![الفراغ الحقوقي في تاريخ الاسلام السياسي الفراغ الحقوقي في تاريخ الاسلام السياسي](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A13216.jpg)
من المسلمات أن المنظومة الحقوقية الإلهية تتكون من مقطعين: كتاب الله المنزل ونبي الله المرسل بذاته وقوله وفعله وتقريره.
وهنا يثور سؤال كبيرة: كيف أمكن تطبيق الشرع الإسلامي بشقيه هذين في غياب أحاديث النبي؟ ألم يشعر الخلفاء بالفراغ القانوني؟ كيف أمكنهم وضع قواعد حقوقية بدلا من القواعد القولية النبوية؟ خاصة مع حالة الإبعاد التي فرضوها على آل محمد عليهم افضل الصلاة والسلام ، فغاب الآل الكرام عن مسرح الحياة السياسية عمليا.
ولكن التعجب يزول، وحدة التساؤلات تخف إذا أدركنا أن الخليفة هو القائم مقام النبي من الناحية الفعلية، فما يقوله الخليفة نافذ سياسيا وحقوقيا! إن ولاية العهد شرعت ووضعت موضوع التنفيذ رسميا وأصبحت شرعية بفعل أبي بكر وعمر، فالسلطة طوال التاريخ أنكرت أن رسول الله قد عهد لأحد، ولكن الذي جعل ولاية العهد مشروعة هو فعل أبي بكر عندما عهد لعمر، وفعل عمر عندما عهد عمليا لعثمان، ثم أصبح العهد عملا شرعيا بسبب فعل هذين الخليفتين!
قال ابن خلدون: إن الإمام الخليفة ينظر للناس في حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمرهم... إلخ. لكن ابن خلدون لا يبين لنا لماذا لم ينظر رسول الله للناس بعد وفاته، ولم يقم لهم من يتولى أمرهم؟!!!(1)
ولقد أدركت السلطة وشيعتها خطورة مثل هذه التساؤلات فدعمت فعل الخلفاء بما سمي إجماعا. وعهد أبو بكر لعمر أمام الصحابة ولم يعترض عليه أحد، بمعنى أن فعل أبي بكر يسنده الإجماع، علاوة على حقه الثابت بأن يقيم للناس من يتولى أمره، فمن يشك بهذا الحق فإن الإجماع يدخله اليقين، وقول الرسول حق: لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة... إلخ.
وسترى أن بإمكان الخليفة أن يبين القرآن، وأن يضع هذا البيان موضع التطبيق بغض النظر عن كون هذا البيان قائما على الظن والتخمين أو الجزم واليقين، بل وبإمكانه أن يعمل عكس ما عمل الرسول، فإذا وزع الرسول بين الناس بالتساوي، فبإمكان الخليفة أن يعطي الناس حسب منازلهم لا بالتساوي، وإذا حدد القرآن وجوه صرف الصدقات فبإمكان الخليفة أن يلغي وجها من هذه الوجوه، كما فعل الفاروق حيث ألغى نهائيا سهم المؤلفة قلوبهم، بحجة أن الله أعز دينه ولا حاجة لتأليف القلوب بالمال... إلخ. فمن هذه الناحية وأمام قدرة الخليفة على التصرف والإبداع، فلن يكون هنالك فراغ حقوقي أو قانوني.
ولكن مع ذلك وبالضرورة ستحدث تصرفات، أو أفعال، أو حالات تحتاج للحكم الشرعي، فإذا عرف أولو الأمر الحكم الشرعي حكموا به، وإن لم يعرفوا فإن الأحداث لن تتوقف حتى يعرفوا الحكم الشرعي، فبالضرورة أيضا لا بد من حكم يتصدى لهذه الحادثة أو تلك، فيصبح لزاما على أولي الأمر وشيعتهم أن يجدوا حكما ما، وطالما أنهم لم يهتدوا إلى الحكم الشرعي الإلهي، فلا بديل أمامهم من خيارين:
1 - إما أن يرجعوا إلى علي بن أبي طالب بوصفه (مدينة العلم اللدني) وبوصفه (وليهم وولي كل مؤمن ومؤمنة) ورجوعهم إليه لمعرفة الحكم الشرعي تأكيد لحقه بالولاية، وهز من الأعماق لنظام الدولة وهذا ما لا يقبله حاكم عاقل ولا يرضاه لأمره، لأنه لو فعل ذلك لسحب بساط الشرعية من تحت أقدامه!
2 - أو أن يعملوا بالرأي حسب مبلغهم من العلم بروح الشريعة. وقد سموا العمل بالرأي تأويلا، ثم سموه اجتهادا، وبقدرة قادر صار العمل بالرأي مصدرا من مصادر الشريعة!
