مع «المستعين» في وهم تاريخي
أن هناک وهما قد حصل من بعض الرواة أدی الي غلط تاريخي في حوادث جرت لامامنا العسكري عليهالسلام مع «المعتز» فذكر المؤرخون و الرواة أنها كانت مع «المستعين» و ذلك أن الراوي الأول ذكر اسم «المستعين» بدل اسم «المعتز» فتبعه علي الوهم سائر من بعده ممن نقلوا عنه، فذهبت الأيام بهذا الخطأ حتي اليوم. و قد بنيت ترجيحي - بل تأكيدي - هذا علي أسباب وجيهة أهمها:أولا: أنه ما من امام كان يتعاطي قولا أو فعلا في حياة أبيه مطلقا، و لا كان يقابل الناس، و لا يأمر و لا ينهي، و لا يحتك بالجماهير و لا بالأفراد حتي يؤخذ عليه قول أو نشاط، اذ لا يكون امامان في زمن واحد الا و أحدهماناطق و الثاني صامت. و لذلك أؤكد أن امامنا العسكري عليهالسلام لم يباشر أمرا، و لا دخل قصرا بوجود أبيه الامام الهادي سلام الله عليه الذي استغرقت حياته و امامته عهد «المستعين» بكامله، و شطرا كبيرا من عهد «المعتز» الذي ملك ثماني سنوات و ستة أشهر بعد قتل «المستعين» فكيف يتعرض العسكري لنقمة «المستعين» مرارا و هو لم يظهر علي مسرح الحياة في عهده؟!
ثانيا: أن بعض الحوادث نسبت «للمستعين» مع أنها وقعت بعد قتله بحوالي خمس سنوات، كقتل محمد بن أبيدؤاد، و كدعوة الامام علي الخليفة و بتر عمره فجأة كما ستري.
ثالثا: لم تقع تلك الحوادث مع الامام الهادي عليهالسلام في عهد «المستعين» يقينا، و لا يجوز صرفها اليه، لأن كنية أبيمحمد العسكري - ابنه - قد وردت في أكثرها مكررة عدة مرات، فدلت علي وقوعها معه لا مع أبيه صلي الله عليهما، أي في غير عهد «المستعين».
رابعا: سبق الي شيء من هذا الرأي، الحجة المجلسي رحمه الله، و لكنه تأرجح بين الشك و اليقين و لم يجزم بحال معينة (1) و كذلك الشيخ الطوسي قدس سره التفت الي هذا الوهم التاريخي و قال: اما أن يكون الخليفة غير «المستعين» و اما أن يكون ذلك مع الامام الهادي عليهالسلام (2) .
و من أوضح ما اعتمدنا عليه في رأينا هذا، حادثة أقحم فيها اسم «المستعين» بدل اسم «المعتز» بوهم من راويها الأول، فلحقه علي وهمه الآخرون، و هي في «كتاب الأوصياء» لعلي بن محمد بن زياد الصيمري الذي قال: «لما هم «المستعين» في أمر أبيمحمد عليهالسلام بما هم، و أمر سعيدا الحاجب بحمله الي الكوفة، و أن يحدث عليه في الطريق حادثة - أي يقتله قبل وصوله - و انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم؛ و كان بعد مضي أبيالحسن - والده عليهالسلام - بأقل من خمس سنين، فكتب اليه محمد بن عبدالله و الهيثم بن سيابة: قد بلغنا جعلنا فداك، خبر أقلقنا و غمنا، و بلغ منا. فوقع - عليهالسلام -: بعد ثلاثة أيام يأتيكم الفرج. فخلع «المستعين» في اليوم الثالث، و قعد «المعتز» و كان كما قال صلي الله عليه» (3) .
و كذلك ورد أيضا في الكتاب المذكور: «و حدث محمد بن عمر الكاتب، عن علي بن محمد بن زياد الصيمري، صهر جعفر بن محمود الوزير علي ابنته أمأحمد، وكان رجلا من وجوه الشيعة وثقاتهم، مقدما في الكتاب و الأدب و العلم و المعرفة، قال: دخلت علي أبيأحمد، عبيدالله بن طاهر و بين يديه رقعة من أبيمحمد عليهالسلام فيها: اني نازلت الله عزوجل في هذا الطاغي - يعني «المستعين» - و هو آخذه بعد ثلاث. فلما كان اليوم الثالث فعل به ما فعل، و خلع و كان من أمره ما رواه الناس من احداره الي واسط و قتله» (4) .
و قيل: «كان «المعتز» قد بعث سعيد بن صالح الحاجب ليلقي «المستعين» و كان في جملة من حمله الي واسط. فلقيه سعيد و قد قرب من سامراء، فقتله و احتز رأسه و حمله الي «المعتز» و ترك جثته ملقاة علي الطريق» (5) .
و قد صرت علي علم بأن ما حدث بعد موت الامام الهادي عليهالسلام بخمس سنين، قد حدث قطعا بعد موت «المستعين» بأكثر من سبع سنين، لأن الامام الهادي عليهالسلام عاش بعد «المستعين» و في عهد «المعتز» قرابة ثلاث سنين. و الحقيقة التي لا ريب فيها، هي في ما رواه أبوالهيثم بن عدي الذي قال: «لما أمر «المعتز» بحمل أبيمحمد، الحسن، الي الكوفة، كتبت اليه: ما هذا الخبر الذي بلغنا فأقلقنا و غمنا؟!. فكتب: بعد ثلاث يأتيكم الفرج ان شاء الله تعالي»(6).
و روي هذا الخبر ذاته عن محمد بن عبدالله هكذا: «لما أمر سعيد - الحاجب - بحمل أبيمحمد الي الكوفة، كتب اليه أبوالهيثم: ما هذا الخبر... الخ..» (7).
فأنت تري أن النقل الخاطيء غير اسم الخليفة مرة، و بدل اسم الراوي مرة ثانية، الأمر الذي يثبت صحة رأينا الذي أكدناه في أن اسم «المستعين» ورد خطأ - دائما - في عهد امامة امامنا الحسن العسكري عليهالسلام. و ستري تفصيل ذلك في سيرة «المعتز» عما قريب ان شاء الله تعالي. وننبه الي أن الامام عليهالسلام لم يحمل الي الكوفة رغم أن سعيدا - الحاجب - قد أمر بحمله اليها وقتله فيها أو قبل بلوغها، لأن الخليفة «المعتز» أراد أمرا، وأراد الله سبحانه غيره، اذ افتدي الله تعالي الامام بالخليفة نفسه الذي قتل بعد صدور أمره الشنيع الذي قدمه بين يديه في ختام حياته الآثمة..
فمما جري علي يد الامام عليهالسلام من دلائل ولايته الربانية، و أنه بعين الله تعالي كيفما انقلب و تقلب، أن محمد بن أحمد بن داود - دؤاد علي الأصح - كان من جملة شهود الزور في القصور الظالمة، آخذا هذه المهنة الوضيعة عن أبيه قاضي الزمان في عهد «المتوكل» و غيره، فأتقنها و كان من البارعين في جر الأذي للمؤمنين، و في طليعة أعوان المتآمرين علي أنصار الحق كائنا من كانوا. و عملا بوظيفته أذاق أصحاب امامنا مر العيش، و جرعهم الغصص، و نغص عليهم الحياة، و لا حقهم بيده و لسانه في عقر دورهم، و في ظلمات سجون القصر، حتي ضاقوا به ذرعا و شكوا أمره الي الامام أكثر من مرة، فبرز الامام عليهالسلام الي الله تعالي في ركعتين صلاهما و دعا فيهما علي ذلك الظالم الآثم، ثم انفتل منهما و كتب الي رجل من أصحابه: «يقتل محمد بن داود قبل عشرة أيام. فلما كان اليوم العاشر قتل» (8) .
(و ظهر أمر الله و هم كارهون) (9) لوقوعه، و هلكوا مدقوقة أعناقهم، و هم مكرهون علي تلقيه!. و تحدثت بقول الامام الركبان، و عرف ذلك القاصي و الداني.. و أصم أرباب القصور عنه أسماعهم.. بل نكلوا بكل من سمعوه عن لسانه!. و هذا الأمر لم يحدث أيام «المستعين».. بل بعده بسنين. و في كل حال آن لك أن تتعرف الي شيء من حياة «المستعين» لتكون نهايته باب معرفة لخلفه «المعتز» و معرفة من جاء بعدهما. و «المستعين» هو أحمد بن محمد بن «المعتصم» الذي كان و «المتوكل» من أشد الحاكمين ظلما لبني علي عامة، و لأئمة الهدي من أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله و سلم خاصة. بويع يوم الأحد لخمس مضين من شهر ربيع الأول سنة ثمان و أربعين و مائتين - أي في اليوم الذي توفي فيه «المنتصر». ثم حمل علي خلع نفسه - علي يد «المعتز» - ليلة الخميس لثلاث مضين من المحرم سنة اثنتين و خمسين و مائتين. ثم بعث اليه «المعتز» من اعترض طريقه في ضواحي سامراء، فقتله و قطع رأسه و حمله اليه في شهر رمضان من تلك السنة (10) .
