المجتمعات الإنسانية المعاصرة في ظل المتغيرات الاجتماعية القائمة، والظروف الاقتصادية الجائرة، والتكتلات السياسية المتناحرة، تعاني أزمات عامة ومتنوعة، شملت جميع المجتمعات، وكل الطبقات؛ بحيث توزع أفراد المجتمع الواحد المعاناة العامة، كل حسب موضعه، ومكانه في المجتمع؛ فلئن كان الفقر في بعض المجتمعات يعذب أهله بألم الجوع، ولذع البرد، وشدة المؤونة، فإن الغنى في مجتمعات أخرى يشغل أصحابه بالأمراض العضوية، والأزمات النفسية، فلم يعد دخل الفرد وحده معياراً كافياً لقياس حجم السعادة الإنسانية في مجتمع اليوم؛ فإن تحقيق درجة كافية من السعادة الإنسانية يتطلب اجتماع متغيرات كثيرة: روحية، وأخلاقية، واقتصادية … تحفُّ بالفرد، وتتفاعل فيما بينها، في ظل عدالة ربانية شاملة، تستوعب كل طبقات المجتمع، وجميع مرافق الحياة، بحيث يستمتع كل فرد في المجتمع - أياً كان موضعه - بنصيبه العادل من الحقوق، مقابل عطائه من الواجبات، وعضويته في المجتمع، فلا إجحاف ولا ظلم، ولا استغلال
ولا اضطهاد، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1)
وعلى الرغم من وضوح الوجهة الإسلامية في إعزاز الفرد، وحفظ كرامته، ورفع مكانته : فإن الواقع الاجتماعي القائم يناهض هذه الوجهة، ويسير في غير اتجاهها، وذلك حين يحطُّ على الفرد العادي من أثقال التكاليف الاجتماعية، والأعباء الاقتصادية ما ينوء بحملها ويعجز عن القيام بها في ظل الاختيار، أما حين يضطر للقيام بها، والانصياع لمتطلباتها فإنه قد يقوم بها، وربما يتم له ذلك بنجاح وتفوق، إلا أن ذلك غالباً ما يكون على حساب صحته الجسمية، واتزانه النفسي، وتوافقه الاجتماعي.
إن هذه المعاناة الاجتماعية تعمُّ -في الغالب - جميع فئات المجتمع، إلا أنها حين تنحط بثقلها على فئة الشباب غالباً ما يكون أثرها أبلغ في كيانهم، وعنفها أشد على نفوسهم، ففئة الشباب حين غابت - في ظل طبيعة النظام الاقتصادي المعاصر- عن معترك الحياة الميدانية والعمل والإنتاج، وحُرمت - في ظل المتغيرات الاجتماعية القائمة - من حق الاستقلال الشخصي، والتكوين الأسري : عانت هذه الفئة معاناة شديدة، وكابدت آلاماً نفسية واجتماعية قاسية، في صور متنوعة من الإحباط، واليأس، والضجر. مما قد يسوق بعض الشباب للتعبير عن هذه المعاناة في سلوكيات شاذة من العنف الاجتماعي، والتمرد الأسري، والانفلات الأخلاقي، وربما الغلو والتطرف، يتوجهون بها نحو المجتمع من حولهم، ويعبرون من خلالها عن إنكارهم وانتقادهم، حين هجرهم المجتمع، وأغفل مكانهم، فلا هم أطفال غافلون لاهون، ولا هم رجال عاملون منتجون. إن هذه الصورة المؤلمة التي يعيشها جمهرة الشباب المعاصر، والتي لا يعرفون كيف يعبرون عنها بطريقة صحيحة، والتي لا يعرف طبيعتها كثير من الناس، بل ربما لا يعرفها كثير من المفكرين والباحثين، أو لربما لا يقتنعون بها أصلاً، إن هذه الظروف المؤلمة التي يعيشها الشباب لا يمكن- في الغالب- أن تمر بسلام، دون أن يعاني المجتمع من آلامها، ويكابد من أحزانها في أبنائه وبناته، فالمجتمعات البسيطة التي لم تداهمها الثورات الصناعية، وكذلك كثير من المجتمعات الريفية المعاصرة: لا يعاني فيها الشباب هذه الآلام التي يجدها غالب شباب المدن؛ فالشاب في المجتمعات البسيطة يخرج مباشرة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب، فلا يعرف معاناة المراهقة وأزماتها، فهو منذ الطفولة شخص مهم ومنتج، لا يعرف البطالة الاقتصادية أو الانعزال الاجتماعي، وما أن يبلغ الحلم حتى يدخل مباشرة في عالم الكبار، من خلال الزواج المبكر، وتكوين الأسرة المستقلة، فلا يعرف حينئذ شيئاً عمَّا يحكيه المجتمع المتحضر عن أزمة المراهقة ومعاناتها، مما يدل على أن أزمات المراهقة التي سجلها الباحثون : أزمات حضارية، أفرزتها طبيعة الحضارة الحديثة، وليست أزمات نمو طبيعية، يمر بها كلُّ بالغ.
