سنن الإمام الهادي (عليه السلام) وسيرته هي نماذج من سيرة عترة المصطفى صلوات الله عليهم، وهي بمجموعها مصاديق ناطقة عن سيرة جدهم المصطفى (صلى الله عليه وآله) التي تجسد مبادئ الإسلام وشريعة السماء تجسيدا حيا، وقد قدمنا ملامح من شخصية الإمام الهادي (عليه السلام) وجوانب عديدة من مكارم أخلاقه وفضائله ومزاياه، سيما فيما يتعلق بعبادته وزهده وحلمه وسخائه. وسنذكر في هذا الفصل قبسات مختلفة من سنن الإمام (عليه السلام) آملين أن نكون قد أو فينا بعض مظاهر العظمة التي يتحلى بها إمامنا المفدى العظيم. سجدة الشكر:
روى الشيخ الطوسي بالإسناد عن حفص الجوهري، قال: صلى بنا أبو الحسن علي بن محمد (عليه السلام) صلاة المغرب، فسجد سجدة الشكر بعد السابعة (1)، فقلت له (عليه السلام): كان آباؤك يسجدون بعد الثلاثة؟ (2) فقال (عليه السلام): ما كان أحد من آبائي يسجد إلا بعد السابعة (3). تسبيحه (عليه السلام):
روى العلامة المجلسي عن دعوات الراوندي بالإسناد، قال: تسبيح علي بن محمد (عليه السلام): سبحان من هو دائم لا يسهو، سبحان من هو قائم لا يلهو، سبحان من هو غني لا يفتقر، سبحان الله وبحمده (4).
قنوته (عليه السلام):
كان (عليه السلام) يقنت في صلاته بالدعاء التالي: مناهل كراماتك بجزيل عطياتك مترعة، وأبواب مناجاتك لمن أمك مشرعة، وعطوف لحظاتك لمن ضرع إليك غير منقطعة، وقد ألجم الحذار، واشتد الاضطرار، وعجز عن الاصطبار أهل الانتظار، وأنت اللهم بالمرصد من المكار، اللهم وغير مهمل مع الإمهال. واللائذ بك آمن، والراغب إليك غانم، والقاصد اللهم لبابك سالم، اللهم فعاجل من قد استن في طغيانه، واستمر على جهالته لعقباه في كفرانه، وأطمعه حلمك عنه في نيل إرادته، فهو يتسرع إلى أوليائك بمكارهه، ويواصلهم بقبائح مراصده، ويقصدهم في مظانهم بأذيته. اللهم اكشف العذاب عن المؤمنين، وابعثه جهرة على الظالمين، اللهم اكفف العذاب عن المستجيرين، واصببه على المغترين، اللهم بادر عصبة الحق بالعون، وبادر أعوان الظلم بالقصم، اللهم أسعدنا بالشكر، وامنحنا النصر، وأعذنا من سوء البداء والعاقبة والختر (5).وروي عنه قنوت آخر كان يدعو به (عليه السلام) في صلاته: يا من تفرد بالربوبية، وتوحد بالوحدانية، يا من أضاء باسمه النهار، وأشرقت به الأنوار، وأظلم بأمره حندس الليل، وهطل بغيثه وابل السيل. يا من دعاه المضطرون فأجابهم، ولجأ إليه الخائفون فأمنهم، وعبده الطائعون فشكرهم، وحمده الشاكرون فأثابهم، ما أجل شأنك، وأعلى سلطانك، وأنفذ أحكامك. أنت الخالق بغير تكلف، والقاضي بغير تحيف حجتك البالغة، وكلمتك الدامغة، بك اعتصمت وتعوذت من نفثات العندة، ورصدات الملحدة، الذين ألحدوا في أسمائك، ورصدوا بالمكاره لأوليائك، وأعانوا على قتل أنبيائك وأصفيائك، وقصدوا لإطفاء نورك بإذاعة سرك، وكذبوا رسلك، وصدوا عن آياتك، واتخذوا من دونك ودون رسولك ودون المؤمنين وليجة، رغبة عنك، وعبدوا طواغيتهم وجوابيتهم بدلا منك، فمننت على أوليائك بعظيم نعمائك، وجدت عليهم بكريم آلائك، وأتممت لهم ما أوليتهم بحسن جزائك، حفظا لهم من معاندة الرسل، وضلال السبل، وصدقت لهم بالعهود ألسنة الإجابة، وخشعت لك بالعقود قلوب الإنابة. أسألك اللهم باسمك الذي خشعت له السماوات والأرض، وأحييت به موات الأشياء، وأمت به جميع الأحياء، وجمعت به كل متفرق، وفرقت به كل مجتمع، وأتممت به الكلمات، وأريت به كبرى الآيات، وتبت به على التوابين، وأخسرت