![ضرورة الثورة السياسية ضرورة الثورة السياسية](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A13105.jpg)
بعد رحلة الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)لم يسمح المعاندون وبنو امية لعنهم الله باستقرار الحكومة الإسلامية بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام). لم يسمحوا بتحقق الحكومة التي كانت مرضية عند الله تعالى وعند الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)وفي النتيجة بدَّلوا اساس الحكومة.
وكان نهج حكومتهم في معظمه يغاير النهج الإسلامي. لقد كان نظام الحكم ونمط الادارة والسياسة عند بني أمية وبني العباس ضد الإسلام، فصار نظام الحكم مقلوباً بشكل كامل وتحول إلى سلطنة. كمثل نظام الملكية في ايران وامبراطورية الروم وفراعنة مصر. واستمر في العهود التالية بهذا النحو غير الإسلامي غالباً، إلى أن وصلنا إلى الحال التي نراها.
الشرع والعقل يحكمان بأن لا نسمح باستمرار وضع الحكومات بهذه الصورة غير الإسلامية أو المعادية للإسلام. واسباب هذا الامر واضحة.
اذ ان إقامة نظام غير إسلامي يعني عدم تطبيق النظام السياسي للإسلام وكذلك فإن كل نظام سياسي غير إسلامي هو نظام يحمل الشرك، لأن حكامه "الطاغوت" ونحن مكلفون بتصفية آثار الشرك من مجتمعاتنا الإسلامية ومن حياتنا.
وحيث اننا مكلفون بتأمين الظروف الاجتماعية المساعدة لتربية العناصر المؤمنة والفاضلة أيضاً. وهذه الظروف تعاكس ظروف حاكمية الطاغوت والسلطات غير الشرعية بشكل كامل. فالظروف الاجتماعية الناشئة من حاكمية الطاغوت ونظام الشرك يترتب عليها هذه المفاسد التي نراها. وهذا هو الفساد في الارض الذي يجب أن يزال من الوجود، وينال مسببوه عقابهم، وهذا هو نفس الفساد الذي أوجده فرعون في مصر بسياسته {إنه كان من المفسدين}. ففي هذه الظروف الاجتماعية والسياسية لا يستطيع الانسان المؤمن والمتقي والعادل العيش مع بقائه على ايمانه وعمله الصالح. يبقى امامه طريقان: إما الاضطرار إلى ارتكاب الأعمال الطالحة والتي فيها شرك، أو معارضة الطواغيت ومحاربتهم لازالة تلك الظروف الفاسدة فراراً من ارتكاب تلك الاعمال، ومن الخضوع لأوامر الطواغيت وقوانينهم. اننا لا نجد حيلة سوى القضاء على الاجهزه الحكومية الفاسدة والمفسدة، واسقاط الحكومات الخائنة والفاسدة والظالمة الجائرة. هذه هي الوظيفة التي يجب على المسلمين في كل بلد من البلدان الإسلامية القيام بها، والوصول بالثورة السياسية الإسلامية إلى النصر.
شروط الحاكم في عصر الغبية
والآن في عصر غيبة الإمام (عليه السلام)، وحيث قد تقرر ان أحكام الإسلام ذات الارتباط بالحكم باقية ومستمرة، وان الفوضى امر غير جائز، فيكون تشكيل الحكومة أمراً واجباً. والعقل يحكم بلزوم تشكيل الأجهزة أيضاً لتأمين القدرة على الدفاع فيما لو هوجمنا، ولنستطيع رد الهجوم عن نواميس المسلمين فيما لو تعرضوا لذلك. كما ان الشرع المقدس أمر بلزوم الاستعداد الدائم للدفاع امام من ينوون الاعتداء علينا. وكذلك من الضروري وجود حكومة، وجهاز قضائي وتنفيذي، ومن أجل منع تعديات افراد المجتمع على يعضهم البعض. وبما أن هذه الأمور لا تتم تلقائياً؛ فيجب تشكيل الحكومة لذلك. وبما أن تشكيل الحكومة وادارة المجتمع يحتاج إلى ميزانية وأموال، لذا عين الشارع المقدس الميزانية وأنواع الضرائب أيضاً كالخراج والخمس والزكاة وغيرها.والآن حيث لم يُعيَّن شخص محدد من قبل الله عز وجل للقيام بأمر الحكومة في زمن الغيبة، فما هو التكليف؟ هل يجب التخلي عن الإسلام؟ هل صرنا بغنى عنه؟ وهل كان الإسلام لمدة مئتي سنة فقط؟ أم أن الإسلام حدد التكليف، لكن ليس علينا من تكاليف تتعلق بالحكومة؟ إن معنى عدم وجود حكومة هو زوال جميع حدود وثغور المسلمين، وجلوسنا متفرجين تاركين للغير أن يعملوا ما يشاؤون.
واذا لم نمض أعمالهم فعلى الاقل لا نقف بوجهها! فهل هكذا يجب أن يكون الوضع؟
أم أن الحكومة واجبة، ولئن كان الله تعالى لم يعين شخصا معينا للحكومة في زمن الغيبة، لكن تلك الصفات التي كانت شرطا في الحاكم، من صدر الإسلام إلى زمن الإمام صاحب الزمان (عليه السلام)، هي كذلك لزمان الغيبة أيضاً.وهذه الصفات التي هي عبارة عن: العلم بالقانون والعدالة، موجودة في عدد لا يحصى من فقهاء عصرنا، لو اجتمعوا مع بعضهم لاستطاعوا اقامة حكومة العدل الشامل في العالم.
