أ- في ظلال الحديث
في هذا الحديث الصادقي المبارك القائل (ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه... يا شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله اتقوا الله ما استطعتم ولا حول ولا قوة إلا بالله) (1) ندا موجَّه إلى أتباع أهل البيت عليهم السلام المتمسكين بخطهم وولايتهم يدعوهم ويحثهم إلى ملك النفس عند الغضب، والقدرة على السيطرة عليها وعدم الانصياع إلى القوة الغضبية والضياع في أوديتها الوعرة المهلكة التي لا توصل الإنسان إلى خير أبداً، بل تطفىء نور عقله وتحول بينه وبين اصلاح نفسه، طالما بقيت نارها مشتعلة ولم يكن قادراً على إخمادها يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "احترسوا من سورة الغضب وأعدوا له ما تجاهدونه به من الكظم والحلم"(2).وعنه عليه السلام: "إنكم إن أطعتم سورة الغضب أوردتكم نهاية العطب"(3).
ومما ذكره الإمام الخميني قدس سره في بحثه الأخلاقي موضحاً خطورة مطاوعة الغضب في إفراطه قوله: "إن الافراط في الغضب المبتلى به أكثر الناس، والذي عبر عنه في الحديث الشريف بالسفه يعتبر من ذمائم الأوصاف ورذائل الأخلاق التي توقع الإنسان في التهلكة، وربما تكون سبباً لشقائه في الدنيا والآخرة... ربما تنزع الاختيار من يد الإنسان، فيشرع في الطغيان وتوقعه في هتك النواميس المحترمة.. إن هذه القوة تفوق سائر القوى خطراً، لأنها قد تؤدي بسرعة البرق إلى تفكك الأسرة وقد تخرج الإنسان في دقيقة واحدة من الوجود كله ومن سعادة الدنيا والآخرة"(4).
لذلك تجد التأكيد في الدعوة من المعصومين عليهم السلام على ملك النفس عند الغضب كما سيأتي في الفقرة التالية.
ب- أفضل الملك ملك الغضب
جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام للأشتر لما ولاّه على مصر: "املك حميّة أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربّك"(5).ومن الواضح أن العقلانية لا تجتمع مع طغيان الغضب، فكلما كانت أوداج الإنسان تتفجر غيظاً ووجهه يمتلىء احمراراً وعيناه ترغبان في القفز من وجهه، ودقات قلبه تتصاعد في السرعة، ودمه يغلي في عروقه، ولسانه قد جفّ وشفتاه ترتجفان، وصوته يدوّي كصاعقة اللعنة النازلة على قوم كفروا بربهم، لا يمكن لنا أن نقول أن لعقله وجوداً في هذه الحالة التي لا يُحسد عليها، بل يكون العقل مغيّباً في نزهة عن ذلك الهيكل المشؤوم، ويوصف هذا الإنسان بأنه لا يملك الاختيار كما تقدم في كتاب الأمير عليه السلام للأشتر.
وفي الحديث: "من لم يملك غضبه لم يملك عقله"(6).
وفي مقابله جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعظم الناس سلطاناً على نفسه من قمع غضبه وآفات شهوته"(7).
ج- أسباب الغضب
إن علاج الأمراض الأخلاقية يعتمد على إزالة أسبابها ولذلك من الأهمية بمكان أن نتعرف على أسباب الغضب في الغالب وهي كما ذكروا جملة أمور منها ما روي عن عيسى بن مريم عليه السلام لما سئل عن بدء الغضب: "الكبر والتجبّر ومحقرة الناس"(8).ومما عدّدوه في كتب الأخلاق: الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير، والمماراة والمضادة والغدر وشدّة الحرص على فضول المال والجاه وهي بأجمعها أخلاق مذمومة ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالتها بأضدادها(9).
بينما يرى الإمام الخميني قدس سره أن هذه الأسباب بأجمعها ومع كثرتها إذا ذكرناها من أولها إلى آخرها تعود إلى سببين أساسيين:
1- حب الذات:
ويتفرع عنه حب المال والجاه والنفوذ والتسلط، فمن كانت فيه هذه الأنواع من الحب، اهتم بهذه الأمور كثيراً، وكان لها في قلبه مكان رفيع. فإذا واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحس أن هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع ويمسك بزمامه مع سائر الرذائل الناجمة عن حب الذات، وحاد بأعماله عن جادة الشريعة والعقل.
وأما إذا لم يكن شديد التعلق والاهتمام بهذه الأمور، فإن هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حب الجاه والمقام وتفرعاتها تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة.
إن الإنسان البسيط وغير المتكلف يتحمل المنغصات ولا تتقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أما إذا اقتلع جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإن جميع المفاسد تهجر قلبه وتحل محلها الفضائل الأخلاقية السامية.
2- الجهل والاشتباه في فهم الكمال:
فقد يظن الإنسان بسبب جهله وقلة معرفته أن الغضب وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة كمالاً، فيحسب الغضب من الفضائل، ويراه بعض الجهّال فتوّة وشجاعة وجرأة فيتباهى ويطري على نفسه في أنه فعل كذا وكذا، ويحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة! هذه الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، وأشرف الصفات الحسنة.
فإذا تعلم الإنسان وعرف أن الغضب ليس شجاعة، عرف أنه نقص وليس كمالاً، وينبغي التخلص من هذا العيب والابتعاد عنه، لا التباهي به.
