
أتى رأس اليهود إلى أمير المؤمنين عند منصرفه من وقعة النهروان و هو جالس في مسجد الكوفة فقال يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي فقال سل عما بدا لك يا أخا اليهود قال إنا نجد في الكتاب أن الله عز و جل إذا بعث نبيا أوحى إليه أن يخلف في أهل بيته من يقوم مقامه في أمته من بعده و أن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذي عليه و يعمل به في أمته من بعده قال نعم
ثم قال و أن الله عز و جل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء يمتحنهم بعد وفاتهم فأخبرني كم يمتحن الله الأوصياء في حياتهم من مرة و كم يمتحنهم بعد وفاتهم و إلى ما يصير أمر الأوصياء إذا رضي محنتهم قال علي (عليه السلام) تحلف بالله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى و أنزل عليه التوراة لئن أخبرتك بحق عما سألتني عنه لتؤمن به قال نعم قال علي إن الله تعالى يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم فإذا رضي طاعتهم و محنتهم أمر الأنبياء أن تتخذوهم أولياء في حياتهم و أوصياء بعد وفاتهم و يصيروا طاعة الأوصياء في أعناق الأمم موصولة بطاعة الأنبياء ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبنوا صدرهم فإن رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة.
قال رأس اليهود صدقت يا أمير المؤمنين فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)من مرة و كم امتحنك بعد وفاته من مرة و إلى ما يصير آخر أمرك .
فأخذ أمير المؤمنين بيده و قال انهض معي لأنبئك بذلك يا أخا اليهود فقام إليه جماعة من أصحابه و قالوا يا أمير المؤمنين نبئنا بذلك معه قال إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم قالوا و لم ذلك يا أمير المؤمنين فقال : لأمور بدت لي من كثير منكم فقام إليه الأشتر و قال يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك فو الله إنا لنعلم أنه ليس على ظهر الأرض وصي نبي سواك و إنا لنعلم أن الله عز و جل لا يبعث بعد نبينا نبيا سواه و إن طاعتك في أعناقنا موصولة بطاعة نبينا.
فجلس علي (عليه السلام) و أقبل على اليهودي فقال يا أخا اليهود إن الله عز و جل امتحنني في حياة نبينا في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة الله له مطيعا قال و فيم يا أمير المؤمنين.
قال أما أولهن فإن الله تعالى أوحى إلى نبينا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)و حمله الرسالة و أنا أحدث أهل بيته سنا أخدمه في بيته و أسعى بين يديه في أمره فدعى صغير بني عبد المطلب و كبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله و أنه رسول الله فامتنعوا من ذلك و أنكروه عليه و هجروه و نابذوه و اعتزلوه و اجتنبوه و سائر الناس مبغضون له و مخالفون عليه قد استعظموا ما أورده عليهم مما لا تحتمله قلوبهم و لا تدركه عقولهم فأجبت رسول الله وحدي إلى ما دعاني إليه مسرعا مطيعا موقنا لم يخالجني في ذلك شك فمكثنا بذلك ثلاث حجج ليس على ظهر الأرض خلق يصلي لله و يشهد لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم)بما آتاه الله عز و جل غيري و غير بنت خويلد ثم أقبل على أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء و تعمل الحيل في قتل النبي حتى إذا كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة و إبليس الملعون حاضرا في صورة أعور ثقيف فلم تزل تضرب أمرها ظهرا لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي بالنبي و هو نائم على فراشه فيضربوه بأسيافهم جميعا ضربة رجل واحد فيقتلوه فإذا قتلوه منعت قريش رجالها و لم تسلمها و مضى دمه هدرا فهبط جبرائيل (عليه السلام)على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)
فأنبأه بذلك و أخبره بالليلة التي يجتمعون فيها و الساعة التي يؤتون فراشه فيها و أمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار فأنبأني رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)بالخبر و أمرني أن أضطجع في مضجعه و أقيه بنفسي فأسرعت في ذلك مطيعا مسرورا لأقتل دونه فمضى (صلی الله عليه وآله وسلم)لوجهه و اضطجعت في مضجعه ثم أقبلت رجالات قريش موقنه في أنفسها بقتل النبي فلما استوى بي و بهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي و دفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله و الناس مني ثم أقبل على أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما الثالثة يا أخا اليهود فإن ابني ربيعة و ابن عتبة كانوا فرسان قريش دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش فأنهضني رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)مع صاحبي رضي الله عنهما يريد بهما حمزة بن عبد المطلب و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهما و قد فعل و أنا أحدث أصحابي سنا و أقلهم بالحرب تجربة فقتل الله بيدي وليدا و شيبة سوى من قتلته من جحاجحة قريش في ذلك اليوم و سوى من أسرت و كان مني أكثر مما كان من أصحابه و استشهد ابن عمي في ذلك اليوم رحمه الله ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين.