ولو قُدِّر أن بعض الشباب في المجتمع البسيط حُرم من الإنتاج والاستقلال وتكوين الأسرة - تحت أي ظرف من الظروف - فإن عددهم لا شك سوف يكون قليلاً، ودرجة الانحراف التي يمكن أن تقع من بعضهم سوف تكون أيضاً محدودة، وذلك لطبيعة الحياة الهادئة في المجتمع البسيط، الذي لم تكتنفه حياة الصخب، والفوضى الأخلاقية، والانفلات الاجتماعي الذي أنهك المدن الحضارية، فلا يشعر المجتمع البسيط حينئذٍ بأزمة الشباب، ولا يقلق من احتمال خطر انحرافاتهم، فلو قُدِّر أن انحرف جميعُهم - وهذا بعيد- فإن قلَّة عددهم لا تشكِّل خطراً على المجتمع. ولكن تبقى القضية في غاية الخطورة في حق شباب المدن والمناطق الحضارية حين يغلب على الشباب - فضلاً عن الأطفال- حياة البطالة الاقتصادية، والعزلة الاجتماعية عن عالم الكبار، بحيث يعجز جلُّهم عن الاستقلال الاقتصادية, وتكوين الأسرة قبل الخامسة والعشرين, فيعيش غالب الشباب حالة من البطالة الاقتصادية والجنسية قد تتجاوز العشر سنوات، في ظروف اجتماعية متغيرة، انفتح فيها المجتمع المسلم على غيره من المجتمعات، وتهيأت أسباب الانحراف بكل أنواعها، وأصبح الإعلام بكل وسائله متاحاً بين أيدي الشباب، مع ضعف واضح في جميع المؤسسات التربوية، مما يهيئ بيئة مختلة تظهر فيها السلوكيات الشبابية الشاذة، والانحرافات الأخلاقية القبيحة، فلو قُدِّر أن انحرف نصف الشباب، أو ربعهم - وهذا ليس ببعيد- فإن هذا العدد من الشباب المنحرف كافٍ لإزعاج المجتمع، وإشغاله وإقلاقه.
وفي بلد مثل المملكة العربية السعودية، التي تعد من أكثر الدول العربية والإسلامية محافظة وأمناً : تتزايد فيها الحاجة إلى دور الملاحظة، ورعاية الجانحين، فمنذ عام 1954م والدولة سائرة ومتوسعة في فتح دور لإصلاح الشباب ورعايتهم في المدن المختلفة، بعد أن تفاقمت مشكلاتهم، وتنوعت انحرافاتهم وجرائمهم،وتصبح القضية خطيرة إذا علم أن مجتمعات الخليج في العموم مجتمعات شابة، تغلب فيها فئة الشباب على التركيبة السكانية، حيث يشكل الشباب العدد الأكبر من أفراد المجتمع، بمعنى أن انحراف بعضهم - لاسيما في الظروف الحياة المعاصرة- سوف يشكل خطراً كبيراً على المجتمع، وربما تكون القضية أخطر من هذا وأبلغ حين تشير إحصائيات عام 1413هـ في المملكة العربية السعودية إلى أن نسبة المتزوجين لا تتجاوز 58%، ومن المعلوم أن العلاقة في غاية القوة بين العزوبة والجريمة بأنواعها؛ إذ إن جرائم العزاب - لاسيما في القضايا الأخلاقية - تفوق جرائم المتزوجين، فقد وُجد أن نسبة العزاب من السجناء تصل إلى أكثر من 76%، ومهما يكن الوضع فإن الشاب - في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية القائمة - لا يستطيع الزواج إلا بعد الخامسة والعشرين من عمره، والفتاة لا يمكنها ذلك إلا بعد العشرين، وهذا التأخير في سن الزواج في ظل مفهوم العولمة والانفتاح، والانفلات الأخلاقي: يشكل - بالضرورة - خطراً محدقاً بالمجتمع، ومؤسساته التربوية، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء، إلا المتزوجون، أولئك المطهَّرون، المبرؤن من الخنا"، ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي".
إن الشارع الحكيم حين ربط التكليف الشرعي بحصول البلوغ دلَّ على أن الشاب البالغ قادر على القيام بالتكاليف الشرعية، وهو مسؤول مسؤولية كاملة عن تصرفاته الاختيارية مادام عاقلاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل"، وقد خص الشارع الحكيم مرحلة الشباب بمزيد اهتمام وعناية فهي أخصب مراحل الحياة الإنسانية التي تشمل جميع جوانب النشاط الإنساني، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم". مما يدل- في العموم- على أن مرحلة الشباب مرحلة مهمة في التصوير التربوي الإسلامي، وهي مرحلة تكاليف وعطاء، وليست مرحلة انحراف وبطالة، فكيف يسوغ للمجتمع أن يعزل الشباب عن الحياة الاجتماعية والإنتاج - وقد جرى عليهم القلم - بحجة ضعف الخبرة التعليمية، وكيف يسوغ له أن يمنعهم من التأهُّل لتكوين الأسرة- وقد أصبحوا قادرين على التناسل - بحجة عدم النضج العقلي ؟.