و في عهده كان سبط رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، يترعرع فيما بين السابعة عشرة من عمره و بين الحادية و العشرين، أي أنه كان في مقتبل العمر و ريعان الشباب، و كان «المستعين» و أي خليفة في القصر العباسي يحسب له ألف حساب و حسابا اذا تبين أنه خلف ابيه في الامامة (11) ، لأننا اذا ذكرنا السلاطين و المؤمنين يبتدر الذهن - أول ما يبتدره - جور السلاطين، و ظلمهم للمؤمنين فكيف بسادة المؤمنين و قادتهم من الأئمة الميامين؟!. فالسلاطين تنسحب حياتهم مع الباطل - غالبا - و المؤمنون و قادتهم يعيشون للحق أبدا، و يموتون من أجله. و بنظري ليس أقل عقلا، و لا أضعف ايمانا بالله، من حكام ظلام يختبئون من الله تعالي في ظل أصابعهم، و يأوون الي دهاليز قصورهم المظلمة ليحبكوا المؤامرات الخبيثة من أجل الايقاع بأولياء الله و نجبائه، و الله تعالي رقيبهم المطلع علي مكائدهم و علي ما في ضمائرهم، لأنهم - حينئذ - (يستخفون من الناس و لا يستخفون من الله و هو معهم اذ يبيتون ما لا يرضي من القول!) (12) .
(ألا انهم يثنون صدورهم - و يتكأكأون مع جلاوزتهم في دهاليز قصورهم لتقرير ما يغضبه سبحانه - ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون و ما يعلنون!) (13) .
(ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم و نجويهم و أن الله علم الغيوب؟!) (14). انهم مساكين!. و قاصرو التفكير.. و قليلوا الدين؛ لأن ملائكته سبحانه يسجلون عليهم محاضر جلساتهم و خلواتهم في تلك الدهاليز المحصنة، و سيعرضون عليهم تسجيلها يوم النشور!. فقد غاب عنهم قوله عز من قائل: (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم و نجويهم؟! بلي و رسلنا لديهم يكتبون) (15)
و سيجدون ذلك الشريط المصور محضرا بين أيديهم، حين يقفون لذل السؤال بين يدي ذي العظمة و الجلال!. مما لا شك فيه أن حلم اغتيال الامام كان يداعب خيال كل خليفة حل في قصر سلطنة بنيالعباس و تلبس بتاج الملك و تجبس في خيلائه، و كان يتربص المناسبة اللائقة لاغتياله. فمنهم من كان يظفر بتحقيق حلمه و تلطيخ يديه بدمائه الزكية، و منهم من كان يخسأ و يخيب و يفعل الله تعالي به ما يشاء، كما حصل في القصة التالية التي حكاها محمد بن علي بن ابراهيم الذي قال: «حدثني أحمد بن الحارث القزويني، قال: كنت مع أبي بسر من رأي، و كان أبي يتعاطي البيطرة - أي معالجة الدواب - في مربط أبيمحمد عليهالسلام.
و كان عند «المستعين» بغل لم ير مثله حسنا و كبرا!. و كان يمنع ظهره و اللجام و السرج. و قد كان جمع عليه الرواض فلم يمكن لهم حيلة في ركوبه. فقال له بعض ندمائه: يا أميرالمؤمنين، ألا تبعث الي الحسن بن علي بن الرضا حتي يجيء، فاما أن يركبه، و اما أن يقتله فتستريح منه؟!. فبعث الي أبيمحمد، ومضي أبي معه. فقال أبي: لما دخل أبومحمد عليهالسلام الدار كنت معه. فنظر أبومحمد الي البغل واقفا في صحن الدار، فغدا اليه فوضع يده علي كفله - أي مؤخر فخذه - فنظرت الي البغل و قد عرق حتي سال العرق منه!. ثم صار الي «المستعين» فسلم عليه، فرحب به و قربه، و قال: يا أبامحمد، الجم هذا البغل. فقال أبومحمد: الجمه يا غلام. فقال «المستعين»: الجمه أنت. فوضع طيلسانه ثم قام فألجمه، ثم رجع الي مجلسه و قعد. فقال له: يا أبامحمد، أسرجه. فقال لأبي: يا غلام: أسرجه. فقال «المستعين»: أسرجه أنت. فقام ثانية: فأسرجه و رجع الي مجلسه. فقال له: نري أن تركبه. فقال: نعم. فركب من غير أن يمتنع عليه!. ثم ركضه في الدار، ثم حمله علي الهملجة - أي التبختر باعتزاز - فكان يمشي أحسن مشي يكون. ثم رجع فنزل، فقال له «المستعين»: يا أبامحمد، كيف رأيته؟. فقال: يا أميرالمؤمنين، ما رأيت مثله حسنا و فراهة!. ما يصلح مثله الا لأميرالمؤمنين. فقال: يا أبامحمد، فان أميرالمؤمنين قد حملك عليه. - أي وهبه لك -. فقال أبومحمد لأبي: يا غلام، خذه. فأخذه أبيفقاده» (16) .
و الخطأ في ذكر اسم «المستعين» بدل اسم «المعتز» بدأ من هنا.. علي لسان ابنالحارث - ابنالبيطري -. و يا خليفة المسلمين الذي افتعل قصة البغل ليقتل الامام أو ليحط من شأنه علي الأقل، كما حصل: لم جعلت البغل أسرع منك معرفة بخازن علم الله و أمين وحيه؟!. و لماذا كان هذا الحيوان الأبكم، أذكي من خليفة ينطق و يتكلم؟!. فمذ وضع الامام عليهالسلام يده الشريفة علي كفل البغل، زخ بعرقه خجلا و هيبة من ملامسة تلك اليد الكريمة لفخذه!. فتواضع للجام، و للسرج..
و اعتز حين علا خيرة الله صهوته فهملج و تبختر، و اختال في الدار أمام المشاهدين، وفقأ حصرمة في عين أميرالمؤمنين و رهطه المتآمرين!. أما أنت، فرأيت اذعان البغل، و عرقه، و طأطأة رأسه للجام، و توطئة ظهره للسرج و للامام.. و لكنك سهوت عن أن ذلك البغل داس عنفوانك، و أذل كبرياءك، و ألقي كيدك في نحرك.. فما ارعويت!، بل كأنك - لوقاحتك و جرأتك علي الله - ما نظرت و لا رأيت.. و لذلك أعطاك البغل قفاه، و أسلم قياده لخادم الامام، و خرج من قصرك بالسرج و اللجام..
و أبقي غصة مرة في صدرك و صدور المشيرين عليك باهانة الامام التي تعمدتها دون خوف من ربك و لا تأنيب من ضميرك. و علي كل حال - أيها المستعين بغير الله - انني أستعين بالله وأحول هذا التقريع اللطيف عنك الي خلفك «المعتز» بغير الله، بعد أن رفس البغل عزته في مجلس انتصر فيه البغل، علي صاحب الأصل!!! فان هذه الحادثة قد جرت علي يده و ان كان اسمك قد حل مكان اسمه بسهو الرواة و المؤرخين الذين تشابه البقر عليهم، لأنك، و خلفك، في شرع سواء بالنظر الي مكايدة حملة كلمة الهدي الي الوري.
لقد كان أولئك السلاطين يرون الآيات تلو الآيات، و الخوارق اثر الخوارق، و لكنهم ليس لهم أعين يبصرون بها، و لا أذان يسمعون بها، و لا قلوب يفقهون بها شيئا صدر عن السماء، اذ أبطرهم نعيم العيش، و أضلهم حب الترف فجرفهم الطيش، وخانهم الشرف اذ فعلوا مع أبناء عمومتهم الأفاعيل التي لم يفعلها معهم عدو و لاغريب.. بل ان تلك الآيات كانت تزيدهم اغماض عيون، و صمم آذان، و عمي قلوب، و مكرا علي مكر، و حربا لله و رسوله علي حرب!. قد قال محمد بن اسماعيل العلوي: حبس أبومحمد عليهالسلام عند علي بن أوتامش - أحد حرسة سجون الخليفة - و كان شديد العداوة لآل محمد عليهمالسلام، غليظا علي آل أبيطالب. و قيل له: افعل به - بالامام عليهالسلام - و افعل! أي شدد عليه و كن قاسيا مسيئا -.