و أما الرابعة يا أخا اليهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استجاشوا من يليهم قبائل العرب و قريش طالبين بثأر مشركي قريش في بدر فهبط جبرائيل (عليه السلام)على النبي فأنبأه بذلك فتأهب النبي صلی الله عليه وآله وسلم و عسكر بأصحابه في سد سفح أحد و أقبل المشركون فحملوا علينا حملة رجل واحد فاستشهد من المسلمين من استشهد و كان ممن بقي ما كان من الهزيمة و بقيت مع رسول الله و مضى المهاجرين و الأنصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول قتل رسول الله و قتل أصحابه ثم ضرب الله وجوه المشركين و قد جرحت بين يدي رسول الله نيفا و سبعين جراحة منها هذه و هذه ثم ألقى رداءه و أمر يده إلى جراحاته و كان مني في ذلك اليوم ما على الله ثوابه إن شاء الله ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما الخامسة يا أخا اليهود فإن قريشا و العرب قد تجمعت و عقدت بينها عقدا و ميثاقا لا ترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله و تقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب ثم أقبلت بحدها و حديدها حتى أناخت علينا بالمدينة واثقة في أنفسها بالظفر فيما توجهت له فهبط جبرائيل (عليه السلام)على النبي فأنبأه بذلك فخندق على نفسه خندقا و من معه من المهاجرين و الأنصار فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ترى في أنفسها القوة و فينا من الضعف تبرق و ترعد و رسول الله يدعوها إلى الله و يناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى و لا يزيدها بذلك إلا عتوا و فارسها فارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز و يرتجز و يخطر برمحه مرة و بسيفه أخرى لا يقدم عليه و لا يطمع فيه طامع لا حمية تهيجه و لا بصيرة تشجعه فأنهضني إليه رسول الله و عممني بيده و أعطاني سيفه هذا و ضرب بيده إلى ذي الفقار فخرجت إليه و نساء أهل البلد بواك إشفاقا علي من عمرو بن عبد ود فقتله الله بيدي و العرب لا تعد لها فارسا غيره و ضربني هذه الضربة و أومأ بيده إلى هامته فهزم الله قريشا و العرب بذلك و بما كان مني فيهم من النكاية ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما السادسة يا أخا اليهود فإنا وردنا مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)مدينة أصحابك خيبر على رجال اليهود و فرسانها من قريش و غيرها فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل و الرجال و السلاح و هم من أمنع دار و أكثر عدد كل ينادي للبراز و يدعو للقتال فلم يبرز إليهم أحد من أصحابي إلا قتلوه حتى إذا احمر الحدق و دعيت إلى النزال و أهمت كل امرئ نفسه فالتفت بعض أصحابي إلى بعض و كل يقول يا أبا الحسن انهض فأنهضني رسول الله إلى دارهم فلم يبرز إلي أحد منهم إلا قتلته و لا يثب لي فارس إلا طحنته ثم شددت إليهم شدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم مدينتهم مسددا عليهم و اقتلعت باب حصنهم بيدي ثم دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها و أسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي و لم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم لما توجه لفتح مكة أحب أن يعذر إليهم و يدعوهم إلى الله عز و جل آخرا كما دعاهم أولا فكتب إليهم كتابا يحذرهم فيه و ينذرهم عذاب ربهم و يعدهم الصفح عنهم و يمنيهم مغفرة ربهم و نسخ لهم في آخره سورة براءة ليقرأ عليهم ثم عرض على أصحابه المضي به إليهم فكلهم يرى التثاقل فيه فلما رأى ذلك ندب منهم رجلا يوجه به فأتاه جبرائيل (عليه السلام)فقال يا محمد إنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك فأنبأني بذلك رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)و وجهني بكتابه و رسالته إلى أهل مكة فأتيت مكة و أهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا و لو قدر أن يضع على كل جبل مني إربا لفعل و لو بذل في ذلك نفسه و أهله و ولده و ماله فبلغتهم رسالة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)و قرأت عليهم كتابه فكلهم يلقاني بالتهديد و الوعيد و يبدي لي البغضاء و يظهر لي الشحناء من رجالهم و نسائهم فكان مني في ذلك ما رأيتم ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
قال يا أخا اليهود هذه المواطن السبعة التي امتحنني ربي مع نبيه فوجدني فيها كلها بمنه مطيعا ليس لأحد فيها مثل الذي لي و لو شئت لوصفت بذلك و لكن الله تعالى نهى عن التزكية