ولاية الفقيه
لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين بتأسيس الحكومة تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)، ويجب على جميع الناس اطاعته.فتوهم أن صلاحيات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)في الحكم كانت اكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصلاحيات امير المؤمنين (عليه السلام) أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهم خاطئ وباطل. نعم ان فضائل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم. فنفس الصلاحيات التي كانت للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)والائمة (عليه السلام) في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين، قد اعطاها الله تعالى للحكومة المفترضة هذه الايام. غاية الأمر لم يعين شخصاً بالخصوص، وإنما اعطاه لعنوان العالم العادل.
الولاية الاعتبارية
عندما نثبت نفس الولاية التي كانت للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)والائمة (عليه السلام) للفقيه في عصر الغيبة، فلا يتوهمن أحد أن مقام الفقهاء نفس مقام الأئمة (عليه السلام) والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، لأن كلامنا هنا ليس عن المقام والمرتبة، وانما عن الوظيفة.فالولاية ـ أي الحكومة وادارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع المقدس ـ هي وظيفة كبيرة ومهمة، لكنها لا تحدث للانسان مقاماً وشأناً غير عادي، أو ترفعه عن مستوى الانسان العادي. وبعبارة اخرى فالولاية ـ التي هي محل البحث، أي الحكومة والادارة والتنفيذ ـ ليست امتيازاً، خلافا لما يتصوره الكثيرون، وانما هي وظيفة خطيرة.ولاية الفقيه من الأمور الاعتبارية العقلائية وليس لها واقع سوى الجعل، وذلك كجعل القيم للصغار.
فالقيم على الامة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة والدور. وكأن الامام (عليه السلام) قد عين شخصاً لأجل "حضانة" الحكومة أو منصب من المناصب. ففي هذه الموارد لا يعقل أن يكون هناك فرق بين الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)والإمام والفقيه.
فمن الأمور التي هي ضمن ولاية الفقيه تنفيذ الحدود (أي تطبيق القانون الجزائي للإسلام)، فهل هناك اختلاف في تنفيذ الحدود بين الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)والامام والفقيه؟ أم أنه لأن الفقيه أدنى رتبة، فيجب أن تكون السياط التي يجلدها أقل عدداً؟
فالزاني (الذي حده في الاصل مئة جلدة) يضربه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)مئة وخمسين، بينما يضربه امير المؤمنين (عليه السلام) مئة جلدة، أما الفقيه فيضربه خمسين فحسب؟!! أم أن الحاكم مسؤول السلطة التنفيذية، ويجب عليه أن يقيم حد الله، سواء كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، أم أمير المؤمنين (عليه السلام) أم ممثله وقاضيه في البصرة أو الكوفة، أم فقيه العصر.
فإذا لم يكونا من الأحياء، أو كانا فاقدين للصلاحيات، فالامام والحاكم الإسلامي يعين شخصا للقيام بذلك.ومن شؤون الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)وأمير المؤمنين (عليه السلام) اخذ الضرائب من الخمس والزكاة والجزية وخراج الارض الخراجية، فهل ما يأخذه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)من زكاة يختلف عما يجب أن يأخذه أمير المؤمنين (عليه السلام) أو الفقهاء؟ وهل هناك فرق في هذه الأمور بين ولاية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)وولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وولاية الفقهاء؟ لقد جعل الله تعالى الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)وليّاً لجميع المسلمين، وإلى حين وجوده (صلی الله عليه وآله وسلم)كان له ولاية حتى على أمير المؤمنين (عليه السلام). ومن بعده كان أمير المؤمنين (عليه السلام) الامام على جميع المسلمين، وله ولاية حتى على الإمام الذي يكون بعده. أي أن أوامره التي لها ارتباط بأمر الحكومة نافذة وجارية، ويستطيع نصب القضاة والولاة وعزلهم.
ونفس تلك الولاية الثابتة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)وللامام (عليه السلام) في تشكيل الحكومة والتصدي للادارة والتنفيذ ثابتة للفقيه أيضاً. لكن الفقيه ليس له ولاية مطلقة بنحو يشمل كل فقهاء عصره، ويتمكن بحسبها من عزل فقيه آخر أو نصبه.
فليست ثمة مراتب ودرجات بهذا المعنى، بنحو يكون البعض في مرتبة أعلى، بينما البعض الآخر في مرتبة أسفل منه. ويكون البعض والياً، بينما البعض الآخر أكثر ولاية. بعد ثبوت هذا المطلب يجب على الفقهاء أن يقيموا الحكومة الشرعية، إما مجتمعين أو منفردين، من أجل تنفيذ الحدود وحفظ الثغور والنظام. وإذا كان الأمر ميسوراً لأحدهم فهو واجب عيني عليه، وإلا فهو كفائي والواجب "الكفائي" هو الواجب الذي إذا أتى به البعض سقط عن الكل، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
وفي حالة عدم إمكانه لا تسقط ولايتهم، لأنهم منصوبون من الله عز وجل. فإذا تمكنوا فيجب عليهم أخذ الضرائب من الزكاة والخمس والخراج وصرفها في مصالح المسلمين، كما يجب عليهم تنفيذ الحدود (في صورة الامكان). فليس صحيحاً أننا إذا لم نتمكن الآن من إقامة الحكومة العامة والشاملة، اذن نتخلى عن الأمر، بل يجب القيام بما نستطيع القيام به من الأمور التي يحتاجها المسلمون، والوظائف التي يجب أن تتولاها الحكومة الإسلامية.
