
لو تيقنا حقا أن رسول الله كما وصفه ربه بالمؤمنين رؤوف رحيم و لو أننا تركنا التقليد الأعمى جانبا، وتوقفنا عن التسلق وحب الظهور واقتناص السلطة على حساب الدين، وأنزلنا النبي الكريم بالمنزلة التي أنزله الله إياها، وأخذنا بعين الاعتبار أن دين الإسلام هو آخر الأديان، وأن رسول الله هو خاتم الرسل،
ولو نحينا جانبا ألاعيب السياسة ومكر الحكام طوال التاريخ السياسي، ولو فهمنا حقا أن الإسلام رحمة للجنس البشري كله، وأن مهمة نبي الإسلام هي إنقاذ الجنس البشري وليس إنقاذ العرب فقط.
لو عرفنا الصحيح من ذلك حق المعرفة، لأدركنا بالشرع والعقل والضرورة، أنه من المحال عقلا وشرعا أن يترك الله قرآنه دون بيان، أو أن لا يبين من هو المسؤول عن بيان هذا القرآن بعد وفاة رسول الله!
وأكثر إستحالة بالعقل والشرع أن يؤتى إلى البيان النبوي المتمثل بحديث الرسول فيأمر الله أو رسوله بمحاصرة هذا الحديث، ومنع كتابته وروايته إلا بحجم حاجة الحكام لذلك، في الوقت الذي تباح فيه كتابة كل شئ، ورواية كل شئ باستثناء حديث رسول الله، وهو المبين لما أنزل الله!
هذه التصورات الخاطئة قادت السلطة وقادت شيعتها إلى نتائج خاطئة ومدمرة، أو شكت أن تعصف بالدين نفسه، لولا رحمة الله تعالى، ولو لا أن قيض الله لهذا الدين أهل البيت الكرام يدافعون عنه، ويوضحون أحكامه، ويرفدون الناس ببيانه رغم كل المعوقات.
فضلان ليسا لفئة من العالمين
أجمعت العرب كلها على مقاطعة بني هاشم عندما أشرقت شمس الهداية الإلهية، وكان هدف العرب أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وصمد الهاشميون ثلاث سنين في شعب أبي طالب، وتحملوا حصار العرب.وأجمعت العرب بعد فشل الحصار وقبيل الهجرة أن تشترك بقتل النبي حتى يضيع دمه بين القبائل، ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه، ولم ينفض الهاشميون من حول النبي، ولا تخلوا عن حمايته وحماية دينه، بل وقفوا وقفة رجل واحد خلف عبد مناف بن عبد المطلب المكنى بأبي طالب، يدافعون عن النبي وعن دين الإسلام، حتى أظهر الله دينه.
وتلك مزية وفضيلة لم تنلها على الإطلاق فئة من العالمين إلا آل محمد.
وكما اجتمعت العرب ضد محمد وضد عشيرته، اجتمعت ثانية، أو جمعت لتقف ضد علي وضد أهل البيت الكرام عليهم السلام بدعوى أن الهاشميين قد أخذوا النبوة، ولا ينبغي أن يجمعوا مع النبوة الخلافة فيذهبوا بالشرف كله. (1)
وفي سبيل تثبيت هذه المقولة وإضفاء الشرعية عليها، وخلق القناعة بها، ركبت السلطة كل مركب وتجاهلت الآل الكرام تجاهلا تاما، وتجاهلت الأحاديث النبوية ولجأت إلى الاجتهاد مع وجود النص، وقلبت الأمور على هدى رأيها، وأوشكت أن تنقض الدين من أساسه، وأن تطمس أحكام الإسلام من بعد ما بانت، ومرة أخرى يتصدى الهاشميون بقيادة علي بن أبي طالب عليه السلام لهذا الإنقلاب وضمن إمكانياتهم، ويدافعون عن أحكام هذا الدين ومستقبله، ويتحملون شنآن العرب، وتكاليف غضب السلطة، دفاعا عن الإسلام وأحكامه، وتلك فضيلة ثانية لم تنلها فئة من العالمين غيرهم.
