
عن جابر قال قلد أبو بكر الصدقات بقرى المدينة و ضياع فدك رجلا من ثقيف يقال له أشجع بن مزاحم الثقفي و كان شجاعا و كان له أخ قتله ابن أبي طالب في وقعة هوازن و ثقيف فلما خرج الرجل من المدينة جعل أول قصده ضيعة من ضياع أهل البيت تعرف ببانقيا فجاء بغتة و احتوى عليها و على صدقات كانت لعلي (عليه السلام)فوكل بها و تغطرس على أهلها و كان الرجل زنديقا منافقا فابتدر أهل القرية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)برسول يعلمونه مما فرط من الرجل فدعا علي بدابة له تسمى السابح و كان أهداه إليه ابن عم لسيف بن ذي يزن و تعمم بعمامة سوداء و تقلد بسيفين و أجلب إلى دابته المرتجز و أصحب معه الحسين (عليه السلام)و عمار بن ياسر و الفضل بن العباس و عبد الله بن جعفر و عبد الله بن العباس حتى وافى القرية فأنزله عظيم القرية في مسجد يعرف بمسجد القضاء .
ثم وجه أمير المؤمنين بالحسين (عليه السلام)يسأله المسير إليه فصار إليه الحسين فقال أجب أمير المؤمنين فقال و من أمير المؤمنين قال علي (عليه السلام)فقال أمير المؤمنين أبو بكر خلفته بالمدينة فقال الحسين فأجب علي بن أبي طالب قال أنا سلطان و هو من العوام و الحاجة له فليصر هو إلي فقال له الحسين ويلك أ يكون مثل والدي من العوام و مثلك يكون سلطانا قال أجل لأن والدك لم يدخل في بيعة أبي بكر إلا كرها و نحن بايعناه طائعين و كنا له غير كارهين .
فصار الحسين إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)فأعلمه ما كان من قول الرجل فالتفت إلى عمار و قال يا أبا اليقظان سر إليه و الطف له في القول و أسأله أن يصير إلي فإنه من أهل الضلالة و نحن مثل بيت الله يؤتى و لا يأتي فصار إليه و قال له مرحبا يا أخا ثقيف ما الذي أقدمك على مثل أمير المؤمنين في حيازته و حملك على الدخول في مساءته سر إليه و أفصح عن حجتك فانتهره عمار و أفحش له في الكلام .
و كان عمار شديد الغضب فوضع حمائل سيفه في عنقه و مد يده إلى السيف فقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام)الحق عمارا في الساعة يقطعونه فوجه أمير المؤمنين بالجمع و قال لهم لا تهابوه و صيروا به إلي و كان مع الرجل ثلاثون رجلا من جياد قومه فقالوا له ويلك هذا علي بن أبي طالب قتلك و الله و قتل أصحابك عنده دون النقطة فسكت القوم خوفا من أمير المؤمنين (عليه السلام)فسحب الأشجع على وجهه سحبا إلى أمير المؤمنين فقال (عليه السلام)دعوه و لا تعجلوا فإن في العجلة لا تقوم حجج الله و براهينه .
ثم قال أمير المؤمنين للأشجع ويلك بم استحللت أخذ أموال أهل البيت و ما حجتك في ذلك فقال له و أنت فيم استحللت قتل هذا الخلق في كل حق و باطل و إن مرضات صاحبي لهي أحب إلي من أن أتابع موافقتك فقال (عليه السلام)إيها عليك ما أعرف في نفسي إليك ذنبا إلا قتل أخيك يوم هوازن و ليس بمثل هذا الفعل تطلب الثأر فقبحك الله و ترحك فقال له الأشجع بل قبحك و بتر عمرك أو قال ترحك فإن حسدك الخلفاء لا يزال بك حتى يوردك موارد الهلكة و المعاطب و بغيك عليهم و يقصر عن مرادك .
فغضب الفضل بن عباس من قوله ثم تمطى عليه بسيفه فحل عنه و رماه عن جسده بساعده اليمنى فاجتمع أصحابه على الفضل و سل أمير المؤمنين (عليه السلام)سيفه ذا الفقار فلما نظروا إلى بريق عيني الإمام و لمعان ذي الفقار في يده رموا سلاحهم و قالوا الطاعة فقال لهم أمير المؤمنين أف لكم انصرفوا برأس صاحبكم هذا الأصغر إلى صاحبكم الأكبر فما بمثل قتلكم يطلب الثأر و لا تنقضي الأوتار .