فقالوا يا أمير المؤمنين صدقت و الله لقد أعطاك الله عز و جل الفضيلة بالقرابة من نبينا (صلی الله عليه وآله وسلم)و أسعدك بأن جعلك أخاه تنزل منه بمنزلة هارون من موسى و فضلك بالمواقف التي باشرتها و الأهوال التي ركبتها و ذخر لك الذي ذكرت و أكثر منه مما لم تذكره و مما ليس لأحد من المسلمين مثله يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا و من شهدك بعده فأخبرنا يا أمير المؤمنين (عليه السلام)بما امتحنك الله به بعد نبينا فاحتملته و صبرت عليه فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علما منا به و ظهورا منا عليه إلا أنا نحب أن نسمع ذلك منك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه .
فقال (عليه السلام) يا أخا اليهود إن الله عز و جل امتحنني بعد وفاة نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم)في مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه و نعمته صبورا .
أما أولهن يا أخا اليهود فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة لم يكن أحد آنس به أو أستقيم إليه أو أعتمد عليه أو أتقرب به غير رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)هو رباني صغيرا و بوأني كبيرا و كفاني العيلة و جبرني من اليتم و أغناني عن الطلب و وقاني التكسب و عالني في النفس و الأهل و الولد في تصاريف أمور الدنيا مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله عز و جل فنزل بي من وفاة رسول الله ما لم أكن أظن أن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به فرأيت الناس من أهل بيتي من بين جازع لا يملك جزعه و لا يضبط نفسه و لا يقوى على حمل فادح ما نزل به قد أذهب الجزع صبره و أذهل عقله و حال بينه و بين الفهم و الإفهام و القول و الاستماع و سائر الناس من غير بني عبد المطلب بين متعز يأمر بالصبر و بين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم فحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت و الاشتغال بما أمرني به من تجهيزه و تغسيله و تحنيطه و تكفينه و الصلاة عليه و وضعه في حفرته و جمع كتاب الله و عهده إلى خلقه لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة و لا هائج زفرة و لا لاذع حرقة و لا جليل مصيبة حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عز و جل و لرسوله علي و بلغت فيه الذي أمرني به فاحتملته صابرا محتسبا ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما الثانية يا أخا اليهود فإن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)أمرني في حياته على جميع أمته و أخذ على جميع من حضره منهم البيعة لي بالسمع و الطاعة و أمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب في ذلك فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)أمره إذا حضرته و الأمير على من حضرني منهم إذا فارقته لا يختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمور في حياة النبي و لا وفاته ثم أمر رسول الله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة بن زيد عند ما أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه فلم يدع النبي أحدا من أفناء العرب من الأوس و الخزرج و غيرهم من سائر الناس ممن يخاف على نقضه و منازعته و لا أحدا ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش و لا من المهاجرين و الأنصار و من المسلمين و غيرهم من المؤلفة قلوبهم و المنافقين لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته و لئلا يقول قائل شيئا مما أكرمه و لا يدفعني دافع عن الولاية و القيام بأمور رعيته و أمته من بعده ثم كان آخر ما تكلم به في شيء من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة و لا يتخلف عنه أحد ممن انهض معه و تقدم في ذلك أشد التقدم و أوعز فيه أبلغ الإيعاز و أكد فيه التأكيد فلم أشعر بعد أن قبض النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)إلا برجال ممن بعث مع أسامة بن زيد و أهل عسكره قد تركوا مراكزهم و أخلوا بمواضعهم و خالفوا أمر رسول الله فيما أنهضهم له و أمرهم به و تقيدهم من ملازمة أميرهم و المسير معه تحت لوائه حتى ينفذ الوجه الذي أنفذه إليه فخلفوا أميرهم مقيما في عسكره و أقبلوا يتبادرون على الخيل ركضا إلى حل عقدة عقدها الله عز و جل في أعناقهم فحلوها و نكثوها و عقدوا لأنفسهم