
القرآن الكريم هو الثقل الأكبر الذي أنزله الله تعالى بما فيه من العظمة والمنزلة على قلب رسوله محَّمدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم ثمَّ نزَّله على هيئة المُصحف الشريف المشتمل على الحروف والكلمات بلسان عربي مبين ليكون هدىً لعامَّة الناس العربيِّ وغير العربي.
فمن كانت لديه أدنى معرفة للغة العربيَّة فلا محالة سوف يُدرك جانباً من ظاهر هذا الكتاب قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(1) وهذا الخطاب يشمل العرب وغيرهم على السواء، نعم معرفةُ الجوانب الظاهريّة الدقيقة تتوقَّف على الفهم الشامل للّغة العربية وأسرارها.
ومع ذلك هناك العدد الكبير من الآيات الكريمة غير مفهومة لا من حيث المفهوم والمعنى ولا من حيث المصداق والتطبيق، وليست هناك أيُّة وسيلة عادية يمكننا من خلالها الإطِّلاع على تلك الآيات والوصول إلى محتواها الواقعي.
فيا ترى كيف نحلُّ هذه المشكلة؟
وهل هناك من يُطْمأنُّ به كي يُدلَّنا على محتواها وينبئنا عن تفسيرها أو تأويلها؟
أهل البيت هم مفسرُّوا القرآن
إنَّ القرآن الكريم بنفسه قد عرَّف لنا الوسيلة ورسم لنا السبيل لفهم تلك الآيات والوصول إلى حقيقتها، قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ).(2)
قال آية الله العظمى السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه (في مبحث مسِّ القرآن الكريم):
(ثم إن قوله عزَّ من قائل: لا يمسه إلا المُطهَّرون لا يستفاد منه حكم المسألة فضلاً أن يدلَّ عليه بالأولوية، وذلك: فلأنَّ المطهَّر غيرُ المتطهِّر..فالمطهَّر عبارةٌ عمَّن طهَّره الله سبحانه من الزلل والخطأ وأذهب عنه كلَّ رجس، والمذكور في الآية المباركة هو المطهَّر دون المتطهِّر ففيها إشارة إلى قوله سبحانه: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمعنى الآية على هذا أن مس الكتاب - الذي هو كناية عن دركه بما له من البواطن - لا يتيسَّرُ لغير الأئمة المطهرين فإنَّ غير من طهره الله سبحانه لا يصل من الكتاب إلا إلى ظواهره)(3) هذا وقال الإمام قدّس سرُّه: (واعلم أنّ للكتاب التدويني الإلهي بطوناً سبعة باعتبارٍ وسبعين بطناً بوجهٍ لا يعلمها إلا اللّه والراسخون في العلم ولا يمسُّها إلاّ المطهّرون من الأحداث المعنوية والأخلاق الرذيلة السيئة والمتحلُّون بالفضائل العلمية والعمليَّة، وكلُّ من كان تنزّهه وتقدّسه أكثر كان تجلِّي القرآن عليه أكثر وحظُّه من حقائقه أَوفر)
وقال:
(فإنَّ للقرآن منازلَ ومراحلَ وظواهرَ وبواطنَ أدناها ما يكون في قشور الألفاظ وقبور التعيّنات كما ورد إنَّ للقرآن ظهراً وبطناً وحدّاً ومطلعاً، وهذا المنزل الأدنى رزقُ المسجونين في ظلمات عالم الطبيعة، ولا يمسُّ سائرَ مراتبه إلا المطهّرون عن أرجاس عالم الطبيعة وحَدَثه، والمتوضّئون بماء الحياة من العيون الصافية والمتوسّلون بأذيال أهل بيت العصمة والطهارة والمتَّصلون بالشجرة المباركة الميمونة، والمتمسكون بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والحبل المتين الذي لا نقض له حتى لا يكون تأويله أو تفسيره بالرأي، ومن قِبَل نفسه فإنَّه لا يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم).(4)
ومن هنا نعرف أهميَّةَ ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (إنِّي تارك فيكم الثقلين كتابَ الله و عترتِي أهلَ بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً وأنَّهما لن يفترقا حتّى يَردا عليَّ الحوض).(5)
والحديث من أبرز الأحاديث المتواترة لفظاً لدى الفريقين وقد صدر عنه صلى الله عليه و آله هذا النصّ في مواطن عديدة، ولو تأمَّلنا في مضمونه لاستنتجنا منها أموراً كثيرة.
