دأب الامام الحسن العسكري عليهالسلام - منذ عهد ولايته المبكر - علی تربية مواليه تربية خلقية ايمانية عالية لا يتمتع بها غيرهم، ليكونوا مثلا يحتذي و مثالا يقتدي. و هذا من صميم وظيفته الربانية الرامية الي اصلاح الفرد و المجتمع اصلاح معاش و اصلاح معاد. و لكنه صلوات الله عليه، تحمل أعباء امامة الناس في عهد ظلم و ضيق من السلطان و أهل الزمان، و قاسي مرارة حياة مراقبة ترصد جميع أقواله و أفعاله و تحركات شيعته و مواليه، بل لاقي صعوبات من المتوقفين عن القول بامامته بعد مضي أبيه، و ذاق عناء من جمعهم حول كلمة الحق؛ فقد خرج في بعض توقيعاته الشريفة عند اختلاف قوم من شيعته في أمره - أوائل عهده الميمون -: «ما مني أحد من آبائي بمثل ما منيت به من شك هذه العصابة في!. فان كان هذا الأمر أمرا اعتقدتموه ودنتم به الي وقت ثم ينقطع، فللشك موضع. و ان كان متصلا ما اتصلت أمور، فما معني هذا الشك؟!» (1) .
و لا يخفي علی أحد ما في هذه الرسالة من حرقة و أسي، و من غصة في الصدر الكبير الذي يسع كل أمر خطير. ذلك أن شيعة أبيه اختلفوا في هل هو الامام المنصوص عليه أم لا؟. الا الذين سمعوا النص من فم أبيه أو من وثقوا بشهاداتهم. و قد سبق و مر بك تهويش أخيه جعفر الكذاب، و مساعدة أبواق الدعاية المنحرفة لتحويل الامامة عن مركزها، فأبي الله تعالي الا أن يظهر أمره.
و نحن نلاحظ أنه سلام الله عليه، قد أخرج هذا التوقيع - عاتبا و مؤنبا - لشدة حرصه علي لم شمل الشيعة كيلا يضيعوا مع الضائعين، لأن من مات و لم يعرف امام زمانه، مات ميتة جاهلية، و من أنكر واحدا من الأئمة فكأنما أنكر الجميع، بل كأنه أنكر نبوة محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و نعوذ بالله من ذلك!.
من نماذج تعاليمه سلام الله عليه لشيعته ما قاله لهم في واحدة من رسائله، و هي هذه: «أوصيكم بتقوي الله، و الورع في دينكم، و الاجتهاد لله، و صدق الحديث، و أداء الأمانة لمن ائتمنكم برا أو فاجرا، و طول السجود، و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلي الله عليه و آله و سلم. صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، و عودوا مرضاهم، و أدوا حقوقهم. فان الرجل منكم اذا ورع في دينه، و صدق في حديثه، و أدي الأمانة، و حسن خلقه مع الناس، قيل هذا شيعي، فيسرني ذلك. اتقوا الله و كونوا زينا، و لا تكونوا شينا. جروا الينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح!. فانه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، و ما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك. لنا حق في كتاب الله، و قرابة من رسول الله، و تطهير من الله لا يدعيه غيرنا الا كذاب!.
أكثروا ذكر الله، و ذكر الموت، و تلاوة القرآن، و الصلاة علی النبي صلي الله عليه و آله و سلم؛ فان الصلاة علی رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما وصيتكم به، و أستودعكم الله، و أقرأ عليكم السلام» (2) .
ما أروع أن يتحلي الانسان بهذه الصفات الطيبة التي طلب الامام عليهالسلام من أصحابه أن يتصفوا بها!. انه بذلك يعيش سعيدا، و يموت حميدا، و يرضي ربه تعالي الذي يواجهه بعد موت هو لاقيه، و حساب هو منتظره، و مصير محتوم اما الي جنة النعيم في جوار الحي القيوم، و اما الي نار ماؤها كالمهل يغلي في البطون، و طعامها الضريع و الزقوم.
و الشيعي حين يكون شيعيا حقا، يلفت نظر الناس الي الأدب الرفيع الذي يتحلي به، و الي التدين العملي الصحيح الذي يمارسه، و يجلب لأئمته مودة الآخرين و تقديرهم، لما بثوا في قلوب أتباعهم من روحية عالية، و مزايا خلقية سامية، فان من العار علی الشيعي أن يكون منافقا، و من الشنار أن يكون مرائيا في دينه و في معاملاته، ثم يقول - بكل وقاحة - أنا شيعي أترسم خطي أهل بيت النبي صلي الله عليه و عليهم؛ فانهم في هذه الحال يرفضون هويته و انتسابه اليهم، لأنهم مطهرون من كل عيب و مبرأون من كل ريب، و من ادعي امامة الناس سواهم - عد كاذبا مفتريا، ضالا مضلا..
و كتب عليهالسلام الي أهل قم و آبة: «ان الله تعالي بجوده و رأفته قد من علی عباده بنبيه محمد بشيرا و نذيرا، و وفقكم لقبول دينه، و أكرمكم بهدايته، و غرس في قلوب أسلافكم الماضين رحمة الله عليهم، و أصلابكم الباقين - تولي كفايتهم و عمرهم طويلا في طاعته - حب العترة الهادية؛ فمضي من مضي علی و تيرة الصواب، و منهاج الصدق، و سبيل الرشاد. فوردوا موارد الفائزين، و اجتنوا ثمرات ما قدموا، و وجدوا غب ما أسلفوا. و منها: فلم يزل نيتنا مستحكمة، و نفوسنا الي طيب آرائكم ساكنة، و القرابة الواشجة بيننا و بينكم قوية؛ وصية أوصي بها أسلافنا و أسلافكم، و عهد عهد الي شباننا و مشايخكم، فلم يزل علی جملة كاملة من الاعتقاد، لما جعلنا الله عليه من الحال القريبة، و الرحم الماسة. يقول العالم سلام الله عليه اذ يقول: المؤمن أخو المؤمن لأمه و أبيه» (3).