به عمل المفسدين، فجعلت عملهم هباء منثورا، وتبرتهم تتبيرا أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعل شيعتي من الذين حملوا فصدقوا، واستنطقوا فنطقوا، آمنين مأمونين. اللهم إني أسألك لهم توفيق أهل الهدى، وأعمال أهل اليقين، ومناصحة أهل التوبة، وعزم أهل الصبر، وتقية أهل الورع، وكتمان الصديقين، حتى يخافوك. اللهم مخافة تعجزهم عن معاصيك، وحتى يعملوا بطاعتك لينالوا كرامتك، وحتى يناصحوا لك وفيك خوفا منك، وحتى يخلصوا لك النصيحة في التوبة حبا لهم، فتوجب لهم محبتك التي أوجبتها للتوابين، وحتى يتوكلوا عليك في أمورهم كلها حسن ظن بك، وحتى يفوضوا إليك أمورهم ثقة بك. اللهم لا تنال طاعتك إلا بتوفيقك، ولا تنال درجة من درجات الخير إلا بك، اللهم يا مالك يوم الدين، العالم بخفايا صدور العالمين، طهر الأرض من نجس أهل الشرك، وأخرس الخراصين عن تقولهم على رسولك الإفك. اللهم اقصم الجبارين، وأبر المفترين والأفاكين الذين إذا تتلى عليهم آيات الرحمان قالوا أساطير الأولين، وأنجز لي وعدك إنك لا تخلف الميعاد، وعجل فرج كل طالب مرتاد، إنك لبالمرصاد للعباد. وأعوذ بك من كل لبس ملبوس، ومن كل قلب عن معرفتك محبوس، ومن نفس تكفر إذا أصابها بؤس، ومن واصف عدل عمله عن العدل معكوس، ومن طالب للحق وهو عن صفات الحق منكوس، ومن مكتسب إثم بإثمه مركوس، ومن وجه عند تتابع النعم عليه عبوس، أعوذ بك من ذلك كله، ومن نظيره وأشكاله وأمثاله إنك عليم حكيم (6).
خطبة النساء:
روى الشيخ الكليني بالإسناد عن عبد العظيم الحسني (رحمه الله)، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يخطب بهذه الخطبة: الحمد لله العالم بما هو كائن من قبل أن يدين له من خلقه دائن، فاطر السماوات والأرض، مؤلف الأسباب بما جرت به الأقلام، ومضت به الأحتام، من سابق علمه ومقدر حكمه، أحمده على نعمه، وأعوذ به من نقمه، وأستهدي الله الهدى، وأعوذ به من الضلالة والردى، من يهده الله فقد اهتدى، وسلك الطريقة المثلى، وغنم الغنيمة العظمى، ومن يضلل الله فقد حار عن الهدى، وهوى إلى الردى.أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله المصطفى، ووليه المرتضى، وبعيثه بالهدى، أرسله على حين فترة من الرسل، واختلاف من الملل، وانقطاع من السبل، ودروس من الحكمة، وطموس من أعلام الهدى والبينات، فبلغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وأدى الحق الذي عليه، وتوفي فقيدا محمودا (صلى الله عليه وآله). ثم إن هذه الأمور كلها بيد الله تجري إلى أسبابها ومقاديرها، فأمر الله يجري إلى قدره، وقدره يجري إلى أجله، وأجله يجري إلى كتابه، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. أما بعد، فإن الله جل وعز جعل الصهر مألفة للقلوب، ونسبة المنسوب، أوشج به الأرحام، وجعله رأفة ورحمة، إن في ذلك لآيات للعالمين، وقال في محكم كتابه: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) (7)،
وقال: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) (8). وإن فلان بن فلان ممن قد عرفتم منصبه في الحسب، ومذهبه في الأدب، وقد رغب في مشاركتكم، وأحب مصاهرتكم، وأتاكم خاطبا فتاتكم فلانة بنت فلان، وقد بذل لها من الصداق كذا وكذا، العاجل منه كذا، والآجل منه كذا، فشفعوا شافعنا، وأنكحوا خاطبنا، وردوا ردا جميلا، وقولوا قولا حسنا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين (9).