نشير إلى ما ذكره الإمام الزرقاني المالكي حيث قال:
1- أنَّهم عليهم السلام عِدل كتاب الله.
2- أنَّ الهداية منحصرة بالتمسك بهما.
3- أنَّهم هم المفسرون والواقفون على أسرار القرآن ورموزه.
4-وجود من يكون أهلاً للتمسك بالقرآن من عترته في كل زمن إلى قيام الساعة حتّى يتوجَّه الحثُّ المذكور على التمسك به كما أنَّ الكتاب كذلك(الإمام الزرقاني المالكي يحكي في شرح المواهب ج7ص8 عن السمهودي نقله العلاّمة الأميني في الغدير).
أقول: مضافاً إلى ذلك فالمقصود من لن يفترقا ليس في عالم الدنيا فحسب بل في جميع العوالم من المُلك (الدنيا) والملكوت (البرزخ) والجبروت (الآخرة) حتى يردا عليَّ الحوض.
أهل البيت و تفسير القرآن الكريم
التفاسير التي نقلت عن أئمتنا عليهم السلام على نحوين رئيسين:الأوَّل: ما يبيِّنونه عليهم السلام من معانٍ للآية من غير أن يكونوا بصدد إقناعنا نحن كقولهم في تفسير ما كنتم تكتمون:
(عن الإمام السجاد عليه السلام:...وما كنتم تكتمون ظنَنَّا أنّ لا يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا).(6)
وفي هذه الموارد يأتي دور التعبُّد بكلامهم عليهم السلام وقبول ما صدر منهم حيث أنَّ كلامهم هو كلام الله.
الثاني: وهو الأكثر وذلك من خلال الإستشهاد بآياتٍ أخر متَّصلة بالآية المطلوب تفسيرها أو منفصلة عنها تكون دليلاً على معناها وهذا من تفسير القرآن بالقرآن عن الأئمَّة عليهم السلام.
ولهذا النوع من التفسير شواهدُ عديدةٌ في كلامهم عليهم السلام سوف تُواجه مواردَ كثيرةً منها ضمن البحث، ولا بأس بذكر أحد النماذج البينَّة وهي قضية ابن أبي داود حين رجع من عند المعتصم وهو مُغتَم وكان يتمنَّى أنه لم يكُ حياً حيث أقرَّ رجلٌ على نفسه بالسرقة وأراد من الخليفة أن يُطهِّره بإقامة الحدِّ عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وكلٌّ قد أفتى بما يراه وكان أبو داود من جملة الفقهاء الذين أفتَوا بغير علمٍ (فالتفت الخليفة إلى محمَّد بن عليٍّ عليه السلام فقال: ما تقول في هذا، أبا جعفر فقال: قد تكلم القوم فيه، قال دعني ممّا تكلَّموا به، أيُّ شيءٍ عندك قال أعفني عن هذا قال أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه فقال أما إذا أقسمت عليَّ بالله إنِّي أقول: أنَّهم أخطئوا فيه السنة فإنَّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف قال: و ما الحجَّة في ذلك قال قول رسول الله صلى الله عليه وآله السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى (وأن المساجد لله)(7) يعنى به هذا الأعضاء السبعة التي يُسجد عليها فلا تدعوا مع الله أحداً وما كان لله لم يُقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف).(8)
فليس بإمكاننا معرفة حقيقة القرآن إلاّ بالرجوع إليهم عليهم السلام حيث أنَّه لا يَعرف القرآن إلاّ من خوطب به، فنقول وبصريح الكلمة:
إنَّ القرآن يساوي أهلَ البيت وأهلُ البيت يساوون القرآن لا ولن يفترقا أبداً.
فلو واجهت في خلال البحث أنَّنا نُربط الآيات كلَّها بأهل البيت فلا تتعجَّبْ من ذلك، فهُم القرآن الناطق و لا يُمكن فهم القرآن دونهم فكلَّما سلك الإنسان طريقاً مهما طال وبَعُد فلابدَّ أن يصل إليهم ويلتقي بهم من قبل أن يضِّل ويخزى.