فانصرفوا و معهم رأس صاحبهم حتى ألقوه بين يدي أبي بكر فجمع المهاجرين و الأنصار و قال معاشر الناس إن أخاكم الثقفي أطاع الله و رسوله و أولي الأمر منكم فقلدته صدقات المدينة و ما يليها فاعترضه ابن أبي طالب فقتله أشنع قتله و مثل به أعظم مثله و قد خرج في نفر من أصحابه إلى قرى الحجاز فليخرج إليه من شجعانكم من يرده عن سننه و استعدوا له من رباط الخيل و السلاح و ما تهيأ لكم و هو من تعرفونه أنه الداء الذي لا دواء له و الفارس الذي لا نظير له .
قال فسكت القوم مليا كأن الطير على رءوسهم فقال أخرس أنتم أم ذوو ألسن فالتفت إليه رجل من الأعراب يقال له الحجاج بن صخرة و قال له إن سرت أنت إليه سرنا معك أما لو صار إليه جيشك هذا لينحرنهم عن آخرهم كنحر البدن ثم قام آخر فقال أ تعلم إلى من توجهنا إنك توجهنا إلى الجزار الأعظم الذي يخطف الأرواح بسيفه خطفا و الله إن لقاء ملك الموت أسهل و أهون علينا من لقاء علي بن أبي طالب فقال ابن أبي قحافة لا جزيتم من قوم عن إمامهم خيرا إذا ذكر لكم علي بن أبي طالب دارت أعينكم في وجوهكم فأخذتكم سكرات الموت أهكذا يقال لمثلي؟!
قال فالتفت عمر بن الخطاب إلى أبي بكر و قال له ليس لعلي إلا خالد بن الوليد فقال أبو بكر يا أبا سليمان أنت اليوم سيف من سيوف الله و ركن من أركانه و حتف الله على أعدائه و قد شق علي بن أبي طالب عصا هذه الأمة و أتى في نفر من أصحابه على ضياع الحجاز و قد قتل من شيعتنا ليثا صئولا و كهفا منيعا فصر إليه في كثيف من قومك و اسأله أن يدخل الحضرة فقد عفونا عنه و إن نابذك الحرب فجئنا به أسيرا فخرج خالد و معه خمسمائة فارس من أبطال قومه و قد أثقلوا بالسلاح حتى قدموا على أمير المؤمنين (عليه السلام)قال فنظر الفضل بن العباس إلى غبرة الخيل من بعد و قال يا أمير المؤمنين إن ابن أبي قحافة قد وجه إليك بقسطل يدقون الأرض بحوافر الخيل دقا فقال له هون عليك يا ابن العباس و الله لو كانوا صناديد قريش و قبائل حنين و فرسان هوازن لما استوحشت إلا من ضلالتهم .
ثم قام أمير المؤمنين (عليه السلام)فشد على دابته و استلقى تهاونا حتى وافوه و انتبه بصهيل الخيل فقال يا أبا سليمان ما الذي أتى بك إلي قال أتى بي ما أنت أعلم به مني يا أبا الحسن أنت فهم غير مفهوم و عالم غير معلم فما هذه اللوثة التي بدرت منك و النبوة التي قد ظهرت فيك إن كرهت هذا الرجل فليس يكرهك فلا تكن ولايته ثقلا على كاهلك و لا شجى في حلقك فليس بعد الهجرة بينك و بينه خلاف فدع الناس و ما تولوه ضل من ضل و هدى من هدى و لا تفرق بين كلمة مجتمعة و لا تضرم نارا بعد خمودها فإنك إن فعلت ذلك وجدت غبه غير محمود .
قال أمير المؤمنين (عليه السلام)أ تهددني بنفسك يا خالد و بابن أبي قحافة فما بمثلك و بمثله تهديد فدع عنك ترهاتك التي أعرفها منك و اقصد نحو ما وجهك له قال(خالد) فإنه قد تقدم إلي أنك إن رجعت عن سنتك كنت مخصوصا بالكرامة و الحبور و إن أقمت على ما أنت عليه من مخالفة الحق حملتك إليه أسيرا .
قال علي (عليه السلام)يا ابن اللخناء أ تعرف الحق من الباطل و هل مثلك من يحمل مثلي أسيرا يا ابن الرادة عن الإسلام ويلك أ تحسبني مالك بن نويرة الذي قتلته و نكحت امرأته يا خالد جئتني برقة عقلك و اكفهرار وجهك و شموخ أنفك و الله لئن تمطيت بسيفي هذا عليك و على أوغادك لأشبعن من لحومكم عرج الضباع و طلس الذئاب ويلك لست ممن تقتلني أنت و لا صاحبك و إني لأعرف قاتلي و أطلب منيتي صباحا و مساء و ما يحمل مثلك مثلي أسيرا و لو أردت ذلك لقتلتك في فناء هذا المسجد .