في التجمل:
روى الشيخ الكليني بالإسناد عن أبي هاشم الجعفري، قال: دخلت على أبي الحسن صاحب العسكري (عليه السلام)، فجاء صبي من صبيانه فناوله وردة، فقبلها ووضعها على عينيه ثم ناولنيها، وقال: يا أبا هاشم، من تناول وردة أو ريحانة فقبلها ووضعها على عينيه، ثم صلى على محمد وآل محمد، كتب الله له الحسنات مثل رمل عالج، ومحا عنه من السيئات مثل ذلك (10).في الأطعمة:
روى الشيخ البرقي بالإسناد عن أبي علي بن راشد، قال: سمعت أبا الحسن الثالث (عليه السلام) يقول: أكل العسل حكمة (11).وروى الشيخ الكليني بالإسناد عن محمد بن عيسى، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، قال: كان يقول: ما أكلت طعاما أبقى ولا أهيج للداء من اللحم اليابس - يعني القديد - (12).
وروى عن محمد بن عيسى، عن أبي الحسن (عليه السلام)، أنه كان يقول:
القديد لحم سوء، لأنه يسترخي في المعدة، ويهيج كل داء، ولا ينفع من شيء بل يضره (13).
وروى عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابنا، قال: قال أبو الحسن الثالث (عليه السلام) لبعض قهارمته: استكثروا لنا من الباذنجان، فإنه حار في وقت الحرارة، وبارد في وقت البرودة، معتدل في الأوقات كلها، جيد على كل حال (14). احتجامه (عليه السلام):
روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بالإسناد عن يعقوب بن يزيد، عن بعض أصحابنا، قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) يوم الأربعاء وهو يحتجم، فقلت له: إن أهل الحرمين يروون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من احتجم يوم الأربعاء فأصابه بياض، فلا يلومن إلا نفسه . فقال (عليه السلام): كذبوا إنما يصيب ذلك من حملته أمه في طمث (15).
استجارته بالحائر:
عندما ألم المرض بالإمام الهادي (عليه السلام) استجار بالحائر الحسيني، وهو مرقد سيد شباب أهل الجنة وأحد سبطي الرحمة جده الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد وردت روايات عديدة عن أبي هاشم الجعفري في هذا الخصوص، منها:روى ابن قولويه (رحمه الله) بالإسناد عن الحسن بن متيل، عن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري، قال: بعث إلي أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه، وإلى محمد ابن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، فأخبرني أنه ما زال يقول: ابعثوا إلى الحائر، ابعثوا إلى الحائر، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحائر؟ ثم دخلت عليه، فقلت له: جعلت فداك، أنا أذهب إلى الحائر؟ فقال: انظروا في ذلك. ثم قال: إن محمدا ليس له سر من زيد بن علي. وأنا أكره أن يسمع ذلك، قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع بالحائر وهو الحائر! فقدمت العسكري فدخلت عليه، فقال لي: اجلس، حين أردت القيام. فلما رأيته أنس بي، فذكرت قول علي بن بلال، فقال لي: ألا قلت له:
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يطوف بالبيت، ويقبل الحجر، وحرمة النبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله أن يقف بعرفة، إنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها، فأنا أحب أن يدعى لي حيث يحب الله أن يدعى فيها، والحائر من تلك المواضع (16).
وعن محمد بن عيسى، عن أبي هاشم الجعفري، قال: دخلت أنا ومحمد ابن حمزة عليه نعوده وهو عليل، فقال لنا: وجهوا قوما إلى الحائر من مالي، فلما خرجنا من عنده قال لي محمد بن حمزة: المشير يوجهنا إلى الحائر وهو بمنزلة من في الحائر! قال: فعدت إليه فأخبرته، فقال لي: ليس هو هكذا، إن لله مواضع يحب أن يعبد فيها، وحائر الحسين (عليه السلام) من تلك المواضع (17).
