وجاء الخاطبون يتوافدون على بيت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كل منهم يتمنى أن يحظى بشرف الاقتران بالعقيلة زينب ، رغبة في الاتصال بالنسب النبوي الشريف ، ولما يعرفونه من كمال زينب وفضلها وأدبها ، لكن أباهاً علياً كان يرد كل خاطب لأنه ( عليه السلام ) قد اختار لابنته الزوج المناسب والكفوء .
يقول السيد الهاشمي : إن العقيلة زينب بنت علي خطبها الأشراف من قريش والرؤساء من القبائل . . ويروى انه خطبها الأشعث بن قيس وكان من ملوك كندة (1) .
والعناية الآلهية التي أحاطت بالسيدة زينب ( عليها السلام ) ووجهت مسارات حياتها كان لابد وأن تتدخل في شأن هذا الأمر الخطير من حياة السيدة زينب ، وهو اختيار القرين والزوج المناسب الكفوء لهذه المرأة العظيمة . . وهذا ما حصل بالفعل فقد شاء الله ( تعالى ) أن تقترن العقيلة زينب بواحد من أعظم وأنبل شباب الهاشميين وهو ابن عمها عبدالله بن جعفر بن أبي طالب .
واختيار الامام علي لعبدالله بن جعفر ليكون زوجاً لابنته زينب اختيار أكثر من موفق ، فعلي يعرف مكانة أخيه جعفر ، وعبدالله ربيب للامام علي حيث أصبح في رعايته بعد شهادة أبيه جعفر ، وأمه اسماء بنت عميس وثيقة الصلة والعلاقة بالسيدة الزهراء أم العقيلة زينب ، ثم هي قد أصبحت زوجاً للامام علي ، اضافة لكل ذلك المؤهلات الشخصية التي كان يجدها الامام في ابن أخيه عبدالله بن جعفر ، وقد أصدق الامام ابنته زينب 480 درهماً من خالص ماله كصداق أمها فاطمة الزهراء ( عليها السلام) .
ولنسلط الأضواء الآن على شخصية هذا الرجل العظيم :
أبوه : جعفر الطيار :
وجعفر الطيار هو ابن أبي طالب ، وأخو الامام علي ، وهو أكبر من الامام علي بعشر سنين ، وهو ثالث من أسلم وصلى مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، بعد علي وخديجة ، حيث كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتقدمهم للصلاة وعلي عن يمينه وجعفر عن يسارةه وخديجة من خلفه .وكان جعفر يشبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في خلقه وخُلقه ، وكان يكنيه « أبا المساكين » .
وعن الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : كان جعفر أشبه الناس برسول الله خلقاً وخُلقاً ، وكان الرجل يرى جعفر فيقول : السلام عليك يا رسول الله . يظنه اياه ، فيقول : لست برسول الله أنا جعفر .
قال حسان بن ثابت :
وكنا نرى في جعفر من محمد *** وقاراً وأمراً حازماً حين يأمر
وما زال في الاسلام من آل هاشم *** دعائم صدق لاترام ومفخر
هم جبل الاسلام والناس حولهم *** رضام الى طود يطول ويقهر
بها ليل منهم جعفر وابن اُمه *** علي ومنهم أحمد المتخير (2)
وهو الذي قاد أول مجموعة مسلمة مهاجرة الى الحبشة ، من مكة المكرمة ومعه زوجته أسماء بنت عميس .
وبقي جعفر في الحبشة حتى السنة السابعة من الهجرة ، وعندما ترك الحبشة قاصداً المدينة ، كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) راجعاً من حرب خيبر ، والتقاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقبله بين عينيه ، وقال : ما أدري بأيهما أشد فرحاً بقدوم جعفر أو بفتح خيبر .
وقال له : أنت أشبه الناس بخلقي وخُلقي وقد خلقت من الطينة التي خلقت منها .
ولم يمض على بقاء جعفر في المدينة الى جنب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الا حوالي سنة واحدة حتى بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سنة 8 هـ على رأس جيش من المسلمين يبلغ ثلاثة آلاف مقاتل لمواجهة الروم .
وفي مؤتة ـ قرية في الأردن ـ حصلت معركة حاسمة على حدود الشام حيث كان عدد جيش الروم أكثر من مائة ألف ، وأخذ الراية جعفر وتقدم بمن معه من المسلمين وحمل على تلك الحشود التي ملأت الصحراء بعددها وعتادها ، وظل يقاتلهم حتى قطعت يمينه وشماله وخر صريعاً ، ووجدوا في مقدم جسده بعد شهادته أكثر من تسعين ضربة وطعنة .
وكان ينشد أثناء القتال :
يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها وكانت شهادة جعفر في غزوة مؤتة في جمادي الأولى سنة 8 هـ .
وفي ( عمدة الطالب ) : لما رأى جعفر الحرب قد اشتدت ، والروم قد غلبت ، اقتحم عن فرس له أشقر ثم عقره ، وهو أول من عقر في الاسلام فقاتل حتى قطعت يده اليمنى ، فأخذ الراية بيده اليسرى وقاتل الى أن قطعت يده اليسرى أيضاً ، فاعتنق الراية وضمها الى صدره حتى قتل ، ووجد فيه نيف وسبعون ، وقيل نيف وثمانون ما بين طعنة وضربة ورمية .
وحينما وصل خبر مقتله الى المدينة جزع المسلمون كثيراً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، إن له جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة » .
فسمي ذا الجناحين والطيار (3) .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) : « اللهم إن جعفراً قد قدم الى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته » (4) .
وينقل التاريخ أن جعفر بن أبي طالب كان معروفاً بحسن السيرة والسلوك حتى قبل الاسلام ، وروي عنه أنه كان يتحدث عن حياته في الجاهلية ، فيقول : ما شربت خمراً قط ، لأني علمت إن شربتها زال عقلي ، وما كذبت قط ، لأن الكذب ينقص المروءة ، وما زنيت قط ، لأني خفت اني إذا عملت عمل بي ، وما عبدت صنماً قط ، لأني علمت انه لا يضر ولا ينفع .
