الناس هدف أم موضوع للعمل التبليغيّ؟
لعلَّ من أعقد الموضوعات وأهمّها في محاولة استكشاف النظريّة الإسلاميّة في التبليغ هو "موقع الناس" في العمليّة التبليغيّة، وما "هو الأساس" الّذي يتمُّ التعامل في ضوئه مع الناس."الفرد المستمع" أو "الجماعة المستمِعون" هل هم الهدف في العمل التبليغيّ بحيث يكون المقصود من الحركة التبليغيّة والدافع الكامن وراءها هو "هداية الناس"، فإذا تحقّق ذلك نجحت المهمّة وإلا باءت بالفشل.
أم أنَّ "الناس" هم ميدان الحركة التبليغيّة، والموضوع الّذي نتحرّك في داخله، وليس هو الهدف، إنّما الهدف هو إقامة الحجّة، وإيصال صوت الحقّ، وتبيين الأحكام والحقائق للناس ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾(1)، أمّا هدايتهم بالفعل فتلك قضية أخرى قد تتحقّق وقد لا تتحقّق، وليست هي المعيار الّذي يُستند إليه في حصول النجاح في العمل التبليغي أم لا؟
إنّها مسألة ليست بسيطة ولا يسيرة حيث يخلط فيها الموضوع بالهدف، وتتزاحم فيها الرغبة في الهداية – وهي رغبة صحيحة ومشروعة وجميلة – مع ضرورة التجرّد عنها والانطلاق من مقاصد أكثر تجرّداً، وأصدق في الممارسة التوحيديّة المخلصة لله تعالى والّتي تبدأ وتنتهي عند طلب مرضاة الله تعالى وقصد وجهه الكريم.
نبدأ أوّلاً في استعراض مجموعة من النصوص لتسليط الضوء على المسألة:
هناك عدّة آيات تدل على هذا الموضوع:
قال الله تعالى في تحديد مهمّة الأنبياء عليهم السلام:
﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾(2).
وقال تعالى مخاطباً نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾(3).
وقال تعالى وهو يتحدّث عن منطق الأنبياء وهدفهم:
﴿وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾(4).
وقال تعالى وهو يوصي نبيّه بعدم الاكتراث والحزن والحسرة على عدم استجابة بعض الناس:
﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾(5).
هذه النصوص القرآنيّة تعطينا إيضاحاً كافياً للمنطق الأعمق في العمل التبليغيّ، وهو ما تشرحه الآيات:
﴿قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾، ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾,﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾
وفي ضوء ذلك سوف لا يكون المقياس في النجاح والإخفاق هو مدى طاعة الناس واستجابتهم، وتقبّلهم لدعوة الأنبياء عليهم السلام أو عدم تقبّلهم، إنّما النجاح والإخفاق منوط بمدى الاقتدار في الأداء الحسن، والبلاغ المبين، والموعظة الأبلغ.
فلم يكن النبي نوح عليه السلام خاسراً حين أعرض عنه قومه فناجى ربّه قائلاً:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾(6).
والنتيجة هي: "إنَّ الناس هم موضوع العمل التبليغيّ وليسوا هدفاً له”.
هل نتجرّد عن الرغبة في الهداية؟
ولكنّ هل تعني الرؤية السابقة ضرورة التجرّد عن الرغبة في هداية الناس، وعدم التفاعل الوجدانيّ مع آثار العمل التبليغيّ، فلا نفرح إذا اهتدى أحد، ولا نحزن إذا أعرض الناس؟إنَّ الرغبة في الهداية هي قضيّة لا تنفصل عن وجدان المبلّغ الدينيّ، بل تزداد عنده كلّما ازداد التحاماً مع محبّة الخلق الّذين هم عيال الله وعباده.
ليس من الخطأ أن يقصد الأنبياء عليهم السلام إنقاذ الناس من العذاب الأبديّ، وجرّهم إلى الجنّة ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾(7).
وليس من الخطأ أن يتمنّى الأنبياء عليهم السلام هداية الناس ويرجون تقواهم: ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ و﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.
وليس خطأ أن نفرح بهداية العباد على أيدينا، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليٍّ عليه السلام: "لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس"(8).
إنّما الخطأ أن ننسى الهدف الأعمق وهو التبيان، وإقامة الحجّة، وطلب رضوان الله، ثمَّ لا يضيرنا بعد ذلك آمن الناس أم كفروا.
وقد نستعين لتوضيح الفكرة بمثال إطعام الجائع، فأنت مسؤول أن تُطعم الفقير الجائع، وتهدف إلى إشباعه وتفرح إذا شبع، وليس في ذلك أيّة منافاة مع قصد وجه الله في عملية الإطعام.
إنمّا الخطأ هو أن تكون عملية الإطعام بعيدة عن القصد الخالص في طلب أداء الوظيفة الإلهيّة، وممارسة الأخلاق الدِّينيّة، والدواعي النبيلة الإنسانيّة.