قال: فما أقام الا يوما حتي وضع خديه له!. و كان لا يرفع بصره اليه اجلالا و اعظاما!. و خرج من عنده و هو أحسن الناس بصيرة، وأحسنهم فيه قولا» (17). فبأي آلاء ربهم يكذبون، و السجان الفظ الغليظ القاسي القلب، وضع خديه للامام خضوعا و تولاه و آمن بما هو عليه قبل أن يتم يومه و ليلته عنده؟! العدو اللدود انقلب الي محب موال بين عشية و ضحاها..
و القريب الآباء و الجدود يبقي مبغضا قاليا معاديا!. انها لاحدي الكبر أن ينجر الانسان بشعرة الشيطان الي مثل هذا الجفاء الشديد، و أن يحقد علي أهل الحق حقدا عنيدا!. بالأمس قال هارون الرشيد المتربب علي أهل الأرض: اذهبي أيتها الغمامة، و أمطري أني شئت، فان خراجك سيأتي الي!. فسمع ذلك أبناؤه، و خلفاؤه. فظنوا أنفسهم آلهة ينازعون الله ملكه و عظمته!. و من عارض حقوقهم فرقبته طعمة للسيف!. فقد كانوا جميعا فراعنة مترببين و أهل دنيا.. و لم يتفق أهل دنيا مع أهل دين قط.. و لا أهل باطل مع أهل حق، و لا أهل ضلال مع أهل هدي.. و لذلك كان ما كان، علي مر الزمان.
ومع «المعتز»
«المعتز» مغتر كغيره ممن سلفه و خلفه!. نعم قد اعتز بغير الله عزوجل و اغتر بالملك و المجد، وخالف فعله اسمه الذي انتحه كآبائه و أبنائه حين تسموا بالضد.. و اغتر بأبهة السلطان، و بالتاج و الصولجان بدليل سيرته حين رصد اهتمامه في قهر أهل الحق؛ اذ يظهر من التاريخ أنه، في غضون أقل من ثلاث سنوات تأمر فيها كان امامنا عليهالسلام أثناءها يقضي معظم أوقاته ضيفا كريما في سجنه، الي جانب الاقامة الجبرية التي كانت مفروضة عليه بشدة تصل الي مراقبة الداخلين و الخارجين الي بيته، رغم علمه بأن الامام عليهالسلام منصرف الي العبادة ليله و نهاره، بعيدا عن النشاطات المعادية للسلطان و أهل الدنيا عامة..قد بويع «المعتز» و له ثمان و عشرون سنة، بعد خلع «المستعين» و قتله بأمره، كفاتحة شر لبدء سلطانه!. و كانت بيعته يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة اثنتين و خمسين و مائتين. ثم دفع ثمن جريمته مع «المستعين» فأمر بخلع نفسه مثله يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس و خمسين و مائتين، ومات بعد أن خلع نفسه بستة أيام (18) ، و كان قد استوزر جعفر بن محمد، و كانت الكتب تخرج من القصر باسم صالح بن وصيف كأنه مرسوم بالوزارة لشدة ما أطلق يده (19) .
و كذلك قال عنه ابنالجوزي و لم يذكر كيفية قتله بالتفصيل. و لكن المسعودي قال: «منهم من قال: منع في حبسه من الطعام و الشراب فمات؛ و منهم من قال: انه حقن بالماء الحار المغلي، فمن أجل ذلك حين أخرج الي الناس وجدوا جوفه وارما. و الأشهر عند العباسيين أنه أدخل حماما و أكره علي دخوله اياه و كان الحمام محميا، ثم منع من الخروج منه. ثم تنازع هؤلاء فمنهم من قال: ترك في الحمام حتي فاضت نفسه، و منهم من ذكر أنه أخرج من بعدما كادت نفسه أن تتلف، فأسقي شربة من ماء بثلج فتناثر كبده فخمد من فوره!. و قيل مات في الحبس حتف أنفه.
فموته علي كل حال من ابتكارات أسرته المتخصصة بفنون القتل و التعذيب.. و بالأمس أرسل هو خادمه ليحتز رأس سلفه «المستعين».. و اليوم أدخل هو في حمام «مسجور» و بؤسي له، و لسلفه، في الموقف يوم النشور!. و نعود بك الي قصة الأمر بحمل الامام عليهالسلام الي الكوفة - لقتله هناك أو في الطريق - و أنه قد صدر عن «المعتز» يقينا، فنقول: قال أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد: أخبرني أبوالهيثم بن سيابة أنه كتب اليه - عليهالسلام - لما أمر «المعتز» بدفعه الي سعيد الحاجب عند مضيه الي الكوفة، و أن يحدث فيه ما يحدث في الناس - أي يقتله - بقصر ابنهبيرة: جعلني الله فداك، بلغنا خبر قد أقلقنا و بلغ منا!. فكتب عليهالسلام اليه: بعد ثالث يأتيكم الفرج. فخلع «المعتز» اليوم الثالث» (20)
و هذا هو ما روي عن محمد بن عبدالله سابقا. و روي مثله عن محمد بن عبدالله بن بليل - و قيل بلبل خطأ - الذي قال: «تقدم - أي أمر - «المعتز» الي سعيد الحاجب أن أخرج أبامحمد الي الكوفة، ثم اضرب عنقه في الطريق. فجاء توقيعه عليهالسلام الينا: الذي سمعتموه تكفونه. فخلع «المعتز» بعد ثلاث، و قتل» (21) .
و قال محمد بن علي الصيمري: «كتب الي أبومحمد عليهالسلام: فتنة تظلكم، فكونوا علي أهبة!. فلما كان بعد ثلاثة أيام وقع بين بنيهاشم و كانت لهم هنة لها شأن. فكتبت اليه: هذه هي؟. قال: لا. و لكن غير هذه، فاحترسوا. فلما كان بعد أيام، كان من أمر «المعتز» ما كان»(22) .
و كذلك قال محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن موسي بن جعفر: «كتب أبومحمد، الحسن، الي أبيالقاسم، اسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت «المعتز» بنحو عشرين يوما: الزم بيتك حتي يحدث الحادث. فلما قتل «بريحة» كتب اليه: قد حدث الحادث، فما تأمرني؟. فكتب اليه: ليس هذا الحادث. [هو] الحادث الآخر. فكان من «المعتز» ما كان» (23) .
و السؤال الذي يمكن طرحه الآن هو: هل يعلم الامام الغيب فيوقت للأمور بهذه الدقة العجيبة حتي لكأنه شارك الله تعالي في علمه؟!. و الجواب هو: نعم، ان الامام يعلم بعض الغيب، و لكن لا يشارك الله تعالي لي علمه أحد. و الامام يعلم ذلك الغيب باذن ربه عزوجل، و باقداره علي ذلك؛ لأن البريد السماوي - الدبلوماسي - يأتيه تباعا بلا رقيب، فلا ينزل قضاء هام الي الأرض الا عرفه الامام قبل وقوعه. و قد سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع بتفصيل في كتابنا «الامام المعجزة» و أشرنا اليه هنا - سابقا، و نكتفي الآن بايراد حديثين اثنين فقط في هذا الموضوع:
أولهما: ما جاء عن أبيربيع الشامي الذي قال: «قال أبوعبدالله عليهالسلام: العالم - أي الامام - اذا شاء أن يعلم، علم» (24).
و ثانيهما: ما رواه عمار الساباطي الذي قال: «سألت أباعبدالله عليهالسلام عن الامام، أيعلم الغيب؟! قال: لا، و لكن اذا أراد أن يعلم الشيء، أعلمه الله ذلك» (25). أفتري أن حكومة السماء أعجز من حكومات الأرض في ادارة ملكوتها؟!. أم تظن أن سفير الله عزوجل، أقل شأنا من سفراء دولنا، و أضيق صلاحية، و أفقر أجهزة و وسائل اتصال؟!! اذا تخيلت ذلك، أسأت الظن بقدرة ربك عزت قدرته!. أجل أيها «المعتز» ببريق تاج السلطنة: ان من حفر بئرا لأخيه، وقع فيها!. فأمرك لخادم شقي عندك «لا سعيد» بحمل الامام عليهالسلام الي الكوفة، و قطع عنقه في الطريق أو في قصر بنيهبيرة، جر عليك ويل الحمام، و أذاقك مر الحمام، و غضب السماء، قبل أن تشفي غليلك من سبط الرسول و ابنالبتول، و برد غليل قلبك بشربة ماء بالثلج فطرت كبدك و جعلتك تلفظها قطعا قطعا لتري موتك بعينيك فتتضاعف عليك غصصه و آلامه و سكراته!. و لأنت من ذرية بعضها من بعض في الولوغ بدماء الأبرار..
