إنّ استغلال الموظّف وظيفته أو أيّ شخص منصبه العامّ لتحقيق مصلحة ومنفعة شخصيّة ذاتيّة لنفسه أو لمن يخصّه من أفراد المجتمع مثل أقربائه أو أصدقائه أو حزبه دون وجه حقّ، يعبّر عنه بالفساد الإداريّ.
ومن خلال معاينة الواقع يمكن إحصاء العديد من أشكال الفساد على المستوى الإداري والوظيفي يرتكبها بعض عن علم، وبعض عن جهل وعدم التفات إلى خطورة وعواقب أمثال هذه الإرتكابات.
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك, ومن لك فيه هوى من رعيّتك, فإنّك إلّا تفعل تظلم" (1)
نماذج من الفساد الإداري
من أبرز هذه النماذج الرشوة والهديّة والإكراميّة والابتزاز والواسطة والنصب والاحتيال والاختلاس والسرقة والتزوير في الوثائق، والاستغلال والتهرّب من دفع الرسوم والضرائب وعدم وضع الشخص المناسب في مكانه واستعمال الأموال العامّة في مصالح خاصّة والوساطة غير المشروعة، والإسراف وتبذير الأموال العامّة، وغير ذلك من عناوين لا تحصى من حيث الكثرة وسنتعرض إلى بعض من هذه العناوين ومن ثم نبيّن حكمها ووجه الفساد فيها.الواسطة: وهناك شيوع لهذه الظاهرة، ومن الأمثلة عليها:
تعيين الأصحاب والأقارب الأقلّ كفاءة أو من يفتقدها على حساب أشخاص آخرين أكثر كفاءة وتعليما وتدريبا وهو ما يؤدي إلى عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
عن أمير المؤمنين عليه السلام : "أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك, ومن لك فيه هوى من رعيتك, فإنّك إلّا تفعل تظلم"(2). ويقول عليه السلام في غرر كلامه : "من رفع بلا كفاية وضع بلا جناية"(3).
المحسوبيّة والمحاباة: وتعني تفضيل بعض المسؤولين لأشخاص معيّنين وإعطائهم ميزات معيّنة دون أن يكونوا مستحقّين لها وبالرغم من وجود من هم أحقّ بها منهم. أو أن يقوم المدرّس في الصفّ بوضع أعلى العلامات لطالب معيّن من أقاربه رغم أنّه ليس أفضل طالب في الصف.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : "ثمّ أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا, ولا تولهم محاباة وأثرة, فإنّهما جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة, والقدم في الإسلام المتقدّمة"(4).
وتؤدّي المحسوبية والمحاباة إلى حصر المنافع العامّة والخدمات في يد فئة قليلة من المواطنين المتنفّذين أو الّذين لديهم علاقات مع المسؤولين.
الرشوة: وتعدّ من أبرز أشكال الفساد الإداري، والرشوة محرّمة ومن كبائر الذنوب، على الآخذ، والمعطي، والوسيط بينهما. ويجب على من أخذها ردّها إلى صاحبها وليس له التصرّف فيها.
أمّا الهدية فلا يجوز للموظّفين تقبّلها من المراجعين، خاصّة من كان عمله في القضاء والفصل بين الناس في أمورهم الحياتيّة والتزامهم بالقوانين العامّة، مهما كان عنوانها لما في ذلك من التسبيب إلى إساءة الظن بهم وإلى الفساد، وإلى تشجيع وتحريض الطامعين لإهمال القوانين وتضييع حقوق الآخرين(5).
ويدلّ على تحريمها قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(6)
ومن الأمثلة على الرشوة: قبول فاحص السير مبلغ من المال مقابل منح السائقين رخص السوق، مع أنّهم لا يستحقّونها، مع العلم بأهميّة الالتزام بشروط منح رخص السياقة نظرا لتأثير ذلك على حياة المواطنين.
قبول الموظف مبلغا من المال من أحد التجّار مقابل السماح له ببيع بضاعة فاسدة.
قبول المهندس رشوة من أحد المقاولين لكي لا يلتزم بالمواصفات المطلوبة في بناء عمارة أو مدرسة وغير ذلك من المصاديق كثير.
مضارّ الرشوة وآثارها: لا غرابة في تحريم الإسلام للرشوة، وتشديده على كلّ من اشترك فيها، فإنّ شيوعها في مجتمع شيوع للفساد والظلم؛ من حكمٍ بغير حقّ أو امتناع عن الحكم بالحقّ، وتقديم من يستحقّ التأخير، وتأخير من يستحقّ التقديم، وشيوع روح النفعيّة في المجتمع لا روح الواجب. وفي الجملة يلزم الأمور التالية:
إهدار القيم الإسلاميّة العليا كالعدل، وانتشار الظلم.
إعطاء الأمور من لا يستحقّها، ومنعها من يستحقّها.
أكل أموال الناس بالباطل، وانتشار الحقد بين الناس.
وكلّ هذه الأمور يحرّمها الله تعالى لأنّها تتنافى مع العدالة الّتي بُعث الأنّبياء عليهم السلام
لأجلها, قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ...﴾(7)
عدم قيام الموظّف بواجبات وظيفته: وذلك بأن يقضي الموظّف معظم الوقت المخصّص للعمل في التحدّث على الهاتف لأغراض شخصيّة أو بالتلهّي بأمور خاصّة على حساب العمل، أو عدم أداء العمل كما ينبغي وبالجودة المطلوبة، أو مغادرة العمل قبل نهاية الدوام الرسمي.
