بناء المجتمع العفيف

يُمثِّل الحياء من الناس ركيزة أساساً للحياء من النفس والحياء من الله تعالى , فإذا ما استحى الإنسان من الآخرين امتنع عن فعل القبيح وإتيان النواهي واقتراف الرذائل. وهذا مدخل ومقدّمة للوصول إلى استقباح الفعل لدى النفس فيستحي منها , وإذا ما
Tuesday, January 12, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
بناء المجتمع العفيف
 بناء المجتمع العفيف

 






 

يُمثِّل الحياء من الناس ركيزة أساساً للحياء من النفس والحياء من الله تعالى , فإذا ما استحى الإنسان من الآخرين امتنع عن فعل القبيح وإتيان النواهي واقتراف الرذائل. وهذا مدخل ومقدّمة للوصول إلى استقباح الفعل لدى النفس فيستحي منها , وإذا ما تحوّل هذا السلوك إلى عادة متأصِّلة وممدوحة لديه وتحوّلت إلى ملكة اتّجهت نحو الفضيلة واكتست ثوب الإيمان، فقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "حياء الرجل من نفسه ثمرة الإيمان"(1) ، وينتج عندها حياءٌ من الله تعالى وهو من الإيمان.
للحياء مراتب:الحياء من الله تعالى، الحياء من النفس، والحياء من الناس.
ثمّ إنّه تختلف درجات الحياء لدى الإنسان حسب المرتبة والمنزلة الّتي يمتلكها، والصفات الخلقيّة الّتي يتحلّى بها، فقد يكون الحياء من الآخر تبعاً لمنزلته العلميّة أو مرتبته لدى الناس، كما لو كان عالماً أو مسؤولاً أو ما شابه. فقد يفعل الإنسان القبيح في خلوته لعدم وجود من يراه، لكن يتجنّبها أمام العالِم أو الرئيس الفلانيّ، ويُحاول أن يُظهر نفسه على أجمل صورة وأفضل صفات، وهذا عائد إلى مقدرة الآخر على لومه، لعلمه بأنّ الآخر هو الأكمل منه في الصفات فيفهم مساوىء وقبح الفعل، عندها يكون اللوم أشدّ وآلم، وبالتالي انحطاط منزلته عنده، وهذا ما يُخالف الطبع والميل البشريّ.
ولهذا فإنّ الإنسان يستحيي من الناس ولا يُحبّ أن ينتقصه أحد، ولهذا جاءت الروايات لتؤكِّد ضرورة الحياء من الله تعالى كما يستحيي الشخص من الرجل الصالح من قومه، فعن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "استحيِ من الله استحياءك من صالحي جيرانك فإنّ فيها زيادة اليقين"(2).
وقد يصل المرء من خلال سوء فعله إلى درجة لا يستحيي عندها حتّى من الناس في العلانية، وعندها قد يفعل أيّ قبيح ولا يتورّع عن أيّ ذنب، عندها يصحّ فيه القول: إذا لم تستحيِ فاصنع ما شئت(3).
وعن الإمام علي عليه السلام: "من لم يستحيِ من الناس لم يستحيِ من الله تعالى" (4)، لأنّ الحياء من الناس هو الشكل العلنيّ، والحياء من الله هو الشكل السريّ. وجاء التأكيد من الرسول صلى الله عليه واله وسلم على أهمّيّة الحياء في العلن لأنّه يجرّ إلى الحياء في السرّ: "من لم يستحيِ من الله في العلانية، لم يستحيِ من الله في السرّ"(5).

الحياء من الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام

هذا النوع من الحياء ينبع من الأخلاق العالية الّتي يمتلكها الإنسان حيث يرى أنّ أعماله تُعرض على الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام كلّ يوم أو كلّ يوم اثنين ويوم خميس، وأنّه يسوؤهم القبيح الصادر عن شيعتهم كما وتُسعدهم الأعمال الحسنة الصادرة عنهم أيضاً. فمن لم ير الله تعالى عليه رقيباً وشاهداً فلا يُمكنه أن يرقى إلى رقابة الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام.