و الامام عليهالسلام من ذرية بعضها من بعض في انتجاب الواحد القهار. فمن رأيت أقهر لعدوه؟!. الله، أم أنت؟!. قال ربك أيها «المعتز» بغيره (ا دعوني أستجب لكم) (26) فدعا عليك الامام لما أمرت بضرب عنقه.. فدق الله عنقك في غضون ثلاثة أيام.. و حين يدعو الامام، يهدم الله تعالي بدعائه عز كل ظالم متجبر يؤذي عباده الصالحين، لأن بيده اسم الله الأعظم الذي يرديك به قبل أن تفتح فمك اذا أردت أن تتكلم!.
فالأئمة عليهمالسلام ليسوا أربابا و لا آلهة، و لا ادعوا ذلك لأنفسهم، بل عاقبوا من ادعاه بالقتل و الحرق و اللعن. و نحن لا ننظر اليهم بهذا المنظار، و لا يرضون لأحد من مواليهم أن ينسب اليهم ما ليس فيهم. بل يريدوننا معتدلين نقول كانوا عبادا مكرمين.. لا أكثر و لا أقل.. و كشاهد علي ذلك نذكر لك ما حدث به اسماعيل بن عبدالعزيز الذي قال: «قال لي أبوعبدالله عليهالسلام: ضع لي في المتوضا ماء - أي في المرحاض و بيت الطهور -. فقمت، فوضعت له.. فدخل. فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا و كذا، و يدخل المتوضأ؟!. أي أنه يغالي فيه و يعتقد بأنه لا يأكل و لا يشرب، و لا يبول و لا يتغوط، و أنه فوق البشر -!. فلم يلبث أن خرج فقال: يا اسماعيل بن عبدالعزيز: لا ترفعوا البناء فوق طاقتنا، فينهدم، - أي لا تجعلونا أربابا من دون الله فينهدم ايمانكم -. و اجعلونا عبادا، عبيدا مخلوقين، و قولوا فينا ما شئتم. قال اسماعيل: كنت أقول فيه و أقول!» (27)- أي أنه كان يضعه فوق مرتبة العبودية لله، و العياذ بالله من ذلك - فعرف الامام ذلك منه دون أن ينطق به و من غير أي تنويه.. فعلم الأئمة من علم ربهم، و مواهبهم من عطاياه و أفضاله.. و هم من خيرة خلقه في أرضه بلا جدال..
و مع «المهتدي»
كانت البيعة «للمهتدي» يوم الأحد لليلة بقيت من رجب سنة خمس و خمسين و مائتين، و له يومئذ سبع و ثلاثون سنة. و لم يستكمل الأربعين لأنه قتل في سنة ست و خمسين و مائتين، أي بعد أن قضي في الخلافة أحد عشر شهرا، و كان قد استوزر عيسي بن فرخانشاه (28) و تمت بيعته بعد سنة و شهور من امامة سيدنا العسكري عليهالسلام. و في سنتين و شهور من امامته قتل «المهتدي» و خلفه «المعتمد» (29).و قد قال عنه المسعودي: «ذهب من أمره الي القصد و الدين، فقرب العلماء، و رفع منازل الفقهاء و عمهم ببره. وكان يقول: يا بنيهاشم دعوني حتي أسلك مسلك عمر بن عبدالعزيز، فأكون فيكم مثل عمر بن عبدالعزيز في بنيأمية» (30) .
و قال عنه المسعودي أيضا: «ذكر محمد بن علي الشريعي، و كان ممن يلي «بالمهتدي» و كان حسن المجلس عارفا بأيام الناس و أخبارهم، قال: كنت أبايت «المهتدي» كثيرا - أي يبيت معه ليلا - فقال لي: أتعرف خبر نوف الذي حكي عن علي بن أبيطالب عليهالسلام حين كان يبايته؟.قلت: نعم، يا أميرالمؤمنين. قال نوف: رأيت عليا عليهالسلام قد أكثر الخروج و الدخول و النظر الي السماء، ثم قال لي: يا نوف، أنائم أنت؟. قلت: بل أرمقك بعيني منذ الليلة!. فقال لي: يا نوف، طوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة!. أولئك قوم اتخذوا أرض الله بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا و الكتاب شعارا، و الدعاء دثارا!. ثم تركوا الدنيا تركا علي منهاج المسيح عيسي ابنمريم عليهالسلام. يا نوف، ان الله جل و علا أوحي الي عبده المسيح، أن قل لبني اسرائيل: لا تدخلوا بيوتي الا بقلوب خاضعة، و أبصار خاشعة، و أكف نقية؛ و أعلمهم أني لا أجيب لأحد منهم دعوة، و لا لأحد قبله مظلمة» (31). قال محمد بن علي الشريعي: فوالله لقد كتب «المهتدي» الخبر بخطه.
و لقد كنت أسمعه في جوف الليل، و قد خلا بربه، و هو يبكي و يقول: يا نوف، طوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة.. الي أن كان من أمره مع الأتراك ما كان» (32).
و انه لقول جميل - يا مسعودي - صدقت قائله الشريعي حين قاله و رضيت به دون تعليق.. فقد كان يخالفه فعل الخليفة، و يخالفه ما ذكره غيرك من سيرة ابنالأربعين الذي كان يتم عقله في الليل فيقول: طوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة!. ثم يفقد رشده في النهار و يتصرف تصرف الأشرار. فكلام الليل - عند هذا الخليفة - يمحوه النهار!. لأنه كان يستحسن في الليل التغني بهذه الجملة، و يستعذب صوته و صداه و هو يردده وحده.. و يسمعه منه الشريعي فيفرح بايمان سيده!. و لكنه لو جرب أن يراقب فعله فرآه يتعامل مع الله جل و علا، كما يتعامل معه المبصرون من الغجر حين يصورون له ملكا لا يبلي و مالا لا يفني، ثم يتبخر ذلك كله بعد خروجهم من مجلسه!. و أنت يا مسعودي ذكرت أن أباهاشم الجعفري - و هو من رؤوس الهاشميين - قال: «كنت محبوسا مع أبيمحمد - الحسن العسكري عليهالسلام - في حبس المهتدي، فقال لي - الامام -: يا أباهاشم، ان هذا الطاغي أراد أن يبعث بأمر الله عزوجل في هذه الليلة.. أي أن يقتل الامام عليهالسلام - و قد بتر الله عمره و جعله للمتولي بعده.
فلما أصبحنا شب الأتراك علي «المهتدي» و أعانهم العامة لما عرفوا من قوله بالاعتزال و القدر، فقتلوه و نصبوا مكانه «المعتمد» و بايعوا له. و كان «المهتدي» قد صحح العزم علي قتل أبيمحمد عليهالسلام، فشغله الله بنفسه حتي قتل و مضي الي أليم عذاب الله» (33).
فأين «المهتدي» عن تقريب العلماء، و رفع منازل الفقهاء و برهم، و هو يسهر ليله في تدبير المكيدة لقتل الامام، لا في التضرع و الخشوع و التهجد و الناس نيام؟!. و أين «مهتديك»يا شريعي، عما شرعت به من النفاق حين صورته يتقمص في لياليه شخصية الزهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، و وجدناه يفتعل انتحال شخصية علي بن أبيطالب عليهالسلام ثم يبيت ليلته في تدبير قتل ابنه المحبوس في سجنه ظلما و عدوانا؟! و هل الذي يهادن بنيهاشم و يسلك فيهم مسلك عمر بن عبدالعزيز، يناصب العداء لعترة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و يلقي أمين الله في أرضه في غياهب سجنه، و يقضي الليل في تصميم عملية اغتياله؟!. انها لألقاب فارغة من معانيها.. و «المهتدي» يعني الضال، أو الطاغي كما دعاه الامام عليهالسلام..