إن الطعن في السن ليس هو دائماً وسيلة الشباب الوحيدة للخبرة والنضج، فكم من كبير في الثلاثين أو الأربعين وهو مع ذلك لا يحسن شيئاً، وكم من شاب غض قد فاق الكبار؛ إنما الخبرة تحصل بالممارسة والمعاطاة، والنضج ينمو بالتجارب والمعاناة.
وبناء على ما تقدم فإن الواقع الاجتماعي يلزم المختصين بإمعان النظر في واقع الشباب المسلم المعاصر، ومعاناته وحاجاته، ويطالبهم بتلمُّس الوسائل التربوية والاقتصادية الصالحة لإعدادهم إعداداً يتوافق مع نظرة الإسلام إليهم باعتبارهم مكلفين شرعاً، ومهيئين فيزيولوجياً للتناسل، ومائلين إلى حبِّ الاستقلال، وقادرين على الكسب والإنتاج، وما لم يسعَ المجتمع من خلال المتخصصين والمسؤولين لحل هذه المشكلة المؤرقة فإن مزيداً من الانحرافات السلوكية والأزمات الاجتماعية سوف يخوضها الشباب، ولن يعيش الشباب وحده هذه المعاناة، وإنما سوف يعانيها المجتمع معه، ويكابد آلامها، يقول الشيخ محمد قطب : "إن مرحلة الشباب الباكر أشد حاجة إلى الرعاية لأنها مرحلة تكوُّن الثمرة المؤدية أي النضج، وما لم تتعهد الثمرة فإن جهد الغرس كله يمكن أن يضيع".
وتتلخص صورة المعاناة في أزمة التوافق عند الشباب المسلم المعاصر بين البلوغ الجنسي وحصول التكليف الشرعي من جهة وبين الاستقلال الاقتصادي والقدرة على الإنتاج من جهة أخرى، مما ترتب على عدم التوافق بينهما حصول أزمات أخلاقية وسلوكية، تهدد المجتمع وأمنه واستقراره، فكان من الضروري إعادة النظر في واقع الحياة الاقتصادية والأنظمة التعليمية؛ بهدف وضع وسائل عملية يمكن من خلالها إعادة التوافق بين البلوغ الجنسي والبلوغ الاقتصادي عند الشباب، بما يحقق مصلحة المجتمع، وسلامته في أهم وأخطر فئاته.
تأهيل الشباب للحياة الاجتماعية
إن التصور الإسلامي لأهمية مكانة الرجل في النظام الاجتماعي يستلزم إعداد الشباب اقتصادياً للقيام بدور القوامة الأسرية، ومهام الرعاية الأبوية، والمشاركة في التنمية العامة، بحيث تقترن عندهم مرحلة البلوغ الجنسي بمرحلة البلوغ الاقتصادي، فما أن يبلغ أحدهم مبلغ الرجال حتى يصبح قادراً - بصورة صحيحة - على الكسب والإنتاج؛ "فإن أزمة الشباب تزداد كلما طال البعد الزمني الذي يفصل بين البلوغ والاستقلال الاقتصادي، فكلما استطاع الشاب أن يحقق لنفسه الاستقلال الاقتصادي وتكوين الأسرة كلما قلَّت فترة تعرضه للأزمات النفسية ". ولكن الواقع الاقتصادي للمجتمعات الحضرية يسير في غير هذا الاتجاه؛ حيث يفرض على الشباب العزوبة إلى ما بعد البلوغ بعشر سنوات أو أكثر فيعيشون حياة البطالة الاقتصادية، التي تسلبهم حقوق الراشدين، وتُضْفي على دورهم الاجتماعي طابع الغموض، فهم ليسوا أطفالاً لكونهم بالغين جنسياً، وليسوا راشدين لكونهم قاصرين اقتصادياً، فهم - بصورة مستمرة وطويلة- بحاجة إلى إشراف الأسرة ورعايتها، كحالهم زمن الطفولة، مما يثير في نفوسهم صراعات حادة بين حاجاتهم الملحَّة، وواقعهم الاجتماعي، فتتكون بالتالي من خلال هذه العوامل المُحْبطة:
الشخصية الاجتماعية الرافضة، التي تُعبِّر عن ذاتها المهزومة في صور مختلفة من السلوك الانتقامي الناقد للمؤسسات الاجتماعية، ومنظوماتها الخلقية، حتى أصبح الإجرام بمظاهره المختلفة مهنة كثير من الشباب في المجتمعات المتحضِّرة؛ بحيث تزيد حدةَّ انحرافهم بصورة مطردة مع زيادة اعتمادهم الاقتصادي على المجتمع، ولاسيما إذا اجتمع إلى هذه الظروف الاقتصادية القاهرة ضعف الإيمان واختلال الأخلاق الناتج عن ضعف التربية : فإن الانحرافات السلوكية تصبح في غاية الحدَّة، وبصورة خاصة بعد أن أثبتت الإحصائيات الواقعية أن البطالة