
عاشت هذه السيدة البطلة في الکوفة وقد حالفها الحظ ان تشهد احداث السنة 60 الهجرية ، وكانت امرأة عادية ولكن الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) حوّلها إلى عنصر فعّال حيث قامت بما لم يقم به الرجال في ذلك الوقت العصيب، فاستحقت بذلك أن يخلّدها التاريخ وتنال وسام نصرة الإمام الحسين عليه السلام حتى صارت جزءاً من ملحمة الطف الخالدة. لقد كانت مثال قول الشاعر:
ولو كنّ النساء كمن ذكرنا *** لفُضّلت النساء على الرجال
فلا التأنيث باسم الشمس عيبُ *** ولا التذكير فخر للرجالِ
كانت طوعة جارية للأشعث بن قيس الكندي ، أعتقها فتزوجها أسيد بن مالك (1)
مسلم ضيف عندها
بعد أن تفرق الناس عن مسلم بن عقيل بقي وحيداً يجول في سكك الكوفة، فمشى في أزقتها وقد بلغ به التعب والإرهاق مبلغاً عظيماً حتى انتهى به المسير إلى باب بيت طوعة فكان دارها هو المأوى والملاذ ، ابن سعد، (8)أمر عبيد الله بن زياد بالبحث عن مسلم وعيّن جائزة لذلك [، ورجع ابنها (بلال) الذي كانت تنتظر عودته، فعرف بوجود مسلم في دارهم، فأخذ ينتظر طلوع الصباح ليفشي سراً أخفته أمه وما ذلك إلا طمعاً في الجائزة (3)
لما أصبح الصباح وذهب ابنها (بلال) إلى ابن زياد وأفشى أمر مسلم، بعث إليه محمد بن الأشعث في سبعين فارس، وكانت طوعة تراقب الموقف عن كثب، وبعد قتال شديد قبضوا على مسلم (4)
حوار بين مسلم وطوعة
يذكر أصحاب المنابر ـ نقلاً عن كتب متأخرة ـ حواراً دار بين طوعة ومسلم، ولكن لا يقف عليه الباحث في مصادر المتقدمين.وقد ورد في كتاب "مسلم ابن عقيل للسيد محمد تقي المدرسي :
ما رأت طوعة مسلم بن عقيل واقفاً على بابها قالت له:
من انت وما شأنك ؟
فأجابها: هل لديك شربة من ماء .. فأتته بقدح ماء فشرب
الى بيتها ثم عادت الى الباب ... فرأته لايزال واقفاً.. فسألته: ألم تشرب الماء؟!
قال: بلى . فقالت له: انصرف الى بيتك .
فسكت ، ثم اعادت مثل ذلك ، فسكت ثم قالت في الثالثة : سبحان الله يا عبد الله ! قم عافاك الله الى أهلك ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك .
فقام وقال : يا أمة الله مالي في هذا المصر أهل ولاعشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ،.
قالت يا عبد الله وما ذاك .
قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم وغروني وأخرجوني .
قالت : أنت مسلم ؟ قال : نعم .
قالت : ادخل .
وجاء في كتاب أعلام النساء المؤمنات أنه لما أخذ يقاتل فرسان محمد بن الأشعث كانت طوعة تشجعه وتخبره عن كل هجوم يأتي من أعدائه (5)
امرأة وقفت وقفة الأبطال في ظروف تقاعس فيها الرجال
ان التاريخ الاسلامي يطالعنا في صفحاته المشرقة عن المواقف النورانية ، والصور الرائعة في التضحية والايثار والشجاعة والحمية ، ففي احلك الظروف برزت هنالك نماذج رسالية تركت بصماتها مخلدة في جبين التاريخ والانسانية وقد جسدت امرأة في التاريخ بمواقفها الجهادية نوعاً من النماذج عندما وقفت وقفة الابطال في ظروف تقاعس فيها الرجال ..تلك المرأة هي طوعة مولاة الاشعث بن قيس الكندي ، اعتقها الاسيد الحضرمي، ثم تزوجها فولدت له بلالاً وهي من المؤمنات المجاهدات. وكانت مصداقاً لقوله تعالى : (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا اولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم) (6)
فقد آوت مسلم بن عقيل سفير الامام الحسين بن علي عليهم السلام في بيتها بالكوفة ، بينما كانت تطارده السلطة وتريد القاء القبض عليه ، وكانت تعلم ان اي تعاطف مع مسلم بن عقيل ، لايعني سوى اللعب بالنار وتعريض نفسها للسجن و الاعدام ، وكانت تعلم ـ أيضاً ـ ان كل الابواب في الكوفة قد اغلقت في وجه انصار الحسين عليه السلام ومبعوثه الخاص ، ولكنها رغم ذلك آوت مسلم بن عقيل ووفرت له الحماية والأمن بعيداً عن اعين السلطات ، بعد ان كان حائراً متردداً في ازقة الكوفة ..