و لا تبحث عن بديل لهذا اللقب الذي خلعه عليه ناطق صادق. قال أحمد بن محمد - و روي أيضا عن محمد بن الحسن بن شمون البصري، عمن حدثه -: «كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام، حين أخذ «المهتدي» في قتل الموالي: الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهددك - و يتهدد شيعتك - و يقول: و الله لأجلينكم عن جديد الأرض!. - أي عن وجهها -. فوقع أبومحمد عليهالسلام بخطه: ذلك أقصر لعمره. عد من يومك هذا خمسة أيام، و يقتل في اليوم السادس بعد هوان و استخفاف يمر به، و ذل يلحقه!. فكان كما قال عليهالسلام» (34) .
فيا طويل العمر، قد قطع الله عمر هذا الطاغي المقسم به سبحانه أن يجلي الشيعة و امامهم عن جديد الأرض.. و أسكنه بقدرته بطن الأرض كومة أشلاء قطعتها سيوف جنده و حماة ملكه!. فكيف رأيت صنع الله في مقمص شخصية علي بن أبيطالب، حين كان يتغني بطوبي للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة؟!. القوم - يا شريعي - أبناء القوم.. و ليس فيهم صالح لا في الأمس و لا اليوم. و قولك في زهد «المهتدي» مردود عليك من سيرته.. و ان المسعودي الذي حكي عن تقريبه للعلماء و الفقهاء و برهم، حكي بعدها أنه شرع في قتل مواليه من الترك، فخرجوا عليه و قتلوا صالح بن وصيف، و كان أعظم أمرائه و محل اعتماده في مهماته، و علقوا رأسه في باب «المهتدي» لهوانه و استخفافه!. فتغافل، و لكنهم قتلوه بعد ذلك أقبح قتل» (35) .
فهل كان هذا الخليفة «مهتديا» حقا فجرب مع بنيهاشم و غيرهم سلوك طريقة العدل، أم هو ضال طاغ كذب علي الناس حين ألقي خطاب العرش لتستوسق له الأمور، ثم لما تحكم أعمل سيفه في الرقاب، ففتح عينيه علي سيف مصلت أذاقه الموت الزؤام و يده قابضة علي ساق عرشه، و اليد الأخري تشد علي صولجان الظلم الذي لما هزه في وجه خيرة المؤمنين، أكبه الله علي منخريه و ألحقه بآبائه الأولين؟!.
و انه لختار قال، و قال.. ثم خالف فعله قوله فبطش بالموالي و ولغ في دمائهم، فانتفضوا ثأرا لأنفسهم، و انتقضوا علي ظالمهم فقتلوا رئيس أمرائه و علقوا رأسه علي بابه اذلالا له، فأغضي عن ذلك و أغمض - كالثعلب - عينا و فتح أخري ليسلم بريشه.. و لكنه فتح العين الأخري علي بريق سيف النقمة يقد جمجمته و هامته قدا!. و نتابع لطفه بالعلماء، و بره بالفقهاء، و أهل الدين، فنذكر أن الامام عليهالسلام كان لا يفارق حبسه الا ليعيدوه اليه انتقاما لعباسيته الحاقدة من أبناء علي و فاطمة عليهمالسلام جميعا، اذ فضلهم الله تعالي عليهم و علي سائر من برأ و ذرأ و جعلهم السادة و القادة الذين تأخذهم السماء بكلتا يديها و ملء عنايتها، لأنهم حفظة شرعها علي الأرض.. فعن محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن موسي بن جعفر - أيضا - أنه قال: «دخل العباسيون علي صالح بن وصيف - الذي كانت الرسائل و الكتب تصدر عن القصر باسمه - و دخل معهم صالح بن علي و غيره من المنحرفين عن هذه الناحية - أي عن الامامة - فقالوا لابنوصيف: ضيق عليه - أي علي الامام - و لاتوسع!. اذ كان يومئذ ضيفا عليه في سجنه -.
فقال لهم صالح ما أصنع به، وقد وكلت به رجلين شر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة و الصلاة الي أمر عظيم!. ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما، ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟!. يقصد الامام السجين عليهالسلام -. فقالا له: ما نقول في رجل يصوم النهار، و يقوم الليل كله - يصلي - لا يتكلم و لا يتشاغل بغير العبادة؟!. فاذا نظرنا اليه ارتعدت فرائصنا و داخلنا ما لا نملكه من أنفسنا!. فلما سمع ذلك العباسيون، انصرفوا خائبين» (36) .
و لا جرم أن ينقلبوا خائبين.. و ينصرفوا خاسئين غاضبين.. غضب الخيل علي اللجم!. و كان الأحري بهم أن يخرجوا تائبين من ظلم بضعة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و نادمين عن سوء تصرفهم بحق العبد الصالح الذي اختاره سبحانه لأمره علي علم منه!. و كذلك كان الأجدر بأمر الأمراء: صالح بن وصيف أن يفيء الي وعيه و يثوب الي رشده، و يتدخل لدي سيده من أجل اطلاق سراح ذلك السجين العظيم المظلوم الذي رمي به في غياهب سجنه و انصرف للهوه و لعبه!. و علي كل حال اسألوا معي صالح بن وصيف هذا - قبل أن ينزلوا رأسه المعلق علي باب قصر سيده «المهتدي» عن سبب حبس سبط الرسول و ابن بنت البتول صلي الله عليه و عليها، و ما هو جرمه المشهود بحق عرش «المهتدي» بارشاد الشيطان الي ما يغضب الديان؟!.
بل لا بد أن نسأل هذا الرهط العباسي المنافق المارق من دين الله، بأي ذنب حبس الامام، و بأي فرية منه عليكم جئتم لاهثين تلتمسون التضييق عليه من قبل عميلكم الفاسق الذي سبق مولاه الي سقر، حيث وجد فيها مأوي سيده و مأواه؟!. بكي معاوية بن أبيسفيان مرة عندما سمع كلام علي عليهالسلام لنوف، و تباكي «المهتدي» الي وثنية الأمويين و ايذاء أبناء النبيين مرة ثانية لذلك الكلام، ثم بكي، فعلا، عندما ذاق حر حد الحسام.
و مع «المعتمد»
«المعتمد» هو أحمد بن جعفر «المتوكل» الذي بويع يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست و خمسين و مائتين، و هو ابنخمس و عشرين سنة، و مات في رجب سنة تسع و سبعين و مائتين، و كانت خلافته ثلاثا و عشرين سنة (37) و لم يكن خيرا من أسلافه لا قولا و لا عملا، ولم تلد الحية الا حية!.و لكنه كان أصدق من الخليفة الذي سبقه و وعد بالعدل و مارس الظلم، لأنه ظهر علي حقيقته و كان «يزيد» العباسيين كما كان ابنمعاوية «يزيد» الأمويين، اذ كان مشغوفا بالطرب و اللهو، تغلب عليه معاقرة الخمور و محبة أنواع الغناء و الملاهي، كما قال المسعودي و غيره من المؤرخين (38) .
و الحق معك يا «معتمد» الزمان، فقد عرفت آخرتك الخاسرة فلم تعمل لها، و استزدت من دنياك، ثم استغثت بالامام ليدعو لك بطول العمر، و أسلمت قيادك لأهل الفسق و البهتان، و رضيت بزينة الحياة الدنيا و غصت في ملذاتها الي أذنيك.. فما أحسن ما صنعت من معاقرة الخمور بعد أن ارتكبت الزلة الكبري حين قعدت مقعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أنت غير أهل لذلك المنصب! فسواء عليك أتعبدت و تهجدت أم لهوت و فسقت و تعاطيت الآثام كبائرها و صغائرها، لأن النازي علي هذا المنبر بغير حق فليتبوأ مقعده من النار!. ثم أضفت الي تلك الزلة زلة أدهي و أمر حين قتلت الامام الذي فضله الله تعالي عليك و علي سائر الأنام، و بؤت بعارها و شنارها الي يوم الخلود!.
و نحن حين نراجع سيرة هذا الخليفة المستهتر، نجد رجلا اطمأن الي الدنيا و ابتاعها بآخرته حين أمن عليها بعد تصريح الامام بطول عمره حين رجاه أن يدعو الله باطالة عمره فبشره بذلك، فتمرغ في موبقاتها و قتل و نكل، و فعل ما لا يجوز أن يفعل، و كأنه سوف لا يسأل!. من فضائل هذا الخليفة الماجن أنه سار علي أثر أسلافه من تعمد التضييق علي أهل الحق، و قتلهم و التنكيل بهم بسبب و بلا سبب.. فقد ناصب الامام عداء أسرته الموروث، و أرجحه بين سجونه مدة معاصرته له، و كان يوكل به من يؤذيه و يجفوه و يفعل معه كل سوء.