فغضب خالد و توعد وعيد الأسد و تروغ روغان الثعلب و قال ما أعداك في المقال و ما مثلك إلا من اتبع قوله بفعله .
عند ذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام)لخالد إذا كان هذا قولك فشأنك و سل عليه سيفه ذا الفقار فلما نظر خالد إلى بريق عيني الإمام و لمعان ذي الفقار في يده نظر إلى الموت عيانا فاستخفى و قال يا أبا الحسن لم نرد هذا فضربه الإمام (عليه السلام)بقفا ذي الفقار على ظهره فنكسه عن دابته و لم يكن أمير المؤمنين ليرد يده إذا رفعها لئلا ينسب إليه الجبن .
و لحق أصحاب خالد من فعل أمير المؤمنين (عليه السلام)هول عجيب و رعب عنيف فقال لهم ما لكم لا تكافحون عن سيدكم و الله لو كان أمركم إلي لتركت رءوسكم و هو أخف على يدي من جنبي الهبيد على أيدي العبيد و على هذا السبيل تقضون مال الفيء أف لكم فقام إليه رجل من القوم يقال له المثنى بن الصباح و كان عاقلا فقال و الله ما جئناك لعداوة بيننا و بينك و لا عن غير معرفة بك و إنا لنعرفك كبيرا و صغيرا و أنت أسد الله في أرضه و سيف نقمته على أعدائه و ما مثلنا من جهل مثلك و نحن أتباع مأمورون و أطواع غير مخالفين فتبا لمن وجهنا إليك أ ما كان له معرفة بيوم بدر و أحد و حنين فاستحى أمير المؤمنين من قول الرجل و ترك الجميع .
و جعل أمير المؤمنين (عليه السلام)يمازح خالدا الذي كان ساكتا لا ينطق بكلمة من ألم الضربة قائلا له ويلك يا خالد ما أطوعك للخائنين الناكثين أما كان لك بيوم الغدير مقنع إذ بدر إليك صاحبك في المسجد حتى كان منك ما كان فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو كان مما رمته أنت و صاحباك ابن أبي قحافة و ابن صهاك شيء لكانا هما أول مقتولين بسيفي هذا و أنت معهما و يفعل الله ما يشاء و لا يزال يحملك على إفساد حالتك عندي فقد تركت الحق على معرفة و جئتني تجوب مفاوز البسابس لتحملني إلى ابن أبي قحافة أسيرا بعد معرفتك أني قاتل عمرو بن عبد ود و مرحب و قالع باب خيبر و أني لمستحي منكم و من قلة عقولكم أ و تزعم أنه قد خفي علي ما تقدم به إليك صاحبك حين استخرجك إلي و أنت تذكره ما كان مني إلى عمرو بن معديكرب و إلى أسيد بن سلمة المخزومي فقال لك ابن قحافة لا تزال تذكر له ذلك إنما ذلك من دعاء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)و قد ذهب ذلك كله و هو الآن أقل من ذلك أ ليس كذلك يا خالد فلو لا ما تقدم به إلى رسول الله لكان لهما مني ما هما أعلم به منك يا خالد أين كان ابن أبي قحافة و أنت تخوض معي المنايا في لجج الموت خوضا و قومك بادرون في الانصراف كالنعجة القوداء و كالديك النافش فاتق الله يا خالد و لا تكن للخائنين رفيقا و لا للظالمين ظهيرا.
فقال يا أبا الحسن إني أعرف ما تقول و ما عدلت العرب و الجماهير عنك إلا طلب دخول آبائهم قديما و تنكل رءوسهم قريبا فراغت عنك روغان الثعالب فيما بين الفجاج و الدكادك و صعوبة إخراج الملك من يدك و هربا من سيفك و ما دعاهم إلى بيعة أبي بكر إلا استلانة جانبه و لين عريكته و أخذهم الأموال من فوق استحقاقهم و لقل اليوم من يميل إلى الحق و أنت قد بعت الآخرة بالدنيا و لو اجتمعت أخلاقك إلى أخلاقهم لما خالفك خالد .