لا يدري الى اين مأواه وملجأه احاطت به تيارات من الهموم واستبان له انه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ... انتهى به المطاف الى بيتها.. كانت واقفة عند باب دارها في انتظار قدوم ابنها .. فبادرها بالسلام .. فردت عليه السلام ، استقاها فسقته ، فجلس على الباب لا تطاوعه نفسه ان يبتدئها بطلب الاذن في الدخول للدار فالتفتت اليه قائلة : ألم تشرب ؟ فسكت عنها اذلم يكن له اهل ولايعرف من يؤويه ، ولكنها لم تقتنع بذلك لأنها امرأة مصونة متأففة من وقوف الأجنبي على بيتها فقالت له : " اني لااحل لك الجلوس هنا ولايصلح لك " فعندها رق وتلاين وقال : " أمة الله مالي في هذا المصر منزل ، ولا عشيرة فهل لك الى أجر ومعروف ولعلي مكافئك به بعد هذا اليوم" استفزتها هذه الكلمات الغالية لأن الأجر من اعمال الصالحين والمعروف لايكافئ عليه الا اهله فقالت مستفهمة :
وما ذاك؟ قال : انا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني فلما سمعت باسمه شعرت بسعادة لايتوفق لها الا من اودع الله تعالى فيه نور الايمان ، فأعادت عليه السؤال عن اسمه متأكدة في الحصول على الغاية الثمينة وقالت له : أأنت مسلم ؟ قال : نعم ، فرحبت به و امتلأ قلبها سروراً بالحظوة بضيافة داعية ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وادخلت السيدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي اليه وجاءته بالضياء والطعام ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم انها قد اتت لحربه ، فسارع الى فرسه فأسرجها والجمها ، وصب عليه درعه ، وتقلد سيفه ، والتفت الى السيدة الكريمة طوعة فشكرها على حسن ضيافتها ، ولم تتركه طوعة عند هذا الحد بل كانت تشجعه وتقوي من عزيمته حتى انه كان من قوته يأخذ الرجل من محزمه ويرمي به فوق البيبت .. هذه هي طوعة وقد طاوعتها نفسها على متابعة العقل و اقتصاص اثر الدين وأداء الرسالة بإيواء ابن عم سيدالشهداء.(7)
السّيّدةُ طوعةُ بطلةُ الكوفةِ
يمر الإنسان في كثير من الأحيان بموقف يكون مفصلياً في حياته ونقطة تحول ، فقد يرفعه إلى أعلى عليين ، وقد يورده الهاوية .الحر ( رضي الله عنه ) مرَّ بمثل هذا الموقف ، فأحسن الاختيار وكانت ثمرة اختياره الجنة ، وعمر بن سعد ( لعنه الله ) مرّ بموقف اختيار، فاختار ولاية فانية حتى لو كان ثمنها دم الحسين( عليه السلام ) .
طوعة كانت امرأة عادية ولكن الولاء لأهل البيت ( عليهم السلام ) حوّلها إلى عنصر فعّال في مجتمع خانع انعدمت فيه الإرادة ، وصار الغدر والانقلاب على الأعقاب من أهم سماته .
من هي طوعة ، وما هو دورها في نصرة الحسين ( عليه السلام ) ؟
كانت طوعة جارية للأشعث بن قيس ، وهو من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولكنه ارتدّ وصار خارجياً ملعوناً ، وفي رواية الصدوق أنه ممن كتم شهادته في قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) ، ثم أعتقها فتزوجها أسيد بن مالك وكان أيضاً من خصوم آل محمد وكانت كارهة لهذا الارتباط لأنه من أزلام السلطة الأموية ، لذا عاشت في كنفه حياة تعسة ، لكن عداء هذين الزوجين لأهل البيت ( عليهم السلام ) لم يؤثر على ولاء هذه المرأة المؤمنة فقامت بما تخلى عنه ذوو النفوس الضعيفة ، فشعّ نورها في ظلم تلك الفترة الزمنية وكانت خاتمة أمرها شفاعة المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وجواره في جنان الخلد .