فعن علي بن محمد أنه سمع بعض أصحابنا يقول: «سلم أبومحمد عليهالسلام الي نحرير - الخادم الظالم - الذي كان راعي سباع الخليفة و كلابه؛ فكان يضيق عليه و يؤذيه. فقالت له امرأته: ويلك، اتق الله!. لا تدري من في منزلك!. و ذكرت له عبادته و صلاحه، و قالت: اني أخاف عليك منه!. فقال: والله لأرمينه بين السباع!. و استأذن في ذلك، فأذن له، فرمي به اليها و لم يشكوا في أكلها له.. فنظروا الي الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه عليهالسلام قائما يصلي و هي حوله!. فأمر باخراجه الي داره» (39).
ثم قال علي بن محمد نفسه: «و روي أن يحيي بن قتيبة الأشعري - الذي سلم الامام الي نحرير الخادم الغاشم - أتاه بعد ثلاث مع الأستاذ... نحرير - فوجداه يصلي و الأسود حوله!. فدخل - أي يحيي - الغيل - أي قفص السباع - فمزقوه و أكلوه!. و انصرف نرير من فوره الي «المعتمد» فدخل «المعتمد» علي العسكري عليهالسلام، و تضرع اليه، و سأله أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة. فقال عليهالسلام: مد الله في عمرك. فأجيب و توفي بعد عشرين سنة» (40) .
و قبل التعليق علي هذه التمثيلية - المهزلة، نلفت النظر الي أن الامام عليهالسلام قال «للمعتمد»: مد الله في عمرك، علي سبيل الاخبار، لأنه علي علم بمقادير الأعمار، فهو يعلم سلفا كم يكون عمره اذ عنده علم البلايا و المنايا؛ و لم يقل له تلك الجملة علي سبيل الدعاء لأنه عليهالسلام جل عن أن يدعو لظالم بطول العمر. أما نحرير هذا، فكان من أشر خدم القصر و أشرسهم طباعا و أشدهم لؤما علي الامام عليهالسلام، و علي أتباعه من أهل الحق. و أنت تري أن انذار زوجته له لم يجعله يرق ويلين، بل أثار حقده الدفين فنفذ أمرا خطيرا حين استأذن بالقاء الامام الي السباع..
و أراد ما أراد، و لكن أراد الله تعالي غير ما أراد، فألهمه حقده أن يدخل غيل السباع آمره بذلك فدخل و كان طعمة رخيصة تحت أنيابها التي رصدها الله تعالي لتمزيق لحمه حين أراد هو تمزيق لحم امام الهدي و حجة الله علي الوري.. لقد رميت يا نحرير بالامام الي السباع عنوة، و غصبا عنه.. و رمي الله تعالي بآمرك اليها فكانت فيها نهايته الأليمة.. (و ما رميت اذ رميت و لكن الله رمي!!. ذلكم و أن الله موهن كيد الكافرين) (41) .
و أما طويل العمر، و طويل عهد الخلافة، فقد حمل اثما أثقل ظهره، و لم ينفعه طول الأمد كما ستري، لأنه جرع امامنا العسكري الغصص، ثم جعل مطلع العشرين من سني خلافته، أيام تضييق و سجن للامام و لأصحابه و جميع المتعلقين به بسبب أو بنسب.. و انتهت تلك الأيام بسم الامام!. و من كتاب أحمد بن محمد بن العياش، قال: كان أبوهاشم الجعفري حبس مع أبيمحمد عليهالسلام، و كان «المعتز» حبسهما مع عدة من الطالبيين في سنة ثمان و خمسين و مائتين. - و الصحيح أن «المعتمد» هو الذي حبسهم يومئذ، لأن «المعتز» كان قد قتل قبل ذلك بثلاث سنين -. و قال: حدثنا أحمد بن زياد الهمداني، عن علي بن ابراهيم بن هاشم، عن داود بن القاسم - يعني: أبيهاشم الجعفري - قال: كنت في الحبس المعروف بحبس خشيش في الجوسق الأحمر، (42) .
أنا و الحسن بن محمد العقيقي، و محمد بن ابراهيم العمري، و فلان و فلان، اذ دخل علينا أبومحمد، الحسن عليهالسلام، و أخوه جعفر، فخففنا به. و كان المتولي لحبسه صالح بن وصيف، و كان معنا في الحبس رجل جمحي يقول انه علوي. فالتفت أبومحمد فقال: لولا أن فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متي يفرج عنكم، و أومأ الي الجمحي أن يخرج فخرج. فقال أبومحمد: هذا الرجل ليس منكم، فاحذروه!. فان في ثيابه قصة قد كتبها الي السلطان يخبره بما تقولون فيه!. فقام بعضهم ففتش ثيابه، فوجد فيه القصة يذكرنا فيها بكل عظيمة» (43) .
و يظهر في هذا الحديث اشتباه و تصحيف يبدوان لمن دقق النظر و لا حظ أن الآمر بالحبس سنة ثمان و خمسين و مائتين هو «المعتمد» الذي كان قد قبر «المعتز» منذ حوالي ثلاث سنين، ثم لاحظ أن رقيب الحبس الذي ذكر اسمه كان قد قتل - هو الآخر - قبل ذلك.. و كان يجوز أن نعتقد أن الآمر بحبسهم هو «المعتز» و أنه لم يكن ذلك سنة ثمان و خمسين و مائتين، لولا أن هذا الحبس الجماعي كان في عهد «المعتمد» بلا ريب. و الدليل علي صحة الاشتباه و التصحيف أيضا، أن الحبس الذي كانوا فيه يعرف بحبس صالح بن وصيف كما صرحت به رواية أخري عن أبيهاشم الجعفري الذي قال: «كنت في الحبس الأحمر، المعروف بحبس صالح بن وصيف، مع جماعة منهم أبومحمد، الحسن العقيقي، و محمد بن ابراهيم العمري؛ فحبس أبومحمد عليهالسلام و أخوه جعفر، فحففنا به، و قبلت وجه الحسن و أجلسته علي مضربة كانت عندي.
و جلس جعفر قريبا منه، فقال جعفر: و اشيطناه!. بأعلي صوته، يعني جارية له. فضجره - أي تبرم به و غضب منه - أبومحمد و قال له: اسكت!. و انهم رأوا فيه أثر السكر... ثم ذكر قصة الجمحي و ختمها بقوله: يذكرنا فيها بكل عظيمة، و يعلمه أنا نريد أن نثقب الحبس و نهرب!. ثم زاد فيها قوله: «كان الحسن - عليهالسلام - يصوم، فاذا أفطر أكلنا معه ما كان يحمله غلامه في جونة مختومة. - أي قدر مقفلة. فضعفت يوما عن الصوم، فأفطرت في بيت آخر علي كعكة و ما شعر بي أحد. ثم جئت فجلست معه، فقال لغلامه: أطعم أباهاشم شيئا فانه مفطر. فتبسمت، فقال: مم تضحك يا أباهاشم؟!.
اذا أردت القوة فكل اللحم، فان الكعك لا قوة فيه. فقلت: صدق الله و رسوله و أنتم عليكم السلام. فأكلت. فقال: أفطر ثلاثا، فان المنة - أي القوة - لا ترجع لمن أنهكه الصوم في أقل من ثلاث. فلما كان اليوم الذي أراد الله أن يفرج عنه، جاء الغلام فقال: يا سيدي، أحمل فطورك؟. قال: احمل، و ما أحسبنا نأكل منه. فحمل الطعام الظهر، و أطلق عنه العصر و هو صائم، فقال: كلوا هنأكم الله» (44) .
و قبل التحقيق بهذه الرواية نورد رواية ثالثة تناولت قصة حبسه عليهالسلام في هذا التاريخ بالذات، قال فيها سعد بن عبدالله: «حدثني جماعة، منهم أبوهاشم، داود بن القاسم الجعفري، و القاسم بن محمد العياشي، و محمد بن عبيدالله، و محمد بن ابراهيم العمري، و غيرهم ممن حبس بسبب قتل عبدالله بن محمد العباسي: أن أبامحمد عليهالسلام، و أخاه جعفرا، أدخلا عليهم ليلا. قالوا: كنا ليلة من الليالي جلوسا نتحدث اذ سمعنا حركة باب السجن، فراعنا ذلك. و كان أبوهاشم عليلا، فقال لبعضنا: اطلع و انظر ما تري. فاطلع الي موضع الباب، فاذا الباب فتح، و اذا هو برجلين قد أدخلا الي السجن، و رد الباب، و أقفل. فدنا منهما، فقال: من أنتما؟!. فقال أحدهما: أنا الحسن بن علي، و هذا جعفر بن علي.