العلاقة بين الحياء من النفس والحياء من الله تعالى

قد يكون الحياء من النفس في العلانية، كما قد يكون في الخلوة والسرّ، لأنّها حالة انزجار داخليّة تحثّ المرء على ترك القبيح لكونه قبيحاً، يستقبحه العقل الإنسانيّ ويتنافى مع سلوكه، ولذا فهو يُخالف مروءة الإنسان، وصاحب المروءة والعاقل لا ينحاز عن قواعد العقل، ولذلك فهو يترك كلّ فعل يمسُّ بها، ومن هذه الجهة لا يكون الفعل ناتجاً عن الإيمان بالله تعالى أو الإحساس بالرقابة الإلهيّة. نعم هو مقدّمة ودافع إليه، وهو حسنٌ على كلّ حال واليه أشار الرسول بقوله: "الحياء خير كلّه"(6).
فالحياء من الله يحتاج إلى برنامج تدريبيّ يبدأ من الحياء من النفس، إذ كلّما استطاع الإنسان أن يفوز بالحياء من نفسه، وهو حياء في السرّ والخلوة، نجح حتماً في الحياء من الله الّذي هو حياءٌ في السرّ أيضاً. ويحتاج الأمر إلى مراقبة شديدة للنفس ومحاسبتها، كي لا تقع في المعاصي والأفعال القبيحة الّتي تتنافى مع العقل والشرع. ومن هنا كان جهاد النفس هو الجهاد الأكبر. وقد أشارت الروايات إلى أنّ هذا النوع من الحياء يمحو الخطايا والذنوب، فقد جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا، وأيضاً هو أفضل الحياء"(7).
فملاحظة وشعور الإنسان بكون الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد، وأنّه يقهر العباد بقدرته، حيٌّ قيّوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وغيرها من الآيات والمطالب الّتي تصف الله تعالى بأنّه حاضر غير غائب، كلّ هذا مساعد على إيجاد ملكة لدى الإنسان تُنمّي لديه الشعور برقابة الله تعالى، فما يكون منه إلّا الحياء منه تعالى في السرّ كما يستحيي منه ويخافه في العلن.

الحثُّ على عفّة البطن والفرج ومصاديقهما

كسر شهوتي البطن والفرج:تُعتبر عفّة البطن والفرج والسيطرة عليهما من أفضل العبادات، فقد جاء عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج" (8)، بل لم يُعبد الله بأفضل من هذه العفّة، كما جاء عنه عليه السلام: "ما من عبادة أفضل عند الله من عفّة بطن وفرج"(9).
فقد اهتمّ الإسلام كثيراً بهذه المسألة، وجعل غيرة الرجل على عرضه علامة على شخصيّته المتّزنة والمؤمنة. وقد جُعلتا أفضل عبادة، لأنّ الذنوب تنشط عندما تكون البطن مليئة، فقد جاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم : "أكثر ما تلج به أمّتي النار الأجوفان: البطن والفرج"(10).
فشهوة البطن لا تسمح للإنسان في التفكير المشروع والمنظّم لتحصيل الغذاء ورعاية حقوق الآخرين، وتجعله حاضراً للقيام بأيِّ فعل حتّى اقتراف الخطايا والذنوب في سبيل إرضائها، أضف إلى أنّها مصدر وسبب للكثير من الأمراض الجسميّة والأخلاقيّة إلى درجة تُصبح معها معبوده فتتحكّم في جميع سلوكيّاته.
فقد جاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم : "من وقي شرّ بطنه ولسانه وفرجه فقد ُوقي من جميع البلايا"(11) ، وتهذيب هاتين الشهوتين يوجب غفران الذنوب كما ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "أيُّما أمرىء اشتهى شهوة فردَّ شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له"(12).