وروي أن جعفر بن أبي طالب كان يقول لأبيه : يا أبة إني لأستحي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله ! فأجابه أبوه : إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب (5) .
وفي الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « إن الله اختارني في ثلاثة من أهل بيتي ، أنا سيد الثلاثة : اختارني وعلياً وجعفراً وحمزة » (6) .
ذلك هو الأصل الذي تفرع عنه عبدالله بن جعفر زوج السيدة زينب ( عليها السلام ) .
أمه (أسماء بنت عميس):
كانت أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة كريمة شريفة ذات رأي حازم ، ومعرفة وتجربة ، هاجرت في سبيل الله مع زوجها جعفر الطيار هجرتين ، الأولى الى الحبشة ، والثانية الى المدينة .وبعد شهادة زوجها جعفر تزوجت من أبي بكر فأولدها « محمد بن أبي بكر » .
وكانت وثيقة الصلة بالسيدة الزهراء ( عليها السلام ) وهي التي ساعدتها فترة مرضها بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانت قريبة منها عند وفاتها ، وشاركت الامام علي في تجهيز فاطمة الزهراء .
وبعد وفاة أبي بكر تزوجها الامام علي وضمّها الى عياله مع ولدها محمد بي أبي بكر وهو في الرابعة من عمره ، والذي أصبح ربيب الامام علي ، وولدت للامام علي ولداً أسماه « يحيى » (7) ،
فعبدالله بن جعفر ومحمد بن أبي بكر ويحيى بن علي اخوة من أم واحدة . (8)
يقول عنها العلامة المحقق الشيخ جعفر النقدي : كانت أسماء من القانتات العابدات ، روت الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعن علي والزهراء ( عليهما السلام ) . وروى عنها كثيرون منهم ابنها عبدالله بن جعفر ، وحفيدها القاسم بن محمد بن أبي بكر وهو جد امامنا الصادق ( عليه السلام ) لأمه ، وروى عنها عبدالله بن عباس وهو ابن أختها « لبابة بنت الحارث » . . .
قيل : وكان الخليفة عمر يسألها عن تفسير المنام ، ونقل عنها أشياء من ذلك ومن غيره ، قال في ( الاصابة ) : ويقال أنها لما بلغها قتل ولدها محمد بمصر قامت الى مسجد بيتها وكظمت غيظها حتى شخب ثدياها دماً (9) .
وقد عبر عنها الامام الصادق ( عليه السلام ) بـ « النجيبة » ، وترحم عليها بقوله : « رحم الله الاخوات من أهل الجنة » وعد أسماء في مقدمتهن.
هذا هو الحضن الذي تربى فيه عبدالله بن جعفر زوج السيدة زينب ( عليها السلام ) .
شخصية عبدالله بن جعفر:
هو أكبر أولاد أبيه ، وقد ولد في الحبشة عندما هاجر اليها والداه ، وهو أول مولود ولد في الاسلام بأرض الحبشة ، وبعد شهادة أبيه في مؤتة أخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حجره قائلاً :
« أما عبدالله فشبيه خلقي وخُلقي ، اللهم اخلف جعفراً في أهله ، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه » .
وخاطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أسماء زوجة جعفر والتي كانت متأثرة ليتم ابنائها قائلاً : « لا تخافي عليهم أنا وليهم في الدينا والآخرة » (10) .
وطبيعي أن يرعاه عمه علي بعد شهادة أبيه .
وصحب عبدالله بن جعفر النبي ، وحفظ الحديث عنه ، ولازم عمه أمير المؤمنين ، وابني عمّه الحسن والحسين ، وأخذ العلم عنهم .
قال عبدالعزيز سيد الأهل : راى النبي وكانت له به صحبة وكرمه رسول الله
فأردفه يوماً في ركوبه ثم شرّفه فاسرّ اليه حديثاً حين أركبه فاردفه (11) .
وكان أغنى بني هاشم وايسرهم ، وكانت له ضياع كثيرة ، ومتاجر واسعة وكان أسخى رجل في الإسلام ، وله حكايات في الجود كثيرة وعجيبة (12) .
وجاء في كتاب ( الاستيعاب ) : أن عبدالله بن جعفر كان كريماً جواداً ظريفاً خليقاً عفيفاً سخياً ، يسمى بحر الجود .
وذكر ابن عساكر قال : روى الحافظ : أن معاوية كان يقول : بنو هاشم رجلان رسول الله لكل خير ذكر ، وعبدالله بن جعفر لكل شرف ، والله لكأن المجد نازل منزلاً لا يبلغه أحد وعبدالله بن جعفر نازل وسطه (13) .
ومن جود ابن جعفر وكرمه ، ما ذكره ابن عساكر في ( تاريخه ) قال : جاء شاعر الى عبدالله بن جعفر فأنشده :
رأيت أبا جعفر في المنام *** كساني من الخزّ دراعة
نقلت الى صاحبي أمرها *** فقال ستئوتى بها الساعة
سيكسوكها الماجد الجعفري *** ومن كفه الدهر نفاعة
ومن قال للجود لا تعدني *** فقال : لك السمع والطاعة
فقال عبدالله لغلامه : ادفع اليه جبتي الخزّ .
ثم قال له : ويحك كيف لم تر جبّتي الوشي التي اشتريتها بثلاثمائة دينار منسوجة بالذهب .
فقال : اغفي غفية اخرى فلعلي أراها في المنام .
فضحك منه عبدالله وقال لغلامه : ادفع اليه جبتي الوشي أيضاً (14) .
وقال ابن حيان : كان يقال لعبدالله بن جعفر قطب السخاء ، وكان له عند موت النبي عشر سنين (15) .
وقال ابن حجر في ( الأصابة ) : أخرج ابن أبي الدنيا والخرائطي بسند حسن إلى محمد بن سيرين : ان دهقاناً من أهل السواد كلم ابن جعفر في أن يكلم علياً في حاجة ، فكلمه فيها ، فقضاها فبعث اليه الدهقان أربعين ألفاً ، فردها وقال : إنا لا نبيع معروفاً (16) .