وعنه، قال أبو محمد الرهوردي: حدثني أبو علي محمد بن همام (رحمه الله)، قال: حدثني الحميري، قال: حدثني أبو هاشم الجعفري، قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) وهو محموم عليل، فقال لي: يا أبا هاشم، ابعث رجلا من موالينا إلى الحائر يدعو الله لي، فخرجت من عنده، فاستقبلني علي بن بلال، فأعلمته ما قال لي، وسألته أن يكون الرجل الذي يخرج، فقال: السمع والطاعة، ولكنني أقول إنه أفضل من الحائر، إذا كان بمنزلة من في الحائر، ودعاؤه لنفسه أفضل من دعائي له بالحائر.
فأعلمته (عليه السلام) ما قال، فقال لي: قل له: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل من البيت والحجر، وكان يطوف بالبيت ويستلم الحجر، وإن لله بقاعا يحب أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه، والحائر منها (18).
عوذته (عليه السلام):
روى السيد ابن طاووس (رحمه الله) بالإسناد عن عبد الله بن الحسين بن إبراهيم العلوي، عن أبيه، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: إن أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) كتب هذه العوذة لابنه أبي الحسن علي ابن محمد الهادي (عليه السلام) وهو صبي في المهد، وكان يعوذه بها، ويأمر أصحابه بها، وهي:بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم رب الملائكة والروح والنبيين والمرسلين، وقاهر من في السماوات والأرضين، وخالق كل شيء ومالكه، كف عنا بأس أعدائنا، ومن أراد بنا سوءا من الجن والإنس، وأعم أبصارهم وقلوبهم، واجعل بيننا وبينهم حجابا وحرسا ومدفعا، إنك ربنا لا حول ولا قوة لنا إلا بالله، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم. ربنا عافنا من كل سوء، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، ومن شر ما يسكن في الليل والنهار، ومن شر كل ذي شر.رب العالمين، وإله المرسلين، صل على محمد وآله أجمعين، وأوليائك، وخص محمدا وآله أجمعين بأتم ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. بسم الله وبالله، أؤمن بالله، وبالله أعوذ، وبالله أعتصم، وبالله أستجير، وبعزة الله ومنعته أمتنع من شياطين الإنس والجن، ورجلهم وخيلهم، وركضهم وعطفهم، ورجعتهم وكيدهم وشرهم وشر ما يأتون به تحت الليل وتحت النهار، من القرب والبعد، ومن شر الغائب والحاضر، والشاهد والزائر، أحياء وأمواتا، أعمى وبصيرا، ومن شر العامة والخاصة، ومن شر نفس ووسوستها، ومن شر الدناهش، والحس واللمس واللبس، ومن عين الجن والإنس، وبالاسم الذي اهتز به عرش بلقيس. وأعيذ ديني ونفسي وجميع ما تحوطه عنايتي من شر كل صورة أو خيال، أو بياض أو سواد أو تمثال، أو معاهد أو غير معاهد، ممن يسكن الهواء والسحاب، والظلمات والنور، والظل والحرور، والبر والبحور، والسهل والوعور، والخراب والعمران، والآكام والآجام، والغياض، والكنائس والنواويس، والفلوات والجبانات، ومن شر الصادرين والواردين، ممن يبدو بالليل، ويستتر بالنهار، وبالعشي والأبكار، والغدو والآصال، والمريبين والأسامرة والأفاترة والفراعنة والأبالسة، ومن جنودهم وأزواجهم وعشائرهم وقبائلهم، ومن همزهم ولمزهم ونفثهم، ووقاعهم وأخذهم وسحرهم وضربهم وعبثهم ولمحهم، واحتيالهم واختلافهم. ومن شر كل ذي شر من السحرة والغيلان وأم الصبيان، وما ولدوا وموالغب، والنافضة، والصالبة (19)، والداخلة، والخارجة، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إنك على صراط مستقيم، وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين (20).