الولاية التكوينيةلا يلزم من إثبات الولاية والحكومة للامام (عليه السلام) ألا يكون لديه مقام معنوي. إذ للامام مقامات معنوية مستقلة عن وظيفة الحكومة. وهي مقام الخلافة الكلية الالهية التي ورد ذكرها على لسان الأئمة (عليه السلام) أحيانا، والتي تكون بموجبها جميع ذرات الوجود خاضعة أمام "ولي الامر". من ضروريات مذهبنا أنه لا يصل أحد إلى مراتب الائمة (عليه السلام) المعنوية حتى الملك المقرب، والنبي المرسل. وفي الاساس فإن الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)والائمة (عليه السلام) ـ وبحسب رواياتنا ـ كانوا أنوارا في ظل العرش قبل هذا العالم، وهم يتميزون عن سائر الناس في انعقاد النطفة و"الطينة"(1)، ولهم من المقامات إلى ما شاء الله، وذلك كقول جبرائيل (عليه السلام) في روايات المعراج:" لو دنوت أنملة لاحترقت"(2)، أو كقولهم (عليه السلام) "إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل"(3) فوجود مقامات كهذه للائمة (عليه السلام) من اصول مذهبنا، وذلك بغض النظر عن موضوع الحكومة، كما أن هذه المقامات المعنوية ثابتة للزهراء (عليه السلام)(4)، مع أنها ليست بحاكم ولا خليفة ولا قاض، فهذه المقامات شيء آخر غير وظيفة الحكومة. ولذا عندما نقول أن الزهراء (عليه السلام) ليست بقاض ولا خليفة، فهذا لا يعني أنها مثلي ومثلكم، أو أنها لا تمتاز عنا معنوياً. وكذلك عندما يقال أن {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فقد ورد في حق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)كلام أرقى من كونه (صلی الله عليه وآله وسلم)يمتلك مقام الولاية والحكومة على المؤمنين.
ولسنا هنا في مجال الكلام حول ذلك، إذ يتكفل به علم آخر.
الحكومة وسيلة لتحقيق الاهداف السامية
.تولي أمر الحكومة في حد ذاته ليس مرتبة ومقاماً، وإنما مجرد وسيلة للقيام بوظيفة تطبيق الأحكام، وإقامة نظام الإسلام العادل. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس عن نفس الحكومة: "ما قيمة هذا النعل؟ فقال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام) : والله لهي أحب الي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً (اي اقيم قانون الإسلام ونظامه) أو أدفع باطلاً (أي القوانين والانظمة الجائرة والمحرمة)(5) ". إذاً فنفس الحاكمية والامارة مجرد وسيلة ليس إلاّ. وهذه الوسيلة إذا لم تؤدِ إلى عمل الخير وتحقيق الاهداف السامية، فهي لا تسأوي شيئاً عند أهل الله. ولذا يقول (عليه السلام) في خطبة نهج البلاغة "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر... لألقيت حبلها على غاربها" (أي لتركت تلك الحكومة والامارة) وذلك بديهي، فتولي الحكومة هو مجرد تحصيل وسيلة وليس مقاماً معنوياً. إذ لو كان مقاماً معنوياً لما تمكن أحد من غصبه أو التخلي عنه. فبمقدار ما تكون الحكومة والإمارة وسيلة لتطبيق الأحكام الالهية واقامة النظام العادل للسلام، بمقدار ما تكون ذات قدر وقيمة، ويكون المتولي لها جليل القدر، سامي المقام، بعض الناس هيمنت عليهم الدنيا، فهم يتوهمون أن الرئاسة والحكومة بحد ذاتها شأن ومرتبة بالنسبة للائمة (عليه السلام)، بنحو لو ثبتت لغيرهم؛ فكأنما الدنيا قد خربت. مع أن رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي أو انكلترا أو رئيس جمهورية امريكا عندهم حكومات (ورئاسة) لكنهم كفرة. فهم كفرة، لكنهم يملكون السلطة والنفوذ السياسي. وهذه السلطة والنفوذ والقدرة السياسية يجعلونها وسيلة لتحقيق طموحاتهم من خلال تطبيق القوانين
الأئمة والفقهاء العدول مكلفون بالاستفادة من النظام والتشكيلات الحكومية من أجل تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل، والقيام بخدمة الناس. الحكومة بحد ذاتها بالنسبة لهم لا تعني سوى المشقة والتعب. لكن ما العمل؟ إنهم مأمورون بالقيام بالوظيفة. والسياسات المعادية للانسانية. فمسألة "ولاية الفقيه" هي مسألة تنفيذ مهمة والعمل بالتكليف.
