الفساد ومصير المفسدين

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾
Friday, January 22, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
الفساد ومصير المفسدين
 الفساد ومصير المفسدين

 






 

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾(1)
ذكرت العديد من الآيات عقوبة المفسدين في الدنيا والآخرة. وقد تكرّر التذكير للمؤمنين بعاقبة أهل الفساد أكثر من مرّة حيث قال تعالى: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾(2). وما هذا التذكير إلّا لنعلم خطورة الفساد والإفساد وسوء عاقبته.
وقد ضرب الله سبحانه وتعالى للناس في كتابه مثلاً عن عاقبة بعض من هؤلاء كفرعون وملئه حيث قال تعالى: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴾، وقد أنذرهم الله تعالى أكثر من مرّة إلا أنّهم لم يعتبروا، يقول تعالى: ﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ فلمّا رأوا هذه البلاءات والمصائب تنزل عليهم بسبب ظلمهم قالوا : ﴿ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾(3) وكانت العاقبة أليمة، إذ أفضت إلى هلاك فرعون ومن معه وتحطّم قدرتهم وزوال شوكتهم؛ لأنّهم حاربوا الله وكانوا من المفسدين.

عقوبة الدنيا

وعقوبة المفسدين في الأرض المحاربين لله ولرسوله - إن كان هناك حكومة إسلاميّة – أحد أمور أربعة بيَّنها الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾(4).
فقد ذكرت الآية الكريمة عقوبات أربعاً: التقتيل والتصليب والتقطيع والنفي.
فالمراد بكون التقطيع من خلاف أن يأخذ القطع كلّاً من اليد والرجل من جانب مخالف لجانب الأخرى كاليد اليمنى والرجل اليسرى.
أمّا النفي من الأرض فالنفي هو الطرد والتغييب وفسّر بطرده من بلد إلى بلد.
و المرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ الحدود الأربعة مترتبة بحسب درجات الإِفساد؛ كمن شهر سيفاً فقتل النفس وأخذ المال أو قتل فقط أو أخذ المال فقط أو شهر سيفاً فقط.
عن أبي الحسن الرضا عليه السلام حينما سُئل عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ...﴾ فما الّذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال: "إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً فقتل قتل به، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن شهر السيف فحارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي من الأرض". قلت: كيف ينفى من الأرض وما حدّ نفيه؟ قال: "يُنفى من المصر الّذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفيّ فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كُتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة"، قلت: فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال: "إن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها"(5).
وما تقدّم يظهر كيف يحارب الإسلام المفسدين وينال منهم في الدنيا قبل أن يرِدوا إلى الله تعالى فيجازيهم بما هم أهله من العذاب والنقمة.

عقوبة الآخرة

العذاب، واللعنة، وسوء الدار: جهنّم
رتّب الله تعالى على الفساد عقوبةً عظيمة، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾(6)
وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار﴾(7).
فما أشدّ هذا العقاب بأن يطرد إنسان من رحمة الله سبحانه ويرث النار الّتي وقودها الناس والحجارة، ويحشر مع أراذل البشر ويكون في جهنّم معهم، نعوذ بالله من عقابه ونسأله المغفرة.

عواقب الفساد

ينبغي التمييز بين نوعين من الفساد مع كونهما معا ممّا لا يحبّه الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(8).
فهناك فساد قد يبقى في إطاره الخاص ولا يعدو صاحبه وهذا من قبيل ذنوب بعض الناس بينهم وبين الله تعالى ولا يؤثّر سلباً في المجتمع ولا يساهم في إشاعة الفساد, وكذا فيما لو كان هذا المرتكب للفساد أيًّا كان نوعه ممّن ليس له خطر في المجتمع أو ذلك التأثير, فمثل هؤلاء يُؤمرون بالمعروف ويُنهون عن المنكر وفق الشروط الشرعيّة (والّتي سنتعرّض لها في الدرس الأخير) عسى أن ينفع الإرشاد معهم فينتهون ويتوبون، وعلى الواعظ أن يتذكّر دائماً قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإمام الواعظين عليّ عليه السلام: "يا عليّ لأن يهدى الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس"(9).
وقد تحدّث القرآن الكريم والروايات الشريفة عن فساد يتجاوز حدود ما سبق ذكره فلا الذنوب والمفاسد في إطارها الضيق, ولا المرتكب هو ذلك الإنسان المغمور الّذي لا يُلتفت إليه بل هو يؤثّر فيكون لفساده عواقب وخيمة على المجتمع أو يؤدّي إلى شموله والمجتمع الّذي يعيش فيه بنقمة الله سبحانه، وهذا ما نوضحه ضمن العناوين التالية:

محاربة الحكومة الإسلاميّة الحقّة

قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(10).
فالآية تحذّر جميع المؤمنين عن فتنة تقوم ببعضٍ منهم خاصّة، وهم الظالمون
غير أنّ سيّئ أثره يعمّ الكلّ ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلّ والمسكنة وكلّ ما يترقّب من مرّ البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعاً مسؤولون عند الله، والله شديد العقاب.
إنّ اختلاف بعض من الأُمّة مع بعضها الآخر في أمر يعلم جميعهم وجه الحقّ فيه فيجمح بعض عن قبول الحقّ ويقدم إلى المنكر بظلمه، فلا يردعونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، والمقصود بهذا الظلم الّذي يسري سوء أثره إلى كافّه المؤمنين وعامّة الأُمّة بل قد يمتدّ أثره في أجيال متعاقبة وهذا ما يتمثّل في محاربة حكومة الحقّ وإبعاد أهل الحقّ في الحكم عن مواضعهم الّتي وضعهم الله تعالى فيها.
وفي الفتن الواقعة في صدر الإِسلام ما تنطبق عليه الآية أوضح انطباق وقد انهدمت بها الوحدة الدينيّة، وبدت الفرقة ونفدت القوّة، وذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل والسبي والنهب وهتك الأعراض والحرمات وهجر الكتاب وإلغاء السنّة ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾(11).