د- دواء الغضب
1- الصمت:عن أمير المؤمنين عليه السلام: "داووا الغضب بالصمت والشهوة بالعقل"(10).
2- الجلوس أو القيام:
والمراد بذلك أن يغيّر وضعيته المقارنة للغضب إلى وضعية أخرى فإن كان قائماً جلس وإن كان جالساً قام وغير ذلك، ولو استطاع أن يغادر المكان الذي هيئت فيه أسباب الغضب فليخرج ويشغل نفسه بأمور مختلفة ومتفرقة ويرى الإمام الخميني قدس سره أن الخروج من مجلس الغضب هو الوظيفة الأولى فإن لم يمكنه كانت وظيفته البديلة تغيير الوضعية(11).
جاء عن الباقر عليه السلام: "أيما رجل غضب وهو قائم فليجلس، فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، وإن كان جالساً فليقم..."(12).
3- التفكّر:
عن النبي صلى الله عليه وآله: "... فإذا غضبت فاقعد وتفكّر في قدرة الربّ على العباد وحلمه عنهم، وإذا قيل لك: اتقِ الله فانبذ غضبك وراجع حلمك"(13).
4- الوضوء:
في الحديث: "إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"(14).
5- مسّ الرحم:
في الحديث: "وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسّه فإن الرحم إذا مسّت سكنت"(15).
6- قطع مادة الغضب:
يقول الإمام الخميني قدس سره: "والعلاج الأساسي لهذه القوة يكون بقطع مادتها وهي حبّ الدنيا، فلو طهّر الإنسان نفسه من هذا الحب، لتساهل في الأمور الدنيوية، واحتفظ بطمأنينة النفس رغم فقدان الجاه والمال والمنصب والرئاسة وحصلت فيه حقيقة الحلم والصبر وطمأنينة النفس وزاد فيه استقرار النفس وثباتها، ولقطع هذه المادة التي هي أصل جميع المفاسد، وأحسن علاج لقطع هذه المادة هو التفكر في أحوال الماضين وفي القصص القرآنية والاعتبار بأحوال الأشخاص الذين تمتعوا بأنواع السلطنة والعظمة والمال والمنال، فاستفادوا منها لأيام محدودة وأخذوا معهم إلى القبر حسرة لا ينتهي أمدها، وشملهم وزر ما تمتعوا به ووباله، فهذا أحسن علاج للإنسان اليقظ(16).
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الغضب نار موقدة، من كظمه أطفأها، ومن أطلقه كان أول محترق بها"(17).
الزرقاء ومعاوية
قال معاوية للزرقاء بنت عديّ بن غالب: ألستِ الرَّاكبة الجمل الأحمر يوم صفِّين، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب، وتحرِّضين على القتال؟قالت: نعم.
قال: فما حملكِ على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، إنَّه قد مات الرأس وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب، والدَّهر ذو غِيَر، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر.
قال: صدقتِ، فهل تعرفين كلامك وتحفظين ما قلتِ؟
قالت: لا والله ولقد أنسيته.
قال: لله أبوك فلقد سمعتك تقولين: "أيُّها النَّاس، ارعوا وارجعوا، إنَّكم أصبحتم في فتنة، غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجَّة، فيا لها فتنة عمياء صمَّاء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها، إنّ المصباح لا يضيء في الشَّمس، وإنَّ الكواكب لا تنير مع القمر، وإنَّ البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلاَّ بالحديد، ألا من استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.
أيها الناس، إنَّ الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص، فكأنَّكم وقد التأم شمل الشَّتات، وظهرت كلمة العدل، وغلب الحقُّ باطله، فإنَّه لا يستوي المحقُّ والمبطل، ?أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ?، فالنِّزال النِّزال، والصَّبر الصَّبر، ألا إنَّ خضاب النساء الحنَّاء، وخضاب الرجال الدِّماء، والصَّبر خير الأمور عاقبة، فائتوا الحرب غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده".
ثمَّ قال معاوية لها وهو مغيظ محنق: والله يا زرقاء لقد شركت عليّاً في كلِّ دم سفكه.
فقالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك، مثلك من بشَّر بخير وسرَّ جليسه.
قال لها: وقد سرَّك ذلك؟!
فقالت: نعم والله لقد سرَّني ذلك فأنَّى لي بتصديق الفعل؟!
فتبهَّر معاوية من إخلاصها لأمير المؤمنين عليه السلام وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبِّكم له في حياته.
المصادر :
1- بحار الأنوار، ج71، ص161.
2- ميزان الحكمة، حديث 14994.
3- م. ن. حديث 14993.
4- راجع جنود العقل والجهل، ص376-375.
5- نهج البلاغة، الكتاب 53.
6- ميزان الحكمة، حديث 15012.
7- م.ن. حديث 15018.
8- م.ن. حديث 15055.
9- المحجة البيضاء، ج5، ص304.
10- ميزان الحكمة، حديث 15057.
11- جنود العقل والجهل، ص379.
12- البحار، ج73، ص264.
13- تحف العقول، ص14.
14- ميزان الحكمة، حديث 15061.
15- أصول الكافي، ج2، باب الغضب، حديث 2.
16- جنود العقل والجهل، ص382.
17- ميزان الحكمة، حديث 15005.
/ج