الأهداف السامية للحكومة
يصرح الامام (عليه السلام) حول السبب في توليه الحكومة والامارة أن ذلك إنما كان لأجل تحقيق الاهداف السامية، لأجل اقامة الحق وإزالة الباطل. جاء في كلامه (عليه السلام) :
"اللهم إنك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لِنَرِدَ المعالمَ من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومين من عبادك، وتقام المعطَّلة من حدودك".
فالذي ألجأني إلى قبول الحكم والامارة على الناس هو "ما أخذه الله على العلماء من ألاّ يقارّوا على كظة ظالم، ولا على سغب مظلوم"(6).
الصفات المطلوبة لتحقيق هذه الاهداف
الحاكم الذي يريد تطبيق أهداف الإسلام السامية عملياً من خلال سلطته واجهزة الدولة التي تخضع لأمره ـ وهي نفس تلك الاهداف التي بينها أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ يجب أن يكون ممتلكاً لتلك الخصال الضرورية التي أشرنا إليها سابقاً وهي: العلم بالقانون والعدالة.
ولذا يشير الإمام (عليه السلام) في تتمة كلامه حول أهداف الحكومة إلى الصفات الضرورية في الحاكم فيقول: "اللهم إني أول من أناب، وسمع وأجاب، لم يسبقني إلاّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالصلاة. وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وامامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجأهل فيُضلّهم بجهلة، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطَّل للسنة فيُهلك الأمة"(7).
ينبغي الالتفات جيداً إلى أن مطالب هذه الرواية تدور حول موضوعين: الأول: العلم، والثاني: العدالة. وقد جعلت هاتان الخصلتان ضرورتين في "الوالي" ففي عبارة (ولا الجأهل فيضلهم بجهلة) إشارة إلى صفة العلم. وفي سائر العبارات تأكيد على العدالة بمعناها الواقعي. فالعدالة بمعناها الحقيقي هي: التصرف في العلاقات مع الدول، وفي التعامل مع الناس ومعاشرتهم، وفي القضاء، وتقسيم الارزاق والمواد العامة كما كان يتصرف أمير المؤمنين (عليه السلام)، ووفقاً للنهج الذي عينه (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر(8)، ومن خلاله لجميع الحكام والولاة. لأنه عهد عام. فالفقهاء أيضاً لو صاروا ولاة يجب أن يجعلوه برنامجهم العملي.
ولاية الفقيه من خلال الروايات
الفقهاء العدول خلفاء الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم):من الرويات التي لا اشكال في دلالتها هذه الرواية: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): اللهم ارحم خلفائي (ثلاث مرات) قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون بعدي، يروون حديثي وسنتي فيعلَّمونها الناس من بعدي"(9).
نقل الشيخ الصدوق (رحمه الله)
عن معاني الاخبار والمجالس بسندين في بعض رجالهما اشتراك، ونقل في العيون بثلاثة أسناد مختلفة في كل رجالها والذين كانوا يعيشون في اماكن متباعدة (مرو، نيشابور، بلخ) "المؤلف".
فلنفرض أن الرواية هي واحدة، وجملة "فيعلمونها" قد زيدت في ذيل الحديث. أو أن الجملة المذكورة قد كانت موجودة لكنها سقطت. وسقوط الجملة أقرب للواقع، لأنه لو كانت قد أضيفت لا يمكن القول أن ذلك كان خطأ أو اشتباها، لأنه ـ وكما ذكرنا ـ فالرواية واردة من عدة طرق، ورواة الحديث أيضاً كانوا يعيشون متباعدين عن بعضهم: فأحدهم في بلخ، والآخر في نيشابور، والثالث في مكان آخر. وبهذا الحال لا يمكن أن تكون هذه الجملة قد أضيفت عمدا. ومن المستبعد أن يرد في أذهان ثلاثة أشخاص متباعدين عن بعضهم أن يضيفوا جملة كهذه إلى الحديث. بناءً على هذا إذا كانت الرواية متحدة، فنحن نقطع بأن جملة "فيعلمونها" ساقطة من الرواية في الطريق التي نقلها به الشيخ الصدوق (رحمه الله) وقد سقطت من قلم النساخ، أو أن الشيخ الصدوق (رحمه الله) لم يذكرها.الغرض الآخر هو أن يكون هناك حديثان: الأول من دون جملة "فيعلمونها" والآخر قد ورد مع هذه الجملة. بناء على كون الجملة المذكورة في الحديث، فهي قطعاً لا تشمل أولئك الذين شغلهم نقل الحديث، دون أن يكون لهم من أنفسهم رأي أو فتوى، ولا يمكن القول ان بعض المحدثين الذين لا يفهمون الحديث أصلاً، والذين هم مصداق لقوله (عليه السلام) «رب حامل فقه ليس بفقيه» ومثلهم كمثل آلة التسجيل يأخذون الاخبار والروايات ويكتبونها، ثم يضعونها في متنأول الناس لا يمكن القول أن هؤلاء خلفاء (للرسول) ويعلمون العلوم الإسلامية للناس. وبالطبع فإن المشقات التي تحملوها لأجل الإسلام والمسلمين محل تقدير، كما كان الكثير منهم أيضاً فقهاء ومن أصحاب الرأي، كالكليني (رحمه الله) والشيخ الصدوق ووالده (رحمهما الله) الذين كانوا فقهاء ويعلمون الناس الأحكام والعلوم الإسلامية.