الفصل الأوَّل
لولاك لما خلقت آدمإنَّ قصَّة خلق آدم طويلة إلاّ أنَّنا نحاول الإشارة إلى بعض الجوانب المهمَّة منها، قال تعالى:
(وإذ قال ربُّك للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)(9)
فهاهنا يُذكِّر الله سبحانه نبيَّنا تلك القضيَّةَ التِّي حدثت عند خلق آدم فيقول وإذ أي أُذكر ذلك الحدث، والظرف إذ منصوب بإضمار أذكر.(10)
فيستفاد من ذلك أنَّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد شهد تلك المشاهد من بداية الخلق حيث يقول سبحانه:
(وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
وبطبيعة الحال كان صلوات الله عليه يعلم تفصيلاً وعلى مستوى الجزئيات تلك القضايا والحوادث التي مرَّت من بداية خلق آدم وما حدث بعد ذلك ومهمّة القرآن ليست هي إلاّ تذكيره عليه السلام بها، ومن هنا نشاهد أنَّه سبحانه يقول:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).(11)
ولا يخفى الفرق بين الغفلة وبين الجهل فهو صلوات الله عليه لم يكن جاهلاً بتلك القصص بل كان عالماً بها والقرآن إنَّما يُذكِّره بما كان يعلمه وغفل عنه. وقد ذُكرت كلمة إذ بهذا المعنى في أكثر من مائتي موردٍ من القرآن، كما أنَّه قد صرَّح سبحانه بقوله (واذكر) في موارد عشرة وهي:
1- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا).(12)
2- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا).(13)
3- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا).(14)
4- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا).(15)
5- (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا).(16)
6- (..وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).(17)
7- (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ).(18)
8- (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ).(19)
9- (واذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ).(20)
10- (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ..).(21)
فإذاً النبيُّ صلى الله عليه وآله كان عالماً بتأريخ السابقين من الأنبياء والأولياء وغيرهم وذلك لعلمه بالغيب وهذه الحقيقة من عقائدنا المسلَّمة الثابتة عقلاً ونقلاً وليس هنا موضع الحديث عنها.
على أنهم أوَّل ما خلق الله كما سيتضح لك فيما بعد وفي الزيارة الجامعة المنقولة في عيون أخبار الرضا عليه السلام مسنداً عن الإمام النقي عليه السلام:
(خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه مُحدقين حتَّى منَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه)(22)
فهم إذاً قد شاهدوا جميع ما خلق الله من الموجودات وكانوا قد اطَّلعوا عليها.
العلاقة بين الإنسان والملائكة
ينبغي لنا أن نبيِّن مدى العلاقة والارتباط المتواجد بين الملائكة وبيننا نحن البشر، فهناك ترابط حيوي له دور في حركة الإنسان الرسالي الذي ينطلق من مبدأ العقل والقلب، فكما أنَّ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والإمامة وسائر الأصول له تأثير في تعامل الإنسان وارتباطه مع ما حولَه من الموجودات كذلك الاعتقاد بالملائكة أيضاً له ذلك الدور الذي يسيِّره نحو الكمال المطلق.ومن هذا المنطلق صار الإيمان بالملائكة من جملة الأمور العقائديَّة التِّي قد آمن بها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وآمن بها كلّ المؤمنين.
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).(23)
وفي موطن آخر نشاهد أنَّ الله سبحانه حكم علي الكافرين بالملائكةِ، بالضلال البعيد فيقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا).(24)
وأما دور الملائكة ومسئولياتهم الخطيرة تجاه الإنسان فهي كثيرة والملاحظ في القرآن الكريم أنَّ من أهمِّ أدوار الملائكة هو الصلاة المستمرة على النبيِّ تبعاً لصلاة الله تعالى عليه:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).(25)
وأيضاً صلاتهم علي المؤمنين
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا).(26)
ولابدّ أن نعلم أنَّ هناك مرحلة أهمّ من ذلك وهي التعرُّف على الملائكة الموكَّلةِ علينا خاصَّة لأنه لا محالة سوف نواجههم ويواجهوننا بل نصحبهم ويصحبوننا في كلٍ من عالمي البرزخ والآخرة.