و لا يخفي ما في هذه الرسالة من عاطفة شريفة تفيض بالخلق السمح، و تبين آثار تلك الروابط المتينة بين الامام و المأموم حتي أنها تصل الي درجة القرابة و الأخوة الحقيقية؛ اذ يعتبر امامنا العسكري عليهالسلام أن حب المتشيع لعترة النبي صلي الله عليه و آله و سلم، هو الذي ينعقد ولاية لهم، و يوجد هذه الصلة و تلك اللحمة الواشجة بين أهل بيت الوحي الهادين و مواليهم المهديين؛ بل لقد أنزل العلاقة منزلة القرابة القريبة و الرحم الماسة.. و هذه هي روح الاسلام الجامعة التي تكسر كل حاجز بين السيد و المسود، و تلغي جميع القيود و تجعل المؤمن أخا للمؤمن مهما كان جنسه و لونه، طبقا لقول نبينا الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم: لا فضل لعربي علی أعجمي الا بالتقوي. و لا ينبغي أن نسهو عن هذه الطريقة الفذة في حسن التربية و التوجيه لمن اعتنق التشيع.
فقد أوضح أن معتنقه يجب أن يتخلق بالآداب الرفيعة التي تجعله ممتازا علی غيره تقوي و صلاحا و عمقا في العقيدة، و صدقا في القول و العمل، و تطبيقا لمباديء الدين الذي أنزله رب العالمين. و قد قال عليهالسلام: «أعرف الناس بحقوق اخوانه، و أشدهم قضاء لها، أعظمهم عند الله شأنا. و من تواضع في الدنيا لاخوانه، فهو عند الله من الصديقين و من شيعة علي بن أبيطالب حقا. و لقد ورد علی أميرالمؤمنين عليهالسلام أخوان له مؤمنان: أب و ابن، فقام اليهما و أكرمهما، و أجلسهما في صدر المجلس و جلس بين أيديهما.
ثم أمر بطعام، فأحضر فأكلا منه. ثم جاء قنبر - خادمه - بطست و ابريق خشب و منديل، و جاء ليصب علی يد الرجل ماء، فوثب أميرالمؤمنين عليهالسلام فأخذ الابريق ليصب علی يد الرجل. فتمرغ الرجل بالتراب و قال: يا أميرالمؤمنين، يراني الله و أنت تصب علی يدي؟!. قال - عليهالسلام -: اقعد واغسل يدك، فان الله عزوجل يراك، و أخوك الذي لا يتميز عنك و لا يتفضل عليك، يخدمك، يريد بذلك خدمة [هي] في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، و علی حسب ذلك في ممالكه فيها. فقعد الرجل، فقال له، علي عليهالسلام: أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته و بجلته، و تواضعك فيه بأن ندبني لما شرفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئنا كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبرا!. ففعل الرجل. فلما فرغ، ناول محمد بن الحنفية و قال: يا بني، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه، لصببت علی يده - و لكن الله يأبي أن يسوي بين أب و ابنه اذا جمعهما مكان. لكن قد صب الأب علی الأب، فليصب الابن علی الابن. فصب محمد بن الحنفية علي الابن. ثم قال الحسن العسكري عليهالسلام: فمن اتبع عليا عليهالسلام علی ذلك، فهو شيعي حقا» (4).
بأبي و أمي امامنا العسكري العظيم ما أحسن ما يريد أن يكون عليه شيعته من الأدب الرفيع. و من منا يستطيع أن يصنع ما صنع علي، غير علي عليهالسلام الله و تحياته و بركاته؟. و هل كان أميرالمؤمنين - حقا - لا يتميز عن ضيفه الذي صب له الماء علي يديه ليغسلهما بعد الطعام؟!. و اذن أين نضع العلم، و الفضل، و السابقة، و الجهاد، و خلافة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و ولاية أمور المؤمنين، و أمورا أخري يمتاز بها علي علی سائر الأنام، الي جانب الصحبة، و أخوة الرسول، و منزلته منه، و كونه ربيبه و صهره علي سيدة نساء العالمين عليهاالسلام؟!.
ان عليا سلام الله عليه يتميز عن سائر البشر بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و لكنه لا يتفضل علي مؤمن، و لا يتعالي علي موال له، بل يتواضع للكبير و للصغير و لو كان خليفة يقسم الذهب و والفضة بين الناس و يأكل خبز الشعير.. و يجلس علي الحصير، و يلبس الثوب الصفيق القصير لئلا تأخذه خيلاء الآخرين التي تذهب بكرامتهم. ان ما فعله أميرالمؤمنين عليهالسلام مع ضيفه، فعله مرة واحدة في الزمان - عيسي بن مريم عليه و علي أمه السلام يوم صب الماء علي أرجل حوارييه ليعلمهم معني التواضع و الأخوة في الدين و فناء الذات فيما يرضي الله عزوجل.. ثم فعله مسيح هذه الأمة الذي أقام الاسلام بسيفه، و بلسانه، و بسيرته، و كان نموذجا فردا بين خلق الله أجمعين.. و علي مثل هذا النمط الرائع كان الامام العسكري عليهالسلام يربي أصحابه و يخلق شيعته. قال جعفر بن محمد بن حمزة العلوي: «كتبت الي أبيمحمد، الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، أسأله: لم فرض الله تعالي الصوم؟. فكتب الي: فرض الله تعالي الصوم ليجد الغني مس الجوع. ليحنو علی الفقير» (5) .
أجل، لهذا فرضه الله سبحانه و تعالي، و لكننا اذا مسنا جوع الصوم، هلعنا و هرعنا الي الطبيب لنجد مخرجا صحيا يخلصنا من الصوم و من مس جوعه. فان بطوننا تشغلنا عن الفقير، و تلهينا عن التفكير بالحنو عليه و بالشفقة علي أي محتاج، و ان نحن صمنا، جمعنا لموائد افطارنا أطايب المآكل و المشارب، ثم رمينا ما بقي عنا في القمامات مع الزبل و الأقذار من غير أن يخطر لنا الفقير ببال.. ثم مننا علي الله أن صمنا.. له!. أما الفقير فانه - بمفهومنا الحاضر - يجب أن يذهب و يشتغل ليعيش!. و لسنا حاضرين لأن نعمل و نطعمه من تعبنا و جنانا، و لا نحن ملزمون بتموينه علي حساب عرق جبيننا!. و لا يجوز أن يبقي عالة علي الآخرين!. و أما شهر رمضان فهو ضريبة علينا أداؤها، و ليس بشهر توبة و انابة و عبادة.. و فراقه عندنا عيد!.
و من لا يصدق بأننا مسلمون نبرز له هويتنا، لأن اسلامنا بالهوية، و نحن نرفض كل ما يحول دون شهوات بطوننا و فروجنا.. و جيوبنا، حلالا كان أو حراما. و قال بعض أهل المدائن: «كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام: روي لنا عن آبائكم عليهمالسلام، أن حديثكم صعب مستصعب، لا يحتمله ملك مقرب، و لا نبي مرسل، و لا مؤمن امتحن الله قلبه للايمان؟. فجاء الجواب: انما معناه أن الملك لا يحتمله في جوفه حتي يخرجه الي ملك مثله، و لا يحتمله نبي حتي يخرجه الي نبي مثله، و لا يحتمله مؤمن حتي يخرجه الي مؤمن مثله. انما معناه: أن لا يحتمله في قلبه من حلاوة ما هو في صدره حتي يخرجه الي غيره» (6).