معنى الاجتهاد لغة
قال ابن الأثير تحت مادة جهد: الإجتهاد بذل الجهد في طلب لأمر، وهو افتعال من الجهد لطاقة، وقال أبو حامد الغزالي: الإجتهاد هو عبارة عن بذل جهد، واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا في ما له كلفة وجهد. (2)
معنى الاجتهاد في الشرع الحنيف
معنى الاجتهاد شرعا هو عين المعنى اللغوي فقد ورد عن رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله... (أما السجود فاجتهدوا بالدعاء الجامع) صحيح مسلم كتاب الصلاة مجلد 207، ومسند أحمد مجلد 1 صفحة 219 وقوله (صلوا علي واجتهدوا بالدعاء). (3)
خلاصة معنى الاجتهاد في اللغة والشريعة
من الذي جعل الاجتهاد فريضة؟
ولو تركنا التقليد جانبا لوجدنا أن الاجتهاد في اصطلاح المسلمين هو الذي فرض الاجتهاد، حيث صار لفظ الاجتهاد في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعة في طلب العلم بأحكام الشريعة، كما ذكر أبو حامد الغزالي في المستصفى، والآمدي في الأحكام مجلد 4 صفحة 141، وقد شاع هذا الاصطلاح لدى علماء مدرسة أهل البيت الكرام عليهم السلام بعد القرن الخامس، كما ورد في كتاب مبادئ الأصول للعلامة الحلي.
انعدام الحاجة إلى الاجتهاد
أن الله تبارك وتعالى قد أنزل القرآن تبيانا لكل شئ على الإطلاق، وإذا كنا لم نلمس ذلك فلأن تغطية القرآن بالبيان لكل شئ عملية فنية تماما، فبالرغم من تبحرك في علوم معينة إلا أنك لا تستطيع أن تجري جراحة للعين، ومن هنا اقتضت حكمته تعالى وجود (عبد) ليبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، ولينقل الكتاب من الكلمة إلى الحركة، ومن النظر إلى التطبيق، نقلا قائما على الجزم واليقين لا على الفرض والتخمين.
وبالفعل قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه العملية عبر دعوة قادها بنفسه، ومن خلال دولة ترأسها بنفسه. وبعد أن تم ذلك أعلن الله كمال الدين وتمام النعمة، ولأن عملية البيان مستمرة إلى يوم القيامة عين الله مرجعية فردية، ومرجعية جماعية تساعد المرجعية الفردية، وأمر الناس باتباع المرجعية الفردية المختصة بالبيان، وأمر المرجعية الجماعية بمساعدة المرجعية الفردية، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى.
ومن هنا يتبين أن الإسلام يتلخص شكلا ومضمونا بكلمتين كتاب الله المنزل، والنبي ومن بعده اهل البيت هم البيان لهذا الكتاب. والقياس الموضوعي لمعرفة المتقيدين بالإسلام هو الموالاة، فلو زعم زاعم أنه مؤمن بالقرآن، ومتبع لبيان النبي، ولكنه لا يريد أن يوالي النبي فزعمه مردود عليه.
والخلاصة
أن عهد النبي عهد جزم ويقين، لا فرض وتخمين. وإن كتاب الله، وبيان رسوله غطيا ساحة كل شئ، والرسول نفسه لا ينطق عن الهوى، وقد عصمه الله. بينما الاجتهاد قائم على الفرض والتخمين، والمجتهد يخطئ ويصيب، وهذا غير وارد في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم).
والنبي على فراش الموت أراد أن يلخص الموقف لأصحابه، وأن يؤمنهم ضد الضلالة تأمينا شاملا فاجتهد بعض الصحابة، وقالوا: إن القرآن وحده يكفيهم، وأنهم ليسوا بحاجة لهذا التأمين. وهكذا فصل الكتاب عن البيان، ولو كان هذا الفصل منتجا لما كان هنالك داع لابتعاث الرسل، ولسد مسدهم نسخ من الكتب السماوية ترسل بطريقة ما إلى المكلفين، هذا الفصل استدعى وجود مؤسسة للبيان فكان الاجتهاد، والحاكم هو الذي ينظر، فيختار منها ما يريد، والحاكم على الغالب كان هو الغالب بغض النظر عن دينه، أو علمه، أو سابقته!
وحادثة الحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد من الوضوح، والثبات، والتواتر بحيث لا يقوى احد على إنكارها، فضلا عن الاعتذار عنها، وقد رواها أصحاب الصحاح.
وتعمقت مؤسسة الاجتهاد يوم أن أعلن رسميا منع الحديث عن الرسول، وأن القرآن وحده يكفي. فقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ بترجمة أبي بكر مجلد 1 صفحة 2 - 3 أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه!
وسار الفاروق على هذه السياسة، فقد روى ابن سعد في طبقاته أن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتمزيقها. وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ أن عمر حبس ثلاثة لأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله.(4)
ويجدر بالذكر أن قريشا كانت تنهى عن كتابة أحاديث رسول الله حتى وهو حي، كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء عثمان (رضي الله عنه) فسلك نفس النهج حيث صعد على المنبر وقال: لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر، راجع منتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد مجلد 4 صفحة 64
ولا يخفى بأن أول من دون الحديث رسميا، هو ابن شهاب الزهري بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز.