فليس مرادنا أن الشيخ الصدوق لم يكن يمتلك الفقاهة، أو أن فقاهته كانت أقل من الشيخ المفيد. فالشيخ الصدوق (رحمه الله) هو الذي قام بشرح جميع أصول وفروع المذهب في مجلس واحد، لكن اختلافه عن الشيخ المفيد (رحمه الله) هو أن الشيخ المفيد وأمثاله هم من المجتهدين الذين يعملون نظرهم في الروايات والاخبار، بينما الصدوق (رحمه الله) من الفقهاء الذين لا يعملون نظرهم، أو يعملونه بمستوى اقل.
فالحديث يشمل أولئك الذين يقومون بنشر العلوم الإسلامية وبيان أحكام الإسلام، ويربون الناس ويُعدُّونهم للإسلام لكي يعلموا الآخرين، كما كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)والائمة (عليه السلام) ينشرون الأحكام الإسلامية، فقد كانت لهم حوزات تدريس، وقد انتهل من مدرستهم عدة آلاف من المتعلمين، وكانوا مكلفين بتعليم الناس. فمعنى "يعلمونها الناس" هو نفس نشر العلوم الإسلامية واشاعتها بين الناس وإيصال الأحكام الإسلامية لهم. عندما نقول ان الإسلام لجميع شعوب الدنيا، فمن الواضح أن المسلمين وخصوصاً علماء الإسلام مكلفون بنشر الإسلام والأحكام الإسلامية وبيانها لشعوب العالم.
ولو قلنا أن جملة "يعلمونها الناس" لم تكن في ذيل الحديث، فيجب أن نرى ما معنى قول الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)"اللهم ارحم خلفائي... الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي" ففي هذه الصورة أيضاً فإن الرواية لا تشمل رواة الحديث الذين هم ليسوا بفقهاء، وذلك لأن السنن الالهية التي هي عبارة عن جميع الأحكام، انما سميت بسنن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)لكونها وردت على لسان النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم). إذاً فالذي يريد نشر سنن الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)يجب أن يعرف جميع الأحكام الإلهية، ويشخص الصحيح من السقيم، وأن يكون ملتفتاً إلى الاطلاق والتقييد والعام والخاص وأنحاء الجمع العقلائي وان يميَّز الروايات الواردة أثناء التقية عن غيرها، وأن يعرف الموازين التي حدَّدوها لذلك. والمحدثون الذين لم يصلوا مرتبة الاجتهاد، وانما يقومون بنقل رواية "من حفظ على امتي أربعين حديثا حشره الله فقيهاً"(10) والروايات الأخرى التي وردت في تمجيد نشر الأحاديث(11) لا تتنأول المحدثين الذين لا يفهمون معنى الحديث أصلا، وإنما هي تتحدث عن أولئك الذين يستطيعون تشخيص حديث الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)المطابق للحكم الواقعي للإسلام. وهذا لا يمكن إلا للمجتهد والفقيه الذي يزن جميع الجوانب وقضايا الأحكام، ويستخرج الأحكام الواقعية للإسلام طبقا لما لديه من موازين، الموازين التي حددها الإسلام والائمة (عليه السلام)، فهؤلاء هم خلفاء رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) الذين دعا لهم (صلی الله عليه وآله وسلم)بقوله:"اللهم ارحم خلفائي". بناء على هذا فلا ترديد في أن رواية "اللهم ارحم خلفائي" لا تشمل الرواة للاحاديث الذين لهم "حكم الكاتب" فحسب، فالكاتب والمقرر لا يستطيع أن يكون خليفة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)فالمراد بالخلفاء فقهاء الإسلام. ونشر وتعليم الأحكام وتربية الناس انما هو للفقهاء العدول، إذ لو لم يكونوا عدولا فسيكونون كالقضاة الذين يضعون الاحاديث ضد الإسلام، كمثل سمرة بن جندب روى عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)كثيراً. تولى البصرة فترة من الزمن بعد موت زياد إلى ان عزله معأوية. يقول الطبري أن سمرة أمر بقتل ثمانية آلاف شخص فترة توليه البصرة. وعندما أتى الكوفة سأله زياد: ألا تخشى أن تكون قد قتلت بريئاً؟ فقال: لو قتلت أكثر من ذلك أيضاً لما خفت. وبحسب نقل ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة (ج4، ص73) فقد طلب منه معأوية أن يروي أن آية {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة والدنيا} (12) قد نزلت في الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وان آية {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} (13) قد نزلت في ابن ملجم مقابل مئة الف درهم وان سمرة وافق على جعل هذه الرواية مقابل أربعة أضعاف هذا المبلغ.الذي وضع رواية ضد أمير المؤمنين (عليه السلام). وإذا لم يكونوا فقهاء لا يستطيعون فهم ما هو الفقه، وماهو حكم الإسلام. ومن الممكن أن يقوموا بنشر آلاف الروايات المجعولة من قبل اعوان الظلمة وعلماء البلاط في مدح السلاطين.
وتأييداً لما نقول نورد هنا نموذجين من أوضح وأهم هذه الروايات: عن جماعة، عن أبي المفضل، عن جعفر بن محمد بن جعفر، عن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، عن حسين بن زيد بن علي بن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليه السلام) عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)قال: "السلطان ظل الله في الارض، يأوي اليه كل مظلوم، فمن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، ومن جار كان عليه الوزر، وعلى الرعية الصبر، يأتيهم الأمر" (14).