حرزه (عليه السلام):
روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) بالإسناد عن الفحام، قال: حدثني أبو الحسن المنصوري، قال: حدثني أبو السري سهل بن يعقوب بن إسحاق، الملقب بأبي نواس المؤذن، في المسجد المعلق بسر من رأى، قال المنصوري: وكان يلقب بأبي نؤاس لأنه كان يتخالع ويطيب مع الناس، ويظهر التشيع على الطيبة، فيأمن على نفسه، فلما سمع الإمام (عليه السلام) لقبني بأبي نؤاس، وقال: يا أبا السري، أنت أبو نؤاس الحق، ومن تقدمك أبو نؤاس الباطل. قال: فقلت له ذات يوم: يا سيدي، قد وقع لي اختيار الأيام عن سيدنا الصادق (عليه السلام) مما حدثني به الحسن بن عبد الله بن مطهر، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن سيدنا الصادق (عليه السلام) في كل شهر فأعرضه عليك. فقال لي: افعل. فلما عرضته عليه وصححته، قلت له: يا سيدي، في أكثر هذه الأيام قواطع عن المقاصد، لما ذكر فيها من النحس والمخاوف، فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها، فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟ فقال لي: يا سهل، إن لشيعتنا بولايتنا عصمة، لو سلكوا بها في لجة البحار الغامرة وسباسب البيداء الغائرة، بين سباع وذئاب، وأعادي الجن والإنس، لأمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله عز وجل، وأخلص في الولاء لأئمتك الطاهرين، وتوجه حيث شئت، واقصد ما شئت. يا سهل، إذا أصبحت وقلت ثلاثا: أصبحت اللهم معتصما بذمامك المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول، من شر كل طارق وغاشم، من سائر ما خلقت، ومن خلقت من خلقك الصامت والناطق، في جنة من كل مخوف بلباس سابغة، ولاء أهل بيت نبيك، محتجزا من كل قاصد لي إلى أذية بجدار حصين، الإخلاص في الاعتراف بحقهم، والتمسك بحبلهم جميعا، موقنا بأن الحق لهم ومعهم وفيهم وبهم. أوالي من والوا، وأجانب من جانبوا، فصل على محمد وآل محمد، فأعذني اللهم بهم من شر كل ما تقيه. يا عظيم، حجزت الأعادي عني ببديع السماوات والأرض، إنا (جعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون)(21). وقلتها عشيا ثلاثا، حصلت في حصن من مخاوفك، وآمن من محذورك. فإذا أردت التوجه في يوم قد حذرت فيه، فقدم أمام توجهك الحمد لله رب العالمين، والمعوذتين، وآية الكرسي وسورة القدر، وآخر آية من آل عمران، (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)(22)، وقل: اللهم بك يصول الصائل، وبقدرتك (23). (يطول الطائل، ولا حول لكل ذي حول إلا بك، ولا قوة يمتازها ذو قوة إلا منك، بصفوتك من خلقك، وخيرتك من بريتك، محمد نبيك، وعترته وسلالته (عليهم السلام) صل عليهم، واكفني شر هذا اليوم وضرره، وارزقني خيره ويمنه، واقض لي في متصرفاتي بحسن العاقبة وبلوغ المحبة، والظفر بالأمنية، وكفاية الطاغية الغوية، وكل ذي قدرة لي على أذية، حتى أكون في جنة وعصمة من كل بلاء ونقمة، وأبدلني من المخاوف فيه أمنا، ومن العوائق فيه يسرا، حتى لا يصدني صاد عن المراد، ولا يحل بي طارق من أذى العباد، إنك على كل شيء قدير، والأمور إليك تسير، يا من (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).وروى السيد ابن طاووس (رحمه الله) حرزا آخر له (عليه السلام) هذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا عزيز العز في عزه، ما أعز عزيز العز في عزه، يا عزيز أعزني بعزك، وأيدني بنصرك، وادفع عني همزات الشياطين، وادفع عني بدفعك، وامنع عني بمنعك، واجعلني من خيار خلقك، يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد.