النتائج المذهلة للاجتهاد
القاتل في الجنة، والمقتول في الجنة كلاهما على حق! قال ابن حزم في الفصل مجلد 4 صفحة 161 عمار بن ياسر قتله أبو الفادية، فأبو الفادية الذي قتل عمارا متأول مجتهد مأجور أجرا واحدا!
وقال ابن حجر في الإصابة مجلد 4 صفحة 151 في ترجمة أبي الفادية: قاتل عمار والظن بالصحابة في كل تلك الحروب أنهم كانوا متأولين، وللمجتهد المخطئ أجر!
وقال ابن حزم في المحلى وابن التركماني في الجوهر النقي: ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي لم يقتل عليا إلا متأولا مجتهدا! مع أن ابن ملجم هذا ليس من الصحابة، ووفق هذا الخريج فإن قاتل الإمام علي مأجور أجرا واحدا!
وفي هامش الصواعق المحرقة صفحة 206 قال الشيخ عبد اللطيف: المقاتل مع علي، أو عليه، أو المعتزل لا يخرج بما وقع منه عن العدالة!
وقال ابن كثير في تاريخه مجلد 8 صفحة 228 ما ملخصه: أن يزيد تأول فأخطأ! مع أن يزيد هذا هدم الكعبة المشرفة، وأباد الذرية المباركة!
وقال ابن تيمية عن معاوية: إنه كعلي بن أبي طالب في ذلك، أي مجتهد! راجع منهاج السنة مجلد 3 صفحة 261 و 275 و 366 و 284 و 286 و 290
وقال ابن كثير: معاوية مجتهد مأجور إن شاء الله! راجع تاريخ ابن كثير مجلد 7 صفحة 279... إلخ.
وغيرها من مئات الاجتهاد التي تضيق بها المجلدات.
لا يخفى أنه كان في تاريخ هذه لأمة حكم وحكام قد تغلبوا، وطالت أزمان غلبتهم، وأصبحت الغلبة هي السند الشرعي لوجودهم، بحكم الاجتهاد، فشايعتهم أكثرية الأمة، وابتغت مرضاتهم رغبة أو رهبة، فبررت فعلهم بحكم الغلبة والتبعية، وبحكم الاجتهاد، ونتيجة ذلك كله: تكونت رؤى وتأويلات واجتهادات استقرت بحكم التكرار، وزينة الإعلام، وضغط الحادثات التاريخية، ولاحت تلك الرؤى والتأويلات كأنها جزء من المنظومة الحقوقية الإلهية، وقد سخر الحكام ومن شايعهم كل وسائل الإعلام الرسمية لترسيخها وإثباتها، فتقبلناها بعد مئات السنين بقبول حسن، لأنها من تركة الغالب الذي قهر كل خصومة!
وواكب ذلك بالضرورة وجود معارضة لهذا التيار الهادر بغض النظر عن قلتها أو كثرتها، وكانت محجمة بالضرورة، لأن زورقها يجري ضد التيار العام والتلميح عن ذلك يغني عن التصريح وأخطر ما يتعرض له الباحث عن الحقيقة هو الركون التام لأحد هذين الموردين، فلا بد من أخذ وجهة نظر كل منهما بحذر، وعناية، ودقة، وموضوعية تامة في كل مسألة من المسائل، تمهيدا لتكوين رؤية علمية عامة، ودقيقة، ومتكاملة. وبعد ذلك وزنهما بميزان الشرع الحنيف بمعناه الدقيق تمهيدا لاستجلاء كليات وتفاصيل تغطية البيان الإلهي لكل شئ وعلى الإطلاق.
ما لا بد منه
حتى لا نبحث عن الحلقة في صحراء، أو عن النجم في سماء، لا بد من البحث عن المرجعية لأنها توفر بتوجيهاتها عناء البحث عن هذه الحلقة، وترشد مسيرة العقل البشري، وتدلنا على أقصر الطرق للوقوف على الحقيقة المجردة، وتقدم لنا كل ذلك أجوبة قائمة على الجزم واليقين، ويكفي مؤسسة المرجعية شرفا أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو المرجعية الأولى في الإسلام، وقد لا يخفى احد أن أسباب فرقة الأمة تكمن في تعدد المرجعيات، وتعدد اجتهاداتها القائمة على الفرض والتخمين. وهذا موضوع لطول غربته يتصوره العلماء العرب مع خطورته كأنه ضرب من الأوهام.
المصادر :
1- قال ابن خلدون في مقدمته صفحة 177
2- المستصفى من أصول الفقه مجلد 2 صفحة 101، والأحكام للآمدي مجلد 4 صفحة 141.
3- سنن النسائي مجلد 1 صفحة 190 باب الأمر بالصلاة على النبي، ومسند أحمد صفحة 199 وقوله (فضل العالم على المجتهد ماءة درجة). راجع سنن الدارمي مجلد 1 صفحة 100... إلخ.
4- مجلد 5 صفحة 140 من طبقات ابن سعد بترجمة القاسم بن محمد بين أبي بكر، وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ مجلد 1 صفحة 7 ترجمة عمر أن عمر .