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾(9) هذا هو الهدف الأعمق، ثمَّ لا مانع بعد ذلك أن تقصد إشباع الجائع، وكسب مودّته، وتطييب خاطره وما شاكل ذلك. والحال كذلك في العمل التبليغيّ... فأنت تبلّغ رسالات الله، وتطلب رضوان الله، وإقامة الحجّة على العباد بأحسن الموعظة، وأبلغ الحديث، ولا مانع بعد ذلك أن تأمل هدايتهم، وترجو نجاتهم، وتأنس إذا استجابوا، وتحزن إذا رفضوا، شريطة أن لا يتحوّل الحزن إلى شعور بالإخفاق، وندامة على العمل وإحساس بالخسارة، ولعلَّ هذا هو ما قصدته الآية الكريمة: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(10).
مسؤوليّات الناس تجاه العلماء
لم تكتف الشريعة الإسلاميّة بالحديث عن مسؤولية العلماء والمبلِّغين تجاه الناس، بل دعت في المقابل الناس إلى العلاقة المثلى مع العلماء والمبلِّغين من حيث وجوب الاحترام، والتواضع لهم، والاهتمام الجدّي بتوجيهاتهم ونصائحهم، كونهم المرجعية الدِّينيّة للناس، وهذا ما نفهمه من كثير من الروايات، نورد أهمّها:أ – محاسبة الناس
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يُصلّي فيه أهله، وعالِم بين جُهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبار لا يُقرأ فيه"(11).ب – وجوب إكرام العلماء
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أكرم فقيهاً مسلماً لقي الله يوم القيامة وهو عنه راضٍ ومن أهان فقيهاً مسلماً لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان"(12).ثمَّ تمضي الأحاديث الشريفة في استعراض صور الإكرام والتقدير والاحترام للعالم الدِّينيّ حتّى تذكر منها:
- التواضع للعالِم.
- حسن الاستماع إليه.
- عدم رفع الصوت بحضوره.
- الصمت وعدم الحديث مع أحد في مجلس العالِم.
- الدفاع عنه.
- الثناء عليه وذكر فضائله وستر معايبه.
- مقاطعة أعدائه.
- القيام له احتراماً وتعظيماً.
- عدم مقاطعته إذا تحدّث.
- عدم إزعاجه بكثرة الأسئلة.
- أن يخصّه بالسلام ويعمّ القوم بسلام آخر.
- أن يجلس بين يديه.
- الاستباق إلى خدمته إن كان لديه حاجة.
- أن لا يُفشي له سرّاً.
- ويُمكن أن نقرأ بهذا الصدد بعض الأحاديث الشريفة:
فقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام قوله:
“وحقّ سائسك بالعلم (13) التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وأن لا ترفع صوتك عليه، ولا تُجيب أحداً يسأله عن شيء حتّى يكون هو الّذي يُجيب، ولا تُحدِّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء، وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه، ولا تُجالس له عدوّاً ولا تُعادي له وليّاً، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدتَه وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للناس"(14).كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:
"كان عليّ يقول: إنّ من حقّ العالِم أن لا تُكثر عليه السؤال، ولا تجرّه بثوبه، وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلِّم عليهم جميعاً، وخصّه بالتحية دونهم واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه ولا تغمز بعينيك ولا تُشر بيديك، ولا تُكثر من قول قال فلان وقال فلان خلافاً لقوله ولا تضجر بطول صحبته فإنّما مثل العالِم مثل النخلة يُنتظر بها متى يسقط عليك منها شيء، والعالِم أعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله"(15).ج- حرمة إيذاء العالِم
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ولا تُحقِّرنّ عبداً آتاه الله علماً، فإنّ الله لم يُحقّره حين آتاه إيّاه"(16).وقال عليه السلام: "لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك وبلاغة قولك على من سدّدك"(17).
كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أهان فقيهاً مسلماً لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان"(18).
د- وجوب الدفاع عن العلماء
وقد أكّدت الشريعة الإسلاميّة على وجوب احترام العلماء والاحتفاء بهم حتّى أوجبت الدفاع عنهم ومقاطعة خصومهم.فقد ورد عن الإمام السجاد عليه السلام: "وأن تدفع عنه إذا ذُكر عندك بسوء".
"ولا تُجالسَ له عدوّاً ولا تُعادي له وليّاً".
هـ- عدم تتبّع عثرات العالِم
وأكّدت الشريعة الإسلاميّة على حرمة تتبُّع عثرات العالِم الدِّينيّ وتتبُّع أخطائه وزلّاته.لاحظ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما الخوف على أمّتي من بعدي ثلاث خصال أن يتأوّلوا القرآن على غير تأويله، أو يتبعوا زلّة العالِم، أو يظهر فيهم المال حتّى يطغوا ويبطروا"(19).