التجاهر بالمعاصي

المعصية محرّمة في السرّ والعلن, والعاصي في الحالتين يستحقّ العقوبة:
قال تعالى : ﴿َذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ﴾(12)
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾(13).
ولكن المتجاهر بالمعصية له شأن أعظم خطورة وهو المعلن معصيته أمام الملأ فإذا كان متجاهرا فعاقبته الخذلان وسرعة العقوبة:
عن الإمام الرضا عليه السلام: "المذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بالسيّئة مغفور له"(14)
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "مجاهرة الله سبحانه بالمعاصي تعجّل النقم"(15)
وإذا أصبح العصيان علنيّاً ظاهراً دونما رادع من خشية الله ولا خشية من القانون الإلهي والعقوبة فلم يردعه الناس ففشا المنكر فعندها تكون المصيبة عامّة:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرًّا لم يضرّ إلّا عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يُغيّر عليه أضرّت بالعامّة"، قال الإمام جعفر بن محمّد عليهما السلام: "وذلك أنّه يُذلّ بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله"(16).
وعن الإمام الصادق عليه السلام وهو يعدّد آثار الذنوب وعواقب ارتكاب هذه المفاسد: "الذنوب الّتي تغيّر النعم البغي، والذنوب الّتي تورث الندم القتل، والّتي تنزل النقم الظلم، والّتي تهتك الستور شرب الخمر، والّتي تحبس الرزق الزنا، والّتي تعجّل الفناء قطيعة الرحم، والّتي تردّ الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين"(17).

فساد الخاصّة والعامّة

ورد في بعض الروايات أنّ الناس يمكن تصنيفهم إلى قسمين عامّة وخاصّة وعدّت من الخاصّة العلماء والحكّام والزهّاد والأغنياء والتجّار والغزاة, وذكرت مدى التأثير الكبير لفساد هؤلاء الخاصّة على فساد العامّة ما يرتّب على هؤلاء مسؤوليّات كبرى ولا يستوون مع غيرهم في تحمّل التبعات بل الحمل والوزر عليهم أكبر.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام - لمّا سُئل عن أحوال العامّة -: "إنّما هي من فساد الخاصّة، وإنّما الخاصّة ليُقسمون على خمس: العلماء وهم الأدلّاء على الله، والزهّاد وهم الطريق إلى الله، والتجّار وهم أمناء الله، والغزاة وهم أنصار دين الله، والحكّام وهم رعاة خلق الله.
فإذا كان العالِم طمّاعا وللمال جمّاعا فبمن يستدلّ؟ وإذا كان الزاهد راغباً ولما في أيدي الناس طالباً فبمن يُقتدى؟ وإذا كان التاجر خائناً وللزكاة مانعاً فبمن يُستوثق؟ وإذا كان الغازي مرائياً وللكسب ناظراً فبمن يُذبّ عن المسلمين؟ وإذا كان الحاكم ظالماً وفي الأحكام جائراً فبمن يُنصر المظلوم على الظالم؟ فوالله ما أتلف الناس إلّا العلماء الطمّاعون، والزهّاد الراغبون، والتجّار الخائنون، والغزاة المراؤون، والحكّام الجائرون، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾"(18).
وعنه عليه السلام: "قوام الدنيا بأربعة: بعالم مستعملٍ لعلمه، وبغنيّ باذلٍ لمعروفه، وبجاهلٍ لا يتكبّر أن يتعلّم، وبفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره، وإذا عَطّل العالم علمه، وأمسك الغنيّ معروفه، وتكبّر الجاهل أن يتعلّم، وباع الفقير آخرته بدنيا غيره، فعليهم الثبور"(19).
المصادر :
1- سورة الرعد، الآية: 25.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- سورة الأعراف، الآيات: 134 - 136.
4- سورة المائدة، الآية: 33.
5- تفسير العيّاشي، ج1، ص 317.
6- سورة النحل، الآية: 88.
7- سورة الرعد، الآية: 25.
8- سورة القصص، الآية: 77.
9- المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج3، ص598.
10- سورة الأنفال، الآية: 25.
11- - تفسير الميزان، بتصرّف: سورة الفرقان، الآية: 29.
12- سورة الأنعام، الآية: 120.
13- سورة الأنعام، الآية: 151.
14- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج73، ص356.
15- غرر الحكم، ح 9811.
16- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص136.
17- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج73،ص374.
18- غرر الحكم، ح106.
19- تحف العقول، الحرّاني، ص222.

 



نظرات کاربران
ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.