تنتشر بين الفتيان من الشباب وخريجي الجامعات بصورة كبيرة تقلق المجتمع الدولي؛ إذ إن البطالة من العوامل الرئيسة في ارتكاب الجرائم، ثم إن الشاب حين يبلغ الحلم يصبح مخاطباً بالكتاب والسنة، ومكلفاً شرعاً، فكيف يكون مكلفاً ومخاطباً بالوحي، والقضايا العقائدية الكبرى، والمسؤولية العظمى أمام الله تعالى في الوقت الذي يعزله المجتمع عن واقع الحياة العملية، ولا يؤهله للكسب والإنتاج، وتكوين الأسرة، ويتعامل معه على أنه قاصر لا يمكن الاعتماد, عليه وهو - في الحقيقة - يعيش أفضل فترات عطائه، وأقوى مراحل قوته، ومع ذلك يُلاحظ أن الشباب ما بين 15- 25 يشكلون فقط 17.5% إلى 33.9% من القوى العاملة في الوطن العربي، رغم أنهم الفئة الأكبر في المجتمع، فهذا الوضع الاجتماعي المُجحف يفعل فعله في تكوين الشخصية المضطهدة، المتطلعة للفكاك والخلاص لو بعطبها وهلاكها؛ فإن الشاب في المجتمع المعاصر "طريد مجتمع الكبار والصغار، إذا تصرف كطفل سخر منه الكبار، وإذا تصرف كرجل انتقده الرجال أيضاً، وعلاج هذه الحالة يكون بقبول الشاب في مجتمعات الكبار، وإتاحة الفرصة أمامه للاشتراك في نشاطهم، وتحمُّل المسؤوليات التي تتناسب مع قدراته وخبراته". وقد أوصى بهذا المضمون الأعضاء المشاركون في المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية عام 1418هـ، حيث أكَّدوا أهمية دعم اقتصاديات الشباب بما يكفل استقرارهم الاجتماعي والنفسي، ويضمن مشاركتهم الإيجابية في تنمية المجتمع المسلم.
إن حلَّ هذه المعضلة الاجتماعية يتلخص في جانبين مهمين :
الأول: انتظام شؤون الشباب الجنسية من خلال الزواج المبكر، وربطهم بالأسرة والإنجاب، فإن البلوغ الجنسي غالباً لا يتجاوز الخامسة عشرة عند عنصر البشر، وهي سن غير قابلة للتعديل بتقديمها أو تأخيرها، فالحكمة الربانية ربطت بين هذه السن والقدرة على التناسل والتكاثر، فمن العبث الفكري، والمعاندة للفطرة تغافل المجتمع عن حاجة الشباب إلى تكوين الأسرة المستقلة، وتحقيق السكن العائلي، فإن تأخير سن الزواج هو التحدي الأكبر الذي يواجه الشباب المعاصر، فطاقته الجنسية بعد البلوغ تصل منتهاها، وأعلى درجاتها وشدَّتها، وقوتها بالتدريج في تناقص كلما طعن في السن، ووجود هذه الطاقة من شأنه دفع الفرد إلى السعي في إفراغها، والحصول على المتعة؛ إذ هي لم تُجد لتُكْبت، ولتعذِّب أصحابها، وإنما وجدت لتكون الحافز للتناسل والتكاثر، فإذا حصلت الإثارة الجنسية للشاب دون أن يُسكَّن بالإنزال- بأي وسيلة من الوسائل- فإن التوتر والكدر والعنت يمتلكه، وربما ذهب بعقله، فلا يدري ما يصنع؛ ولهذا تكثر الممارسات الجنسية المحرمة في أوساط الشباب بصورة واسعة، حتى استغنى كثير منهم عن مبدأ الزواج حين اكتفى بالممارسات المحرمة، ويقع منهم أيضاً الاغتصاب؛ فإن (60%) من المغتصبين هم دون سن الخامسة والعشرين، والواقع العالمي يشهد بأن الممارسات الجنسية خارج نطاق الزواج الشرعي تبدأ - في كثير من الأحيان - مع البلوغ، منذ الثانية عشرة عند الجنسين، ويحصل من ذلك حالات كثيرة من الإنجاب والإجهاض، فإذا كان الاتصال الجنسي في سن مبكرة أمر حاصل، وواقع قائم بالطرق غير المشروعة، مع العجز شبه التام عن إيقافه، فلماذا لا يتم بالطريق المشروع، وتحت إشراف المجتمع؟ بحيث يتعاون الجميع على تأهيل الشباب للزواج، بكل وسيلة مشروعة ممكنة، فقد أجاز العلماء الأخذ من الزكاة المفروضة بغرض النكاح، فلابد من التعاون في ذلك، وقد جاء في الأثر عن الملهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " زوِّجوا أولادكم إذا بلغوا ولا تحملوا آثامهم ".