مسلم في الكوفة
دخل مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) إلى الكوفة سفيراً عن الحسين ( عليه السلام ) وبايعه أهلها حتى وصل عدد من بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ، ولكن وضع الكوفة انقلب رأساً على عقب عندما دخلها عبيد الله بن زياد وقام بعدة إجراءات منها :1- أنه أمر من عنده من الأشراف أن يشرفوا على الناس من قصره ، وذلك بعد أن حاصرهم مسلم بن عقيل وجيشه ، فيمنّوا أهل الطاعة بالكرامة والزيادة ، ويخوفوا أهل المعصية بالحرمان والعقوبة ففعلوا ذلك ، وسلّط شرطته على الناس ليحذروهم من جند الشام القادمين ، وأخذ الناس يتفرقون فكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويفعل الرجال مثل ذلك ، فما زال الناس ينصرفون عن مسلم حتى لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً فصلّى بهم صلاة المغرب ، ولما خرج متوجهاً إلى باب المسجد لم يبلغه إلا ومعه منهم عشرة ، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان .
2- حذّر الناس من إيواء مسلم حيث أصدر مرسوماً جاء فيه : ( برئت الذمة من رجل أصبناه في داره ) .
3- تخصيص جائزة ثمينة لمن يأتي به : ( من أتى بمسلم بن عقيل فله عشرة آلاف درهم ، والمنزلة الرفيعة من يزيد بن معاوية وله كل يوم حاجة مقضية ) .
4- إلقاء القبض على جماعة من أعوان مسلم مثل المختار الثقفي ، وعبد الأعلى الكلبي ، والأصبغ بن نباتة وغيرهم .
5- وضع الشرطة والحرس في سكك الكوفة وأزقتها ، كما أمر شرطته بتفتيش الدور وتوعد أعوانه بالعقاب الشديد إذا استطاع مسلم الإفلات .
بقي مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) وحيداً بعد تفرق الناس لا يدري إلى أين يتوجّه وإلى أي بيت يأوي ، فقرر الاختباء عن أعين السلطات ، فمشى وقد بلغ به التعب والإرهاق مبلغاً عظيماً بعد أحداث يوم حافل انقلبت فيه موازين القوى بسرعة لصالح ابن زياد ، وبسبب كثرة المراصد التي انتشرت في أزقة الكوفة التي اجتازها بصعوبة وجهد كبيرين ، حتى انتهى به المسير إلى باب بيت طوعة فكان دارها هو المأوى والملاذ .
كانت طوعة واقفة على بابها تنتظر ابنها الذي كان مع الناس ، فاقترب منها مسلم ( عليه السلام) وطلب منها الماء ، فسقته لكنه لم ينصرف بل بقي واقفاً ، لا تطاوعه نفسه أن يطلب منها الإذن بالدخول ولا يعرف مكاناً آخر ينصرف له ، والشوارع مليئة بحرس السلطة ، وأصحابه الخلّص كانوا في السجون ، وعامة الناس قد شلّهم الخوف أو أغراهم المال فنقضوا بيعتهم ، وقعدوا عن نصرة الحق ، فقط إنسان واحد في مجتمع كامل كان لا يشعر بالخوف ومستعداً لنصرة هذا الوحيد وإيوائه .
طلبت منه المغادرة قائلة : يا عبد الله ألم تشرب الماء ؟ فقال مسلم : بلى ، فقالت له : اذهب إلى أهلك فسكت ، فكررت عليه القول ، فهي امرأة عفيفة ومصون تأنف من وقوف أجنبي على بابها ، إلى أن قالت له : سبحان الله يا عبد الله قم عافاك الله واذهب إلى أهلك فإنه لا يصحُّ لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك ولأنه رجل مؤمن وتقي ؛ فإن عبارة ( لا أحلّه لك ) قد استفزّت تقواه لذا ردّ عليها : يا أمة الله ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة فهل لك إلى أجر ومعروف ؟ ولعلي مكافئك به بعد اليوم ، فقالت له : وما ذاك ؟ فقال لها : أنا مسلم بن عقيل لقد كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني ، فقالت له : أنت مسلم ؟ قال : نعم ، فقالت له : ادخل على الر حب والسعة أدخلته بيتا غير الذي تكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه الطعام إلا إنه لم يأكل واكتفى بالماء .