عقدا ضجت به أصواتهم و اختصت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد من بني عبد المطلب و لا مشاركة في رأي أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي فعلوا ذلك و أنا برسول الله مشغول بتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود فإنه كان أهمها و أحق ما بدأ به منها و كان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظم الرزية و فاجع المصيبة و من فقد لا خلف منه إلا الله عز و جل فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربها و سرعة اتصالها ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)كان يلقاني معتذرا في كل أيامه و يلزم غير ما ارتكبه من أخذ حقي و نقض بيعتي و يسألني تحليله و كنت أقول تنقضي أيامه ثم أرجع إلى حقي الذي جعله الله عز و جل لي عفوا هنيئا من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه و قرب عهده بالجاهلية حدثا في طلب حق لمنازعته لعل فلانا يقول فيها نعم و فلانا يقول لا يقول ذلك من القول إلى الفعل و جماعة من خواص أصحاب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)ممن أعرفهم بالنصح لله و لرسوله و لكتابه و لدينه الإسلام يأتوني عودا و بدوا و علانية و سرا فيدعونني إلى أخذ حقي و يبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم فأقول رويدا و صبرا قليلا لعل الله أن يأتيني بذلك عفوا بلا منازعة و لا إراقة الدماء فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي و طمع في الأمر بعده من ليس له بأهل فقال كل قوم منا أمير و منكم أمير و ما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول الأمر غيري فلما قربت وفاة القائم و انقضت أيامه صير الأمر من بعده فكانت هذه أختها و محلها و أخذها مني في مثل محلها و أخذ مني ما جعله الله عز و جل لي فاجتمع إلي من أصحاب محمد ممن مضى رحمه الله و من بقي ممن أخره الله من الجميع فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في أختها فلم يعد قولي الثاني قولي الأول صبرا و احتسابا و يقينا و إشفاقا من أن تفني عصبة تألفهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)باللين مرة و بالشدة أخرى و بالبذل مرة و بالسيف أخرى حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكن و الفرار و الشبع و الري و اللباس و الوطأة و الدثار و نحن أهل بيت محمد لا سقوف لبيوتنا و لا أبواب و لا ستور إلا الجرائد و ما أشبهها و لا وطاء لنا و لا دثار علينا يتناوب الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا و نطوي الأيام و الليالي جوعا عامتنا و ربما أتانا الشيء مما آتاه الله علينا و صيره لنا خاصة دون غيرنا و نحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)أرباب النعم و الأموال تألفا منه لهم فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله و لم يحملها على الخطيئة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجالها لأني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا في أمري على إحدى منزلتين إما متبع مقاتل و إما مقتول إن لم يتبع الجميع و إما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي و قد علم أني منه بمنزلة هارون من موسى يحل بهم في مخالفتي و الإمساك من نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون و ترك طاعته و رأيت تجرع الغصص و رد أنفاس الصعداء و لزوم الصبر حتى يفتح الله عز و جل أو يقضي بما أحب أن يدان في حظي و أرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم و كان أمر الله قدرا مقدورا و لو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من رسول الله و من بحضرتك منهم بأني كنت أكثر عددا و أعز عشيرة و أمنع رجالا و أوضح حجة و أكثر في هذا الدين مناقب و آثارا لسوابقي و قرابتي و وراثتي فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها و البيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها و لقد قبض رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)و أن ولاية الأمة في يده و في بيته لا في يد الأولى تناولوها و لا في بيتهم و لأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا أولى بالأمر بعده من غيرهم في جميع الخصال ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