وعن محمد بن علي بن بشار، عن علي بن ابراهيم القطان، عن محمد بن عبدالله الحضرمي، عن أحمد بن بكر، عن محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)«طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله عز وجل ودخل في نهيه. إن الله عز وجل يقول [ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة]»
لكن من بين رواة الرواية الأولى فأبو المفضل ضعيف، وعلي بن الحسن مجهول، وحسين بن زيد غير موثق. ومن رواة الرواية الثانية أيضاً علي بن ابراهيم القطان ومحمد بن مصعب مجهولان، ومحمد بن عبدالله ومحمد بن بكر وحماد بن سلمة وثابت وأنس غير موثقين. وفي مقابل هذه الروايات فقد وردت في بحار الانوار روايات كثيرة بخلاف مضمون هذه الروايات.وجعلوهما في مقابل القرآن الكريم الذي يحث على الثورة ضد سلاطين الجور بكل قوة ويدفع بموسى (عليه السلام) للثورة ضد السلاطين(15). وفضلا عن القرآن، فقد وردت أحاديث كثيرة حول مقأومة الظلمة، والذين يتصرفون في أمر الدين(16) وقد وضع المتقاعسون كل ذلك جانبا، وتمسكوا بهاتين الروايتين الضعيفتين اللتين ربما كان وعاظ السلاطين قد وضعوهما، وجعلوهما مستنداً للزوم التكيُّف مع السلاطين والدخول في بلاطهم! لو كان هؤلاء من أهل الحديث والمعرفة بالدين، لعملوا بالروايات الكثيرة الواردة ضد الظلمة، ولو كانوا من أهل الرواية أيضاً فليسوا عدولاً، لأنهم لو كانوا عدولا ومن مجتنبي المعاصي لما صرفوا انظارهم عن القرآن وجميع هذه الروايات، وتمسكوا بروايتين ضعيفتين! إنها بطونهم تلك التي دعتهم للتمسك بهاتين الروايتين، لا العلم! إنها البطن وحب الجاه هما اللذان يجعلان الانسان من أهل البلاط، لا الحديث.
على أية حال فنشر العلوم الإسلامية والأحكام بيد الفقهاء العدول من أجل تمييز الأحكام الواقعية عن غيرها، وتشخيص الروايات الصادرة عن الأئمة (عليه السلام) بالتقية. لأننا نعلم أن أئمتنا (عليه السلام) كانوا يعيشون أحيانا في ظل ظروف لاتمكنهم من بيان الحكم الواقعي. إذ كانوا مبتلين بحكام الظلم والجور، وكانوا يعيشون في حالة شديدة من التقية والخوف (وبالطبع فإن خوفهم كان على المذهب لا على انفسهم) ففي بعض الموارد لو لم تستعمل التقية، لكان الحكام الظلمة قد قاموا باجتثاث جذور المذهب.
وأما دلالة الحديث الشريف على ولاية الفقيه، فلا ينبغي أن يكون محل تردد. إذ أن الخلافة هي: الخلافة في جميع شؤون النبوة. وجملة "اللهم ارحم خلفائي" لا تقل عن جملة "علي خليفتي" ومعنى الخلافة فيها ليس سوى معنى الخلافة في الجملة الثانية. وجملة "الذين يأتون" لم يكن أمرا مجهولا في صدر الإسلام لكي يحتاج للبيان. والسائل أيضاً لم يسأل عن معنى الخلافة، وإنما طلب معرفة الأشخاص، فعرفهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بهذا الوصف. والذي يدعوا إلى التعجب انه لم ير أحد في جملة "علي خليفتي" محلا للسؤال، وقد استدلوا بها على خلافة وحكومة الأئمة (عليه السلام). لكن عندما وصلوا إلى جملة "خلفائي" توقفوا. ولا مبرر لذلك، إلا أنهم ظنوا أن خلافة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)محدودة بحدود معينة، أو خاصة باشخاص معينين. وبما أن الأئمة (عليه السلام) كل منهم خليفة له (صلی الله عليه وآله وسلم)، فلا يمكن أن يكون العلماء حكاما وقادة وخلفاء بعد الأئمة، ويجب أن يبقى الإسلام بلا رئيس، وأن تعطل أحكام الإسلام، وأن تسلم ثغور الإسلام لأعداء الدين، ثم راجت كل هذه الاعوجاجات التي لا تمت للإسلام بصلة رواية اخرى .
روى محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن ابي حمزة، قال: سمعت ابا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: "إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، وبقاع الارض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء الني كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء. لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن المدينة لها"(17).