رفعت السلطة شعار العمل بالرأي ورفع أهل البيت شعار العمل بالنص
والنبي الكريم على فراش الموت، كشر الرأي بمواجهة النبي نفسه عن أنيابه، وحال أصحابه بين الرسول وبين كتابة ما أراد، بحجة أن الرسول قد اشتد به الوجع، وأن القرآن وحده يكفي، ولا حاجة لكتابة ما أراد الرسول كتابته، وتصدى أهل البيت الكرام ودافعوا عن الشرعية، وأن الرسول لا ينطق عن الهوى، فتمادى أصحاب الرأي وقالوا: إن الرسول قد هجر! ولو استمر أهل البيت وشيعتهم في مواجهتهم لتشبث أهل الرأي بالهجر، ولتفاقمت وقاحة أهل الرأي وهزوا الدين من أساسه، فأشار النبي لأهل البيت وشيعتهم بأن يقدموا الأهم على المهم، وطلب من الجميع الخروج من الحجرة النبوية المقدسة، وكان هذا أول انتصار للرأي بمواجهة مكشوفة مع الشرعية! ولا يقوى أحد على إنكار هذه الحادثة.وعندما تأسست السلطة لأول مرة بعد وفاة النبي الاکرم صلی الله عليه وآله وسلم، كانت حصيلة الرأي أن الهاشميين قد أخذوا النبوة، ولا ينبغي أن يجمعوا مع النبوة الخلافة فيجحفوا على قومهم، والحل الأمثل الذي اخترعه الرأي هو أن تبقى النبوة للهاشميين، وأن تختص قريش بالخلافة تتداولها في ما بينها، وعارض أهل البيت الكرام، وأوضحوا حكم الشرع، ومضى أصحاب الرأي قدما بعد أن وطدوا الأمور لأنفسهم، ومرة ثانية قدم أهل البيت الكرام الأهم على المهم فعارضوا برفق إشفاقا على الملة.
وفي ظلال السلطة وأمام معارضة أهل البيت: وتمسكهم بالشرعية، فقدت السلطة ثقتها بهم، فقدمت اللاحق على السابق، وقدمت الطليق على المهاجر، والأبعد على الأقرب، فقويت شوكة السلطة، والتف المنتفعون بها حولها، وبنفس الحجم والمقدار ضعف أهل البيت وانفض الناس من حولهم، وساعد على ذلك أن الله تعالى قد أذهب الرجس عن أهل البيت، فهم لا يطلبون النصر بالجور، ولا يطمعون بالحكم إلا بالشرع وبوسائله لكنها غلبة غير مكشوفة، وغلبة منظمة حتى كشرت الغلبة عن أنيابها وظهرت على حقيقتها، وأدرك معاوية بن أبي سفيان أن الأمر لمن غلب.
وأدركت الأمة أو الأكثرية الساحقة من الأمة أن مصلحتها تتحقق بوقوفها مع الغالب، فوقفت مع الدنيا المدبرة العاجلة، وتركت الآخرة المقبلة الآجلة.
ومن ذلك التاريخ ومنذ انتصار القوة على الشرعية، أطاعت الأمة من غلب، وترسخ انتصار الرأي واندحار الشرعية، فالسلطة رفعت دائما شعار الرأي الذي سمي بالاجتهاد في ما بعد، ورفعت شعار الشرعية بالقدر الذي يزين رأيها ويضفي عليه الشرعية، أو يساهم بخلق القناعة فيه، وذلك محافظة منها على السلطة ووحدة السلطة، لاقتناعها أن وحدة السلطة هي التعبير الحقيقي عن وحدة الأمة.
ومن هنا وعلى ضوئه تجد التفسير الحقيقي والمنطقي لكل تصرف قامت به السلطة السياسية طوال التاريخ.
أما أهل البيت الكرام فالشرعية مطلبهم، والشرعية المطلقة غايتهم.