كيفيّة التحرُّر من أسر شهوة البطن

هناك مجموعة من الإرشادات تُساعد على التحرُّر من شهوة البطن نورد منها ما يلي:
1-أن يكون الطعام حلالاً: يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾(13). يُقرن الله تعالى أكل الطيّبات بوجوب الشكر له تعالى.
ويذكر في آية أخرى عدم تحريم ما أحلّ الله للناس، للتأكيد على حلّيته للمؤمنين. ونهى تعالى عن الاعتداء وتجاوز حقوق الآخرين، بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(14).
والمراد من الطعام الحلال هنا هو كلّ ما حاز على هذه الشروط:ما حصل من كدّ وكسب الإنسان وتعبه، فقد جاء في الرواية أنّ الكادَّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله.
أن يكون المال قد أُخرجت الحقوق منه، مثل الزكاة والخمس.
أن يكون الطعام حائزاً على الوجه الشرعيّ، كأن يكون مذبوحاً على الطريقة الشرعيّة ـ إذا كان لحماًـ.
أن يكون طاهراً من الخبث والنجاسات، وكلّ ذلك مذكور بشكل مفصّل في أبواب الفقه.
2- الأكل عند الجوع وعدم الإكثار منه: جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال للحسن عليه السلام: "ألا أُعلمك أربع خصال تستغني بها عن الطبِّ؟ قال: بلى، قال: لا تجلس على الطعام إلّا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلّا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطبِّ"(15).
ينبغي للإنسان أن يتدرّب على الإقلال من الطعام شيئاً فشيئاً، وأن يكون تناوله لطعامه بما يرفع به جوعه وأن لا يأكل حتّى التخمة فإنّها من الشيطان.
والمراد من كسر شهوة البطن، هو اعتدالها، واليه أشار القران الكريم بقوله تعالى: ﴿... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (16)، وجاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "قلّة الأكل من العفاف وكثرته من الإسراف"(17).
فإذا ما زال الجوع عن الإنسان، ولم يأكل حتّى الشبع، تيسّرت له العبادة والفكر والقدرة على العمل, فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب وهيجان الشهوة"(18).
3- التعوُّد على أخذ الحاجة من الطعام:جُعل الطعام من أجل رفع الجوع وإزالة التعب والضعف عن الإنسان، ولهذا من المهمّ جدّاً أن يتعوّد الإنسان على تناول الطعام عند حاجته إليه فقط، لا كلّما عرض له أو حصل عليه، وأن لا يتناوله إلّا عند الجوع، جاء في الوسائل عن عليّ بن حديد رفعه قال: "قام عيسى بن مريم خطيباً، فقال: يا بني اسرائيل! لا تأكلوا حتّى تجوعوا، وإذا جعتم فكلوا، ولا تشبعوا، فإنّكم إذا شبعتم غلظت رقابكم، وسمنت جنوبكم، ونسيتم ربَّكم"(19). ولتكن السياسة والضابطة الّتي تحكم سلوك الفرد هي استخدام الطعام من أجل البقاء على قيد الحياة لا العكس: "كل لتعش ولا تعش لتأكل"، وعلى هذا النحو كانت سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم والأئمّة عليهم السلام ، فقد جاء عن العيص بن القاسم قال: قُلت للصادق عليه السلام حديث يُروى عن أبيك عليه السلام أنّه قال: "ما شبع رسول الله من خبز برّ قطّ، أهو صحيح؟ فقال: لا، ما أكل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خبز برّ قطّ ولا شبع من خبز شعير قطّ"(20).
4- الالتزام بوقت الأكل:حدّدت الروايات للأكل وقتين لا أكثر أي وجبتين في اليوم الواحد، واحدة في الصباح وأخرى في المساء (وجبتا الفطور والعشاء)، فقد روى أبو سعيد الخدري: "أنّه كان صلى الله عليه واله وسلم إذا تغدّى(21) لم يتعشَّ وإذا تعشّى لم يتغدَّ"(22).
وقد جاء في الكافي أنّ شهاب بن عبد ربّه قال: "شكوت إلى أبي عبد الله عليه السلام ما ألقى من الأوجاع والتخم فقال لي: "تغدَّ وتعشَّ ولا تأكل بينهما شيئاً فإنّ فيه فساد البدن. أما سمعت الله تعالى يقول: ﴿لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ "(23)
كما أنّه يوجد تأكيد على عدم ترك العشاء ولو بشقّ تمرة، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ترك العشاء مهرمة"(24). وقد ورد عن بعض الأهوازيّين عن الإمام الرضا عليه السلام: "قال إنّ في الجسد عرقاً يُقال له العشاء لم يزل يدعو عليه ذلك العرق إلى أن يُصبح يقول: أجاعك الله كما أجعتني أظمأك الله كما أظمأتني فلا يدعن أحدكم العشاء ولو بلقمة من خبز أو شربة ماء"(25). وتدلُّ الأخبار على استحباب تناول طعام العشاء لا سيّما للشيخ فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الشيخ لا يدع العشاء ولو بلقمة".
لكن يُكره أن ينام المرء على بطن مليئة بالطعام.
ورد في الأحاديث الشريفة كراهيّة الامتلاء من الطعام سواء كان ليلاً أم نهاراً.
فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قوله: "كثرة الأكل مكروه"(26).
وكذا عنه عليه السلام: "ما من شيء أبغض إلى الله من بطن مملوء"(27).
بل إنّ البطن المملوء يمنع الإنسان من الكمالات المعنويّة والدخول في ملكوت السماوات، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "لا يدخل ملكوت السماوات قلب من ملأ بطنه"(28).
5- أن لا يكون الطعام أكبر همِّ الإنسان:أن لا يكون همّه الدائم أكل اللحم والطعام اللذيذ، فإنّ كثرة أكل اللحم تورث قساوة القلب. كما أنّ تركه أربعين يوماً يُسبِّب سوء الخلق(29) لأنّه سيّد الطعام فلا ينبغي تركه. لكن من المهمّ أن يُنظِّم المرء طريقة أكله وأن يتخلّله طعامٌ غيره، لحاجة الجسم إلى هذا التنوُّع.