إهدار المال العام: باستخدام الممتلكات العامّة لأغراض شخصيّة للموظّف أو المسؤول، أو قيام المسؤول بإعفاء بعض الأشخاص والشركات التجاريّة من دفع الضرائب والرسوم الجمركيّة المستحقّة عليهم دون وجه حقّ.
منشأ الفساد المالي والإداري
إنّ الفساد المالي والإداري نتاج سوء التنشئة الاجتماعيّة للموظّف أو المسؤول وفساد أخلاقه وقيمه الاجتماعيّة، ويعود أيضاً إلى الخطأ في تعيين مثل هذا الموظف مع ضعف المحاسبة والمساءلة وعدم فرض العقوبات الرادعة على الموظف المسيء ماليًّا وإداريّا، كما أنّ بعض المواطنين يساعدون على انتشار الفساد من خلال قيامهم بتقديم الهدايا الماليّة والعينيّة للموظفين لقاء إنجاز معاملاتهم.مكافحة الفساد الإداري
هناك مجموعة من العناصر الّتي تساعد في حال وجودها في المجتمع على مكافحة هذا النوع من الفساد وهي: الرقابة والمحاسبة، المساءلة والشفافيّة. ويمكن توضيح كلّ منها كما يلي:1- الرقابة والمحاسبة: من خلال المتابعة الإداريّة والتقييم المستمرّ حتّى يُبنى على الشيء مقتضاه, إمّا التنويه وإمّا العقاب والمؤاخذة.
يقول الإمام عليّ عليه السلام في كتابه لمالك الأشتر: "ثمّ تفقّد أعمالهم, وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم, فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم (حثّ لهم) على استعمال الأمانة, والرفق بالرعيّة.
وتحفّظ من الأعيان, فإنْ أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك عيونك واكتفيت بذلك شاهدا, فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله, ثمّ نصبته بمقام الذلّة, ووسمته بالخيانة وقلّدته عار التهمة"(8).
2- المتابعة الأخلاقيّة: وتعني مقارنة الأعمال الّتي يقوم بها الشخص مع القيم الأخلاقيّة الّتي يجب الالتزام بها مثل: الأمانة في العمل، والصدق في القول، والعدالة في المعاملة، وغير ذلك من الصفات.
3- المساءلة: وتعني ضرورة مساءلة المسؤولين والموظفّين والعمّال عن عملهم ومتابعاتهم ومحاسبتهم على التقصير أو إساءة استخدام المنصب وما شابه ذلك...
كما يمكن تبنّي حملات تربويّة وإعلاميّة لنشر الوعي الدينيّ والأخلاقيّ بين الناس والموظّفين بالإضافة إلى رفع مستوى العقوبات الّتي يتعرّض لها الموظف الفاسد ليكون له دور كبير في مكافحة الفساد والحدّ من انتشاره.
من حديث المعراج
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج فقال: "يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟ فقال الله عز ّوجلّ: ليس شيء عندي أفضل من التوكّل علَيّ والرضا بما قسمت. يا محمّد وجبت محبّتي للمتحابيّن فيّ ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ، وليس لمحبّتي عَلَم ولا غاية ولا نهاية.. أولئك الّذين نظروا إلى المخلوقين بنظري إليهم، ولا يرفعوا الحوائج إلى الخلق، بطونهم خفيفة من أكل الحلال، نعيمهم في الدنيا ذكري ومحبّتي ورضاي عنهم. يا أحمد إن أحببتَ أن تكون أورع الناس فازهد في الدنيا وارغب في الآخرة. فقال: يا إلهي كيف أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة؟ قال: خذ من الدنيا خِفًّا من الطعام والشراب واللباس ولا تدّخر لغد، ودم على ذكري.فقال: يا ربّ وكيف أدوم على ذكرك؟ فقال: بالخلوة عن الناس، وبغضك الحلو والحامض، و فراغ بطنك وبيتك من الدنيا. يا أحمد فاحذر أن تكون مثل الصبيّ إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا أعطى شيء من الحلو والحامض اغترّ به، فقال: يا ربّ دلّني على عمل أتقرّب به إليك، قال: اجعل ليلك نهارا، ونهارك ليلا، قال: يا ربّ كيف ذلك؟ قال: اجعل نومك صلاة، وطعامك الجوع.
يا أحمد وعزّتي وجلالي ما من عبد مؤمن، ضمن لي بأربع خصال إلّا أدخلته الجنّة: يطوي لسانه فلا يفتحه إلّا بما يعنيه، ويحفظ قلبه من الوسواس، ويحفظ علمي ونظري إليه، وتكون قرّة عينه الجوع. يا أحمد لو ذقت حلاوة الجوع والصمت والخلوة وما ورثوا منها، قال: يا رب ما ميراث الجوع؟ قال: الحكمة، وحفظ القلب، والتقرّب إليّ، والحزن الدائم، وخفّة المؤونة بين الناس، وقول الحقّ، ولا يبالي عاش بيسر أو بعسر..."(9) .
المصادر :
1- نهج البلاغة, الكتاب 53.
2- نهج البلاغة, الكتاب 53.
3- غرر الحكم، ح8613.
4- نهج البلاغة , الكتاب 53.
5- أجوبة الإستفتاءات، ج1،س 157.
6- سورة البقرة، الآية: 184.
7- سورة النحل، الآية:90.
8- نهج البلاغة، الكتاب 53.
9- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج74، ص21.