ومضى اليه رجل يدعي أنه ابن سبيل ، قد راهن الناس على ان عبدالله أجود الناس ، فقالوا : أرنا .
فجاء اليه وعبدالله على راحلته يريد ضيعة له ، فقال الرجل :
يا ابن عم رسول الله .
قال : قل ما تشاء .
قال : انا ابن سبيل قد انقطع بي .
فأخرج عبدالله رجله من ركابه ونزل عن راحلته ، وقال له : ضع رجلك ، واستو على الناقة ، وخذ ما في الحقيبة ، وايّاك أن تخدع عن السيف فانه من سيوف علي بن أبي طالب .
ثم ترك الرجل ورجع .
أما الرجل فقد وضع رجله في الركاب واستوى على الناقة ومدّ يده الى الحقيبة فوجدها ممتلئة بمطارف الخزّ ، وبها اربعة آلاف دينار ، وكان سيف علي أنفس من المطارف وأجل من الدنانير (17) .
وخرج عبدالله بن جعفر يوماً الى ضيعة له فنزل على حائط به نخيل لقوم وفيه غلام اسود يقوم عليه ، فأتى بقوته ثلاثة اقراص فدخل كلب فدنا من الغلام ، فرمى اليه بقرص فأكله ، ثم رمى اليه بالثاني والثالث فأكلهما ، وعبدالله ينظر اليه .
فقال : يا غلام كم قوتك كل يوم ؟ .
قال : ما رأيت .
قال : فلم آثرت هذا الكلب ؟ .
قال إن أرضنا ما هي بأرض كلاب ، وان هذا الكلب جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت أن أردّه .
قال : فما أنت صانع اليوم ؟ .
قال : أطوي يومي هذا .
فقال عبدالله بن جعفر : ءألام على السخاء وهذا العبد أسخى مني ؟ .
ثم اشترى الحائط وما فيه من النخيل والآلات ، واشترى الغلام ثم أعتقه ووهبه الحائط بما فيه من النخيل (18) .
ويشير السيد بحر العلوم الى أن الخيرات والبركات قد انهالت على عبدالله بن جعفر عند زواجه بالسيدة زينب ( عليها السلام ) فيقول : وزحفت البركة على ابن جعفر مع زينب فوفد عليه الرزق من المال والولد ، وامتلاك الضياع ، وفاضت أرضه بالثمار والغلات ، ووفد أهل المدينة وأبناء السبيل في حاجاتهم على بابه : باب زينب بنت الزهراء (19) .
وكان عبدالله بن جعفر منقطعاً الى عمه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم الى الحسنين ( عليهما السلام ) وله في الجمل وصفين والنهروان ذكر مشهور .
واشار ابن عبد ربه الأندلسي الى أن عبدالله بن جعفر كان كاتباً لعمه الإمام علي فترة خلافته (20) .
ويقول السيد الخوئي ( قده ) عن شخصية عبدالله بن جعفر : جلالة عبدالله بن جعفر الطيار بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها الى الأطراء . ومما يدل على جلالته أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يتحفظ عليه من القتل كما كان يتحفظ على الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ومحمد بن الحنفية (21) .
أما عدم خروجه مع الحسين ( عليه السلام ) الى كربلاء فقد قيل : انه كان مكفوف البصر ، ولما نعي اليه الحسين ، وبلغه قتل ولديه عون ومحمد كان جالساً في بيته ، ودخل عليه الناس يعزونه فقال غلامه أبو اللسلاس : هذا ما لقينا من الحسين .
فحذفه عبدالله بنعله ، وقال له : يابن اللخناء أللحسين تقول هذا والله لو شهدته لما فارقته حتى أقتل معه ، والله انهما لمّما يسخى بالنفس عنهما : ويهون عليّ المصاب بهما انهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه .
ثم انه أقبل على الجلساء فقال : الحمد لله اعزز عليّ بمصرع الحسين إن لم أكن واسيت الحسين بيدي فقد واسيته بولدي (22) .
بقي أن نشير الى عبدالله بن جعفر قد تزوج في حياة السيدة زينب بنساء أخريات منهن : الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف بن ربيعة من بني بكر بن وائل ، ومنها ولده محمد الشهيد في كربلاء ، وكذلك أخوه عبيدالله الذي ذكرت بعض المصادر أنه الشهيد الثالث من أولاد عبدالله بن جعفر في كربلاء (23) .
تلك هي بعض الملامح والمعالم من حياة عبدالله بن جعفر قرين السيدة زينب وشريك حياتها .
وقد توفي سنة (80 هـ ) أو أربع أو خمس وثمانين ، في خلافة عبد الملك بن مروان ، وصلى عليه السجاد أو الباقر ( عليهما السلام ) وأمير المدينة يومئذٍ أبان بن عثمان بن عفان ، والذي أبّنه بقوله : كنت والله خيراً لا شرّ فيك ، وكنت والله شريفاً واصلاً براً (24) .
أولاد السيدة زينب عليها السلام
من يتأمل نضال السيدة زينب وأدوارها الرسالية العظيمة يكاد يغفل عن أن لها ابناءً كانت تتحمل مسؤولية رعايتهم وتربيتهم ، لتكون العقيلة زينب ( عليها السلام ) قدوة كاملة متكاملة للمرأة المسلمة الطموحة ، والتي تقوم بكل الأعباء والمهام العائلية المنزلية والدينية الأجتماعية ، ولنتعرف الآن على ثمرات فؤادها وفلذات كبدها :1 ـ عون بن عبدالله بن جعفر
كان مع أمه زينب في صحبة خاله الإمام الحسين ، وقد نال شرف الشهادة في كربلاء ، وفجعت به أمه زينب الى جنب فجائعها الأخرى .
وقد برز الى ساحة الجهاد ، فجعل يقاتل قتال الأبطال وهو يرتجز :
ان تنكروني فأنا ابن جعفر *** شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجناح أخضر *** كفى بهذا شرفاً في المحشر
وتمكن الشاب البطل من قتل ثلاثة فوارس ، وثمانية عشر راجلاً . ثم ضربه عبدالله بن قطنة الطائي النبهاني بسيفه فقتله .