و قد كتبنا موسعا حول معني هذا الحديث في كتابنا «الامام المعجزة» و لن نكرر ذلك هنا. و الامام العسكري كآبائه عليه و عليهمالسلام يبتغي من وراء قول الحق أن يسمع قوله سائر الناس، لأنه امام كل الناس، و يحب الخير و الهدي لجميع الناس. و هو هنا، اذ يقول الحق في جوابه الذي اختصر فيه معني الحديث، يحمل المدائني - و جميع من يبلغه هذا الحديث - مسؤولية نقله و نقل أحاديثهم الكريمة، الي غيرهم، راميا الي الفائدة المرجوة من جهة، و الي استقطاب دعاة الخير في جميع قواعده - قواعد الحق و الخير - ليعملوا في سبيل اذاعة كلمة الحق التي تحملها أخبارهم، و لتعميم عمل الخير الذي يدعون اليه، و لتترابط القواعد و الدعاة فيما بينها برباط أخوة الايمان العتيد، و ليقوموا جميعا بحمل دعوة السماء الكريمة من واحد الي واحد و من جيل الي جيل، حتي يعم الهدي و الخير سائر المعمور، و تسيطر شريعة الله تعالي التي ترسي قواعد العدل و الهدي الالهيين.
و قال محمد بن القاسم، المفسر: «حدثنا أحمد بن الحسن الحسيني، عن الحسن بن علي، عن أبيه، عن محمد بن علي، عن أبيه، عليهمالسلام، قال: «دخل موسي بن جعفر علي رجل قد عرق في سكرات الموت و هو لا يجيب داعيا. فقالوا له: يابن رسول الله، و ددنا لو عرفنا كيف الموت؟. و كيف حال صاحبنا؟. فقال: الموت هو المصفاة، يصفي المؤمنين من ذنوبهم - فيكون آخر ألم يصيبهم، كفارة آخر وزر بقي عليهم. و يصفي الكافرين من حسناتهم؛ فيكون آخر لذة أو راحة تلحقهم، و هو آخر ثواب حسنة لهم. و أما صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا، و صفي من الآثام تصفية، و خلص حتي نقي كما ينقي الثوب من الوسخ، و صلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا، دار الأبد» (7) .
و بالاسناد السابق، عنه عليهالسلام، قال: «دخل علي بن محمد عليهالسلام - أي والده الامام الهادي - علي مريض من أصحابه و هو يبكي و يجزع من الموت. فقال له: يا عبدالله، تخاف من الموت لأنك لا تعرفه!. أرأيتك اذا توسخت و تقذرت، و تأذيت من كثرة القذر و الوسخ عليك، و أصابك قروح و جرب، و علمت أن الغسل في حمام يزيل ذلك كله، أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك؟!. أو ما تكره أن لا تدخله فيبقي ذلك عليك؟!. قال: بلي، يابن رسول الله. قال: فذاك الموت، هو ذلك الحمام. و هو آخر ما يبقي عليك من تمحيص ذنوبك، و تنقيتك من سيئاتك!. فاذا أنت وردت عليه، و جاوزته، فقد نجوت من كل غم و هم و أذي، و وصلت الي كل سرور و فرح. فسكن الرجل، و استسلم و نشط؛ و غمض عين نفسه، و مضي لسبيله!»(8) .
و أنت تري أن أئمة أهل البيت عليهمالسلام خزنة علم الله تعالي؛ و هم لا ينطقون الا بوحيه الذي نزل علي رسوله صلي الله عليه و آله و سلم. و عندهم علم ما كان و ما يكون، ثم يرفدهم بارئهم عز و علا بعلم ما هو آت، ليثبت أنهم حججه علي خلقه، و شهداؤه علي بريته، فيلهمهم لكل موضوع تفسيره الذي أراده الخالق تعالي و لا يدرك حكمته الا أمثالهم من الأولياء، فيجعلون مرارة الموت حلوا في لهاة المؤمن حين يعللون له معني آلام النزع و يبينون له أن الاغماضة الهادئة التي تبدو من الكافر عند موته هي آخر لذائذ حياته في هذه الدنيا، ثم يعقبها العذاب الدائم الذي لا أمد له و لا نهاية. و انما دخل كل من الامامين - الكاظم و الهادي - علي ذينك المحتضرين بدافع رباني، ليبلغا كيت و كيت مما رأيت عن الموت، و لينذرا الناس شر تلك النومة التي ما بعدها قومة الا الي النعيم الدائم، أو الجحيم المقيم!. فعملهما امتداد لرسالة جدهما الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم، و اقامة للدين، و تأثيل للعقيدة.
و هو من صميم وظيفة وصي النبي و خليفته، لا كما سار «خلفاء المسلمين» من اجازة المداحين و الشعراء، و نثر الجواهر و الدرر علي رؤوس الراقصات و تحت أرجلهن، و اغداق العطاء علي أهل اللهو و الفسق و الغناء!. ولو استعار الأحمق الجاهل فكر جاره العاقل العالم لحظة من يومه، لأدرك الفرق الشاسع بين من نصبه الله تعالي لأمره، و بين من نصب نفسه أو نصبه غيره للأمر و النهي طمعا في دنياه.. و لكن، من عذيري ممن لا يتنازل عن عصبيته حين يظهر له الحق الذي يخالف هواه؟!. قال أبوهاشم الجعفري رحمه الله: «أدخلت الحجاج بن سفيان العبدي علي أبيمحمد عليهالسلام، فسأله عن المبايعة، - يعني بيع النقد بالنقد - قال: ربما تواضعت الناس، فتواضعتهم المواضعة الي الأصل؟. قال - عليهالسلام -: لا بأس، الدينار بالدينارين، معه خرزة. - أي خرزة ثمينة من الأحجار الكريمة يوازي ثمنها أقل من دينار كما لا يخفي، لا خرزة مبتذلة -. فقلت في نفسي: هذه شبه ما يفعله المربيون. فالتفت الي فقال: انما الربا الحرام، ما قصدته. فاذا جاوز حدود الربا و زوي عنه فلا بأس الدينار بالدينارين يدا بيد، و يكره أن لا يكون بينهما شيء يوقع عليه البيع» (9) .