الثاني: انخراط الشباب في عمل اقتصادي منتج يحققون من خلاله تطلعاتهم نحو الاستقلال المالي عن الأسرة الأم؛ فإن هناك علاقة بين شعور الشاب بأنه شخص مُنتج وبين شعوره بأهميته في المجتمع، مما ينعكس بصورة إيجابية على اتزانه النفسي، وتوافقه الاجتماعي، وفي الجانب الآخر فإن العلاقة قوية بين البطالة والانحرافات السلوكية المختلفة عند الشباب.
ربط تعليم الشباب العام بسوق العمل
تفتقر أسواق العمل في القطاعين الخاص والعام إلى الأيدي العاملة المدرَّبة، القادرة - بصورة جيدة- على القيام بأنواع المهام والأعمال المهنية المختلفة، والتي تلبي حاجات السوق المتنوعة من المهارات والخدمات بمختلف تصنيفاتها؛ بحيث لا يحتاج خريج التعليم العام لأكثر من أشهر معدودة لاستيعاب العمل، والانخراط الكامل فيه .
كما أن الشاب المتخرج من التعليم العام - هو الآخر- في حاجة ملحَّة إلى أن يكون مقبولاً ضمن القوى العاملة، بحيث يجد مكانه في مؤسسة من المؤسسات الحكومية أو الخاصة، وهذا لا يمكن أن يتحقق له إلا أن يكون قد تأهَّل علمياً وعملياً في التعليم العام بما يخدم سوق العمل ومتطلباته الواقعية، فالحاجة - كما هو ملاحظ - متبادلة بين سوق العمل والتعليم العام، بما يحقق تأهيل الشباب للانخراط المباشر في ميادين العمل المختلفة، والمشاركة في عجلة التنمية الشاملة في المجتمع.
وهذا الربط يمكن تحقيقه من خلال إعداد الشباب عموماً عند إتمام الخامسة عشرة للعمل والإنتاج الفعلي وليس للاستهلاك فقط، بحيث يكونون قادرين على الكسب، والقيام بأنفسهم؛ فإن متوسط سنوات التعليم الإلزامي في الدول العربية لا يتجاوز ثماني سنوات، حسب تقرير الأمم المتحدة لعام 1997م، وهذا يعني أن ابن الرابعة عشرة - تقريباً - يصبح جاهزاً لدخول سوق العمل، ثم إن بلوغ الشاب سن التكليف يُعفي الأب من النفقة عليه، ويُعطي الشاب الإذن بالانطلاق في الحياة، والضرب في الأرضما - لم يكن سفيهاً - لأن البلوغ هو سن القدرة على الكسب، كما أن الميول المهنية عند الشباب تظهر في هذه السن بوضوح . فلا يكون التعليم العام إعداداً للتعليم العالي فحسب، بل إعداداً للحياة العملية والمهنية بالدرجة الأولى؛ فإن من الأهداف العامة للتربية الحديثة : تهيئة الفرد علمياً ومهنياً ليكون قادراً على الكسب؛ لأن القدرة على الكسب من خلال الصناعات نوع من الغنى للشخص؛ ولهذا احتلت متطلبات وحاجات سوق العمل والصناعات في اليابان الحديثة المرتبة الأهم والأكبر في أهداف المنهج الدراسي في التعليم العام، وقد كان التعليم- ولا يزال- هو العنصر الأساس في نهضة غالب دول شرق آسيا . ومن هنا لابد من "إدخال تعديلات جوهرية على التعليم باتجاه جعله أكثر توافقاً مع حاجات التنمية وأسواق العمل، ويأتي في طليعة التعديلات المطلوبة : تعميم التعليم الأساسي، وإدخال العمل اليدوي فيه، وتنويع التعليم الثانوي، وإدخال التدريب المهني في جميع فروعة"، مع التوسع في إكساب الشباب مهارات وخبرات متعددة؛ فإن بعض الدراسات تشير" إلى أن الجيل الصاعد سيتعرض لتبديل وظيفته بمعدل 4 -6 مرات على امتداد حياته المهنية، ويفرض هذا التغيير المستمر في المهارات المطلوبة، وفي الوظائف المعروضة على الأجيال الصاعدة أن تتهيأ بشكل أفضل من خلال امتلاك مرونة كبيرة في اكتساب مهارات وخبرات مستجدة".