كيفيّة التحرّر من شهوة الفرج

إنّ شهوة الفرج هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، وتمتاز بأنّها قوّة عنيدة لا تهدأ بسرعة، بخلاف القوّة الغضبيّة الّتي تمتاز بشدّتها من ناحية وبأنّها سريعة الهدوء من ناحية أخرى.
"وما دامت القوّة العاقلة تعجز عن الوقوف بوجه القوّة الشهويّة العنيدة الطويلة الأثر، فنستعين بالقوّة الغضبيّة الشديدة كالنار المحرقة للوقوف بوجهها والحدّ من أثرها... غير أنّ هذا لا يتمّ إلّا بأن تكون الغضبيّة تحت إمرة القوّة العاقلة"(30).
وإنّ أكثر الناس يمتنع عن فعل مقتضاها حياءاً وخشية إمّا لعجز أو خوف أو لحياء من الآخرين, أو للمحافظة على جسمه، ولا يُعدّ هذا ثواباً وأجراً، نعم من حيث كونها تدفع الزنا فإنّ إثمه يندفع عن الإنسان بأيِّ سبب كان تركه. وإنّما الفضل والثواب فيما لو تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة عليه، وارتفاع الموانع، وتيسير الأسباب لا سيّما عند صدق الشهوة وهذه درجة الصدّيقين ولهذا قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "من عشق فعفّ فكتم فمات فهوشهيد"(31).
كما أنّ ما حصل مع النبيّ يوسف عليه السلام وامتناعه عن زليخا مع القدرة ورغبتها الجامحة، هو من أحسن الورع والعفّة حيث نال بذلك ثناء الله تعالى في كتابه الكريم:﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾(32).