وقد ورد ذكر عون في الزيارة الواردة في الناحية المقدسة أي عن الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر ( عليه السلام ) حيث قال :
« السلام على عون بن عبدالله بن جعفر الطيار في الجنان ، حليف الإيمان ، ومنازل الأقران ، الناصح للرحمن ، التالي للمثان ، لعن الله قاتله عبدالله بن قطنة النبهاني » (25) .
2 ـ محمد :
وقد ذكره العديد من الباحثين في حياة السيدة زينب ، كالسبط ابن الجوزي في تذکرة الخواص وذكره السيد الهاشمي في كتابه والدكتورة بنت الشاطي والشيخ محمد جواد مغنية و م . صادق. (26)
ولكن يبدو أن لعبدالله بن جعفر ولداً آخر اسمه محمد من زوجة اخرى هي الخوصاء من بني بكر بن وائل ، وقد استشهد مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، مما سبب الأشتباه عند بعض الباحثين فاعتبروا ولدّي عبدالله بن جعفر الشهيدين بكربلاء اعتبروهما ولدي السيدة زينب ( عليها السلام ) لكن التحقيق يثبت أن عوناً فقط هو ابن السيدة زينب ، أما أخوه محمد فهو ابن ضرتها « الخوصاء » كما نص على ذلك الباحثون حول شهداء كربلاء (27) .
3 ـ عباس :
ذكر المؤرخون اسمه دون الأشارة الى شيء من حياته وسيرته .
4 ـ علي :
المعروف بالزينبي ، وفي نسله الكثرة والعدد ، وفي ذريته الذيل الطويل والسلالة الباقية ، وهو كما في ( عمدة الطالب ) أحد ارجاء آل أبي طالب الثلاثة .
وفي ( تاج العروس ) مادة « زينب » : « والزينبون بطن من ولد علي الزينبي بن عبدالله الجواد بن جعفر الطيار ، نسبة الى أمه زينب بنت سيدنا علي ( عليه السلام ) وأمها فاطمة ( عليها السلام ) وولد علي هذا أحد أرجاء آل أبي طالب الثلاثة (28) .
ويقول عنه السيد الهاشمي : وأما علي بن عبدالله فهو المعروف بالزينبي ، نسبة الى أمه زينب بنت علي ( عليهما السلام ) ذكروا (29) أنه كان ثلاثة في عصر واحد بني عم ، يرجعون الى أصل قريب ، كلهم يسمى علياً ، وكلهم يصلح للخلافة ، وهم : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( السجاد ) ، وعلي بن عبدالله بن العباس ، وعلي بن عبدالله بن جعفر الطيار ، ولكن إمام المسلمين وقتئذٍ كان السجاد زين العابدين ، يعظمه القريب والبعيد ، وتعنوا له كبار المسلمين ، وقد تزوج علي بن عبدالله بن جعفر ، لبابة بنت عبدالله بن عباس حبر الأمة ، وكان نسل عبدالله بن جعفر منه ، والسادة الزينبية كثيرون في العراق وفارس ومصر والحجاز والأفغان والهند ، وقد جعل الله البركة في نسل هذه السيدة الطاهرة وطيب سلالتها (30) .
وقال ابن عنبة : كان علي الزينبي يكنى أبا الحسن وكان سيداً كريماً (31) .
وقد ألف الحافظ جلال الدين السيوطي ( 849 ـ 911 هـ ) رسالة حول ذرية السيدة زينب سماها ( العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبية ) (32) .
5 ـ أم كلثوم :
أم كلثوم : وهي البنت الوحيدة كما يبدوا للسيدة زينب ، ولابد وأنها قد ورثت شمائل أمها ، وتحلت بمكارم أخلاق أبيها ، ولذلك تسابق الخاطبون لطلب يدها وكان من جملتهم معاوية بن أبي سفيان خطبها أيام سلطته لولده يزيد ، وكلف واليه على المدينة مروان بن الحكم أن يخطبها من أبيها ليزيد بن معاوية ، فقال أبوها عبدالله بن جعفر .
إن أمرها ليس اليّ إنما هو الى سيدنا الحسين وهو خالها .
فأخبر الحسين بذلك ، فقال : أستخير الله ( تعالى ) اللهم وفق لهذه الجارية رضاك من آل محمد .
فلما اجتمع الناس في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أقبل مروان حتى جلس الى الحسين ( عليه السلام ) وقال :
إن أمير المؤمنين معاوية أمرني بذلك ، وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، مع صلح ما بين هذين الحيين ، مع قضاء دينه ، واعلم ان من يغبطكم بيزيد أكثر ممن يغبطه بكم ، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفؤ من لا كفؤ له ، وبوجهه يستسقي الغمام ، فردّ خيراً يا أبا عبدالله .
فقال الحسين : الحمد لله الذي اختارنا لنفسه ، وارتضانا لدينه ، واصطفانا على خلقه .
ثم قال : يا مروان قد قلت فسمعنا .
أما قولك : مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بناته ونسائه وأهل بيته ، وهو اثنتا عشرة أوقية يكون اربعمائة وثمانين درهماً .
وأما قولك : مع قضاء دين أبيها ، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا ؟ .
وأما صلح ما بين هذين الحيّين ، فإنا قوم عاديناكم في الله ، ولم نكن نصالحكم للدنيا ، فلعمري لقد اعيا النسب فكيف السبب ؟ .
وأما قولك : والعجب كيف يستمهر يزيد ؟ فقد استمهر من هو خير من يزيد ، ومن أبي زيد ، ومن جدّ يزيد ! .
وأما قولك : إن يزيد كفؤ من لا كفؤ له ، فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم ما زادته امارته في الكفاءة شيئاً .
وأما قولك : وجهه يستسقى به الغمام : فإنما كان ذلك وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وأما قولك : من يغبطنا به أكثر ممن يغبطه بنا ، فإنما يغبطنا به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل .
ثم قال ( عليه السلام ) : فاشهدوا جميعاً إني قد زوجت أم كلثوم بنت عبدالله بن جعفر من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر على اربعمائة وثمانين درهماً وقد نحلتها ضيعتين بالمدينة ـ أو قال أرضي العقيق ـ وإن غلتها بالسنة ثمانية آلاف دينار ففيهما لهما غنى إن شاء الله تعالى . فتغير وجه مروان ، وقال :
أردنا صهركم لنجد وداً *** قد أخلقه به حدث الزمان
فلما جئتكم فجبهتموني *** وبحتم بالضمير من الشنان
فأجابه ذكوان مولى بني هاشم :
أماط الله عنهم كل رجس *** وطهرهم بذلك في المثاني
فمالهم سواهم من نظير *** ولا كفو هناك ولا مداني
أتجعل كل جبار عنيد *** الى الأخيار من أهل الجنان
مع أبيها علي عليه السلام
طبيعي أن تنشد البنت لأبيها وتتعلق به ، وخاصة اذا ما فقدت البنت أمها فسيصبح أبوها حينئذٍ هو المنبع الوحيد للعاطفة والحنان والرعاية تجاهها .وفي علاقة السيدة زينب بأبيها علي بن أبي طالب هناك عامل اضافي يتمثل في الصفات والسمات النفسية والأخلاقية التي يتمتع بها الإمام علي والتي تفرض حبّه وعشقه واكباره على كل من التقى به أو عاشره أو سمع عنه .
بل إن أي واحدة من سوابقه ومناقبه لحرية باخضاع النفوس والقلوب لمكانته وجلالته كما يقول أبو الطفيل :
قال بعض أصحاب النبي : لقد كان لعلي من السوابق مالو أن سابقه منها بين الخلائق لو سعتهم خيراً (33) .
ومن عرف علياً أو تعرف عليه فلم يهيمن حب علي على قلبه فذلك دلالة على انحراف في طبعه وخلل في ذاته .
وهل يكره الخير عاقل ؟ ! أو هل يبغض النور سويّ ؟ لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للإمام علي : « لا يحبّك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق » (34) .
وقال أبو سعيد الخدري : كنا نعرف المنافقين ـ نحن معاشر الأنصار ـ ببغضهم علي بن أبي طالب (35) .
وحتى ألدّ خصومه وأعدائه معاوية بن أبي سفيان لم يستطع كتمان اعجابه بشخصيته ( عليه السلام ) حيث قال لما بلغه قتله :
ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب .
فقال له اخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام ؟ .
فقال له : دعني عنك .
وحينما وصف ضرار بن ضمرة شخصية الإمام علي بمحضر معاوية بعد وفاة الإمام بكى معاوية ووكفت دموعه على لحيته ما يملكها ، وجعل ينشفها بكمّه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، وقال معاوية :
رحم الله أبا الحسن والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها .
واذا كانت شخصية علي تأسر حتى قلوب أعدائه فضلاً عن أصحابه وأتباعه فما هو مدى تأثير شخصيته على ابنته القريبة منه والمتعلقة به ؟ . (36)
نحاول في السطور التالية أن نقتطف من ذاكرة التاريخ ما سجلته من صور ولقطات عن تلك العلاقة الإيمانية الانسانية الحميمة بين السيدة زينب وابيها الإمام ( عليهما السلام ) ، لنرى كيف عاشت السيدة زينب في ظل أبيها :
الحفاظ على مهابة زينب وصونها :
حدّث يحيى المازني قال : كنت في جوار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المدينة مدة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته ، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً ، وكانت اذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تخرج ليلاً ، والحسن عن يمينها ، والحسين عن شمالها ، وأمير المؤمنين أمامها ، فاذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخمد ضوء القناديل .
فسأله الحسن مرة عن ذلك ؟ .
فقال : أخشى أن ينظر أحد الى شخص أختك زينب (37) .
سيدة بيت أبيها تزوج الإمام علي ( عليه السلام ) بعد فقد الزهراء ( عليها السلام ) أكثر من زوجه ، لكن أياً من زوجاته لم تكن لتأخذ مكان السيدة زينب وموقعها في بيت أبيها فهي سيّدة البيت بما تمثله من امتداد لأمها الزهراء وبما تمتلكه من صفات ومؤهلات ، وبما تتمتع به من محبة واحترام متبادل مع أبيها وأخويها الحسنين .
وحتى بعد زواجها بابن عمها عبدالله بن جعفر فإنها لم تنقطع عن بيت أبيها ، ولم تشغلها التزاماتها الزوجية والعائلية عن أداء دورها المميز في بيت علي .
يقول السيد بحر العلوم : ورغم أن زينب عاشت في بيت الزوجية ، لكن الزواج لم يشغلها عن تحمل مسؤليات بيت أبيها علي ، فهي بنت الزهراء ، وحفيدة خديجة ، وتحمّل المسؤلية من خصال ربّات هذا البيت . وزينب عقيلة بني هاشم ، وسيدة البيت العلوي ، وزعميت القوم ، رغم أنها تزوجت ، وانتقلت الى بيت ابن جعفر الا أنها لم تتخل عن المسؤولية ، لتدير بيت أبيها ، وتهتم بشؤون أخويها ، وتصبح المسؤولة عنهم أولاً وآخراً (38) .
وتقول بنت الشاطيء : ولم يفرق الزواج بين زينب وأبيها واخوتها ، فقد بلغ من تعلق الإمام علي بابنته وابن أخيه أن أبقاها معه ، حتى إذا ولي أمر المسلمين وانتقل الى الكوفة ، انتقلا معه ، فعاشا في مقر الخلافة ، موضع رعاية أمير المؤمنين واعزازه ، ووقف عبدالله بجانب عمه في نضاله الحربي ، فكان أميراً بين أمراء جيشه في صفين .
وعرف الناس مكانة عبدالله من بيت النبوة ، فكانوا يلتمسون لديه الوسيلة الى أمير المؤمنين ، والى ولديه الحسن والحسين ، فلا يردّ له طلب ولا يخيب رجاء .
جاء في ( الأصابة ) ( ج 4 ص 48 ) نقلاً عن محمد بن سيرين : أن دهقاناً من أهل السواد كلّم ابن جعفر في أن يكلم علياً في حاجة ، فكلّمه ، فقضاها ، فبعث اليه الدهقان أربعين ألفاً فردّها قائلاً : إنا لا نبيع معروفاً (39) .
