الشاهد على فضيلة الفقراء على الأغنياء قول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم و مقداره خمسمائة عام .
و عن أبي عبد الله (عليه السلام)أن فقراء المؤمنين يتقلبون في رياض الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ثم قال سأضرب لكم مثلا إنما مثل ذلك سفينتين مر بهما على باخس فنظر في إحداهما فلم يجد فيها شيئا فقال أسربوها و نظر في الأخرى فإذا هي موفورة فقال احبسوها .
و عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنة فقير و غني فيقول الفقير يا رب على ما أحاسب فو عزتك لقد علمت أني ما وليت ولاية فأعدل فيها أو أجور و لم تملكني مالا فأعطي حقه أو أمنعه و لقد كان يأتيني رزقي كفافا فيقول الله صدق عبدي أدخلوه الجنة و يبقى الغني حتى يسيل منه العرق ما لو شرب منه أربعون بعيرا لأصدرها ثم يدخل الجنة فيقول له الفقير ما أخرك فيقول طول الحساب ما زال يحاسبني بالشيء بعد الشيء و يغفره الله لي ثم يحاسبني بآخر حتى تغمدني الله برحمته فمن أنت فيقول أنا الفقير الذي كنت واقفا معك في الحساب فيقول الغني لقد غيرك النعيم بعدي.
و هذا من أعظم نعم الله على الفقير خفة حسابه و دخوله الجنة قبل الغني و من سعادة الفقير و راحته أنه لا يطالب في الدنيا بخراج و لا في الآخرة بحساب و لا يشتغل قلبه عن الله بهموم الغنى من حراسة المال و الخوف عليه من السلطان و اللصوص و الحاسد و كيف يدبره و كيف ينميه و مقاساة عمارة الأملاك و الوكلاء و الأكاري و قسمة الزرع و تعب الأسفار و غرق المراكب و تمني الوارث موته ليرثوه و إذا خلا من آفة تذهبه حال حياته كان حسرة له عند مماته و طول حسابه في الآخرة و يرثه منه إما من تزوج بامرأته أو امرأة ابنه أو زوج ابنته لا بد من أحد هؤلاء يرثه و يحصل هو التعب و الهموم و شغله به عن العبادة و تحظى به أعداؤه الذين لا يغنون عنه شيئا و لا يزال الغني مخاطرا بنفسه و بالمال في البراري و القفار و إن كان في بحر غرق هو و المال و إن كان في بر أخذه منه القطاع و قتلوه فهو لا يزال على خطر به و بنفسه و الفقير قد انقطع إلى الله و قنع بما يسد قوته و يواري عورته.
قال بعض العلماء استراح الفقير من ثلاثة أشياء و بلي بها الغني قيل و ما هي قال جور السلطان و حسد الجيران و تملق الإخوان.
و قال بعضهم اختار الفقير ثلاثة أشياء اليقين و فراغ القلب و خفة الحساب و اختار الأغنياء ثلاثة تعب النفس و شغل القلب و شدة الحساب.
و لا شك أن الفقر حلية الأولياء و شعار الصالحين ففيما أوحى الله إلى موسى (عليه السلام) و إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته ثم انظر في قصص الأنبياء (عليه السلام) و خصائصهم و ما كانوا فيه من ضيق العيش فهذا موسى كليم الله الذي اصطفاه لوحيه و كلامه كان يرى خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله و ما طلب حين آوى إلى الظل بقوله رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض .
و روي أنه (عليه السلام)قال يوما يا رب إني جائع فقال تعالى أنا أعلم بجوعك قال يا رب أطعمني قال إلى أن أريد .
و فيما أوحى الله إلى موسى (عليه السلام) يا موسى الفقير من ليس له مثلي كفيل و المريض من ليس له مثلي طبيب و الغريب من ليس له مثلي مؤنس.
و يروى أنه قال يا موسى ارض بكسرة من شعير تسد بها جوعتك و بخرقة تواري بها عورتك و اصبر على المصائب و إذا رأيت الدنيا مقبلة عليك فقل إنا لله و إنا إليه راجعون عقوبة عجلت في الدنيا و إذا رأيت الدنيا مدبرة عنك فقل مرحبا بشعار الصالحين يا موسى لا تعجبن بما أوتي فرعون و ما متع به فإنما هي زهرة الحياة الدنيا .
و أما عيسى ابن مريم روح الله و كلمته فإنه كان يقول خادمي يداي و دابتي رجلاي و فراشي الأرض و وسادي الحجر و دفئي في الشتاء مشارق الأرض و سراجي القمر و إدامي الجوع و شعاري الخوف و لباسي الصوف و فاكهتي و ريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش و الأنعام أبيت و ليس معي شيء و أصبح و ليس لي شيء و ليس على وجه الأرض أحد أغنى مني .
و أما نوح (عليه السلام)مع كونه شيخ المرسلين و عمر في الدنيا مديدا ففي بعض الروايات أنه عاش ألفي عام و خمسمائة عام و مضى من الدنيا و لم يكن بنى فيها بيتا و كان إذا أصبح يقول لا أمسي و إذا أمسى يقول لا أصبح و كذلك نبينا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)فإنه خرج من الدنيا و لم يضع لبنة على لبنة و رأى رجلا يبني بيتا بجص و آجر فقال الأمر أعجل من هذا.
و أما إبراهيم (عليه السلام)أبو الأنبياء فقد كان لباسه الصوف و أكله الشعير.
و أما يحيى بن زكريا (عليه السلام)فكان لباسه الليف و أكله ورق الشجر.