فقال لهما: جعلني الله فداكما، ان رأيتما أن تدخلا البيت. و بادر الينا و الي أبيهاشم و أعلمنا، و دخلا. فلما نظر اليهما أبوهاشم قام عن مضربة كانت تحته، فقبل وجه أبيمحمد عليهالسلام، و أجلسه عليها، فجلس جعفر قريبا منه. فقال جعفر: و اشيطناه!. بأعلي صوته، يعني جارية له. فزجره - أي انتهره - أبومحمد عليهالسلام و قال له: اسكت!. و انهم رأوا فيه آثار السكر، و أن النوم غلبه و هو جالس معهم، فنام علي تلك الحال» (45) .
«فالمعتمد» هو الذي حشد هذا الجمع الغفير من الطالبيين في دهاليز سجنه المظلم يقينا، و ليس «المعتز». و أنت تري الأسلوب الساقط الذي استعمله الخليفة في التجسس، اذ وضع عليهم رقيبا جمحيا سافلا منافقا ادعي أنه علوي ليحملهم بطرق نفاقه الخاصة علي ذكر السلطان بالسوء فيسجل عليهم الأقوال بشكل مضخم يجعل فيه الحبة قبة و يزيد من عنده ما شاء له نفاقه، كتهمتهم بثقب الحبس ليهربوا و هم من علية القوم و من أشراف الناس و أجلائهم و أفاضل علمائهم!. فما أقبح سلطانا تقوم دعائمه علي مثل هذه الوسائل الرخيصة!. و أقبح منه «المعتمد» علي تلك الأساليب و اتخاذ أولئك الأعوان الذين هم من جنود الشيطان..
و أرجو أن لا أكون قد تركت لقارئي الكريم مجالا للشك بأن «المعتمد» كان بطل هذه التمثيلية المخزية. ضع «المعتمد» علي مبتدعات فكره و أبالسة قصره - لا علي الله عز و جل - في لائحة (ان الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا)(46)
لأنه لم يشبع نهمه من خضم مال المسلمين في حكم ظالم امتد أمده عشرين سنة، و لا شفي غليله من تعذيب المؤمنين، و تشريدهم، و تقتيلهم!. فقد كرر حبس الامام و أصحابه مرات و مرات، و أذن بالقائه الي السباع و رأي صنع ربه في راعي كلابه و أسوده و تاب من ذلك و من غيره مرارا و تكرارا، و عاد الي أقبح مما كان عليه الفينة بعد الفينة..
ثم انتهي بأن اغتال الامام و لم يرع فيه ذمة القرابة، و لا بنوة النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و لا حرمة الدين في قتل سيد المسلمين، رغم أنه تلقب بأميرالمؤمنين، و ارتضي لنفسه مثل هذه الجريمة النكراء التي تهتز لها الأرض و السماء!. .. لقد مر عليك قريبا أنه اعتذر للامام عن حبسه و ظلمه، و خلي سبيله و طلب دعاءه و رضاه و سأله أن يدعو الله ليطيل عمره في الخلافة..
و الآن نطلعك علي ما قاله علم الهدي، السيد المرتضي، في (عيون المعجزات) اذ قال: «روي أنه لما حبسه «المعتمد» و حبس أخاه جعفرا معه، كان قد سلمهما في يد علي نحرير (47) ، و كان يسأل عن أخباره في كل وقت، فيخبره أنه يصوم النهار و يقوم - يصلي - الليل. فسأله يوما من الأيام عن خبره، فأخبره بمثل ذلك. فقال «المعتمد»: امض يا علي الساعة اليه، و أقرئه مني السلام و قل: انصرف الي منزلك مصاحبا. فقال علي نحرير: فجئت الي باب الحسن - في السجن - فوجدت حمارا مسرجا!. و دخلت عليه عليهالسلام، فوجدته جالسا قد لبس طيلسانه و خفه و شاسيته - و الأصح: شاشيته: أي عمامته -.
فلما رآني نهض، فأديت الرسالة. فجاء و ركب. فلما استوي علي الحمار وقف. فقلت له: ما وقوفك يا سيدي؟!. فقال: حتي يخرج جعفر. فقلت له: انما أمرني باطلاقك دونه. فقال لي: ارجع اليه، و قل له: يقول لك: خرجنا من دار واحدة جميعا، و اذا رجعت و هو ليس معي كان في ذلك ما لاخفاء به عنك. فمضي، و عاد فقال له: يقول لك: قد أطلقت جعفرا لك، لأني حبسته بجنايته علي نفسه و عليك، و ما يتكلم به. فخلي سبيله، و مضي معه الي داره» (48) .
و هذه هي المرة الأخيرة التي حبس فيه امامنا عليهالسلام بحسب الظاهر، لأن رقيب السجن علي نحرير خلف أباه في هذه المهمة القبيحة بعد أن نهشت السباع لحم أبيه و عرقت عظامه؛ فان «المعتمد» في تصرفاته علي غير ربه قد أخرج الامام عليهالسلام من سجنه مصاحبا بالسلامة، بعد أن عرف أن جميع نشاطاته في الدنيا تنحصر في الصوم و الصلاة و العبادة.. ثم أطلق أخاه جعفرا كرمي لعينيه.. و لكنه لاحقه الي البيت بجنود السم الذين حملوا اليه هدية الخليفة الغادرة مكافأة له علي تقواه!!!. و ان قصة هذه النوبة في الحبس روتها أم الامام عليهالسلام، و نقلها عنها الصيمري، عن الحميري، عن الحسن بن علي بن ابراهيم بن مهزيار، عن محمد بن أبيالزعفران، عن أم أبيمحمد عليهالسلام، التي قالت: «قال لي يوما من الأيام: تصيبني في سنة ستين و مائتين حزازة - أي غيظ و ضيق - أخاف أن أنكب فيها نكبة. قالت: و أظهرت الجزع، و أخذني البكاء!. فقال: لا بد من وقوع أمر الله، لا تجزعي. فلما كان في صفر سنة ستين، أخذها المقيم المقعد - أي الحزن الشديد و الخوف علي ابنها - و جعلت تخرج في الأحايين الي خارج المدينة، و تجسس الأخبار، حتي ورد عليها الخبر حين حبسه «المعتمد» في يدي علي بن جرين - و الصحيح: علي بن نحرير - و حبس جعفرا أخاه معه. و كان «المعتمد» يسأل عليا عن أخباره.. الي آخر الرواية التي ذكرناها سابقا» (49) .
فهذه الروايات الثلاث تتحدث عن حبسه صلوات الله عليه في تاريخ واحد معين - هو حبسه للمرة الأخيرة - حيث قال «المعتمد» أثناءها لابن نحرير: امض اليه الساعة، و أقرئه عني السلام، و قل له: انصرف الي منزلك مصاحبا!. فأي سلام هذا الذي أقرأته اياه يا خليفة زمانه؟!. و أية سلامة صاحبته بها الي منزله؟!. أهما أنك أتبعته بحملة السم تكافيء به صومه و صلاته و عبادته؟!. ما أجرأك علي انتهاك حرمة الله و حرمة رسوله أيها المعتمد علي الشيطان!.. و ما أوقحك في المجاهرة بحرب أوليائه و عباده المؤمنين!. يقول المثل: طلق الحياء، و افعل ما شئت. و أنت لا حياء عندك أصلا.. و لا خوف من رب عزيز مقتدر!. و ان فعلت بالامام ما شئت.. فسيفعل الله تعالي بك ما يشاء. و لن يفوتك عقابه و الخلود في عذابه.. و نقل الصيمري عن المحمودي قوله: «رأيت خط أبيمحمد عليهالسلام لما خرج من حبس «المعتمد»: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نورهو لو كره الكافرون) (50) .
و هنا قد أشار الامام عليهالسلام بقوله الكريم الذي قاله لأمه سابقا، الي أمرين: أولهما: أنه علم بنية الخليفة التي عقدها علي قتله بالسم.. و هذا يدل عليه الشطر الأول من الآية الكريمة. و ثانيهما: أنه تم تولد القائم المنتظر عجل الله تعالي فرجه قبل ذلك بست سنين، و غاب ذلك عن علم الخليفة - بقدرة الله - لأنه كان يتربص ولادته ليقتله ساعتئذ..