في موكب أبيها الى الكوفة :
بعد أن اختارته جماهير الأمة حاكماً وخليفة ، وبايعه الناس برغبتهم واختيارهم ، وبشكل لا شبيه له في تاريخ المسلمين ، وذلك في شهر ذي الحجة سنة ( 35 هـ ) في أعقاب مقتل الخليفة عثمان بن عفان .
قرر الإمام علي الأنتقال الى الكوفة لمواجهة التطورات السياسية حيث نكث بعض مبايعيه بيعته كطلحة والزبير واستقطبوا معهم السيدة عائشة زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واتخذوا البصرة بؤرة لتمردهم عليه ، كما كان معاوية يعبّيء أهل الشام ضدّ خلافة الإمام .
وكان الإمام مدركاً لما ينتظره من أوضاع خطيرة في عاصمة خلافته الجديدة « الكوفة » ولكنه قرّر أن يصطحب معه ابنته زينب ، فهو يريدها الى جانبه في الظروف الحساسة والحرجة ، وهي تصعب عليها مفارفة أبيها والابتعاد عنه .
وهكذا ودعت السيدة زينب مسقط رأسها ومرتع طفولتها ومثوى جدّها وأمها المدينة المنورة ورافقت اباها في رحلته الى الكوفة بمعية زوجها عبدالله بن جعفر .
ويصف الشيخ النقدي ظروف سفر السيدة زينب في موكب أبيها بقوله : سافرت زينب هذه السفرة وهي في غاية العز ، ونهاية الجلالة والأحتشام يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد ، محفوف بأبّهة الخلافة ، محاط بهيبة النبوة ، مشتمل على السكينة والوقار ، فيه أبوها الكرار أمير المؤمنين ، واخوتها الحسنان سيدا شباب أهل الجنة ، وحامل الراية العظمى محمد بن الحنفية ، وقمر بني هاشم العباس بن علي ، وزوجها الجواد عبدالله بن جعفر ، وأبناء عمومتها عبدالله بن عباس ، وعبيد الله وأخوتهما ، وبقيّة أبناء جعفر الطيار ، وعقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وأتباعهم من رؤساء القبائل ، وسادات العرب مدجّجين بالسلاح ، غاصّين في الحديد ، والرايات ترفرف على رؤوسهم ، وتخفق على هاماتهم ، وهي في غبطة وفرح وسرور (40) .
مدرستها العلمية :
لم تكن دار علي في الكوفة مجرد مركز للسلطة والحكم ، ولا كان وجوده الشريف منحصراً في شخصيته ودوره كحاكم وقائد ، بل كانت داره مركز اشعاع للمعرفة والفكر ، وكان دوره في التوجيه الروحي الفكري لا يقل عن دوره في الزعامة السياسية الإجتماعية .ولكي تنتشر المعرفة في جميع أوساط المجتمع ، وحتى لا يحرم أحد من حقه في الثقافة والوعي ، عهد الإمام علي الى ابنته العقيلة زينب أن تتصدى لتعليم النساء وأن تبث المعرفة والوعي في صفوفهن .
فكانت العقيلة زينب تفسر لهنّ القرآن الكريم ، وتروي لهنّ أحاديث جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وأخبار أمها الزهراء ( عليها السلام ) وتوجيهات أبيها المرتضى ( عليه السلام ) .
فقد ورد أنه كان لها مجلس في بيتها أيام اقامة أبيها ( عليه السلام ) في الكوفة ، وكانت تفسر القرآن للنساء ، وقد دخل عليها أبوها ذات يوم وهي تفسر بداية سورة الكهف وسورة مريم ( كهيعص ) (41) .
امتيازات الخلافة والحكم :
الوصول الى سدّه الخلافة والحكم يعني الحصول على الأمتيازات والمكاسب المادية والسياسية والإجتماعية ، فالحكم تتمركز بيده القوة وتكون تحت تصرفه الثروة والامكانات فيعيش في أعلى درجة من الراحة والرفاه ، وتنعم عائلته واقرباؤه واعوانه بصنوف النعم والأمتيازات من مناصب واقطاعات وعطاءات وهبات .هذا ما ينقله التاريخ لنا من تلاعب الحكام الأمويين والعباسيين وغيرهم في الماضي بثروات الأمة ، وبناء القصور بها والأستيلاء على الأراضي واكتناز الثروات ، وبسط الموائد الفاخرة .
فقد كان شباب بني مروان ايام حكمهم يرفلون في الوشيئ كأنهم الدنانير الهرقلية ، وكان مروان بن ابان بن عثمان يلبس سبعة اقمص كأنها درج بعضها أقصر من بعض ، وفوقها رداء عدني بألفي درهم ، أما نساؤهم فقد كنّ يلبسن الديباج والحرير (42) .
ولما تزوج مصعب بن الزبير بعائشة بنت طلحة أمهرها بألف ألف درهم واهدى لها ثماني حبّات من اللؤلؤ قيمتها عشرون ألف دينار ، وكانت تحج ومعها ستون بغلة عليها الهوادج والرحائل (43) .
وكان معاوية بن أبي سفيان يقول : الأرض لله وأنا خليفة الله فما آخذ من مال الله فهو لي وما تركته كان جائزاً لي (44) .
وكتب معاوية الى زياد بن أبيه عامله على العراق أن يصطفي له الصفراء والبيضاء ، فأوعز زياد الى عماله بذلك ، وأمرهم أن لا يقسموا بين المسلمين ذهباً ولا فضة (45) .
وكذلك كان الحال لدى حكام بني العباس ، فقد ورد أن هارون الرشيد كان ينفق كل يوم على موائد طعامه عشرة آلاف درهماً ، وربما اتخذ له الطباخون ثلاثين لوناً من الطعام (46) .
وقد شغف هارون الرشيد بالجواهر والأحجار الثمينة فاشترى خاتماً بمائة ألف دينار ، وكان عنده قضيب زمرد أطوال من ذراع ، وعلى رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه ، نظراً لنفاسته وقد قُيّم الطائر وحده بمائة ألف دينار (47) .