ففي تفسير الإمام: (قال عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم … فإنَّ كلَّ واحدٍ منكم معه ملكٌ عن يمينه يكتب حسناته و ملكٌ عن يساره يكتب سيئاته…).(27)
كلُّ ذلك أدَّى إلى طرح موضوع خلقة آدم - وخلافة بنيه في الأرض -على الملائكة فقال تعالى لهم:
(..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..).(28)
والظاهر أنّه ليس المراد أنّ آدم نفسَه يكون خليفة في الأرض بل كان خلق آدم لأجل تلك الخلافة التّي سوف يمنحها ويجعلها سبحانه لبعضٍ من وُلده وهم الخُلَّص من عباده وهم الذين يجدر أن يطلق عليهم الإنسانُ الكامل بمعنى الكلمة.
وبالطبع هم نور واحد وحقيقة فاردة وإن تكثّروا في عالم الطبيعة ومن هنا نشاهد أنّه سبحانه لم يذكر الخليفة بصورة الجمع فلم يقل خلائف أو خلفاء بل جعلها مفردة.
الأمانة الإلهيَّة
إنَّ الخلافة الإلهية تعني النيابة عنه تعالى في جميع شئونه وصفاته الجمالية والجلالية وهو أمر عظيم بل هو الأمر كما أنَّ الأوصياء هم أولوا الأمر ولعلها هي الأمانة الإلهية التيِّ يتطرق إليها سبحانه في قوله:(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً).(29)
وحيث أنَّ الإنسان قد حمل تلك الأمانة فلا بدَّ إذاً من أن يُمدح ويُحمد على ذلك لا أن يُذمّ ويُعاتب، وبالفعل قد مدحَه الله سبحانه بأنَّه كان ظلوماً جهولاً، فانظر إلى لطافة هذا التعبير وتمعَّن في محتواه فإنَّ الإنسان كان من أوّل الأمر ظلوماً بالنسبة إلى ما سوى الله سبحانه، وجهولاً بجميع الموجودات سوى بارئه تعالى، فلم يكن يطلب إلاّ الله ولم يكن يعرف إلاّ المطلق.
الملائكة لم تتوفر لديها أرضيَّة الخلافة وكذا سائر الموجودات حيث أن الملائكة مظاهر جمال الله ليس إلا ، كما أنّ هناك موجودات كثيرة وبالأخص في جنس الحيوانات هي مظاهر الجلال الإلهي.
الإنسان مظهر الجمال والجلال
أماّ الإنسان فهو مظهر للجمال والجلال معاً وذلك لوجود الجانبين فيه ومن هنا نعلم السرّ في التعبير القرآني حيث يقول سبحانه مخاطباً لإبليس:(..مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..).(30)
دون الملائكة ولاختصاصه بالعشق دون الجن.
قال الإمام قدِّس سرُّه: (فهو تعالى بحسب مقام الإلهية مستجمع للصفات المتقابلة كالرحمة والغضب، و البطون والظهور، و الأوّليَّة والآخريّة، و السخط والرضا، وخليفته لقربه إليه ودنّوه بعالم الوحدة والبساطة مخلوق بيدي اللطف والقهر وهو مستجمع للصفات المتقابلة كحضرة المستخلف عنه. ولهذا اعترض على إبليس بقوله تعالى: (..مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..). مع أنّك مخلوق بيد واحدة. فكل صفة متعلق باللطف فهي صفة الجمال، وكل ما يتعلق بالقهر فهو من صفة الجلال. فظهور العالم ونورانيّته وبهائه من الجمال وانقهاره تحت سطوع نوره وسلطة كبريائه من الجلال وظهور الجلال بالجمال واختفاء الجمال بالجلال جمالك في كل الحقايق ساير وليس له إلاّ جلالك ساتر).
ثمَّ: إنَّ إمامنا له بيان آخر أدقّ مما ذكرناه قد بيَّنه في كتابه مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية قال: (نور: لعلّ الأمانة المعروضة على السموات و الأرض والجبال التي أبَينَ عن حملها و حمَلَها الإنسان الظلومُ الجهول هي هذا المقام الإطلاقي فإن السموات و الأرضيين وما فيهن حدودات مقيدات حتى الأرواح الكلية و من شأن المقيَّد أن يأبى عن الحقيقة الإطلاقية. و الأمانة هي ظلّ الله المطلق وظّل المطلق مطلق يأبى كل متعين عن حملها و أما الإنسان بمقام الظلوميّة التي هي التجاوز عن قاطبة الحدودات و التخطي عن كافّة التعيَينات و اللاَّ مقامى المشار إليه بقوله تعالى شأنه على ما قيل: (يا أهل يثرب لا مقام لكم) والجهولية التي هي الفناء عن الفناء قابل لحملها فحملها بحقيقتها الإطلاقية حين وصوله إلى مقام قاب قوسين و تفكَر في قوله تعالى: ( أو أدنى ) و اطفِ السراج فقد طلع الصبح).(31)
إنَّ الفناء عن الفناء من المراتب الراقية للإنسان حيث لا يتوجَّه الإنسان إلى نفسِه أصلاً (بل هو فانٍ في الله) و لا يتوجَّه إلى عدم توجُّهه و فنائه ( لأنَّ التوجُّه إلى الفناء هو نوعٌ من الأنانيَّة ).