و هذه المسألة في غاية الدقة في باب المبايعة. و هي لا تحلل ربا حرمه الله تعالي، لأنه تفترض وجود شيء يوازي ثمنه أقل من قيمة الزيادة بقليل، تشجيعا للدائن علي رحمة المحتاج و قضاء حاجته، لا بقصد الربا من كليهما؛ و قد ورد عن الامام الصادق عليهالسلام ما معناه: «ما أحب الي نفسي أن أستقرض من جاري رغيفا، و أرد له رغيفين». لا بقصد الزيارة و الربوية، بل تنشيطا للناس علي القرض و الاقتراض، و علي فتح باب الخير و الانتفاع فيما بينهم، و ليجد المحتاج وسيلة لقضاء حاجته فيهدي الي من يقضيها له هدية يمكن أن يطيقها. و في كل حال كان أهل الاحتياط يحذرون العمل بهذه الطريقة هربا من الوقوع في الربا. أما اليوم فاننا نعاني مشكلة المال المختلط بالحرام من جراء التعامل الربوي مع المصارف الحديثة، و قد صدق فينا قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «يأتي علي أمتي زمان تتعامل فيه بالربا حتي لا يبقي بيت الا و يصل اليه منه غباره!». والله تعالي - وحده - هو المنجي من الهلكة في هذا العصر الذي تفشي فيه الربا تفشيا هائلا... و قال الحسن بن طريف: كتبت الي أبيمحمد أسأله: ما معني قول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لأمير المؤمنين: من كنت مولاه، فعلي مولاه؟. قال: أراد بذلك أن جعله علما يعرف به حزب الله عند الفرقة» (10).
صلي الله عليك و سلم يا سيدي يا رسول الله ما أفصح لسانك، و ما أجلي بيانك!. فكما أنك كنت - و ما زلت - علما يعرف المؤمن بك و بربك، و يمتاز عن الكافر بالله و عابد الطاغوت، فان وصيك عليهالسلام قد جعله الله عز اسمه علما يعرف به من عمر قلبه بالايمان، ممن فهم الدين مظاهر و لقلقة لسان!. فأنت - بفضل الله عليك - خاتم الأنبياء و سيدهم؛ و هو - بنعمة الله و فضله - خاتم الأوصياء و سيدهم.. (ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذوالفضل العظيم)» (11).
جعلنا الله سبحانه من المؤمنين بكما، المصدقين بسركما و جهركما، و بسر أبنائكما الطاهرين. و قال الحسن بن طريف - أيضا: «كتبت الي أبيمحمد عليهالسلام، و قد تركت التمتع ثلاثين سنة، و قد نشطت لذلك. و كان في الحي امرأة وصفت لي بالجمال، فمال اليها قلبي، و كانت عاهرة - أي زانية - لا تمنع يد لامس، فكرهتها. ثم قلت: قد قال: تمتع بالفاجرة فانك تخرجها من حرام الي حلال. فكتبت الي أبيمحمد أشاوره في المتعة، و قلت: أيجوز بعد هذه السنين أن أتمتع؟. فكتب: انما تحيي سنة، و تميت بدعة، و لا بأس. و اياك و جارتك المعروفة بالعهر، و ان حدثتك نفسك أن آبائي قالوا: تمتع بالفاجرة تخرجها من حرام الي حلال!. فهذه - امرأة معروفة بالهتك!. و هي جارة، و أخاف عليك استفاضة الخبر فيها!. فتركتها، و لم أتمتع بها. و تمتع بها شاذان بن سعد، رجل من اخواننا و جيراننا، فاشتهر بها حتي علا أمره و صار الي السلطان، و غرم بسببها مالا نفيسا، و أعاذني الله من ذلك ببركة سيدي» (12).
نعم، لم يجرك يا ابنطريف من هذه الفضيحة، الا نهي الامام عليهالسلام لك!. و سلام الله و تحياته و بركاته علي ذلك الامام العظيم، الواسع الصدر، الذي لم يغضب عليك يا ابنالستينات حين عرف برغبتك في التمتع بامرأة عاهرة مشهورة بالفجور، بعد أن ذر قرن الشيب في فوديك، بل نصحك بكل هدوء لأنه يعلم أن الله تعالي قيضك لتسأل هذا السؤال فنعرف نحن و غيرنا فتوي الامام عليهالسلام بهذا الموضوع، فقد سبقك الي ما شابه سؤالك كثيرون بدافع من الله سبحانه، ليكشف لنا وجوه الصواب في الأحكام.. و لست بأجرأ ممن سأل الامام الصادق عليهالسلام قائلا: هل يجوز للرجل أن يقبل فرج امرأته؟. فقال عليهالسلام: لا بأس. فأبان لنا حكما من الأحكام لا يعرفه الكثيرون؛ و قد كان هؤلاء الأصحاب خير وسيلة بين الامام عليهالسلام، و بين قواعده الشعبية و أتباعه في استخراج الكنوز المحفوظة عنده و عند آبائه صلوات الله عليهم. ان امامنا العسكري عليهالسلام - ككل سفير لله تعالي في أرضه - لم يعمل الا في حدود ما أنزل الله سبحانه؛ و قد جعله معصوما عن الزلل لا يفعل الا ما هو الأولي في جميع الأمور، و لا يفوه بكلمة، و لا يأتي بحركة الا في دائرة مرضاة خالقه عزوجل. فلا بد أن نذعن لما يصدر عنه - حتي ولو عجزنا عن تفسير كل أقواله و أفعاله - باعتبار مركزه الحصين الذي تحركه مشيئة ربه، و تؤيده قدرته، و تحوطه عنايته.
فاستمع الي القصة التالية و تأمل بنتيجتها مليا، لتري طريقته الفذة التي كان يؤدب بها شيعته و يصلح به أفراد مجتمعه: «قال الحسن بن محمد القمي: «رويت عن مشايخ قم، أن الحسين بن الحسن بن جعفر بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق عليهالسلام، كان بقم يشرب الخمر علانية؛ فقصد يوما لحاجة باب أحمد بن اسحاق الأشعري، و كان وكيلا في الأوقاف بقم، فلم يأذن له، و رجع الي بيته مهموما. فتوجه أحمد بن اسحاق الي الحج، فلما بلغ سر من رأي استأذن علي أبيمحمد، الحسن العسكري عليهالسلام، فلم يأذن له!. فبكي أحمد لذلك طويلا، و تضرع حتي أذن له. فلما دخل قال: يابن رسول الله، لم منعتني الدخول عليك و أنا من شيعتك و مواليك؟!. قال عليهالسلام: لأنك طردت ابنعمنا عن بابك، فبكي أحمد، و حلف بالله أنه لم يمنعه من الدخول عليه الا لأن يتوب عن شرب الخمر. قال: صدقت، و لكن لا بد من اكرامهم و احترامهم علي كل حال، و أن لا تحقرهم، و لا تستهن بهم لانتسابهم الينا، فتكون من الخاسرين.