حجابه (عليه السلام):
عن السيد ابن طاووس (رحمه الله): كان حجاب الإمام الهادي (عليه السلام): (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا)(24)، (وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)(25). عليك يا مولاي توكلي، وأنت حسبي وأملي، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، تبارك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، رب الأرباب، ومالك الملوك، وجبار الجبابرة، وملك الدنيا والآخرة. أرسل إلي منك رحمة يا رحيم، وألبسني منك عافية، وازرع في قلبي من نورك، واخبأني من عدوك، واحفظني في ليلي ونهاري بعينك، يا أنس كل مستوحش وإله العالمين. قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون، حسبي الله كافيا ومعينا ومعافيا، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (26).أدعيته (عليه السلام):
كان (عليه السلام) يعقب بعد صلاة الفجر ولا ينام، وكان يدعو بهذا الدعاء: يا كبير كل كبير، يا من لا شريك له ولا وزير، يا خالق الشمس والقمر المنير، يا عصمة الخائف المستجير، يا مطلق المكبل الأسير، يا رازق الطفل الصغير،يا جابر العظم الكسير، يا راحم الشيخ الكبير. يا نور النور، يا مدبر الأمور، يا باعث من في القبور، يا شافي الصدور، يا جاعل الظل والحرور، يا عالما بذات الصدور، يا منزل الكتاب والنور، والفرقان العظيم والزبور. يا من تسبح له الملائكة بالأبكار والظهور، يا دائم الثبات، يا مخرج النبات بالغدو والآصال، يا محيي الأموات، يا منشي العظام الدارسات، يا سامع الصوت، يا سابق الفوت، يا كاسي العظام البالية بعد الموت، يا من لا يشغله شغل عن شغل، يا من لا يتغير من حال إلى حال، يا من لا يحتاج إلى تجشم حركة ولا انتقال، يا من لا يمنعه شأن عن شأن. يا من يرد بألطف الصدقة والدعاء عن أعنان السماء ما حتم وأبرم من سوء القضاء، يا من لا يحيط به موضع ولا مكان، يا من يجعل الشقاء فيما يشاء من الأشياء، يا من يمسك الرمق من الدنف العميد بما قل من الغذاء، يا من يزيل بأدنى الدواء ما غلظ من الداء، يا من إذا وعد وفى، وإذا توعد عفا. يا من يملك حوائج السائلين، يا من يعلم ما في ضمير الصامتين. يا عظيم الخطر، يا كريم الظفر، يا من له وجه لا يبلى، يا من له ملك لا يفنى، يا من له نور لا يطفأ، يا من فوق كل شيء عرشه، يا من في البر والبحر سلطانه، يا من في جهنم سخطه، يا من في الجنة رحمته، يا من مواعيده صادقة، يا من أياديه فاضلة، يا من رحمته واسعة. يا غياث المستغيثين، يا مجيب دعوة المضطرين، يا من هو بالمنظر الأعلى، وخلقه بالمنزل الأدنى. يا رب الأرواح الفانية، يا رب الأجساد البالية، يا أبصر الناظرين، يا أسمع السامعين، يا أسرع الحاسبين، يا أحكم الحاكمين، يا أرحم الراحمين، يا وهاب العطايا، يا مطلق الأسارى، يا رب العزة، يا أهل التقوى وأهل المغفرة، يا من لا يدرك أمده، يا من لا يحصى عدده، يا من لا ينقطع مدده. أشهد - والشهادة لي رفعة وعدة، وهي مني سمع وطاعة، وبها أرجو النجاة يوم الحسرة والندامة - إنك أنت الله لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، صلواتك عليه وآله، وأنه قد بلغ عنك، وأدى ما كان واجبا عليه لك، وأنك تخلق دائما وترزق، وتعطي وتمنع، وترفع وتضع، وتغني وتفقر، وتخذل وتنصر، وتعفو وترحم، وتصفح وتجاوز عما تعلم، ولا تجور ولا تظلم، وأنك تقبض وتبسط، وتمحو وتثبت وتبدئ وتعيد، وتحيي وتميت، وأنت حي لا تموت، فصل على محمد وآله، واهدني من عندك، وأفض