و أما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري و يناظرني في غوامضها فيمضيا عن رأيي لا أعلم أحدا و لا يعلمه أصحابي و لا يناظره في ذلك غيري و لا يطمع في الأمر بعده سواي فلما أتته منيته على فجأته بلا مرض كان قلبه أمر كان أمضاه في صحة بدنه لم أشك أن قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها و العاقبة التي كنت ألتمسها و أن الله عز و جل سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت و أفضل ما أملت فكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوما أنا سادسهم و لم يساوني بواحد منهم و لا ذكر لي حقا في وراثة الرسول و لا قرابة و لا صهرا و لا نسبا و لا كان لواحد منهم سابقة من سوابقي و لا أثر من آثاري فصيرها شورى بيننا و صير ابنه حاكما علينا و أمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صير الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره و كفى بالصبر على هذه يا أخا اليهود صبرا فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطبها لنفسه و أنا ممسك قد سألوا عن أمري فناظرتهم في أيامي و أيامهم و آثاري و آثارهم و أوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم و ذكرتهم عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)إليهم و تأكيد ما أكده لي من البيعة في أعناقهم دعاهم حب الإمارة و بسط الأيدي و الألسن في الأمر و النهي و الركون إلى الدنيا و الاقتداء بالماضين قبلهم إلى تناول ما يجعل الله عز و جل لهم فإذا خلوت بالواحد منهم ذكرته أيام الله و حذرته ما هو قادم عليه و صائر إليه التمس مني شرطا أن أصيرها له بعدي فلما لم يجدوا مني إلا المحجة البيضاء و الحمل على كتاب الله عز و جل و وصية الرسول من إعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله عز و جل له و منعه ما لم يجعل الله له زووها عني إلى ابن عفان رجل لم يستو به و بواحد ممن حضره حال قط فضلا عمن دونهم لا ببدر التي هي سنام فخرهم و لا غيرها من الم آثر التي أكرم الله عز و جل بها رسوله و من اختصه معه من أهل بيته ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم حتى ظهرت ندامتهم و نكصوا على أعقابهم و أحال بعضهم إلى بعض كل يلوم نفسه و يلوم صاحبه ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى كفروه و تبرءوا منه و مشى إلى أصحابه خاصة و سائر أصحاب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)يستقيلهم من بيعته و يتوب إلى الله تعالى من فلتته فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من أختها و أفظع و أحرى أن لا يصبر عليها فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه لم يكن عندي فيها إلا الصبر على أمض و أبلغ منها و لقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجع عما كان راكب مني يسألني خلع ابن عفان و الوثوب عليه و أخذ حقي و يعطيني صفقته و بيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله عز و جل علي حقي فو الله يا أخا اليهود ما منعني منها إلا الذي منعني من أختيها قبلها و رأيت البقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي و آنس لقلبي من فنائها و علمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى و من غاب من أصحاب محمد أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي و لقد كنت عاهدت الله عز و جل و رسوله أنا و عمي حمزة و أخي جعفر و ابن عمي عبيدة على أمر وفينا به الله عز و جل و رسوله فتقدمني أصحابي و تخلفت بعدهم لما أراد الله تعالى فأنزل الله تعالى فينا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا حمزة و عبيدة و جعفر (عليه السلام)قضوا نحبهم و أنا و الله المنتظر يا أخا اليهود و ما بدلت تبديلا وما سكتني عن ابن عفان و حثني الإمساك إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه ما لن يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله و خلعه فضلا عن الأقارب و أنا في عزلة فصبرت حتى كان ذلك لم أنطق فيه بحرف من لا و لا نعم ثم أتاني اليوم و أنا أعلم الله كاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقال الأموال و المرح في الأرض و علمهم بأن تلك ليست لهم عندي و شديد عادة منتزعة فلما لم يجدوها عندي تعللوا الأعاليل ثم التفت إلى أصحابه فقال أ ليس كذلك قالوا بلى يا أمير المؤمنين .
المصدر : ارشاد القلوب / الشیخ ابو محمد الحسن بن محمد / الجزء الثاني ص 344 - 353