فلما رجع أحمد الي قم أتاه أشرافهم، و كان الحسين معهم. فلما رآه أحمد وثب اليه و استقبله و أكرمه، و أجلسه في صدر المجلس!. فاستغرب الحسين ذلك منه و استبعده و سأله عن سببه؟!. فذكر له ما جري بينه و بين العسكري عليهالسلام في ذلك. فلما سمع ذلك ندم من أفعاله القبيحة و تاب منها، و رجع الي بيته و أهرق الخمور و كسر آلاتها و صار من الأتقياء الورعين و الصلحاء المتعبدين. و كان ملازما للمساجد، معتكفا فيها حتي أدركه الموت، و دفن قريبا من مزار فاطمة - المعصومة، في قم - رضي الله عنهما»(13).
أفرأيت الي ما رمي اليه الامام من وراء الحث علي اكرام بني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟!. و رأيت - أيضا - كيف هجم السيد الي بيته و كسر آلات الخمر، و أهرق ما فيها حين أثيرت فيه عاطفة قرباه من نبي الأمة صلي الله عليه و آله و سلم و أعيدت اليه كرامة تلك القربي فرجع الي الصواب؟!. فانك لا تكرم سيدا لمحض قرباه من النبي صلي الله عليه و آله و سلم، الا حركت في نفسه مشاعر اصلاح نفسه ليكون جديرا بهذه القربي الشريفة. و أنت كلما قلت للسيد. أهلا بابن رسول الله و مرحبا.. أكرموا ابنرسول الله.. احفظوا رسول الله في نسله.. كلما نبهت بنيه الي ذلك الشرف الذي يحملونه بانتسابهم اليه؛ اذ يرون أن المنتسب اليه يبجل و يحترم كرمي لعينيه صلي الله عليه و آله و سلم؛ الأمر الذي يجعلهم يعيدون النظر في سلوكهم، و يعملون علي تكميل صفاتهم و اصلاح أوضاعهم ليكونوا علي مستوي القرابة الكريمة..
و هذا ما ابتغاه الامام العسكري عليهالسلام من وراء تنبيه صاحبه الجليل أحمد بن اسحاق الي هذا المعني، فرد الحسين بن الحسن الي حظيرة الاسلام و خلصه من النار و الصغار... و هكذا كان شأنه مع أفراد كثيرين. أما مع أحمد بن هلال المتصوف الضال المضل، فقد كان موقف الامام حاسما حازما لأنه لا يصانع الا وجه ربه عز و علا، و لا تنطلي عليه زندقة المتصوفين و كفرهم بالله عن طريق مظاهر الزهد الديني الكاذب الذي يتسترون به و يسترون كفرهم و فجرهم، لأن من مبادئهم أن تنتهي مراتبهم بمشاركة الله تعالي في ربوبيته، و بالاتحاد معه، تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا!. فقد قال محمد بن يعقوب: خرج الي العمري في توقيع طويل اختصرناه: .. و نحن نبرأ من ابنهلال لعنه الله، و ممن لا يبرأ منه!. فأعلم الاسحاقي و أهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر و جميع من كان سألك أو يسألك عنه» (14).
فالامام عليهالسلام يعرف حال الناس جميعا، و يعلم حال أصحابه فردا فردا مثلما يعرفون أنفسهم؛ و لا تشتبه عليه أمورهم بحسن مظاهرهم لأنه يعلم الظواهر و يطلع علي السرائر. و ابنهلال - لعنه الله - كان من المتشيعين، و قد أخذ في الزهد و انحرف و صار من المتصوفين المارقين من الدين، فخشي الامام عليهالسلام أن يغتر به مواليه، فبصرهم بحاله، فحذرهم من أن يندس بينهم مثل هذا المرتد الكافر، فتبرأ الي الله منه و طلب أن يتبرأوا منه و لا يعاشروه.
و قد قال أحمد بن ابراهيم المراغي: «ورد علي القاسم بن العلا نسخة ما كان خرج من لعن ابنهلال، و كان ابتداء ذلك أن كتب - الامام - عليهالسلام الي قوامه بالعراق: احذروا الصوفي المتصنع!. قال: و كان من شأن أحمد - بن هلال - أن حج أربعا و خمسين حجة، عشرون منها علي قدميه. و كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه و كتبوا منه، فأنكروا ما ورد في مذمته، فحملوا القاسم بن العلا علي أن يراجع في أمره، فخرج اليه: قد كان أمرنا نفذ اليك في المتصنع ابنهلال - لا رحمه الله - بما قد علمت. لم يزل لا غفر الله له ذنبه و لا أقال عثرته؛ دخل في أمرنا بلا اذن منا و رضي، يستبد برأيه فيتحامي من ديوننا، و لا يمضي من أمرنا اياه الا بما يهواه و ما يريده - أرداه الله في نار جهنم - فصبرنا عليه حتي بتر الله عمره بدعوتنا.
و كنا قد عرفنا خبره أقواما من موالينا في أيامه - لا رحمه الله - و أمرناهم بالقاء ذلك الي الخاص من موالينا، و نحن نبرأ الي الله من ابنهلال لا رحمه الله، و ممن لا يبرأ منه!. و أعلم الاسحاقي، سلمه الله و أهل بيته، مما أعلمناك من حال أمر هذا الفاجر، و جميع من كان سألك و يسألك عنه من أهل بلده و الخارجين، و من كان يستحق أن يطلع علي ذلك، فانه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنا ثقاتنا. و قد عرفوا بأننا نفاوضهم سرنا و نحمله اياه اليهم و عرفنا ما يكون من ذلك ان شاء الله. قال: و قال أبوحامد: فثبت قوم علي انكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه، فخرج: لا شكر الله قدره، لم يدع المرزئة بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه، و أن يجعل ما من به عليه مستقرا و لا مستودعا. و قد علمتم ما كان من أمر الدهقان عليه لعنة الله، و خدمته و طول صحبته، فأبدله الله بالايمان كفرا حين فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة و لم يمهله» (15).
