي الى الزواج وبقاء فكرة الذرية مستمرة في النظام الاجتماعي . فلو عرض الخيار لافراد النظام الرأسمالي بالزواج او عدمه لاختارت نسبة ملحوظة منهم العدم تخوفاً من تحمل المسؤولية المالية والاجتماعية التي تفرضها الاسرة ، وتوافقاً مع فكرة « المذهب الفردي » في الاستمتاع الشخصي بالحياة دون الاهتمام بالمسؤولية الجماعية التي يفرضها التزواج النساني .
ومجمل القول ان النظرية الرأسمالية تشجع الافراد على تحطيم القيود الاسرية التي يشجعها النظام الديني ، وتحفزهم على التزواج عن طريق الاختلاط والاعجاب المتبادل وتخفيف القيود الاجتماعية على علاقة الرجل بالمرأة قبل الزواج . ولاريب ان السبب المباشر الذي يدعو النظرية الرأسمالية الى التبشير ـ بكل حماس ـ لفكرة انشاء الأسر الصغيرة ، هو اعتقادها بان الأسر الصغيرة التي تفتقد العلاقات المتينة مع اقاربها وعشيرتها ، تعتبر اكثر نفعاً واوفر انتاجاً واعظم خدمة للنظام الرأسمالي من الأسر العشائرية الكبيرة .
المصادر :
1- العائلة الامريكية : الماضي ، الحاضر ، والمستقبل( ميشيل غوردن ) . نيويورك : راندوم هاوس ، 1978 م .
2- العائلة . انجلوود كليفز ،( وليام غود ) نيوجرسي : برنستون ـ هول 1982 م .
3- دور الغريزة الجنسية في التغير الاجتماعي( بتي يوربيرك ) . نيويورك : وايلي ،1974 م . ص 53 .
4- ماذا يحصل للعائلة الامريكية ؟ ( سار ليفيتان ) و ( ريتشارد بلوز ) بالتيمور : مطبعة جامعة جونز هوبكنز ، 1981 م .
5- العزوبية . انجلوود كليفز ، ( بيتر ستاين ) نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1976 ،
6- وآخرون . الجانب المظلم من العائلة . بيفرلي هيل ( ديفيد فنكلهور ) ، كاليفورنيا : 1983 م .