ولنرجع إلى الآية المباركة فنقول إِنَّ إضافة الربّ إلى ضمير الكاف في قوله ( ربّك ) تشير إلى أنّ القضية راجعة إلى شخص النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فالله بما أنه ربّ النبي قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، فالخلافة إذاً لها مساس جذري بشخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.
حديث الملائكة
ثمَّ إنَّ لحن كلام الملائكة حيث قالوا:(..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..).(32)
وإن كان الظاهر منه الاحتجاج أو التعجُب إلاّ أنَّهم لم يكونوا بصدد ذلك كيف وهم (..عِبَادٌ مُكْرَمُونَ*لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).(33)
فماذا كانوا يهدفون من قولهم هذا؟ إنَّهم كانوا يريدون أن يطَّلعوا على حقيقة الأمر في مسألة الخلافة الإلهية فكانوا لا يرون عملاً أعظم ممّا يمارسونه هُم من التسبيح بحمده تعالى والتقديس غافلين عن مرحلةٍ أخرى والتِّي هي أعظم من التسبيح والتقديس وهي العبوديَّة التِّي هي جوهرة كنهها الربوبيَّة ! ومن هنا كانوا يتسائلون حول هذه الخلافة؟ وكانوا يتوقعون الوصول إلى مستوى الإستخلاف كما في الحديث:
(عن الصادق عليه السلام...يا ربِّ إن كنت ولابدَّ جاعلاً في أرضك خليفةً فاجعله منّا).(34)
ومن ناحية أخرى كانت الملائكة قد اطلعت ومن قبل أن يُخلق الإنسان أنَّه بخروجه من الجنَّة سوف يرتكب الجرائم البشعة من الإفساد في الأرض بل سفك الدماء حيث يقولون:
(..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..).(35)
أما كيف علموا ذلك فلسنا بصدد الحديث عنه هنا - فبناءً على ذلك يكون استفهام الملائكة أمراً طبيعيّاً وفي محلِّه.
إقناع الملائكة
وكيف أجابهم الله جلَّ شأنه؟(..قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
فلم يُنكر سبحانه تلك الأمور أعني الإفساد في الأرض وسفك الدماء كظاهرة سوف تصدر من هذا البشر بل الظاهر أنَّه قد قرَّرها، ولكنه سبحانه بيَّن للملائكة أنَّهم جاهلون بما يعلمه هو.
وهاهنا يتوجَّه سؤال وهو: ماذا كان يعلم الله سبحانه وتعالى؟ هذا ما سيتبيَّن من خلال البحث. قال سبحانه:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا..).(36)
هناك ارتباط وثيق بين الإسم والمُسمّى بحيث كلما يذكر الاسم وكأنَّ المُسمى قد حضر لدى السامع، لأنَّ الاسم ليس هو إلاّ مرآة للمسمَّى ولهذا قالوا أنَّ وجود الاسم هو وجود المسمى أو بالأحرى تنزيل للمسمّى وتجلٍّ له ولهذا نشاهد انتقال الجمال والقبح من المسمَّى إلى الاسم.