كيف تَكسر شهوة الفرج وتروِّضها

1- الزواج
جُعِل الزواج وسيلة لتهذيب وإشباع هذه الشهوة، وقد جُعِلت شهوة الجنس في الإنسان من أجل:
حفظ واستمرار النسل البشريّ، ولولا ذلك لما أقدم الإنسان على الزواج، ولما تحمّل العديد من المشاكل والصعوبات المترتّبة على وجود الولد والذريّة.
توفير هذا العمل من أجل تكامل الإنسان في الجوانب المرتبطة بإشباع الشهوة الجنسيّة، ونقصد بها هنا المسائل المتعلِّقة بالعفّة.
ولهذا حثّ الإسلام على الزواج وإليه أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(33) ، ويُقصد بالأيامى هنا العزّاب أي من لا أزواج لهم. وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "إذا تزوّج العبد فقد استكمل نصف الدِّين فليتقّ الله في النصف الباقي"(34).
وقد جُعِلت تحرُّكات المتزوِّج مورد رضا الله تعالى خلافاً لِغير المتزوِّج، وكذلك عبادته، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام "ركعتان يُصلِّيهما متزوِّج أفضل من سبعين ركعة يُصلِّيها غير متزوِّج"(35). وجُعِل التزويج أحبّ بناء إلى الله تعالى كما ذكر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "ما بُني في الإسلام بناء أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ وأعزّ من التزويج".
2- غضُّ البصر
أولى الله تعالى غضّ البصر أهمّيّة خاصّة بغية إرساء وبناء قواعد متينة لتأسيس مجتمع عفيف، ولهذا نرى أنّه فصّل في الخطاب بين الذكر والأنثى عندما أمر بغضِّ البصر، للدلالة والإشارة إلى أهمّيّة الغضِّ ولما يتركه من آثار إيجابيّة على بناء النفس والمجتمع. والتكليف موجّه لكلٍّ من الرجل والمرأة على السواء، وقد بدأ توجيه الخطاب إلى الرجال قبل النساء تأكيداً منه على الدور والمسؤوليّة الواقعة على عاتقهم, وكأنّ بناء المجتمع العفيف يبدأ من غضِّ بصر الرجال أوّلاً.
يقول تعالى في خطابهم: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (36). ثمّ أردف تعالى بعدها مباشرة الخطاب الخاصّ بالنساء مشيراً إلى نفس الحكم ومضيفاً إليه أموراً أخرى تتعلّق بالمرأة: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (37).
"والغضُّ إطباق الجفن على الجفن، والأبصار جمع بصر، وهو العضو الناظر، ومن هنا يظهر أن "من" في "من أبصارهم" لابتداء الغاية لا مزيدة ولا للجنس ولا للتبعيض..., والمعنى يأتوا بالغضّ آخذاً من أبصارهم"(38).
وهو نهي عن النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه من الأجنبيّة. وأمّا المراد من "يحفظوا فروجهم" فهو سترها عن النظر، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ كلّ آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلّا هذه الآية فهي من النظر"(39).
فإنّ النظر مبدأ الزنا، وحفظه مهمّ، وهو عسير من حيث قد يُستهان به ولا يعظم الخوف منه، والآفّات كلّها تنشأ منه، فالنظرة الأولى إذا لم يقصدها لا يؤاخذ عليها والمعاودة يؤاخذ بها، قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "لك الأولى وعليك الثانية، أي النظرة"(40).
3-اجتناب مثيرات الشهوة
وهي عديدة نذكر منها على سبيل المثال
أ- وسائل الإعلام:الّتي تبثّ البرامج غير المحتشمة والمُحِلَّة أخلاقيّاً سواء كانت على شاشة التلفاز أم الإنترنت، وكذا الفضائيّات السامّة الّتي غزت المنازل والنفوس وعشّشت في القلوب الشابّة. فعلى الإنسان اجتناب هذه الوسائل أو تنظيمها بحيث تكون تحت رقابة ممنهجة بغية الاستفادة من البرامج المفيدة منها.
وكذا الوسائل الأخرى كالصحف والمجلّات الخليعة والقصص الإباحيّة وغيرها.
ب - التفريق في المضاجع أثناء المبيت:إنّ لهذا الموضوع أثراً هامّاً على الحياة الجنسيّة لكلٍّ من الذكر والأنثى، حيث يعتبر ذهن الطفل بمثابة لاقط لكلِّ الصور والمشاهد الّتي تمرّ عليه في بداية عمره. وقد أمر الشرع المقدّس بالتفريق في المضاجع بين الذكور والإناث لأجل أن ينشؤوا نشأة عفيفة محتشمة بعيدة عن كلِّ موجبات الإثارة وتحريك الشهوات الباطنيّة.
ج-الأكل المتوازن:من المهمّ الالتفات إلى نوع الأكل الّذي يتناوله الإنسان نفسه، وأن يُحاول الالتزام بنظام غذائيّ محدّد ومنظّم، فإنّ بعض الأطعمة من شأنها تهييج القدرة الجنسيّة وتأجيجها فعليه تجنّب هذه الأطعمة ممّا هو مذكور في محلِّه.