علي من فضلك، وانشر علي من رحمتك، وأنزل علي من بركاتك، فطالما عودتني الحسن الجميل، وأعطيتني الكثير الجزيل، وسترت علي القبيح. اللهم فصل على محمد وآله، وعجل فرجي، وأقلني عثرتي، وارحم غربتي، وارددني إلى أفضل عادتك عندي، واستقبل بي صحة من سقمي، وسعة من عدمي، وسلامة شاملة في بدني، وبصيرة ونظرة نافذة في ديني، ومهدني وأعني على استغفارك واستقالتك، قبل أن يفنى الأجل، وينقطع العمل، وأعني على الموت وكربته، وعلى القبر ووحشته، وعلى الميزان وخفته، وعلى الصراط وزلته، وعلى يوم القيامة وروعته. وأسألك نجاح العمل قبل انقطاع الأجل، وقوة في سمعي وبصري، واستعمالا لصالح ما علمتني وفهمتني، إنك أنت الرب الجليل، وأنا العبد الذليل، وشتان ما بيننا، يا حنان يا منان، يا ذا الجلال والإكرام، صل على محمد وآل محمد، وصل على من به فهمتنا، وهو أقرب وسائلنا إليك ربنا، محمد وآله وعترته الطاهرين (27).وروى الشيخ إبراهيم الكفعمي (رحمه الله) أنه (عليه السلام) كان يدعو عقيب صلاة العصر بهذا الدعاء: يا من علا فعظم، يا من تسلط فتجبر، وتجبر فتسلط، يا من عز فاستكبر في عزه، يا من مد الظل على خلقه، يا من من بالمعروف على عباده، أسألك يا عزيز ذي انتقام، يا منتقما بعزته من أهل الشرك، أسألك بحق وليك علي بن أبي طالب، وأقدمه بين يدي حوائجي، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تعينني به على قضاء حوائجي ونوافلي وفرائضي وبر إخواني وكمال طاعتك يا أرحم الراحمين.
وروى الشيخ الطوسي بالإسناد عن أبي موسى، عن أبي الحسن علي ابن محمد (عليهما السلام) أنه كان يدعو بهذا الدعاء: يا أرحم الراحمين (28).
وروى الشيخ الطوسي بالإسناد عن أبي موسى، عن أبي الحسن علي ابن محمد (عليهما السلام) أنه كان يدعو بهذا الدعاء: يا نور النور، يا مدبر الأمور، يا مجري البحور، يا باعث من في القبور، يا كهفي حين تعييني المذاهب، وكنزي حين تعجزني المكاسب، ومؤنسي حين تجفوني الأباعد، وتملني الأقارب، ومنزهي بمجالسة أوليائه، ومرافقة أحبائه في رياضه، وساقيي بمؤانسته من نمير حياضه، ورافعي بمجاورته من ورطة الذنوب إلى ربوة التقريب، ومبدلي بولايته غرة العطايا من ذلة الخطايا.
أسألك يا مولاي بالفجر والليالي العشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، وبما جرى به قلم الأقلام بغير كف ولا إبهام، وبأسمائك العظام، وبحججك على جميع الأنام عليهم منك أفضل السلام، وبما استحفظتهم من أسمائك الكرام أن تصلي عليهم، وترحمنا في شهرنا هذا وما بعده من الشهور والأيام، وأن تبلغنا شهر الصيام في عامنا هذا وفي كل عام، يا ذا الجلال والإكرام والمنن الجسام، وعلى محمد وآله منا أفضل التحية والسلام (29).
دعاء الفرج:
روى السيد ابن طاووس بالإسناد عن اليسع بن حمزة القمي، قال: أخبرني عمرو بن مسعدة وزير المعتصم الخليفة أنه جاء علي بالمكروه الفظيع حتى تخوفته على إراقة دمي وفقر عقبي، فكتبت إلى سيدي أبي الحسن العسكري (عليه السلام) أشكو إليه ما حل بي، فكتب إلي: لا روع إليك ولا بأس، فادع الله بهذه الكلمات، يخلصك الله وشيكا مما وقعت فيه، ويجعل لك فرجا، فإن آل محمد يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء، وعند تخوف الفقر وضيق الصدر. قال اليسع بن حمزة: فدعوت الله بالكلمات التي كتب إلي سيدي بها في صدر النهار، فوالله ما مضى شطره حتى جاءني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي: أجب الوزير، فنهضت ودخلت عليه، فلما بصر بي تبسم