فبوركت عين لا تنام عن رعاية أشياعها و أتباعها، و لا تغضي عن كبيرة و لا صغيرة الا أعارتها اهتمامها، حياطة علي الرعية و اعتناء بشؤونها، و صونا للقضية التي تبقيها علي أحسن حال في كل حال.. فابن هلال واحد من مئات ألوف القضاة و المنحرفين في ذلك العصر، و لكن الامام عليهالسلام لاحظ مساسا له بجماعته، و ثقة كانت لهم به قبل انحرافه و كفره، فأبلغهم حقيقة حاله التي صار اليها لينزعوا ثقتهم فيه؛ و لو كان كالآخرين من البعداء عن شيعته لما اعتني بأمره و لا قال فيه كلمة واحدة خاصة به.. فشيعته هم موضع اهتمامه أولا و بالذات، لأنهم يتبعون الصراط المستقيم الذي هو عليه من عند ربه تبارك و تعالي..
و عن أبييعقوب، و أبيالحسن، أنهما قالا: «حضرنا عند الحسن بن علي، أبيالقائم، عليهالسلام؛ فقال له بعض أصحابه: جاءني رجل من اخواننا الشيعة قد امتحن بجهال العامة، يمتحنونه في الامامة، و يحلفونه، فكيف يصنع حتي يتخلص منهم؟. فقلت له: كيف يقولون؟ قال: يقولون: أتقول ان فلانا هو الامام بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟ فلا بد لي أن أقول: نعم، و الا أثخنوني ضربا. فاذا قلت: نعم، قالوا لي: قل: والله. فقلت لهم: نعم. فقلت: اذا قالوا: والله، قل: ولي، أي تريد: عن أمر كذا، فانهم لا يميزون، و قد سلمت. فقال لي: فان حققوا علي فقالوا: قل: والله، و بين الهاء؟. فقلت: قل: والله، برفع الهاء، فانه لا يكون يمينا اذا لم يخفض. فذهب، ثم رجع الي فقال: عرضوا علي و حلفوني، فقلت كما لقنتني. فقال له الحسن عليهالسلام: أنت كما قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «الدال علي الخير، كفاعله». لقد كتب لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا و موالينا و محبينا، حسنة، و بعدد من ترك التقية منهم حسنة، لو قوبل بها ذنوب مائة سنة لغفرت!. و لك بارشادك اياه، مثل ما له» (16) .
و قد ورد في الخبر الصحيح أن الامام عليهالسلام، قال: «التقية ديني و دين آبائي؛ من لا تقية عنده، لا دين له». و هذا حق، لأن التقية - في حال أنها لا تعني الرياء و لا الكذب، و لا الظهور علي غير الحقيقة - بل تعني أكثر ما تعني توفير الشحناء، و ازالة البغضاء، و تحسم الجدل الضار الفاتك بوحدة المسلمين، و تعمل علي تصفية القلوب ليكون سائر المسلمين يدا واحدة علي من سواهم، و اخوانا متحابين لا تفرق بينهم مذاهبهم.
و أنا لا أعرف لماذا يجب أن ينصب المرء نفسه محرر أديان و مذاهب، فيبرر عمل هذا و يشجب عمل ذاك، فيثير بذلك النعرات الطائفية و العنعنات المذهبية، و ينفر القلوب و يفرق بين المسلمين و ينقض وحدتهم؟!. ما من أحد مكلف بذلك، فانه يوجد الفتن، و يقطع آصرة الروابط القلبية بين أبناء الدين الواحد، و ليس ذلك من الايمان في شيء!.. و تلاحظ في جواب الامام عليهالسلام تركيزا علي الالتزام بالتقية التي تنجي الأمة من الخلاف و الاختلاف، و توحد الصفوف و توجد الائتلاف، و تجمع القلوب تحت راية لا اله الا الله، محمد رسول الله، التي ترهب العدو، و تحفظ بيضة الاسلام، وتتيح للمسلمين أن يمارسوا أعمالهم التعبدية بملء الحرية و الأمان.. و لذلك - و لذلك فقط - جعل الله تعالي للمتاقي هذا الأجر العظيم و هذا العدد الوافر من الحسنات. «حكي بعض الثقات بنيسابور، أنه خرج لاسحاق بن اسماعيل - الذي كان من أهل الثقة عند الامام عليهالسلام، ترد عليه تواقيعه الشريفة؛ خرج اليه - من أبيمحمد عليهالسلام توقيع: يا اسحاق بن اسماعيل، سترنا الله و اياك بستره، و تولاك في جميع أمورك بصنعه. قد فهمت كتابك رحمك الله. و نحن بحمد الله و نعمته، أهل بيت نرق علي موالينا، و نسر بتتابع احسان الله اليهم و فضله لديهم، و نعتد بكل نعمة ينعمها الله عزوجل عليهم. فأتم الله عليكم بالحق - نعمته -.
و من كان مثلك ممن قد رحمه الله و بصره بصيرتك، و نزغ عن الباطل و لم يعم في طغيانه؛ فان تمام النعمة دخول الجنة. و ليس من نعمة، و ان جل أمرها و عظم خطرها، الا و الحمد لله - تقدست أسماؤه - عليها يؤدي شكرها. و أنا أقول: الحمد لله مثل ما حمد الله به حامد الي أمد الأمد، بما من عليك من نعمته و نجاك من الهلكة، و سهل سبيلك علي العقبة، و أيم الله انها لعقبة كؤود، شديد أمرها، صعب مسلكها، عظيم بلاؤها، طويل عذابها، قديم في الزبر الأولي ذكرها!!. و لقد كانت منكم أمور في أيام الماضي - يعني أباه - الي أن مضي لسبيله صلي الله علي روحه. و في أيامي هذه - أمور - كنتم فيها غير محمودي الشأن و لا مسددي التوفيق!. و اعلم يقينا يا اسحاق أن من خرج من هذه الحياة الدنيا أعمي، فهو في الآخرة أعمي و أضل سبيلا!. انها يابن اسماعيل ليس تعمي الأبصار، و لكن تعمي القلوب التي في الصدور. و ذلك قول الله عزوجل في محكم كتابه حكاية عن الظالم: (رب لم حشرتني أعمي و قد كنت بصيرا؟. قال الله عزوعلا -: كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسي) (17) .
و أي آية يا اسحاق أعظم من حجة الله عزوجل علي خلقه - يعني امام الزمان - و أمينه في بلاده، و شاهده علي عباده، من بعدما سلف من آبائه الأولين من النبيين، و آبائه الآخرين من الوصيين، عليهم أجمعين السلام و رحمة الله و بركاته؟!. فأين يتاه بكم؟!. و أين تذهبون كالأنعام علي وجوهكم؟!. عن الحق تصدفون، و بالباطل تؤمنون، و بنعمة الله تكفرون، أو تكذبون!!! فمن يؤمن (18)ببعض الكتاب و يكفر ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم، و من غيركم، الا خزي في الحياة الدنيا الفانية، و طول عذاب - في - الآخرة الباقية، و ذلك والله الخزي العظيم!.