حول متن هذه الرواية
يوجد في نفس هذا الباب من كتاب الكافي رواية أخرى فيها بدلا من "إذا مات المؤمن" جملة "إذا مات المؤمن الفقيه"(18) بينما صدر الرواية التي نقلناها ليس فيه كلمة "الفقيه". لكن يعلم من ذيلها الذي يعلل فيه (عليه السلام) بقوله "لأن المؤمنين الفقهاء" ان كلمة الفقيه قد سقطت من أول الرواية، خصوصاً بوجود المناسبة، حيث يستفاد من كلمة "ثلم في الإسلام" "وحصون" وما شابه تمام المناسبة مع "الفقهاء".حول مفهوم الرواية
عندما يقول (عليه السلام) "المؤمنون الفقهاء حصون الإسلام" فهو في الحقيقة يكلف الفقهاء ويأمرهم بأن يكونوا حماة للإسلام، وأن يدافعوا عن عقائد الإسلام وأحكامه وانظمته. ومن الواضح أن كلام الإمام هذا ليس فيه أي نحو من المجاملة، فهو ليس كالمجاملات التي نقوم بها مع بعضنا، أو كأن نكتب على أغلفة الرسائل لبعضنا جناب المستطاب حجة الإسلام. فلو كان الفقيه جليس بيته ولم يتدخل في أمر من الأمور، فلا هو حفظ قوانين الإسلام، ولا نشر أحكامه، ولا تدخل في الأمور الاجتماعية للمسلمين، ولا اهتم بأمورهم، فهل يوصف بأنه " حصن الإسلام"؟ أو حافظ الإسلام؟ لو أمر رئيس الحكومة أو القائد شخصا ما بالذهاب إلى احدى النواحي وحمايتها والمحافظة عليها، فهل تسمح له وظيفة الحراسة بالذهاب للنوم في بيته إلى أن يأتي العدو ويقضي على تلك الناحية؟ أم أن عليه الجد في الحفاظ عليها بأي شكل استطاع؟ إذا قلتم نحن نحفظ بعض أحكام الإسلام، فإني اسألكم: فهل تقيمون الحدود، وتنفذون القانون الجزائي للإسلام؟ والجواب هو بالنفي. فها قد أحدثتم ثغرة هنا. وقد تداعى جانب من الحائط أثناء توليكم لوظيفة الحراسة. هل تقومون بالمحافظة على جميع حدود المسلمين، وجميع أراضي الوطن الإسلامي؟ والجواب "كلا"، فعملنا هو الدعاء. وهنا قد تداعى جانب آخر من الحائط.هل تأخذون حقوق الفقراء من الاغنياء وتوصلونها للفقراء؟ إذ وظيفتكم الإسلامية هي أن تقوموا بذلك. والجواب "كلا"، فلا علاقة لنا بهذه الأمور. سيقوم بذلك الآخرون ان شاء الله. وهنا تداعى حائط آخر. وصرتم مثل السلطان حسين واصفهان!( المقصود هو السلطان حسين الأول ابن سليمان الأول (135 هـ ق) آخر ملوك السلالة الصفوية، وكان ملكاً ضعيفاً ولا يملك اللياقة المطلوبة. وصل إلى السلطة سنة 1105 هـ ق. وفي زمانه زحف محمود الافغاني إلى اصفهان، فقام السلطان حسين بتسليمه "فرح آباد" و"جلفا" آملاً أن يصرف النظر عن اصفهان. لكن محمود هاجم اصفهان التي لم يكن فيها اي دفاع واحتلها، وقتل السلطان الضعيف.).
فما هو "الحصن" الذي كلما طرحنا جهة من الجهات على هذا السيد "حصن الإسلام" يتعذر ويتملّص! فهل هذا هو معنى الحصن؟
عندما يقولون "الفقهاء حصون الإسلام" فهذا يعني أنهم مكلفون بالحفاظ على الإسلام، وبأن يهيؤا الارضية للتمكن من المحافظة على الإسلام. وهذا من أهم الواجبات، وهو من الواجبات المطلقة(لو كان وجوب واجب ما غير مشروط بالنسبة إلى شيء ما يكون "واجبا مطلقاً" بالنسبة اليه، كمثل وجوب الصلاة بالنسبة للوضوء. واما اذا كان وجوب واجب ما مشروطاً بالنسبة لشيء ما، فيكون "واجباً مشروطاً" بالنسبه اليه، مثل وجوب الحج بالنسبة إلى الاستطاعة) لا المشروطة. ومن المواضع التي يجب على الفقهاء الاهتمام بها الحوزات الدينية، فيجب ان يعيشوا ذلك الهمّ، ويجهزوا انفسهم بالتشكيلات والأدوات، ويبنوا القوة التي تستطيع حفظ الإسلام بكل ما للكلمة من معنى، تماماً كما كان النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)والائمة (عليه السلام) حماة للإسلام، وقد حفظوا العقائد والأحكام والانظمة الإسلامية بالشكل الافضل.
.أما نحن فقد أهملنا جميع الجهات، واخذنا عدداً من الأحكام خلفاً عن سلف وعكفنا على دراستها، وقد اصبح الكثير من أحكام الإسلام من العلوم الغريبة! بل الإسلام من اساسه صار غريباً. لقد بقي منه اسمه فحسب. فالأحكام الجزائية الإسلامية التي هي أفضل قانون جزائي وصل للبشر، صارت منسية بجملتها، ولم يبق منها إلا الاسم(19). كل الآيات الشريفة الواردة في الحدود والأمور الجزائية لم يبق منها إلا قراءتها. فنحن نقرأ: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}(20) لكننا لا نملك اي تكليف تجاهها.