ويتحدث التاريخ عن ترف واسراف زوجته زبيدة ، فقد اشترت غلاماً ضرّاباً على العود مجيداً بثلاثمائة ألف درهم ، واتخذت الخفاف ـ الأحذية ـ المرصعة بالجوهر تلبسها في قصرها ، واتخذت سبحة من يواقيت رمانية كالبنادق اشترتها بخمسين ألف دينار . وصنعت لها بساطاً من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الأجناس ، وصورة كل طائر من الذهب وأعينها من يواقيت وجواهر يقال أنها أنفقت عليها نحواً من ألف ألف دينار ، واتخذت آله من الذهب المرصع بالجوهر ، والثوب من الوشي الرفيع يزيد ثمنه على خمسين ألف دينار (48) .
ولم تقتصر مظاهر البذخ وحياة الترف على الخلفاء والحاكمين وعوائلهم بل شملت وزراءهم وأعوانهم ، فقد كانت لأم جعفر الوزير البرمكي للعباسيين مائة وصيفة لباس كل واحدة وحليها خلاف لباس الأخرى وحليها (49) .
هكذا يعيش الخلفاء ونساؤهم وعوائلهم فكيف كان يعيش علي بن أبي طالب مع نسائه وعائلته أيام خلافته ؟ وماذا نالت ابنته زينب من امتيازات الخلافة والحكم ؟ وهي كبرى بنات الخليفة ، وحبيبة قلبه ، وسيدة بيته ؟ .
لنستعرض بعض ما ينقله لنا التاريخ عن حياة علي أثناء خلافته لنرى الظروف والأوضاع التي عايشتها السيدة زينب في ظل خلافة أبيها في الجانب الحياتي المادي .
كان علي يوزع ما في بيت المال اسبوعياً كل جمعة ، ثم يكنس بيت المال وينضحه بالماء ، ثم يصلي فيه ركعتين ويقول : « أشهد لي يوم القيامة أني لم أحبس فيك المال على المسلمين » (50) .
وعن الشعبي قال: دخلت الرّحبة وأناغلام في غلمان فاذا أنا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب على صرتين من ذهب وفضة ، فقسمه بين الناس حتى لم يبق منه شيء ورجع ولم يحمل الى بيته منه شيئاً ، فرجعت الى أبي فقلت : لقد رأيت خير الناس أو أحمق الناس .
قال : ومن هو يا بني ؟
قلت : رأيت أمير المؤمنين علياً فقصصت عليه الذي رأيته يصنع فبكى وقال :
يا بني بل رأيت اليوم خير الناس (51) .
وعن أبي رجاء يزيد بن محجن أن علياً أخرج سيفاً له الى السوق فقال : من يشتري مني سيفي هذا ؟ فوالذي نفسي بيده لو أن معي ثمن إزار لما بعته ! .
قال أبو رجاء : فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أبيعك ازاراً وأنسئك ثمنه الى عطائك .
فبعته ازاراً الى عطائه ، فلما قبض عطاءه أعطاني حقي (52) .
وعن سويد بن غفلة قال : دخلت على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاذا بين يديه قعب لبن أجد ريحه من شدة حموضته ، وفي يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه ، وهو يكسره ويستعين أحياناً بركبته ، وإذا جاريته فضة قائمة على رأسه ، فقلت لها :
يا فضة أما تتقون الله في هذا الشيخ ؟ لو نخلتم دقيقه .
فقالت : إنا نكره أن يؤجر ونأثم ، وقد أخذ علينا أن لا ننخل له دقيقاً ما صحبناه .
فقال علي : ما يقول ؟
قالت : سله .
فقلت له : ما قلت لها : لو ينخلون دقيقك .
فبكى ثم قال : بإبي واُمي من لم يشبع ثلاثاً متوالية من خبز برّ حتى فارق الدنيا ، ولم ينخل دقيقه ـ يعني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ (53) .
وعن الإمام جعفر بن محمد قال : اُتي علي بخبيص فأبى أن يأكله .
قالوا : تحرّمه ؟ .
قال : لا ولكني أخشى أن تتوق اليه نفسي .
ثم تلا : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) (54).
هكذا كانت السيدة زينب ترى حياة أبيها الخليفة ، وكانت سياسة أبيها تنعكس بالطبع على حياتها فقد روي أن زوجها عبدالله بن جعفر أصابته حاجة وهو ثري لكنه ينفق أمواله كرماً وجوداً .
فجاء الى عمه أمير المؤمنين علي ليطلب منه معونة من بيت المال ، وعبدالله عزيز على قلب عمه ، وهو زوج ابنته العزيزة الأثيرة زينب ، فبماذا أجابه علي ؟ . .
لنقرأ نص الرواية :
قال عبدالله بن جعفر بن أبي طالب لعلي : يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة فوالله ما عندي الا أن أبيع بعض علوفتي .
وفي رواية : الا أن أبيع دابتي .
قال له علي : لا والله ما أجد لك شيئاً الا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك ! ! (55) .
فعلي لا يجد لابن أخيه العزيز وزوج ابنته العزيزة عطاءً أكثر من حصته المقرّرة كسائر المسلمين ، ويعتبر أي عطاء اضافي نوعاً من السرقة من بيت المال ! ! .
وقال الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) : إن علياً ولي الخلافة خمس سنين وما وضع آجرة ولا لبنة على لبن ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاء ولا حمراء (56) .
وقصة أخرى ينقلها التاريخ تحكي عن وضع بنات الإمام علي وعائلته اثناء خلافته ، وكيف انهم لم يستفيدوا أي شيء مادي من امتيازات الخلافة والسلطة :
عن علي بن أبي رافع قال : كنت على بيت مال علي بن أبي طالب وكاتبه ، وكان في بيت المال عقد لؤلؤ .
قال : فأرسلت اليّ بنت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقالت لي : بلغني أن في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ وهو في يدك ، وأنا أحب أن تعيرنيه أتجمل به في أيام عيد الأضحى . فأرسلت اليها ، وقلت : عارية مضمونة يا ابنة أمير المؤمنين . .