ان الله بفضله و منه لما فرض عليكم الفرائض، لم يفرض عليكم ذلك لحاجة منه اليكم، بل رحمة منه، لا اله الا هو، عليكم، ليميز الخبيث من الطيب، و ليبتلي ما في صدوركم، و ليمحص ما في قلوبكم، و لتتسابقوا الي رحمته، و لتتفاضل منازلكم في جنته. ففرض عليكم الحج و العمرة، و اقام الصلاة، و ايتاء الزكاة، و الصوم، و الولاية. و كفي بهم - أي بالأئمة عليهمالسلام - بابا ليفتحوا أبواب الفرائض، و مفتاحا الي سبيله، و لولا محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و الأوصياء من بعده، لكنتم حياري كالبهائم لا تعرفون فرضا من الفرائض!. و هل تدخل مدينة الا من بابها؟!. فلما من عليكم باقامة الأولياء بعد نبيه، قال الله عزوجل لنبيه صلي الله عليه و آله و سلم: (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا) (19)
و فرض عليكم لأوليائه حقوقا أمركم بأدائها اليهم ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم و أموالكم، و مآكلكم و مشاربكم، و يعرفكم بذلك النماء و البركة و الثروة؛ و ليعلم من يطيعه منكم بالغيب. قال الله عزوجل: (قل لآ أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربي) (20) و اعلموا أن من يبخل فانما يبخل علي نفسه و أن الله هو الغني، و أنتم الفقراء، لا اله الا هو. و لقد طالت المخاطبة فيما بيننا و بينكم فيما هو لكم و عليكم!. و لولا ما يجب من تمام النعمة من الله عزوجل عليكم - يعني بالولاية و الايمان بعد الاسلام - لما أريتكم مني خطا، و لا سمعتم مني حرفا من بعد الماضي عليهالسلام - يعني أباه -. أنتم في غفلة عما اليه معادكم!.
و من بعد (الثاني) رسولي و ما ناله منكم حين أكرمه الله بمصيره اليكم، و من بعد اقامتي لكم ابراهيم بن عبده (21) وفقه الله لمرضاته، و أعانه علي طاعته، و كتابي الذي حمله محمد بن موسي النيسابوري، والله المستعان علي كل حال. و اياكم أن تفرطوا في جنب الله فتكونوا من الخاسرين. فبعدا و سحقا لمن رغب عن طاعة الله، و لم يقبل مواعظ أوليائه!!!. و قد أمركم الله بطاعته، لا اله الا هو، و طاعة رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، و بطاعة أولي الأمر عليهمالسلام، فرحم الله ضعفكم و غفلتكم، و قلة صبركم عما أمامكم!. فما أغر الانسان بربه الكريم؟!. فاستجاب الله دعائي فيكم، و أصلح أموركم علي يدي، فقد قال جل جلاله: (يوم ندعوا كل أناس باممهم)(22) و قال جل جلاله: (و كذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا) (23) و قال جل جلاله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر) (24).
فما أحب أن يدعو الله جل جلاله بي، و لا بمن هو في أيامي، الا حسب رقتي عليكم، و ما أنطوي عليه لكم من حب بلوغ الأمل في الدارين جميعا، و الكينونة معنا في الدنيا و الآخرة. فقد - يا اسحاق، يرحمك الله و يرحم من هو وراءك - بينت لك بيانا، و فسرت لك تفسيرا، و فعلت بكم فعل من لم يفهم هذا الأمر قط، و لم يدخل فيه طرفة عين، و لو فهمت الصم الصلاب بعض ما في هذا الكتاب، لتصدعت قلقا و خوفا من خشية الله، و رجوعا الي طاعة الله عزوجل!. فاعملوا، من بعد، ما شئتم، فسيري الله عملكم، و رسوله، و المؤمنون، ثم تردون الي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون، و العاقبة للمتقين، و الحمد لله رب العالمين، و صلي الله علي محمد و آله أجمعين (25) .
و أنت رسول، يا اسحاق، الي ابراهيم بن عبده وفقه الله أن يعمل بما ورد عليه في كتابي مع محمد بن موسي النيسابوري ان شاء الله، و رسولي الي نفسك، و الي كل من خلفك ببلدك أن تعملوا بما ورد عليكم في كتابي مع محمد بن موسي النيسابوري ان شاء الله. و يقرأ ابراهيم بن عبده كتابي هذا علي من خلفه في بلده، حتي لا يتساءلوا، و بطاعة الله يعتصموا، و الشيطان، بالله، عن أنفسهم يجتنبوا و لا يضيعوا!. و علي ابراهيم بن عبده سلام الله و رحمته، و عليك يا اسحاق، و علي جميع موالي السلام كثيرا، سددكم الله كثيرا برحمته. و علي كل من قرأ كتابنا هذا من موالي من أهل بلدك، و من هو يناحيتكم و نزع عما هو عليه من الانحراف، فليؤد حقوقنا الي ابراهيم؛ وليحمل ابراهيم بن عبده الي الرازي رضي الله عنه، أو الي من يسمي له الرازي، فان ذلك من أمري و رأيي ان شاء الله. و يا اسحاق، اقرأ كتابي علي البلالي رضي الله عنه - أي علي بن بلال - فانه الثقة المأمون العارف بما يجب عليه.
واقرأه علي المحمودي عافاه الله، فما أحمدنا لطاعته!. فاذا وردت بغداد فاقرأه علي الدهقان وكيلنا و ثقتنا و الذي يقبض من موالينا و كل من أمكنك من موالينا فأقرئهم هذا الكتاب، و ينسخه من أراد منهم نسخة ان شاء الله، و لا يكتم هذا عمن شاهده من موالينا، الا من شيطان مخالف لكم، فلا تنثرن الدر بين أظلاف الخنازير و لا كرامة لهم!. و قد وقعنا في كتابك بالوصول و الدعاء لك و لمن شئت، و قد أجبنا سيدا (26)عن مسألته و الحمد لله كثيرا. سترنا الله و اياكم يا اسحاق بستره، و تولاك في جميع أمورك بصنعه، والسلام عليك و علي جميع موالي و رحمة الله و بركاته، و صلي الله علي سيدنا النبي صلي الله عليه و آله و سلم تسليما كثيرا» (27) .