و يدل علي ذلك الشطر الثاني من الآية الشريفة. و مجمل الآية يحتوي مراد الامام عليهالسلام بأن الله تعالي بالغ أمره.. و أنه هو المنتصر و لو تراءي للناس أنه المغلوب علي أمره، اذ ظهر أمر الله علي كل حال.. و يا أعداء الله، هل أطفأ أحد منكم نور الشمس؟. و هل انتصرتم علي عباده لما كنتم ضحايا لهاثكم وراء حكام الدنيا؟!. و قد وجد ضحاياكم ما وعدهم ربهم حقا.. فماذا وجدتم أنتم و قد حملتم دماءهم التي ألحقت بكم لعنة التاريخ و خزي الله!. و يا قتلة أبناء الأنبياء.. أنتم و قابيل في الاجرام العظيم سواء.. بؤتم بالحسرة و الخسران في الدارين.. و غضب عليكم الرحمان في الحالين. فماذا أعددتم للجواب بين يدي الله تعالي، و بين أيدي أنبيائه يوم تسألون؟!.
المصادر:
1- بحارالأنوار ج 50 ص 266.
2- كشفالغمة ج 3 ص 220.
3- مهجالدعوات ص 341 وبحارالأنوار ج 50 ص 313 - 312 و اثبات الهداة ج 6 ص 307.
4- عن الغيبة للطوسي ص 132 و عن مهجالدعوات ص 342 و هو في مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 430 و كشفالغمة ج 3 ص 218 مروي عن عمر بن محمد بن زياد الصيمري، و سمي أباأحمد: عبدالله بن طاهر، و هو في المحجة البيضاء ج 4 ص 332 و اثبات الهداة ج 6 ص 306.
5- مروج الذهب ج 4 ص 79.
6- الفصول المهمة: ص 285.
7- كشف الغمة ج 3 ص 206 و ص 292 و بحارالأنوار ج 50 ص 295.
8- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 437 و الكافي ج 1 ص 506 و كشفالغمة ج 3 ص 200 و الارشاد ص 320 و بحارالأنوار ج 50 ص 278 و المحجة البيضاء ج 4 ص 323 و مدينة المعاجز ص 562 و اثبات الهداة ج 6 ص 281.
9- سورة التوبة: 48.
10- اثبات الوصية ص 211 و كشف الغمة ج 3 ص 220 و مروج الذهب ج 4 ص 60 .
11- المصدر السابق.
12- سورة النساء: 108.
13- سورة هود: 5.
14- سورة التوبة: 78.
15- سورة الزخرف: 80.
16- الكافي ج 1 ص 507 و الارشاد ص 322 - 321 و حلية الأبرار ج 2 ص 500 - 499 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 438 و بحارالأنوار ج 50 ص 266 - 265 و كشف الغمة ج 3 ص 206 و المحجة البيضاء ج 4 ص 325 - 324 و وفاة العسكري ص 25 - 24 و في الأنوار البهية ص 262 ذكر الحادثة مجملة، و هي في مدينة المعاجز ص 562.
17- كشفالغمة ج 3 ص 209 و في الكافي ج 1 ص 508 ذكر اسمه: نارمش، خطأ، و هو في الارشاد ص 322 و اعلام الوري ص 360 - 359 و المحجة البيضاء ج 4 ص 325 و مدينة المعاجز ص 563 - 562 و اثبات الهداة ج 6 ص 285 و في تاريخ الأمم و الملوك ج 11 ص 86 ذكر أنه أوتاش، و أنه قتل سنة 249 هـ. و هو الصحيح.
18- مروج الذهب ج 4 ص 80 و غيره من مصادر التاريخ.
19- المصدر السابق ج 4 ص 84.
20- الغيبة للطوسي ص 134 / مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 432 - 431 عن محمد بن بلبل، و في المحجة البيضاء ج 4 ص 328.
21- المصدر السابق.
22- كشفالغمة ج 3 ص 207 و بحارالأنوار ج 50 ص 298 و اثبات الهداة ج 6 ص 331.
23- الكافي ج 1 ص 506 و بحارالأنوار ج 50 ص 277 و كشف الغمة ج 3 ص 200 و الارشاد ص 320 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 437 - 436 و المحجة البيضاء ج 4 ص 323 و اثبات الهداة ج 6 ص 281.
24- بصائرالدرجات ج 7 ص 315.
25- المصدر السابق.
26- سورة المؤمن: 60.
27- بصائرالدرجات ج 5 ص 241.
28- مروجالذهب ج 4 ص 36 و أكثر مصادر التاريخ.
29- اثبات الوصية ص 209.
30- مروجالذهب ج 4 ص 103.
31- نهجالبلاغة رقم 104 من الحكم و المواعظ.
32- بحارالأنوار ج 50 ص 316 - 315 و مروج الذهب ج 4 ص 107 - 106.
33- اثباتالوصية ص 215 / مهجالدعوات ص 343 و هو في مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 430 و مدينة المعاجز ص 579.
34- الارشاد ص 324 و اثبات الوصية ص 213 - 212 و الكافي ج 1 ص 510 و كشفالغمة ج 3 ص 204 و اعلام الوري ص 356 و بحارالأنوار ج 50 ص 308 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 436 بفارق يسير، و هو في وفاة العسكري ص 30 و المحجة البيضاء ج 4 ص 327 و مدينة المعاجز ص 264 و ص 580 - 579 و اثبات الهداة ج 6 ص 290.
35- مروجالذهب ج 4 ص 84.
36- الارشاد ص 324 و اعلام الوري ص 360 و كشفالغمة ج 3 ص 204 و مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 429 و الكافي ج 1 ص 512 باختلاف يسير، و حلية الأبرار ج 2 ص 485 ووفاة العسكري ص 31 - 30 و الأنوار البهية ص 261 - 260 و المحجة البيضاء ج 4 ص 328 - 327 و اثبات الهداة ج 6 ص 284 و مدينة المعاجز ص 15.
37- مروجالذهب ج 4 ص 101 و بقية مصادر التاريخ.
38- مروج الذهب ج 4 ص 131 و بقية مصادر التاريخ.
39- الارشاد ص 325 - 324 و الكافي ج 1 ص 513 و كشفالغمة ج 3 ص 205 - 204 و اعلام الوري ص 360 و اثبات الوصية ص 215 و حلية الأبرار ج 2 ص 485 و بحارالأنوار ج 50 ص 268 و ص 309 مكررا، و هو في مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 430 و المحجة البيضاء ج 4 ص 328 و وفاة العسكري ص 31 و الأنوار البهية ص 261 و مدينة المعاجز ص 565 و ص 579 و اثبات الهداة ج 6 ص 295 - 294.
40- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 430 و بحارالأنوار ج 50 ص 309 و مدينة المعاجز ص 579.
41- سورة الأنفال: 17 و 18.
42- الجوسق الأحمر: هو القصر الذي بني للمقتدر في دارالخلافة، و في وسطه بركة من الرصاص ثلاثون ذراعا في عشرين.
43- اعلامالوري ص 354 و بحارالأنوار ج 50 ص 312 و الفصولالمهمة ص 287 و المحجة البيضاء ج 4 ص 334 - 333 و وفاة العسكري ص 18 - 17 و اثبات الهداة ج 4 ص 314 - 313 و مدينة المعاجز ص 579.
44- اعلامالوري ص 355 - 354 و مختار الخرائج و الجرائح ص 239 - 238 و هو في كشفالغمة ج 3 ص 223 - 222 و الأنوارالبهية ص 252 و في ص 261 أشار الي مضمونه، و هو في مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 433 نصفه الأول و ص 439 نصفه الثاني، و هو في اثبات الوصية ص 215 و الفصول المهمة ص 287 و هو في المحجة البيضاء ج 4 ص 334 - 333 و مدينة المعاجز ص 577 و وفاة العسكري ص 18 - 17.
45- الغيبة للطوسي ص 147.
46- سورة النساء: 137.
47- في بحارالأنوار ذكر أن اسمه: علي جرين، و هو خطأ.
48- حلية الأبرار ج 2 ص 486 - 485 و مدينة المعاجز ص 572.
49- بحارالأنوار ج 50 ص 314 - 313 و هو في ص 331 - 330 الي قوله: ورد عليها الخبر، نقلا عن مهج الدعوات ص 343 و هو كذلك في بصائر الدرجات ص 484.
50- سورة الصف: 8 و التوبة: 33 و مهج الدعوات ص 344 و هو في اثبات الوصية ص 217.