تاريخ السلطة السياسية
من قرأ التاريخ السياسي الإسلامي من بعد وفاة النبي وحتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان، يتبين له بكل جلاء ووضوح أن السلطة التي قادت ذلك التاريخ السياسي وصنعته قد تأسست أصلا وفي حقيقتها وجوهرها على أساس العمل بالرأي أو ما سمي اجتهادا، وأن هذه السلطة ساست رعاياها بالرأي أو الاجتهاد، وأنها قد أخذت طابع المؤسسة على أساس الرأي أو الاجتهاد، وأنها نمت خارج إطار الشرعية واكتسبت قوتها ورضي الناس بها بحكم الغلبة، ونتيجة سيطرتها التامة على مقاليد الأمور، وبوصفها الممثلة الواقعية لوحدة المسلمين.ولو تصفحت التاريخ السياسي الإسلامي، وأمعنت فيه دراسة وتحليلا فإنك لا تجد نصا شرعيا واحدا، سواء من الكتاب أو السنة، يؤهل وجود السلطة التي قادت التاريخ السياسي، بل تجد أن كافة القواعد التي أدارت ظاهرة السلطة هي من ثمرة العمل بالرأي أو الاجتهاد.
وقد تنبه إلى ذلك أولئك الذين تشيعوا للسلطة فقالوا: إن ولاية العهد أصحبت شرعية بفعل أبي بكر لعمر، وبعهد عمر لعثمان عمليا أو للستة نظريا. فقيل لهم: إن الشرع يعني كتاب الله وسنة رسوله، وعمل الصديق والفاروق لا يدخل في مفهوم الشرع! عندئذ قالوا بالإجماع كسند شرعي لما جرى في التاريخ السياسي الإسلامي، فنظروا إلى الأمر على أساس أن أبا بكر عهد بالخلافة لعمر أمام الصحابة فأقروا عهده، وإقرارهم لعهده هو بمثابة الإجماع، فأصبح الإجماع هو السند الشرعي لكل تصرفات الحكام طوال التاريخ السياسي، وهو حمال أثقاله كلها.
ولأن أهل البيت الكرام قد عارضوا ضمن إطار الإسلام ترك النصوص، والركون إلى العمل بالرأي مع وجود النص، فقد نظر الحكام لأهل البيت طوال التاريخ نظرة شك وحذر، وزادت شكوكهم عمقا لاقتناعهم بأن أهل البيت يعتقدون بأنهم هم القادة الشرعيون للأمة، وأن قيادة الأمة حق إلهي خالص لهم بوصفهم الأعلم والأفهم بالمنظومة الحقوقية الإلهية، والأصلح بنص الشرع من بين أتباعها، وأن الحكام غصبوا أهل البيت هذا الحق، ورد الحكام على ذلك بتحجيم أهل البيت، وتصغير عظيم منزلتهم، ومحاصرتهم، وتنفير الناس منهم، فكان مقبولا طوال التاريخ ومفهوما أن تعمل ما شئت، وأن تقتنع بما شئت، ولكن ليس مفهوما على الإطلاق أن تتشيع لأهل بيت محمد! لأن التشيع لهم يعني وجود جماعة تقول برئاسة أهل البيت عليهم السلام، ووجودها يعني تعريض السلطة للخطر!
السلاح الجبار
كان سلاح السلطة طوال التاريخ هو القوة والغلبة والسيطرة على مقاليد الأمور، وعلى الصعيد القانوني كان سلاحها هو العمل بالرأي، وإعمال رأي الخليفة وإطاعته بوصفه الممثل لوحدة المسلمين.وكان سلاح أهل البيت الكرام هو الالتزام بالشرعية التي غطت بالكامل كل شئ وبينت كل شئ.
وكانت السلطة تملك السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام، تلك الوسائل القادرة بدعم السلطة لها أن تجعل الأبيض أسود، والأسود أبيض.
وكان أهل البيت الكرام يملكون علم النبوة، والقدرة على بيان الشرع، بيانا قائما على الجزم واليقين.