فقالت : نعم عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام . .
فدفعته اليها . . وإن أمير المؤمنين رآه عليها فعرفه ، فقال لها : من أين صار اليك هذا العقد ؟ . .
فقالت : استعرته من ابن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزين به في العيد ثم أردّه . .
قال : فبعث اليّ أمير المؤمنين فجئته ، فقال : أتخون المسلمين يابن أبي رافع ؟ .
فقلت : معاذ الله أن أخون المسلمين .
فقال : كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير اذني ورضائي ؟ .
فقلت : يا أمير المؤمنين إنها ابنتك ، وسألتني أن أعيرها إياه تتزين به ، فأعرتها
إياه عارية مضمونة مردودة ، وضمنته في مالي ، وعليّ أن أردّه مسلّماً الى موضعه .
فقال : ردّه من يومك وإياك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي ، ثم اولى لإبنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت أذن أول هاشمية قطعت يدها في سرقة .
قال : فبلغ مقالته ابنته ، فقالت له : يا أمير المؤمنين أنا ابنتك وبضعة منك فمن أحق بلبسه مني ؟ .
فقال لها أمير المؤمنين : يا بنت علي بن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق ، أكل النساء المهاجرين تتزين في هذا العيد بمثل هذا ؟ .
قال ابن أبي رافع : فقبضته منها ورددته الى موضعه (57) .
من كانت تلك البنت ؟ هل هي زينب ؟ أم احدى أخواتها ؟ لعلها لم تكن زينب لأن تقواها ومعرفتها بسياسة أبيها تمنعها من ذلك .
والمهم أن نعرف أن زينب لم تنل من امتيازات الخلافة والحكم شيئاً ، حتى بمقدار سدّ عوز وحاجة بيتها ، أو في حدود استعارة شيء من بيت المال كعارية مضمونة مردودة .
المصادر :
1- ( عقيلة بني هاشم ) السيد علي الهاشمي ص 31 .
2- مجلة ( الموسم ) ص 1065 ـ 1068 .
3- ( زينب وليدة النبوة والإمامة ) م . صادق ص 53 ـ 55 بتصرف .
4- ( في رحاب السيدة زينب ) محمد بحر العلوم ص 33 .
5- مجلة ( الموسم ) العدد الرابع من المجلد الأول ص 1065 ـ 1068 .
6- ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 28 .
7- ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 77 .
8- ( زينب وليدة النبوة والإمامة ) م . صادق ص 56 .
9- ( في رحاب السيدة زينب ) بحر العلوم ص 34 .
10- ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 32 .
11- ( زينب عقيلة بني هاشم ) عبد العزيز سيد الأهل ص 20 .
12- ( مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 33 .
13- ( عقيلة بني هاشم ) الهاشمي ص 34 .
14- ( عقيلة بني هاشم ) الهاشمي ص 34 .
15- ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 81 .
16- المصدر السابق ص 86 .
17- (زينب عقيلة بني هاشم ) عبد العزيز سيد الأهل ص 22 .
18- زينب الكبرى ص 88 .
19- ( مقاتل الطالبيين ) الأصفهاني ص 91 ـ 92 .
20- ( العقد الفريد ) الاندلسي ج 4 ، ص 164 .
21- ( معجم رجال الحديث ) السيد الخوئي ج 10 ، ص 138 .
22- المصدر السابق ص 88 .
23- ( في رحاب السيدة زينب ) بحر العلوم ص 36 .
24- ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 90 .
25- المصدر السابق ص 128 .
26- ( ابصار العين في أنصار الحسين ) للشيخ محمد السماوي ص 40 ، وذكره السيد الهاشمي في كتابه ( عقيلة بني هاشم ) ( ص 36 ) والدكتورة بنت الشاطي في ( السيدة زينب ) ( ص 50 ) والشيخ محمد جواد مغنية ( مع بطلة الطف ) ( ص 36 ) و م . صادق ( زينب وليدة النبوة والإمامة ) ( ص 62 ). ( تذكرة الخواص ) ( ص 110 )
27- ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 127 .
28- نقل ذلك الأزورقاني من كتاب ( المصابيح ) لأبي بكر الوراق .
29- (عقيلة بني هاشم ) الهاشمي ص 40 .
30- ( عقيلة الطهر والكرم ) موسى محمد علي ص 114 .
31- مجلة ( الموسم ) ص 858 .
32- ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 129 .
33- ( أسد الغابة في معرفة الصحابة ) ابن الاثير ج 3 ، ص 598 .
34- المصدر السابق ص 602 .
35- المصدر السابق ص 607 .
36- ( أئمتنا ) علي دخيّل ج 1 ، ص 91 .
37- ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 22 .
38- ( في رحاب السيدة زينب ) بحر العلوم ص 37 .
39- ( السيدة زينب ) عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء ص 50 .
40- ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 92 .
41- سورة مريم ، الآية ( 1 ) . ( زينب الكبرى ) جعفر النقدي ص 36 .
42- ( حياة الإمام الباقر ) باقر شريف القرشي ج 2 ، ص 151 .
43- المصدر السابق ص 152 .
44- ( حياة الإمام موسى بن جعفر ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 301 .
45- المصدر السابق ص 301 .
46- المصدر السابق ج 2 ، ص 39 .
47- المصدر السابق ص 46 .
48- المصدر السابق ص 48 .
49- المصدر السابق ص 50 .
50- ( الغارات ) أبو اسحاق الثقفي ( المتوفى : 283 هـ ) ج 1 ، ص 49 .
51- المصدر السابق ص 54 .
52- المصدر السابق ص 63 .
53- المصدر السابق ص 87 .
54- المصدر السابق ص 90 .
55- سورة الأحقاف ، الآية ( 20 ) . ( الغارات ) أبو اسحاق الثقفي ج 1 ، ص 66 .
56- ( علي من المهد الى اللحد ) القزويني ص 140 .
57- ( بحار الأنوار ) المجلسي ج 40 ص 338 .
/ج