إلي، وأمر بالحديد ففك عني، وبالأغلال فحلت مني، وأمرني بخلعة من فاخر ثيابه، وأتحفني بطيب، ثم أدناني وقربني، وجعل يحدثني ويعتذر إلي، ورد علي جميع ما كان استخرجه مني، وأحسن رفدي، وردني إلى الناحية التي كنت أتقلدها، وأضاف إليها الكورة التي تليها. قال: وكان الدعاء:يا من تحل بأسمائه عقد المكاره، ويا من يفل بذكره حد الشدائد، ويا من يدعى بأسمائه العظام من ضيق المخرج إلى محل الفرج، ذلت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب، وجرى بطاعتك القضاء، ومضت على ذكرك الأشياء، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون وحيك منزجرة. أنت المرجو للمهمات، وأنت المفزع للملمات، لا يندفع منها إلا ما دفعت، ولا ينكشف منها إلا ما كشفت، وقد نزل بي من الأمر ما فدحني ثقله، وحل بي منه ما بهضني حمله، وبقدرتك أوردت علي ذلك، وبسلطانك وجهته إلي، فلا مصدر لما أوردت، ولا ميسر لما عسرت، ولا صارف لما وجهت، ولا فاتح لما أغلقت، ولا مغلق لما فتحت، ولا ناصر لمن خذلت إلا أنت. صل على محمد وآل محمد، وافتح لي باب الفرج بطولك، واصرف عني سلطان الهم بحولك، وأنلني حسن النظر فيما شكوت، وارزقني حلاوة الصنع فيما سألتك، وهب لي من لدنك فرجا وحيا (سريعا عاجلا)، واجعل لي من عندك مخرجا هنيا، ولا تشغلني بالاهتمام عن تعاهد فرائضك، واستعمال سنتك، فقد ضقت بما نزل بي ذرعا، وامتلأت بحمل ما حدث علي جزعا، وأنت القادر على كشف ما بليت به، ودفع ما وقعت فيه، فافعل ذلك بي، وإن كنت غير مستوجبه منك، يا ذا العرش العظيم، وذا المن الكريم، فأنت قادر يا أرحم الراحمين، آمين رب العالمين (30).
وبهذا الدعاء المبارك نختم هذا المقال من سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) وسننه، ورويت عنه (عليه السلام) أدعية في أغراض شتى ومناجاة يناجي بها ربه في غلس الليل بنفس مطمئنة وقلب خاشع، ولو أوردناها جميعا لطال بنا المقام ، ولما في الزيارة الجامعة من بين كثير من الزيارات المروية عنه (عليه السلام) لما فيها من دقة التعبير وجمال الأسلوب وأهمية المضمون.
المصادر :
1- أي بعد صلاتي المغرب والعشاء.
2- أي بعد صلاة المغرب.
3- التهذيب 2: 114، الإستبصار 1: 347.
4- بحار الأنوار 94: 207 / 3.
5- مهج الدعوات: 60، بحار الأنوار 85: 226.
6- مهج الدعوات: 61، بحار الأنوار 85: 227.
7- الفرقان: 54.
8- النور: 32.
9- الكافي 5: 372.
10- الكافي 6: 525.
11- المحاسن: 500.
12- الكافي 6: 314.
13- الكافي 6: 314.
14- الكافي 6: 373.
15- الخصال: 386.
16- كامل الزيارات: 273
17- كامل الزيارات: 274
18- كامل الزيارات: 274، بحار الأنوار 101: 113 / 34.
19- الغيلان: جمع غول، وهو كل شيء يذهب بالعقل، والمنية، والداهية. وأم الصبيان: ريح تعرض لهم، وأم ملدم: كنية الحمى، والمثلثة: ما تأخذ في ثلاثة أيام يوما، والربع: ما تأخذ في أربعة أيام يوما، والغب: ما تأخذ يوما وتدع يوما، والنافضة: الحمى الرعدة، والصالبة: المحرقة الشديدة الحرارة ومعها رعدة.
20- مهج الدعوات: 43، بحار الأنوار 94: 361 / 1.
21- أمالي الطوسي: 277 / 529، والآية في سورة الشورى: 11.
22- مهج الدعوات: 44، بحار الأنوار 94: 363 / 2.
23- يس:9
24- الإسراء: 45 - 46.
25- النحل 16: 98 - 99.
26- مهج الدعوات: 300.
27- بحار الأنوار 86: 175 / 45 عن مصباح الشيخ الطوسي: 160 - 162، والبلد الأمين: 60 - 61.
28- بحار الأنوار 86: 352 / 1.
29- مصباح المتهجد: 556.
30- مهج الدعوات: 271.
/ج