وأما التفرغ المأجور للتعليم العالي فيكون للنخبة المتميزة من الطلبة المتفوقين، حيث تتبنَّاهم الدولة لإكمال دراساتهم عبر مراحل التعليم المتقدمة، مع إعطائهم رواتب مجزية تُؤهلهم للاستقلال، ودخول الحياة الاجتماعية بكفاءة . ويُفتح التعليم بعد ذلك لغيرهم ممن دخلوا سوق العمل كأوسع ما يكون بالوسائل التعليمية المختلفة، ولاسيما التعليم عن بعد، والتعليم المسائي، ونحوها من الوسائل الحديثة جنباً إلى جنب مع العمل المهني، فيجمع الشاب الطَّموح - في الوقت نفسه - بين التعليم الذي يحقق طموحه المعرفي، والكسب الذي يُؤهله للقيام على الأسرة بصورة صحيحة؛ فإن الجمع بين الدراسة والعمل يُعتبر معلماً من معالم التعليم الحديث ولاسيما العالي منه، ففي الولايات المتحدة الأمريكية- مثلاً- يجمع غالب طلاب الثانويات بين العمل والدراسة، "وقد أظهرت عدة دراسات أن العمل مدة عشرين ساعة أسبوعياً - نصف ساعات العمل المقررة- قد يكون له تأثير إيجابي في أداء الطالب في الجامعة"، ونحو هذه الساعات من العمل لا يبعد أن يكون لها نفس التأثير الإيجابي لدى الطالب في المرحلة الثانوية أو الإعدادية، ممن يحتاجون للعمل للإنفاق على الأسرة، ولعل مما يؤكد ذلك إعجاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشاب صاحب الحرفة، وكراهيته للشاب ليست له حرفة.
محاربة البطالة في حياة الشباب
تتحقق محاربة البطالة من خلال إسهام الجميع بما فيهم الشباب - كل حسب طاقته - في الإنتاج الاقتصادي العام، ومن ثمَّ يستمتع مع الجميع أيضاً بمغانم الكسب؛ فإن البطالة في الشباب مع كونها عبئاً اقتصادياً يضر بمستوى الإنتاج العام، ويستهلك قوى المنتجين العاملين : فإنها مع ذلك من أوثق العوامل الاقتصادية صلة بالجريمة عند الشباب إضافة إلى أنه من أشد العوامل الاجتماعية تأثيراً في مبدأ الزواج والعلاقات الأسرية، ومن أعظم العوامل ضرراً على الناحيتين الصحيَّتين العقلية والنفسية؛ ولهذا حاربها الإسلام في كل صورها ولو كانت بحجة العبادة، حتى إن عروة بن الزبير رضي الله عنهما لما سُئل عن أشرِّ ما في الدنيا لم يجده في أمر أكثر منه في البطالة؛ ولهذا يكرهها الشباب عموماً ويعانون من أزماتها ضيقاً وشدة، حتى إنهم من فرط بغضهم لها، وأليم معاناتهم منها يفضلون - في كثير من الحالات - العمل أياً كانت صفته ومشقته على البطالة والخمول، خاصة المتزوجون منهم، فإن وجود الزوجة في حياة الشاب من أعظم أسباب انطلاقته الاقتصادية، وحسن أدائه في عمله؛ فقد لُوحظ أن ولاء الموظفين المتزوجين لعملهم أكبر من ولاء غير المتزوجين، ثم إن الزوجة في قدر الله تعالى- مع ما يظهر من كونها عنصراً اجتماعياً مستهلكاً - فإنها مع ذلك من أعظم أسباب الرزق التي يجنيها الشباب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال".
وقد مارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل - باعتباره قائداً للأمة - مسؤولية توفير العمل المنتج للمحتاجين، وذلك حين أتاه رجل يسأل، فوجَّهه الرسول صلى الله عليه وسلم لبيع بعض متاع بيته، وأعانه على ذلك، ثم أمره أن ينفق بعض ذلك المال على أهله، ويشتري بالبعض الآخر فأساً يحتطب بها، ففعل الرجل، وجعل يحتطب ويبيع حتى فتح الله عليه. وفي هذه الممارسة الواقعية من رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة على وجوب تحمل الدولة مسؤولية توفير العمل للمحتاجين القادرين؛ فإن غالب الشباب لا يعرفون سبل توفير العمل، مما قد يوقعهم في سوء اختيار المهن، أو الانخراط في عمل غير مشروع، أو البطالة والفراغ، فهم - في كل الأحوال- في حاجة إلى الإرشاد المهني السليم، حتى يتمكنوا من القيام بأنفسهم، وإعالة أسرهم.