د-التقيُّد بالالتزام بالحجاب (الستر) الشرعيّ وترك الزينة أمام الأجانب:ممّا لا شكّ فيه أن التعرّي والتزيّن من شأنهما تحريك الغريزة الجنسيّة، بحيث ينجرّ إليها الشباب، ولهذا جاء الأمر الإلهيّ بوجوب ستر المرأة لكامل بدنها وتركها للزينة بالخصوص كونها عنصر إثارة للرجل. إلّا أنّه لا يُراد من الحجاب هنا هو القماش الّذي تضعه المرأة وتُغطّي به جسدها الظاهريّ فحسب، فهو وإن كان مهمّاً وضروريّاً وأساساً إلّا أنّه ليس هو الواجب كلّه من الحجاب، بل هو مطلوب بالإضافة إلى الحجاب الباطنيّ والّذي يتمثّل بالعفاف الباطنيّ للمرأة وهو الأهمّ لها.
فالحجاب بالمفهوم القرآنيّ لا يكتمل إلّا بمجموعة مفردات يتشكّل منها الحجاب الكامل
- ستر كامل الجسد بالجلباب: وهو اللباس الفضفاض الواسع كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾(41).
- إسدال الخمار: وهو المقنعة الّتي توضع على الرأس وتُغطّي الكتفين والرقبة والشقّ من الصدر: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾(42).
- عدم إبداء الزينة: باستثناء الظاهريّة منها، وهي الكفّان والوجه، شرط أن لا يكون عليها زينة خارجيّة من مساحيق التجميل(طلاء الأظافر، ومكياج، حلي)، وغير ذلك.
وكذلك عدم إظهار الزينة الباطنيّة، وهي كلّ ما عدا الوجه والكفّين من الجسد للأجانب ما عدا طائفة من الناس وهم اثنا عشر صنفاً من المحارم وغيرهم، والّتي حدّدها وذكرها القرآن الكريم: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(43).
- غضُّ البصر: سواء كان النظر من الرجال إلى النساء وهو أساس أو العكس، إذ إنّ الحجاب لا يُمكن أن يتحقّق إلّا بغضِّ الطرف من الجنسين وعدم النظر بشهوة وريبة إلى بعضهما بعضاً، والرجل له دور في إرساء الحجاب لدى المرأة، وإيجاد العفّة. لأنّ النظر إلى الجنس الآخر يتنافى والحجاب الباطنيّ. يقول تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾(44).
- عدم الضرب بالأرجل: ويكون ذلك عادةً بالخلخال الّذي يُخرج صوتاً يعلم منه الآخر بوجود زينة خفيّة لدى المرأة، ويُفهم من الآية أنّ النهي ليس وارداً على أصل الخلخال، بل إلى الخلخال مع هذه الصفة، فلو وُجد خلخال لا يترك صوتاً حين المشي فلا إشكال في لبسه طبعاً ما لم يظهر للأجنبيّ. وبذلك يدخل تحت هذا العنوان كلّ ما من شأنه أن يترك صوتاً ويجلب نظر الرجال وانتباههم للمرأة أمثال الحذاء الخاصّ بالمرأة ذي الكعب العالي(السكربينة).
-عدم اختلاط الرجل بالمرأة والعكس: لا شكّ في أنّ مجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة لا يُمكنها الفصل التامّ بين الرجل والمرأة، لأنّ المرأة اليوم أخذت دوراً اجتماعيّاً وهي تُشارك الرجل في العمل. إلّا أنّه يُمكن الاتّقاء والاجتناب عن الموارد غير الضروريّة, وبهذا يُمكن للمجتمع أن يحصل على التقوى الجنسيّة وعلى العفّة الاجتماعيّة وطهارتها.
وإذا ما حصل الاختلاط بين الرجل والمرأة لضرورة ما، يجب أن يُقيَّد المجلس بمجموعة شروط: عدم الضحك والمزاح: الّذي يُزيل الحجاب والعفّة بينهما، وشيئاً فشيئاً تنكسر وتتمزّق الحشمة، وتقع المعصية بدرجاتها، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم:
"من فاكه امرأة لا يملكها حبسها الله بكلِّ كلمة في الدنيا ألف عام" (45)، والمفاكهة هي الممازحة.
اجتناب الخلوة التامّة: كأن يكونا في مكان خاصٍّ لا ثالث معهما، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يخلو بامرأة رجل فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما"(46).
لذلك ينبغي أن يكون جلوس الرجل والمرأة بمرأى الآخرين، وأن تقتصر الجلسة على الأمور الضروريّة، وأن لا تطول مدّتها. وقد أشار الإمام الخمينيّ إلى حرمة الخلوة بقوله: "إذا اجتمع الرجل والمرأة في محلّ خلوة، بحيث لا يوجد أحد هناك ولا يتمكّن الغير من الدخول فإن كانا يخافان الوقوع في الحرام فيجب أن يتركا المكان"(47).
ترك الزينة والتبرُّج والروائح العطرة: لأنّ كلّ ذلك من شأنه أن يُحرِّك ويُثير الطرف الآخر.
عدم اللّين في الكلام: فإنّ الخضوع في القول كما عبّر القرآن الكريم، وهو من نوع الميوعة والغنج الكلاميّ يحصل بطريقة خاصّة في الكلام، من شأنه أن يوقع الرجل في شرك المرأة. ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾(48).
وهذا النهي ليس موجّهاً إلى نساء النبيّ فقط، بل يعمّ ليشمل نساء المؤمنين، لأنّ القرآن كما أشار إلى ذلك الأئمّة عليهم السلام: أُنزل من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