إن علينا أن نقرأ فحسب، لكي تصبح قراءتنا جيدة ونتقن أداء المخارج! دون ان يكون لنا أدنى علاقة بأوضاع المجتمع وأحواله، ومستوى رواج الفحشاء والفساد، وتأييد الحكومات ودعمها للمفسدين (الزناة). نحن نعرف فقط أن حد الزاني والزانية هو بهذا الشكل، دون أن يكون لنا أي دخل في مسألة من سيتولى اجراء الحد، وتنفيذ القانون.
إني أتساءل هل كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)هكذا؟ يقرأ القرآن ويضعه جانباً دون ان يكون له علاقه بالحدود وتنفيذ القوانين؟ وهل كان موقف الخلفاء بعد الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم)هو تسليم المسائل للناس، والتخلي عن الأمور؟ أم أن الأمر كان بالعكس، فقد قاموا بتعيين الحدود، ونفذوا التعزيرات والرجم والحبس المؤبد والنفي من البلاد؟ ارجعوا إلى فصل الحدود والديات، لتروا أن هذا كله في الإسلام، وان الإسلام جاء لأجل هذه الأمور، جاء الإسلام لينظم المجتمع، والامامة الاعتبارية والحكومة هي لأجل هذه الأمور.
نحن مكلفون بالحفاظ على الإسلام. وهذا التكليف من الواجبات المهمة، وهو أهم من الصلاة والصوم. ونفس هذا التكليف هو الذي يوجب سفك الدماء للاتيان به. لم يكن ثمة أهم من دم الامام الحسين (عليه السلام)، وقد سفك لأجل الإسلام. وانطلاقاً من تلك القيمة التي يحملها الإسلام يجب علينا أن نستوعب هذا الأمر، ونعلمه للآخرين أيضاً. إنما تكونون خلفاء للإسلام فيما لو علمتم الناس الإسلام. ولا تقولوا لندع ذلك إلى حين مجيئ صاحب الزمان (عليه السلام).
فهل تتركون الصلاة في حال من الاحوال لتأدوها حين مجيء صاحب الزمان (عليه السلام) ؟
ان حفظ الإسلام أهم، ووجوبه اشد من الصلاة. لا تحملوا منطق حاكم (قاضي) خمين الذي كان يقول: يجب ترويج المعاصي لكي يظهر صاحب الزمان (عليه السلام). فلو لم تكثر المعاصي ألا يظهر صاحب الزمان؟! لا تجلسوا هنا لمجرد الدرس، بل تعرفوا على جميع الأحكام الإسلامية، وانشروا الحقائق. ألِّفوا الكتب (والكتيبات) واطبعوها وانشروها، وستكون مؤثرة حتماً. بحسب تجربتي فإنها ذات تأثير.
روى علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال: رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): "الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟قال: اتباع السلطان. فاذا فعلوا ذلك، فاحذروهم على دينكم"
تحليل هذه الرواية يحتاج إلى بحث مطول، ونحن نتكلم هنا فقط حول جملة "الفقهاء امناء الرسل" التي هي محل البحث، ولها علاقة بولاية الفقيه. وفي البدء ينبغي أن نرى ما هي وظائف وصلاحيات الانبياء، لكي نعرف ما هي وظائف الفقهاء الذين هم أمناؤهم ومعتمدوهم.
المصادر:
من کتاب الحکومة الاسلامية للامام الراحل السيد الخميني قدس سره الشريف
1- بصائر الدرجات، ج1، ص20، باب10. وبحار الانوار، ج25، ص130.
2- بحار الانوار، ج18، ص382، "باب اثبات المعراج ومعناه وكيفيته".
3- اربعون العلامة المجلسي، ص177، وشرح حديث 15. والكلمات المكنونة، ص101 بتغيير يسير في العبارة. وبصائر الدرجات، ص23، باب11.
4- علل الشرائع، ج1، ص123 باب143، الحديث1. ومعاني الاخبار، ص47 و107. وبحار الانوار، ج43، ص 12 فما بعد
5- نهج البلاغة، الخطبة 33.
6- نهج البلاغة، الخطبة 131، والخطبة 3 المعروفة بالشقشقية
7- نهج البلاغة، الخطبة 131.
8- نهج البلاغة، الكتاب 53
9- وسائل الشيعة باب 8، الحديث 50، وكذلك في الباب 11، الحديث 8.
10- الخصال، ج2، باب الأربعين، الاحاديث 15 ـ 19. والاختصاص، ص2، وبحار الانوار، ج2، ص153 ـ 157.
11- اصول الكافي، ج1، وبحار الانوار، ج2، باب 16، 20، 21.
12- البقرة/204
13- البقرة/207
14- بحار الأنوار، ج72، ص354
15- سورة الاعراف، الآية 103 فما بعد. ويونس، 75 ـ 85. وطه، 24، 43. والمؤمنون، 45ـ47. والنازعات، 17.
16- وسائل الشيعة، ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الأبواب 1، 5، 26، 46، 47. والأبواب 1،3، 8.
17- اصول الكافي، ج1، ص47، كتاب فضل العلم، باب فقه العلماء، الحديث 3.
18- اصول الكافي، ج1، ص46، كتاب فضل العلم، باب فقه العلماء، الحديث 2.
19- بحار الانوار، ج2، ص109، كتاب العلم، باب 15، الحديث 14. ونهج البلاغة، والحكمة 361.
20- سورة النور، الآية 103
/ج