أهمية الدعم الاقتصادي للمتزوجين الجدد
يتطلع الإنسان إلى إشباع حاجاته الفطرية، وتحقيق مطالبه الضرورية، التي تُسكِّن أشواقه، وتحقق له - في الوقت نفسه - مرتبة من الكفاية المرْضية له ولأسرته، فهو- بالفطرة - مُندفع نحو إشباع حاجاته، وتحقيق مطالبه، سواء كان ذلك بالطريق المشروع أو بغيره؛ لذا فإن من الضروري إعطاء الشباب المتزوج ما يكفيه وأسرته؛ بحيث تُدرُّ عليه مهنته المباحة - مهما كانت وضيعة - أجراً يحقق له ولأسرته على الأقل وبصورة دائمة أدنى مراتب الحياة الكريمة، فيُراعى - بالدرجة الأولى- في عطائه المالي حاجته وكفايته بما يتناسب مع مستوى الحياة المعيشية في كل عصر، بحيث يكون الزواج ¬- في حد ذاته - سبباً كافياً لمضاعفة أجره المالي، ومن ثمَّ تُراعى بعد ذلك منزلته الاجتماعية والعلمية، وموقعه من العمل، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً "، وكان عمر رضي الله عنه عند توزيع فيء المسلمين يقول: "… الرجل وعياله، والرجل وحاجته".
ولا يخرج العاطل عن هذا العطاء ما لم يكن خاملاً كسولاً، فقد لا يجد عملاً يناسبه، أو يُقعده المرض، أو تمنعه الإعاقة الجسمية، أو لا يجد الأجر الكافي للإنفاق على أسرته، لاسيما في ظروف الحياة الاقتصادية المعاصرة التي تعتبر عمل الإنسان سلعة من السلع، قابلة للعرض والطلب، ولو أدَّى ذلك إلى انخفاض الأجر إلى ما دون حدِّ الكفاف، مما قد يُحرج الأجير، ويخرجه عن حدِّ العيش الكريم، وربما اندفع تحت ضغط الحاجة إلى الجريمة؛ فقد لُوحظ أن غالب المسجونين من الشباب في بعض الدول العربية من ذوي الدخول المالية المنخفضة. فكل هؤلاء ومن في حكمهم يكفلهم بيت مال المسلمين بما يكفيهم ويغنيهم، من خلال المشروعات الاقتصادية المختلفة، ولاسيما الصغيرة منها، وصناديق الإعانات المتنوعة، والوحدات السكنية المناسبة، كما هو معروف من تاريخ الحضارة الإسلامية، وقائم منذ زمن في أنظمة المجتمعات الغربية الاقتصادية، وبعض المجتمعات الخليجية المعاصرة .
وبناء على ما تقدم يتحقق للشباب ومن هم تحت أيديهم من الزوجات والذرية الأمن الاقتصادي، والسكن الأسري اللذان ينشدهما الإسلام، إلى جانب الاستقرار الاجتماعي الذي تتطلع إليه المجتمعات، في عصر عمَّ فيه التوتر والعنف على جميع المستويات، ولاسيما في أوساط الشباب الحائر، في ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، وتصبح المسألة أكثر تعقيداً وخطراً حين يشكل الشباب الغالبية العظمى من فئات المجتمع، ولاسيما المجتمعات العربية والخليجية، مما يحتم بالضرورة إمعان الفكر والنظر في واقعهم، واتخاذ السبل الكفيلة لحل أزماتهم، وتلبية حاجاتهم بصورة مناسبة وكافية، وما لم تؤخذ قضايا الشباب بالجدية الكافية : فإن مزيداً من التوتر والعنف والغلو والجريمة والانحراف سوف يعاني منه المجتمع، ويذوق من ويلات تفريطه في رعايته لأوسع وأهم فئاته الاجتماعية.
موقف التربية الإسلامية من أزمة الشباب الاقتصادية
يهتم منهج التربية الإسلامية بجميع جوانب الشخصية الإنسانية، بما فيها الجانب الاقتصادي، الذي يعاني الشباب معه أزمات حادّة، سببت عزلهم عن الحياة من جهة، وتأخير زواجهم من جهة أخرى، ويمكن تلخيص موقف التربية الإسلامية من هذه الأزمة في النقاط التالية:
1- يتضمن منهج التربية الإسلامية تصوراً كاملاً عن إعداد الشباب إعداداً متكاملاً من جميع جوانب الشخصية، يتناسب مع طبيعتهم وحاجاتهم، ويحقق لهم تطلعاتهم وطموحاتهم، ويشبع رغباتهم، ليكونوا أعضاء صالحين نافعين في المجتمع، وهذا يوجب على مؤسسات المجتمع - ولاسيما التربوية منها - اعتماد منهج التربية الإسلامية مصدراً رئيساً لإعداد الشباب وتربيتهم، وفق مقتضيات هذا المنهج وتوجيهاته، المستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- يعيش غالب الشباب أزمات اقتصادية واجتماعية شائكة أفرزتها طبيعة الحياة الحضارية الحديثة، والثورات الصناعية المتنامية، التي عزلتهم عن واقع الحياة العملية والإنتاج، وأخَّرت دخولهم عشر سنوات أو أكثر إلى عالم الكبار لصغر السن وعدم الخبرة، مما أدى بهم إلى الشعور بالتفاهة وعدم الأهمية، وهذا قد يدفع بعضهم إلى التعبير عن رفضهم ونقدهم للمجتمع من خلال سلوكيات شاذة من العنف والتمرد والغلو. وهذا الوضع يتطلب بالضرورة إعادة النظر في واقع نظام التعليم العام، بإعادة بنائه من جديد، ليوافق هدف إعداد الشباب للمشاركة الجادة في التنمية، منذ الخامسة عشرة أو نحوها، بحيث يتخرج الشاب قادراً على الإنتاج، ومهيأً لدخول سوق العمل الاقتصادي والمشاركة الجادة في الحياة، وليس مجرد شخص قادر على الدخول إلى الجامعة، واستيعاب موادها الدراسية .