موارد العفّة

العفّة المالية - عفّة البطن - عفّة الفرج - عفّة الحجاب
1-العفّة في المسائل المادّيّة:وتصدق على الفقير الّذي لا يملك مؤونة سنته وتمسّه الحاجة المادّيّة، فيُخفيها ولا يُظهرها للآخرين تعفُّفاً، ومن شدّة ضبطه لنفسه يحسبه الناس غنيّاً. وقد مدح الله تعالى هذه الطائفة من الناس بقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (49).
تُشير الآية إلى نقطتين :
الأولى: تتحدّث عن أفضل موارد الإنفاق، حيث يُطلب من المؤمنين أن ينفقوا على الفقراء الّذين هاجروا من بيوتهم وأوطانهم, ولم يستطيعوا تأمين نفقاتهم عن طريق الجهاد في سبيل الله أو السفر للتجارة والكسب ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً﴾...
الثانية: تُشير إلى خصوصيّة خاصّة بالفقراء وهي أنّهم لشدّة تعفُّفهم وضبطهم لأنفسهم عن إظهار حاجتهم المادّيّة وعدم الشكوى إلى الناس، يحسبهم الناس أغنياء ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ﴾...
ويتميّزون بصفة أخرى أيضاً، وهي امتناعهم عن سؤال الناس إلحافاً، أي مهما أمكنهم حتّى لو اشتدّ بهم الحال واضطرّوا إلى المسألة، فإنّهم يُفضِّلون اقتراض المال لقضاء حاجاتهم على السؤال من الناس. ويُشير الإمام عليّ عليه السلام إلى ذلك بأنّ: "العفاف زينة الفقراء"(50).
ومن المهمّ أن يتحلّى المرء بالقناعة بما لديه، ولا يطمع بما في أيدي الناس وبذلك تسهل عليه الأمور ويرتاح باله ونفسه، ففي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "ألا إنّ القناعة وغلبة الشهوة من أكبر العفاف"(51).
2- العفّة عن الشهوة: ويبرز هذا النوع من العفّة في مورد عفّة الفرج وتحصينه من الوقوع في الحرام. وذكر القرآن الكريم شخصيّات ضرب بهم المثل في العفّة والطهارة، والقدرة على ضبط النفس مقابل مغريات الشهوة والمثيرات الخارجيّة، وأبرز هذه الشخصيّات السيّدة مريم من النساء، والنبيّ يوسف عليه السلام من الرجال.
وتحدّث عن طهارة مريم وعفّتها بقوله تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(52). وهذا مدح لها بالعفّة والصيانة، وردٌّ لما اتّهمها به اليهود، والدليل قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾(53).
وأمّا النبيّ يوسف عليه السلام فإنّ القرآن الكريم يتحدّث عن عفّته وطهارته في أصعب وأشدّ الظروف، حيث توفّرت فيها جميع أسباب الوقوع بالإثم والمعصية. ولكنّه عليه السلام ثبت وحفظ نفسه أمام كلّ هذه المثيرات والتحدّيات، واستعاذ بالله تعالى وخرج منتصراً على
الشيطان. ويذكر القرآن الكريم قصّته مع امرأة العزيز زليخا، حيث أرادت به كيداً: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾(54).
ولقد سدّده الله تعالى بالبرهان الذي رآه ﴿لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾... وجعل عاقبة أمره ونتيجة نجاحه في هذا الامتحان الإلهيّ ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾(55) ، والمُخلَص هو الشخص الّذي يعجز عنه الشيطان وليس له عليه سبيل، ﴿وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(56).
3-عفّة الحجاب والتشديد فيه:المقصود من الحجاب هو الستر الكامل لجسد المرأة. وقد مرّ أنّ مفهومه لا يتحدّد من خلال آية قرآنيّة واحدة، بل هو يتألّف من الستر الخارجيّ لجسد المرأة والحجاب الباطنيّ وهو إشارة إلى عفّتها. ويظهر هذان الحجابان في العديد من الآيات الشريفة، والّتي تُشير إلى أنّ الحجاب علامة خارجيّة على عفّة الفتاة. وقد أوجب الله الستر على المرأة دون الرجل لأنّها بطبعها تميل نحو التجمُّل وهذا خاصٌّ بها، فالرجل صيدٌ والمرأة صائد بلحاظ القلوب. ويتولّد فيها ميل نحو الظهور تبتغي بذلك إغواء الرجل وإيقاعه في شباكها.
ولكي تُمارس المرأة دورها في المجتمع لا بُدّ لها من الاستفادة من هذا الحجاب لوضع حدٍّ وحاجز بين المرأة نفسها والرجل ولكي تكون حركاتها متّصفة بالوقار والاتزان والعفّة، وأن تتحرّك على أساس إنسانيّتها لا أنوثتها.
ولهذا قد برز فرض وجوب الحجاب على المرأة، وظهر التشديد فيه من أجل الحدّ من الفساد والتحلُّل الأخلاقيّ الّذي يُصيب المجتمعات فيما لو ارتفع هذا الحجاب.
فالحجاب الّذي يُمثِّل مجموعة مفردات كما أشرنا سابقاً (الجلباب، الخمار، عدم إظهار الزينة الظاهريّة إلّا ما ظهر منها، وعدم إبداء الزينة الباطنيّة إلا للمحارم،عدم الضرب بالخلخال، غضّ البصر، عدم اللحن في القول...)، كلّها تدلّ على أنّ مجموع الحجاب الظاهريّ هو المؤلّف من اللباس والستر لكامل جسد المرأة، والحجاب الباطنيّ الّذي يُمثِّل لباس العفّة والتعفُّف.
وقد أظهر الإسلام اهتماماً بالغاً في الحجاب حتّى في الموارد المستثناة كما في القواعد أي العجازات من النساء: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(57).
مع أنّ القرآن الكريم أجاز لهنّ وضع الحجاب عن أنفسهنّ، ورفعه عن بعض مواضع الجسد إلّا أنّه أشار إلى أنّ التعفُّف والتشدُّد به هو خير لهنّ وأفضل.