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام)و الله ما أوتي خالد إلا من قبل هذا الخئون الظلوم المفتن ابن صهاك فإنه لا يزال يؤلب على القبائل و يفزعهم مني و يواسيهم من عطاياهم و يذكرهم ما أنساهم الدهر و سيعلم غب أمره إذا فاضت نفسه فقال خالد يا أبا الحسن بحق أخيك لما قطعت هذا من نفسك و صرت إلى منزلك مكرما إذا كان القوم رضوا بالكفاف منك فقال أمير المؤمنين (عليه السلام)لا جزاهم الله عن أنفسهم و لا عن المسلمين خيرا .
قال ثم دعا (عليه السلام)بدابته فاتبعه أصحابه و خالد يحدثه و يضاحكه حتى دخل المدينة فبادر خالد إلى أبي بكر فحدثه بما كان منه فصار أمير المؤمنين(عليه السلام)إلى قبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)ثم صار إلى الروضة فصلى أربع ركعات و دعا و قام يريد الانصراف إلى منزله و كان أبو بكر جالسا في المسجد والعباس جالس إلى جنبه فأقبل أبو بكر على العباس فقال يا أبا الفضل ادع لي ابن أخيك عليا لأعاتبه على ما كان منه إلى الأشجع فقال أبو الفضل أ و ليس قد تقدم إليك صاحبك خالد بترك معاتبته و إني أخاف عليك منه إذا عاتبته ألا تنتصر منه فقال أبو بكر إني أراك يا أبا الفضل تخوفني منه دعني و إياه.
فأما ما كلمني خالد بترك معاتبته فقد رأيته يكلمني بكلام خلاف الذي خرج به إليه و لا شك إلا أنه قد كان منه إليه شيء أفزعه فقال العباس أنت و ذاك يا ابن أبي قحافة فدعاه العباس فجاء أمير المؤمنين فجلس إلى جنب العباس فقال له العباس إن أبا بكر استبطأك و هو يريد أن يسألك بما جرى فقال يا عم لو دعاني هو لما أتيته فقال له أبو بكر يا أبا الحسن ما أرضى لمثلك هذا الفعل قال و أي فعل قال قتلك مسلما بغير حق فما تمل من القتل قد جعلته شعارك و دثارك .
فالتفت إليه أمير المؤمنين (عليه السلام)فقال أما عتابك علي في قتل مسلم فمعاذ الله أن أقتل مسلما بغير حق لأن من وجب عليه القتل رفع عنه اسم الإسلام و أما قتلي الأشجع فإن كان إسلامك كإسلامه فقد فزت فوزا عظيما أقول و ما عذري إلا من الله ما قلته إلا عن بينة من ربي و ما أنت أعلم بالحلال و الحرام مني و ما كان الرجل إلا زنديقا منافقا و إن في منزله صنما من رخام يتمسح به ثم يصير إليك و ما كان من عدل الله تعالى أن يؤاخذني بقتل عبدة الأوثان و الزنادقة .
فافتتح أمير المؤمنين (عليه السلام)بالكلام فحجز بينهما المغيرة بن شعبة و عمار بن ياسر و أقسموا على علي فسكت و على أبي بكر فأمسك ثم أقبل أبو بكر على الفضل بن العباس و قال لو قيدتك بالأشجع لما فعلت مثلها ثم قال كيف أقيدك بمثله و أنت ابن عم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)و غاسله فالتفت إليه العباس فقال دعونا و نحن حكماء بلغ من شأنك أنك تتعرض لولدي و ابن أخي و أنت ابن أبي قحافة بن مرة و نحن بنو عبد المطلب بن هاشم أهل بيت النبوة و أولو الخلافة قد تسميتم بأسمائنا و وثبتم علينا في سلطاننا و قطعتم أرحامنا و منعتم ميراثنا ثم أنتم تزعمون أن لا إرث لنا و أنتم أحق و أولى بهذا الأمر منا فبعدا و سحقا لكم أنى تؤفكون .
ثم انصرف القوم و أخذ العباس بيد علي (عليه السلام)و جعل علي يقول أقسمت عليك يا عم أن لا تتكلم و إن تكلمت فلا تتكلم إلا بما يسره و ليس لهم عندي إلا الصبر كما أمرني نبي الله (صلی الله عليه وآله وسلم)دعهم ما كان لهم يا عم بيوم الغدير مقنع دعهم يستضعفونا جهدهم فإن الله مولانا و هو خير الحاكمين فقال له العباس يا ابن أخي أ ليس قد كفيتك و إن شئت حتى أعود إليه فأعرفه مكانه و أنزع عنه سلطانه فأقسم عليه علي (صلی الله عليه وآله وسلم)فأسكته .
المصدر :
ارشاد القلوب /الشیخ ابو محمد الحسن بن محمد الدیلمی/ الجزء الثاني ص385 - 391
/ج