3- أفرزت طبيعة الحياة العصرية المتحضرة أزمة عدم التوافق بين البلوغ الجنسي والقدرة على الإنجاب، وبين البلوغ الاقتصادي والقدرة على الإنتاج، مما فرض على الشباب حياة العزوبة، والبطالة الجنسية لسنوات طويلة يصعب معها لدى غالب الشباب الانضباط الخلقي الكافي أما متغيرات الواقع الاجتماعي، وانحرافاته العامة والشاملة، مما يؤدي إلى سقوط كثير من الشباب في مهاوي الرذائل والقبائح التي يأباها المجتمع المسلم، ومن هنا لابد من إعادة التوافق بين البلوغين الجنسي والاقتصادي من خلال إعادة بناء نظام التعليم ومناهجه لتتوافق نهاية التعليم العام مع دخول الشباب سن التكليف، فيساعدهم على اكتساب المهارة التي تناسب سوق العمل، فيتخرج الشاب شخصاً صالحاً للإنتاج، قادراً على الكسب والإنفاق على الأسرة، مزوداً بالمعارف الضرورية لإقامة شعائر دينه، قادراً - في الوقت نفسه - على مواصلة تعليمه إذا رغب في ذلك عن طريق الوسائل التعليمية المتاحة.
4- تتعارض البطالة- في كل صورها- مع الوجهة التربوية الإسلامية ولو كانت من أجل التفرغ للعبادة، وكثيراً ما تكون عنصراً رئيساً في تكوين شخصية الشاب المنحرف المزعج للمجتمع، وهذا يستوجب بالضرورة تهيئة الظروف التعليمية والاجتماعية والاقتصادية الملائمة لإشغال الشباب - بصورة دائمة - بالعمل الجاد المنتج الذي يدرُّ عليهم المال من جهة، ويحقق طموحاتهم وتطلعاتهم من جهة أخرى، بحيث يشعر الشاب - من خلال العمل المنتج - بأهميته في المجتمع لكونه قد أصبح منتجاً، ويشعر أيضاً بقدرته - باعتباره بالغاً - على القيام بمسؤولياته تجاه ربه لكونه قد أصبح مكلفاً شرعاً، فلا يعيش حالة التناقض التي يحياها غالب الشباب المعاصر بين كونه مخاطباً بالوحي في الكتاب والسنة، ومسؤولاً عن جميع تصرفاته الاختيارية، وبين عزل المجتمع له لكونه قاصراً صغيراً قليل الخبرة .
5- تحطُّ أعباء الحياة المعاصرة ومتطلباتها المختلفة بثقلها على أفراد المجتمع، ولاسيما على الشباب الناشئ، المتطلع إلى العمل وتكوين الأسرة، فلا يجد الشاب من مدخوله الشهري المتوقَّع ما يكفيه وأسرته، مما قد يحدُّ من تطلعات الشباب، ويبدد آمالهم، حتى يعجز أحدهم - أمام هذه المتطلبات الكثير وضعف الدخل - عن القيام على أسرة. وهذا الوضع الاقتصادي المحرج يتطلب من الدولة المسلمة إقامة العدل في وضع حدٍّ أدنى للأجور، بما لا يرهق أرباب الأعمال ولا يحرج الشباب، مع تقديم المعونات الثابتة: المالية والسكنية والعلاجية التي تعين الشباب الناشئ على القيام بأسرهم ضمن الحدِّ الأدنى- على الأقل- للحياة الإنسانية الكريمة .
6- يفرض العمل اليدوي ومهاراته المختلفة وجوده في أسواق العمل المهني القائمة، مما يتطلب خطة تعليمية شاملة تجمع للشباب بين التعليم المعرفي الكافي لمواصلة الدراسة عند الرغبة، وبين المهارات اليدوية الصالحة لدخول سوق العمل، دون فصل بينهما، على أن تتبنى الدولة - من خلال المؤسسات التعليمية- الإنفاق الكامل على نخبة من الشباب المتفوق وأسرهم لإكمال دراستهم نحو مراحل أعلى، مع فتح وسائل التعليم المختلفة بأنواعها المتعددة والمتطورة لباقي الشباب من غير النخبة؛ ليجمعوا بين مواصلة التعليم نحو مراحل متقدمة والعمل الاقتصادي المنتج.
المصدر : من کتاب التربية الاقتصادية
1- النحل:90
/ج