ورجع ابنها الذي كانت تنتظر عودته ، فلاحظ كثرة ترددها على تلك الدار ، ألحَّ عليها لتخبره بسرّها ، وتحت إلحاحه أخبرته بالحقيقة بعد أن أخذت عليه الأيمان الغليظة أن لا يبوح بالسر لأحد ، الا ان هذا الابن من نطفة ابیه الحاقد علی اهل البيت عليهم السلام فنام على جمر ينتظر طلوع الصباح ليفشي سراً أقسم أن لا يفشيه وانتهت وشاية هذا الغادر بمسلم وهو فوق قصر الإمارة المشؤوم ، وقد ضرب عنقه الشريف ، وأُلقي بجسده من فوق القصر .
السيدة طوعة بعد استشهاد مسلم
بعد استشهاد مسلم أمر ابن زياد بإلقاء القبض على السيدة طوعة وهدم دارها ، فجيء بها وهي مكبلة بالحديد وأوقفوها أمامه ، فلما رآها قال لها : ما الذي دعاك إلى إيواء مسلم بن عقيل ؟ ، فقالت : كيف لا آوي ابن عم رسول الله ، وسفير سيدي الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقال لها ابن زياد : هؤلاء خوارج ، فقالت له بجرأة نابعة من عمق إيمانها وولائها : إن هؤلاء أئمة الدين ، وإن الخارجي هو أنت وأبوك ، فقال لها : اسكتي أيتها المرأة الضالة ، ثم أمر بها إلى السجن ، والذي كان يغصُّ بالمئات من المواليات لأهل البيت (عليهم السلام ) .استمر حبسها فترة من الزمن إلى أن تدخل أحد أقاربها ممن كان من أعوان السلطة فأطلق سراحها وخرجت من السجن عليلة هزيلة الجسم ولم يمضِ وقت طويل على خروجها حتى اشتد بها المرض الذي أدّى إلى وفاتها (رضوان الله عليها) .
لقد وقفت السيدة طوعة موقفاً واحداً لكنه كان موقفاً مشرفاً ينمُّ عن وعي رسالي ، ووضوح في التفكير والرؤية وعمق في الإيمان والولاء لأهل البيت ( عليهم السلام ) رغم خطورة المرحلة وشراسة العدو؛ لذا استحقت أن يخلّدها التأريخ كما خلّدهم ، واقترن اسمها مع اسم بطل الكوفة مسلم بن عقيل الذي بشّرها عندما هجم عليه جلاوزة السلطة بقوله : نعم لا بد لي من الموت وأنت قد أدّيتِ ما عليك من البرِّ والإحسان ، وأخذت نصيبك من شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله ) .
إنها امرأة واحدة في مجتمع كان يغص بالرجال ، لكنها حملت المسؤولية ولم تقل كما كان سواها من نساء الكوفة يقلن لرجالهن : انصرفْ الناس يكفونك ، بل قامت بواجبها في نصرة الحق فأثبتت أن المواقف العظيمة والخالدة ليست حكراً على الرجال .
المصادر :
1- الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 5 ص 371 . / ابن مسكويه، تجارب الأمم ج 2 ص 50 . /ابن كثير، البداية و النهاية ج 8 ص 155 . /ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 4 ص 32 .
2- الطبقات الكبرى ج 5 ص 461 . /البلاذري، أنسابالأشراف ج 2 ص 81 . /ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 4 ص 32 .
3- ابن مسكويه، تجارب الأمم ج 2 ص 51 ـ 52 . / الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 5 ص 373 . / أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين ص 105 . /ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 4 ص 32 .
4- الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 5 ص 373 . /ابن مسكويه، تجارب الأمم ج 2 ص 52 . /أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين ص 105 . /ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 4 ص 32 .
5- اعلام النساء المومنات، ص 464 . أم علي مشكور
6- الانفال : ٧٤
7- منقول من مجلة حياء - السنة الأولى- العدد الثاني - صفحة ٣٩