و أما سليمان (عليه السلام)فقد كان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر و إذا جاء الليل شد يديه إلى عنقه فلا يزال قائما حتى يصبح باكيا و كان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده و إنما سأل الله الملك لأجل القوة و الغلبة على ملوك الكفار ليقهرهم بذلك و قيل سأل الله القناعة.
و أما سيد البشر محمد المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم)فقد عرفت ما كان من طعامه و لباسه و قيل إنه (صلی الله عليه وآله وسلم)أصابه يوما الجوع فوضع حجرا على بطنه ثم قال ألا رب مكرم لنفسه و هو لها مهين ألا رب مهين لنفسه و هو لها مكرم ألا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة في الآخرة ناعمة يوم القيامة ألا رب نفس كاسية ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ألا رب متخفض متنعم فيما أفاء الله على رسوله ما له في الآخرة من خلاق ألا إن عمل أهل الجنة جنة بربوة ألا إن عمل أهل النار كلمة سهلة بشهوة ألا رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا يوم القيامة.
و أما علي سيد الوصيين و تاج العارفين و صنو رسول رب العالمين فحاله في الزهد و التقشف أظهر من أن يحكى.
قال سويد بن غفلة دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام)بعد ما بويع بالخلافة و هو جالس على حصير صغير ليس في البيت غيره فقلت يا أمير المؤمنين بيدك بيت المال و لست أرى في بيتك شيئا مما يحتاج إليه البيت فقال يا ابن غفلة إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة و لنا دار قد نقلنا إليها خير متاعنا و أنا عن قليل إليها صائرون .
و كان (عليه السلام)إذا أراد أن يكتسي دخل السوق فيشتري الثوبين فيخير قنبر أجودهما و يلبس الآخر ثم يأتي الخياط فيمد له أحد كمية و يقول خذه بقدومك و يقول هذه تخرج في مصلحة أخرى و يبقى الكم الآخر بحالها و يقول هذه تأخذ فيها من السوق للحسن و الحسين.
فلينظر العاقل بعين صافية و فكرة سليمة يتحقق له أنه لو يكون في الدنيا و الإكثار منها خير لم يفت هؤلاء الأكياس الذين هم خلاصة الخلق و حجج الله على سائر الناس بل تقربوا إلى الله البعد عنها حتى قال أمير المؤمنين (عليه السلام)قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها .
و قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ما يعبد الله بشيء مثل الزهد في الدنيا و روي أن الله تعالى يقول للفقراء يوم القيامة لم أفقركم لهوانكم علي و لكن لما هو خير لكم و قال تعالى في بعض كتبه أف لكم لم أغن الغني لكرامته علي و لم أفقر الفقير لهوانه علي و إنما ابتليت الأغنياء بالفقراء و لو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة .
و قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)إن الله يجمع الفقراء و الأغنياء في رحبة الجنة يوم القيامة ثم يبعث مناديا ينادي من بطنان العرش يا معشر المؤمنين أيما رجل منكم وصله أخوه المؤمن في الله و لو بلقمة من خبز بإدامها خصه بها على مائدته فليأخذ بيده على مهل حتى يدخله الجنة قال فهم أعرف بهم يومئذ منهم ب آبائهم و أمهاتهم قال فيجيء الرجل منهم حتى يضع يده على ذراع أخيه المكرم له الواصل له فيقول له يا أخي أ ما تعرفني أ لست الصانع بي في يوم كذا و كذا من المعروف كذا و كذا فيذكره كل شيء صنع معه من البر و الصلة و الكرامة ثم يأخذ بيده فيقول إلى أين فيقول إلى الجنة فإن الله تعالى قد أذن لي بذلك فينطلق به إلى الجنة فيدخله فيها برحمة الله و فضله و كرامته لعبده الفقير المؤمن .
و روي أن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بسبعين خريفا و أما الغني فإنه مطغى لقوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى و ما يجمع الغني المال إلا لنعيم الدنيا و لذاتها و إترافها و قد قال الله تعالى أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ فوعدهم بالعذاب و عيرهم بالتكاثر بقوله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يعني عن العبادة و الزهد .
و روي عن الصادق (عليه السلام)أن رجلا فقيرا أتى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)و عنده رجل غني فكف ثيابه و تباعد عنه فقال له رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ما حملك على ما صنعت أ خشيت أن يلصق فقره بك أو يلصق غناك به فقال يا رسول الله أما إنك إذا قلت هذا فله نصف مالي قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)للفقير أ تقبل منه قال لا قال و لم قال أخاف أن يدخلني ما دخله .
و اعلم أن إحياء دين الله و إعزاز كلمته و امتثال أوامر الرسل و الشرائع و نصرة الأنبياء و انتشار دعوتهم من لدن آدم إلى زمان نبينا محمد لم تقم إلا بأولى الفقر و المسكنة أ و لا تسمع إلى ما قص الله عليك في كتابه العظيم على لسان نبيه الكريم و بين لك أن المتصدي لإنكار الشريعة هم الأغنياء المترفون و الأشرار المتكبرون فقال مخبرا عن قوم نوح إذ عيروه أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا يعني بذلك الفقراء منا و قالوا لشعيب (عليه السلام) وَ إِنّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أي فقيرا وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيز و قال المستكبرون من قوم صالح للذين استضعفوا أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ و قال فرعون مزريا لموسى (عليه السلام) و مفتخرا عليه فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَب و قالوا لمحمد (صلی الله عليه وآله وسلم)أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها و كفى بها كله مدحا للفقراء الراضين و ذما للأغنياء المتكبرين .
المصدر :
ارشاد القلوب /الشیخ ابو محمد الحسن بن محمد الدیلمی/ص155 - 159