وعلى ضوء ذلك فإنَّ الله سبحانه قد علَّم آدم الأسماء كلها وذلك بدليل الآية المباركة حيث التأكيد بـ ( كلِّها ) مضافاً إلى الجمع المحلَّى باللاّم الدال على العموم، وهذه الأسماء كلَّها كاشفة عن المُسمَّيات العينية الخارجية فهي كانت حقائق لم يتيسَّر للملائكة الوصولُ إليها ولم تعرف الملائكة أسمائها من قبل أن ينبأهم آدم بأهمِّها التّي كانت مستوعبة ومخيِّمة على سائر الأسماء كما سنبيِّن ذلك. والأحاديث المبيِّنة لتلك الأسماء تتلخَّص في طوائف ثلاثة:
الأوَّل:
(عن الفضل بن عباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله عز وجل وعلم آدم الأسماء كلها ما هي؟ قال: أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض).الثاني:
(عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله وعلم آدم الأسماء كلها ماذا علمه قال الأرضيين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال و هذا البساط مما علمه).الثالث:
(عن داود بن سرحان العطار قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان فتغدينا ثم جاءوا بالطشت والدست سنانه فقلت جعلت فداك قوله وعلم آدم الأسماء كلها الطست والدست سنانه منه فقال الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا).(37)أسمائكم في الأسماء
ولكن حيث أنّه لم تكن لجميع هذه الأسماء علاقة بمقام الخلافة الإلهيّة نجد أنَّه تعالى يعرض قسما مميَّزاً منها خاصَّة أعني مسمَّياتها ومصاديقها وبطبيعة الحال كانت لتلك المُسميّات علاقةً بالمهمِّ أعني الخلافة التِّي كان سبحانه بصدد إفهامها للملائكة لغرض توجيه خلق آدم عليه السلام.أنظُر إلى هذا التعبير وتأمّل في كلمة (ثم) في قوله تعالى (ثمَّ عرضَهم على الملائكة).(38)
فإنها قد فصَّلتْ بين جميعِ الأسماء وبين التّي عُرضَتْ على الملائكة. وتأمَّل أيضاً في الضمير (هم) فإنَّه لو كانت الأسماء هي المعنيَّة والمعروضة عليهم دون المسمَّيات أو كانت تعني المسميات التِّي لا تمتلك التعقُّلَ لكان التعبير الصحيح هو (عَرضَها) لا (عَرضَهُم).
وأصرح من ذلك قوله تعالى: (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين).
فهل يحتمل من يعرف ألف باء اللغةِ العربيةِ أنَّ كلمة هؤلاء تعني الموجودات من الجبال والشعاب والأودية والنبات والشجر بأصنافها؟!.
بل إنَّما هي أسماء من سيَأتون على الأرض من ذريَّة آدم الذين هم محلّ الاحتجاج والنزاع وبوجود تلك الذرِّية يمكن تبرير خلق آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض، وبهم تُجبَر جميعُ المفاسد التِّي سوف يرتكبها بعضُ أولاد آدم عليه السلام ولا يخفى أنَّ كلمة هؤلاء تدلُّ على حضورهم بعينهم آنذاك وهم بعرشه محدقين.
المصادر :
1- يوسف: 2.
2- الواقعة/79:77.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى ج 3 ص315
4- شرح دعاء السحر ص71.
5- بحار الأنوار ج2 ص100 رواية 59 باب14-ج2 ص285 رواية 2 باب34-ج 5 ص 21 رواية 30 باب1.
6- بحار الأنوار ج 99 ص 205 رواية 19 باب36.
7- الجن/18.
8- بحار الأنوار ج 50 ص 6 رواية 7 باب1-ج 79 ص 191 رواية 33 باب91-ج 85 ص 128 رواية 1 باب27-ج 85 ص 138 رواية 21 باب 27.
9- البقره/30.
10- تفسير الكشاف للزمخشري ج1 ص271.
11- يوسف/3.
12- مريم/16
13- مريم/41
14- مريم/51.
15- مريم/54.
16- مريم/56.
17- ص/17.
18- ص/41.
19- ص/45.
20- ص/48.
21- الأحقاف/21.
22- بحار الأنوار ج100 ص103 رواية1 باب6.
23- البقرة/285.
24- النساء/136.
25- الأحزاب/56.
26- الأحزاب/43.
27- بحار الأنوار ج63 ص271 رواية 158 باب3.
28- البقرة/30.
29- الأحزاب/72.
30- ص/75.
31- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية ص96.
32- البقرة/30.
33- الأنبياء/26،27.
34- بحار الأنوار ج 11 ص 108 رواية 17الباب1-ج57 ص 367 رواية 4 باب4-ج 61 ص 299 رواية 7 باب47-ج 63 ص 83 رواية 38 باب2-ج 99 ص 32 رواية 7 باب4.
35- البقرة/30.
36- البقرة/31.
37- بحار الأنوار ج 11 ص 471 رواية 18،19،20 باب2.
38- البقرة 31.