العالِم هو المتصدّي
وجدير بالإشارة أنّ الأحاديث الّتي استعرضت حقوق العالِم الدِّينيّ إنّما عنت علماء الدِّين المتصدِّين لهداية الناس والمتحمّلين لمسؤولياتهم تجاه الأمّة، وليس العالِم المتاجر بعلمه أو الطالب للراحة والدعة والقاعد عن حمل أمانة الأنبياء عليهم السلام.
إنّ الإمام السجاّد عليه السلام إنّما تحدّث عن حقّ "سائسك بالعلم" وهو عبارة عن العالِم الّذي يتولّى سياسة الناس ومسؤولية إرشادهم، كما أنّ الأحاديث الأخرى إنّما تناولت الحديث عن حقوق العالِم وهو يُعالج جهل الناس ويهديهم بعلمه ويتصدّى لأمورهم فيعاديه بعض الناس ويواليه آخرون.
ومن هنا دعت الأحاديث إلى حسن الاستماع.
خطأ بعض التصرّفات الإسلاميّة في الظاهر
قد يحدث أحياناً أن تصدر أعمال إسلامية في الظاهر، ولكن دون الالتفات إلى الإسلام، وخلافاً له. وعلى سبيل المثال هناك أشخاص يريدون أن يخدموا، الحرس يريدون أن يخدموا، الشرطة تريد أن تخدم، وهدفها الخدمة، ولكن قد تحدث أحياناً معصية في كيفيّة العمل؛ وعلى سبيل المثال فإنّني أبدأ من الأعمال الجزئية؛ فيريدون مثلًا الخدمة في اللجان، في المجالات المهيّأة للتعبئة، ولكن هؤلاء الذين يريدون أن يخدموا، من الممكن أن يقوموا أحياناً بأعمال لا تنسجم مع المقاييس الإسلاميّة؛ كأن يبدأوا في أوقات متأخّرة من الليل بالصراخ والهتافات وقراءة الأدعية والتكبير، في حين أن هناك جيراناً ينزعجون، وهناك مرضى، ومعوقين، ومستشفيات، فيتألّمون، وهكذا تتحوّل الأعمال الّتي تريدون أن تكون عبادة، إلى معصية كبيرة. إذا أرادت مجموعة في السحر على سبيل الفرض أن تقرأ دعاء الوحدة، فإنّ بالإمكان قراءته في بيوتهم، وفي داخل الموضع الّذي هم فيه. إنّهم يريدون قراءته لله، فإن كانت معهم مكبّرات الصوت، فليضعوها في الداخل كي لا يخرج صوتها.
في بعض الأحيان يأتيني بعض الأشخاص ويشكون من أنّ بعض هذه المجموعات تسبّب لهم الإزعاج بل إنّهم لا يستطيعون النوم. إنّكم تريدون أن تقوموا بعمل عباديّ، تريدون أن تتظاهروا، تريدون التبليغ، وقراءة الدعاء، الدعاء بينكم وبين الله. تريدون مثلًا أن تقيموا تجمّعاً يُقرأ فيه الدعاء، في هذه الحالة يجب أن لا توضع مكبّرات الصوت القوية، الّتي تسبّب الإزعاج لجميع الأشخاص في هذه المنطقة أو المناطق البعيدة. إنّ كلّ ذلك يمثّل معصية كبيرة، وقد التفتّم إلى ذلك، ولا عذر لكم بعد ذلك، فإلحاق الأذى بالمسلم والمؤمنين
هو من أكبر الكبائر. أنتم تريدون أن تمارسوا التبليغ والإعلام، وتريدون أن تفعلوا كذا وكذا بينكم، ولا مانع في ذلك. ادعوا بما شئتم في مراكزكم، وقوموا بالتبليغ بما شئتم، وأطلقوا ما شئتم من الشعارات، ولكن عليكم أن تأخذوا بعين الاعتبار الأناس الضعفاء، الأناس الّذين يعملون نهاراً، ويريدون الاستراحة، إنّ هؤلاء المرضى في المستشفيات، وهؤلاء المعاقين الّذين هم منكم، وأصابتهم الإعاقة في الحرب، ويريدون الآن الاستراحة، إنّ صرخاتكم هذه لا تدعهم يستريحون. إنّ هذه قضيّة على درجة عالية من الأهمية...(20)
المصادر :
1- الانعام :149
2- سورة النحل، الآية: 35
3- سورة الشورى، الآية: 48
4- سورة الأعراف، الآية: 164
5- سورة فاطر، الآية: 1
6- سورة نوح، الآية: 6
7- سورة غافر، الآية: 41
8- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، ج4، ص، 13 – 14
9- سورة الإنسان، الآية: 9
10- سورة فاطر، الآية: 8
11- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 2، ص 41
12- م. ن، ج 2، ص 44
13- السائس بالعلم هو المرشد والمبلِّغ الدِّينيّ
14- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 71، ص 5
15- م. ن، ج 2، ص 43
16- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 2، ص 44
17- م. ن، ج 2، ص 44
18- م. ن، ج 2، ص 44
19- م. ن، ج 2، ص 42
20- صحيفة الإمام، ترجمة عربية، ج16، ص: 315-316