و التعليق علي هذه الرسالة الكريمة يفقدها رونقها و بلاغتها و يحط من منزلتها الرفيعة الحافلة بأسمي المعاني و أعلي المباني، و الخوض في تحليل مواضيعها سخيف سخف من يقول للامام: أحسنت، اذا سمع قوله الشريف البليغ.. نعم يلفت النظر فيها حدب الامام عليهالسلام علي مواليه، و رأفته بهم و اشفاقه عليهم، و حرصه علي أن لا يميلوا يمينا و لا شمالا، و أن يبقوا ثابتين علي الولاية التي بها نجاتهم يوم ينفخ في الصور.
«و مما كتب - صلوات الله عليه - الي الشيخ الجليل علي بن الحسين بن بابويه القمي: اعتصمت بحبل الله. بسم الله الرحمن الرحيم، و الحمد لله رب العالمين، و العاقبة للمتقين، و الجنة للموحدين، و النار للملحدين، و لا عدوان الا علي الظالمين، و لا اله الا الله أحسن الخالقين، و الصلاة علي خير خلقه محمد و عترته الطاهرين. أما بعد: أوصيك يا شيخي و معتمدي و فقيهي، أباالحسن، علي بن الحسين القمي - وفقك الله لمرضاته، و جعل من صلبك أولادا صالحين برحمته - بتقوي الله و اقام الصلاة، و ايتاء الزكاة، فانه لا تقبل الصلاة من مانع الزكاة. و أوصيك بمغفرة الذنب، و كظم الغيظ، و صلة الرحم، و مواساة الاخوان و السعي في حوائجهم في العسر و اليسر، و الحلم عند الجهل، و التفقه في الدين، و التثبت في الأمور، و التعاهد للقرآن، و حسن الخلق، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ قال الله تعالي: (لا خير في كثير من نجويهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلح بين الناس..) (28)
و اجتناب الفواحش كلها. و عليك بصلاة الليل، فان النبي صلي الله عليه و آله و سلم أوصي بها عليا عليهالسلام فقال: يا علي، عليك بصلاة الليل، و من استخف بصلاة الليل فليس منا!. فاعمل بوصيتي، وأمر جميع شيعتي بما أمرتك به أن يعملوا عليه. و عليك بالصبر و انتظار الفرج، فان النبي صلي الله عليه و آله و سلم قال: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج؛ و لا تزال شيعتنا في حزن حتي يظهر ولدي الذي بشر به النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و أنه يملأ الأرض قسطا و عدلا، كما ملئت جورا و ظلما. فاصبر يا شيخي و معتمدي، يا أباالحسن، وأمر جميع شيعتي بالصبر، (ان الأرض لله يورثها من يشآء من عباده و العاقبة للمتقين) (29)
والسلام عليك، و علي جميع شيعتنا، و رحمة الله و بركاته، و حسبنا الله و نعم الوكيل، نعم المولي، و نعم النصير، و صلي الله علي محمد و آله الطاهرين»(30).
و في هذه الرسالة الشريفة نقاط هامة منها: أولا: التركيز علي ترسيخ العقيدة الاسلامية الصحيحة قولا و عملا. و ثانيا: الأمر بالتحلي بالأخلاق الرضية، و التعاليم الانسانية الرفيعة، ليكون الشيعي زينا لسادته و قادته أئمة الهدي، لا شينا عليهم؛ و ليكون النموذج الأعلي المرتضي عند ربه عزوجل. و ثالثا: تدريب الشيعي علي الصبر الطويل في انتظار فرج الامام القائم المهدي عجل الله تعالي فرجه، مع الالماح الي طول الغيبة و الانتظار، مستشهدا بالآية الكريمة الدالة علي أن ظهوره المبارك لن يكون الا في آخر الزمان، لأن الله سبحانه يورث ملك أرضه لمن يشاء في آخر فترة الغيبة الموحشة، ثم يجعل الملك - الذي يعقب كل ملك - للمتقين، بعد أن يملك البر و الفاجر و يعجز الكل عن اقامة العدل في الأرض؛ ثم يملك القائم المنتظر عجل الله تعالي فرجه و يبدل الظلم بالقسط، و الجور بالعدل، فلا يقول فلان و لا فليتان: لو ملكت لعدلت مثله.. و المضي في ذكر ما حوته هذه الرسالة يبدو هزيلا في جنب عظمتها، و لذلك ندع القاريء يجيل فكره في مضمونها ليستخرج مكنونها و تأنس نفسه لشرح كلام سادة الكلام..
المصادر:
1- تحفالعقول ص 361.
2- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 425 و بحارالأنوار ج 50 ص 317.
3- مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 425 و بحارالأنوار ج 50 ص 317.
4- الاحتجاج ج 2 ص 461 - 460.
5- كشفالغمة ج 3 ص 193.
6- معاني الأخبار ص 188.
7- معاني الأخبار ص 289.
8- المصدر السابق ص 290.
9- مختار الخرائج والجرائح ص 236 و مدينة المعاجز ص 577 و اثبات الهداة ج 6 ص 327.
10- كشفالغمة ج 3 ص 214 - 213 و بحارالأنوار ج 50 ص 291 - 290 و وفاة العسكري ص 24.
11- سورة الجمعة: 4.
12- كشفالغمة ج 3 ص 214 - 213 و بحارالأنوار ج 50 ص 291 - 290 و وفاة العسكري ص 24 و اثبات الهداة ج 6 ص 335 - 334.
13- بحارالأنوار ج 50 ص 324 - 323.
14- الارشاد ص 322 و اعلامالوري ص 359 و الغيبة للطوسي ص 228.
15- رجال الكشي ص 450 - 449.
16- الاحتجاج ج 2 ص 460.
17- سورة طه: 126 - 125.
18- في تحفالعقول: أو تكونون ممن يؤمن ببعض الخ...
19- سورة المائدة: 3.
20- سورة الشوري: 23.
21- أحد أصحابه و أصحاب أبيه.
22- سورة الاسراء: 71.
23- سورة البقرة: 143.
24- سورة آل عمران: 110.
25- تحفالعقول من ص 359 الي ص 361.
26- و في نسخة في أجبنا شيعتنا.. و الذي أثبتناه هو الأصح.
27- رجال الكشي من ص 481 الي ص 485 و هو في تحفالعقول من ص 359 الي ص 361 ما عدا القسم الأخير منه.
28- سورة النساء: 114.
29- سورة الأعراف: 128.
30- الأنوارالبهية ص 265 - 264 و في مناقب آل أبيطالب ج 4 ص 423 - 422 لم يذكر الفقرة الوسطي.