الخاتمة

ما قُدّم يُعتبر غيضاً من فيض. وهو مسؤوليّة على عاتق كلّ فرد أن يُشارك في بناء النفس من أجل بناء المجتمع، والعمل بشكل دؤوب لتتأصّل تلك الصفات الأخلاقيّة في أنفسنا دون استثناء ذكراً كان أم أنثى، إذ إنّ الدعوة إلى الاتّصاف بالعفّة والحياء وبكلّ الصفات الأخلاقيّة الفاضلة هي دعوة للإنسان بشكل عامّ.

وقد تبيّن ممّا مرّ من هذا البحث بعض النتائج

1- أنّ هناك علاقة ثلاثيّة ومتبادلة أحياناً بين العقل والإيمان والحياء، وأنّ إيمان المرء وعقله يكملان أو ينقصان بمقدار ما يتّصف به من الحياء.
2- أنّ شخصيّة الإنسان تُبنى وتتكامل بالصفات والملكات الأخلاقيّة، وأنّ تفاوت إنسانيّة كلّ إنسان إنّما تكون على حسبها في الدنيا والآخرة.
3- أنّ الإسلام العزيز دعا الناس إلى بناء مجتمع عفيف من خلال الخطاب القرآني العام الموجّه تارة إلى المؤمنين وأخرى إلى الإنسان بشكل عامّ، ولا يتمّ هذا البناء إلّا ببناء الفرد العفيف الّذي يتّصف بتلك الصفات.
4- أنّ أهل البيت عليهم السلام رسموا لنا منهاجاً وطريقاً لكيفيّة بناء الفرد العفيف ضمن سلسلة من الآداب والسلوكيّات الخاصّة بشهوتي الفرج والبطن وتنظيمهما بما يرضاه الله تعالى.
المصادر :
1- ميزان الحكمة, ج2, ص 563.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص 568.
3- م. ن، ج2، ص 567.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص 566.
5- م. ن، ج2، ص566.
6- بحار الأنوار, ج 71, ص 335.
7- ميزان الحكمة، ج2، ص 568.
8- أصول الكافي, ج2 , ص84.
9- م.ن, ص 85.
10- ميزان الحكمة, ج6, ص361، نقلاً عن بحار الأنوار ج 71, ص 269.
11- الأخلاق في القرآن, ج 2, ص299، نقلاً عن معراج السعادة, ص310.
12- الكاشاني , محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء.
13- البقرة: 172.
14- المائدة : 87.
15- وسائل الشيعة، ج24، ص 245.
16- الأعراف: 31.
17- منتخب ميزان الحكمة: ص 24، نقلاً عن مستدرك الوسائل، ج16، ص 213.
18- م.ن، ص 24، نقلاً عن مستدرك الوسائل، ج 16، ص 222.
19- وسائل الشيعة، ج24، ص 245.
20- م. ن، ج24، ص 244.
21- المراد من الغداء في الروايات هو الفطور الصباحي.
22- مريم: 62./ - المحجة البيضاء، ج5، ص 166.
23- الكافي ,ج6 , 290.
24- م.ن، ص 288.
25- م.ن, ج6، ص 289.
26- الكافي، ج6، ص 269.
27- م. ن، ص 270.
28- ميزان الحكمة، ج1، ص 89.
29- الكافي، ج6، ص312.
30- التربية الروحية بحوث في جهاد النفس، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 2002م، ص163.
31- المحجّة البيضاء، ج5، ص185.
32- يوسف: 24.
33- النور: 32.
34- منتخب ميزان الحكمة، ص 233.
35- م. ن، ص234.
36- النور: 30.
37- النور: 31.
38- الميزان في تفسير القرآن، قم المقدسة، ج15، ص110.
39- تفسير الميزان، ج 15، ص111.
40- المحجّة البيضاء، ج5، ص187.
41- الأحزاب: 59.
42- النور: 31.
43- النور: 31.
44- النور: 30 و31.
45- وسائل الشيعة،ج20،ص 198.
46- مستدرك الوسائل،ج14،ص265.
47- توضيح المسائل، مسألة 2445.
48- الأحزاب: 32.
49- البقرة: 272.
50- ميزان الحكمة، ج6، ص359
51- ميزان الحكمة، ج6، ص364.
52- الأنبياء: 91.
53- مريم: 20.
54- يوسف: 23.
55- يوسف: 24.
56- يوسف: 38 و39.
57- النور: 60.

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.