سارت السلطة في دربها تعمق العلم بالرأي، وتوطد لسلطانها، وسار أهل البيت الكرام في دربهم يعمقون الشرعية ويبينون الدين بيانا قائما على الجزم واليقين، في ظروف كانت بالكامل لمصلحة السلطة، وفي حالة انعدام تكافؤ الفرص بين السلطة وبين أهل البيت، السلطة تعالج يومها وتسوس دنياها، وأهل البيت يعالجون يومهم وغدهم ويوطدون لآخرتهم، ويبلغون الدين على الأصول المستقرة التي تعلموها من عميدهم ونبيهم وأبيهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
لماذا ترسخ العمل بالرأي وشاع؟
الحاكم الإسلامي طوال التاريخ، من بعد وفاة النبي وحتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان، هو من غلب، هذا الحاكم الغالب لم يعد إعدادا ربانيا ليكون خليفة للنبي، وهو بالتالي ليس مؤهلا ليقوم بوظائف النبي من بعد وفاته، وأبرز هذه الوظائف البيان (لتبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم) أي يبين حكم الله في ما يجد من الوقائع والأحداث والتصرفات.وبما أن الحاكم الإسلامي لا يعرف الحكم الشرعي، وبما أنه لا بد من وجود حكم لما يقع ويواجه الدولة، اضطر الحكام للعمل برأيهم، وحيث أن المحكوم مفطور على تقليد من غلبه، أصبحت آراء الحكام مع التكرار سنة يصعب مخالفتها، أو عرفا يشعر المحكومون بأنه ملزم لهم!
ومن هنا شاع العمل بالرأي وترسخ، خاصة مع المقولة التي روج لها بإحكام، وهي أن الاجتهاد أو العمل بالرأي هو العمل بروح الشريعة العامة، هذه المقولة خلعت على العمل بالرأي ثوب الشرعية.
موقف الناس
وجد المسلمون أنفسهم أمام سلطة حقيقية تملك وسائل السيطرة على الأجساد والأرزاق، تأمر فتطاع، وتنادي فتجاب، وتشرع برأيها فينفذ تشريعها، ومعها الدنيا كلها، ولا ننكر الآخرة!ووجدوا بالمقابل أهل البيت وقد عزلوا عزلا تاما، ليس معهم إلا علم النبوة، وذكريات الكفاح المرير من أجل انتصار الإسلام، ليس معهم من الدنيا شئ ولا مطمع لهم إلا بالآخرة، وهم موضع شك الحكام، ومن يواليهم يفقد امتيازاته واعتباره، ويفقد عطاءه، ولا تقبل شهادته، وقد مر حين من الدهر، كانت فيه مسبة الإمام وردا يوميا وحتما مقضيا على الرعية.
فاختار المسلمون جانب الحكام، وتكونت بفعل التكرار سنة الشك بأهل بيت محمد، والتشنيع على شيعتهم، والشك بكل ما يصدر منهم.
فلو نسج القصاصون قصة عن يزيد لصدقها الناس إن كانت خيرا دون مناقشة!
ولو ذكر الرواة حديثا عن علي أو الحسن أو الحسين أو زين العابدين لناقشوه ألف مرة قبل أن يأخذوا به!
ولو ذكر الكلبي رأيا، وذكر الإمام جعفر الصادق رأيا آخر، لاختار المسلمون رأي الكلبي بلا تردد!
لماذا؟ لأنها تكونت تحت ظلال السلطة بذرة الشك بأهل بيت محمد صلی الله عليه وآله وسلم، وأصبحت مع الأيام سنة يصعب مخالفتها، لكثرة تردادها ودعم السلطة لها!
المصادر :
1- الكامل في التاريخ لابن الأثير مجلد 2 صفحة 24، وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة مجلد 2 صفحة 107، وأخرجه الإمام أحمد بن أبي الطاهر في تاريخ بغداد، وراجع كتاب نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام صفحة 276 .