القراءات المتأخرة للتاريخ البشري ترى أن مسألة المعاد لم تکن وليدة الحقب المتأخرة من التاريخ البشري ، بل هي حالة متأصلة منذ القدم ، وظاهرة کانت موجودة في المجتمعات البدائية الأولي ، فلقد أولاها الإنسان منذ القرون الأولي اهتماماً بارزاً حتى کادت لا تکون هناک مسألة مثلها قد حظيت بهذا الاهتمام ، مما أدى إلى تأصلها في أعماقهم ، وأصبحت واحدة من عقائدهم التي يعتقدون بها علي مر العصور والأجيال ، وخير شاهد عليها ما نجده مجسداً في آثارهم الباقية ، وحتى لو أغمضنا النظر عن الجانب السماوي لهذه المسألة ، وبحثناها على أساس البحث النفسي ، فإنا نجد أن النفس الإنسانية عند تحليلها تحتوي على ثلاثة أو أربعة جوانب فطرية لها العلاقة المباشرة في تعيين وتلوين الفکر الإنساني ، بل قد تکون هي العامل الثاني إن لم نقل هو الأول في تحريک الإنسان للبحث حول المبدأ ومعرفة حقيقته ، وطلب معرفة مصير الإنسان بعد الموت ، وما هي تدابير اللازمة في ذلک ، ومعرفة هل إن الحياظ مقيدة ومحددة بحدود الدنيا ، أم هناک عالم آخر ورائها يجب معرفته ومعرفة خصائصه ومستلزماته؟ وغير ها من الأمور والتساؤلات التي يجب معرفتها وإيجاب جوابها.
فالإنسان منذ أن وجد على سطح الکرة الأرضية ، ومن أول بداية عمره وهو طفل صغير ، يبدأ بطلب معرفة حقائق وماهيات الأشياء ، من خلال ممارسة السؤال التالي : ما هذا؟ ثم تبدأ عنده مرحلة أخرى بعد معرفة حقائق بعض الأشياء ، وهي السؤال عن علل هذه الأشياء عن طريق السؤال ، کيف حصلت ، وکيف وجدت؟ ومن هو الموجد لها؟ وهذا دليل حسي وجداني يکشف لنا بوضوح عن وجود حس فطري عند الإنسان ، يعبر عنه يحب الاستطلاع ، ومعرفة حقائق الأشياء وعلل وجودها ، وهذا يدفع به إلى التفکير والتحقيق حولها ، لعله يصيبها ، ثم أنا نجد عنده حساً فطرياً آخر ، يساعد على رقي الإنسان وتکامله ، وهو حب الجمال ، وهذا الحس يدفع به لأن يحقق ويطلب کل شيء يرى فيه مسحة الجمال المرغوبة له والمطلوبة من قبله.
فلم نجد على مدى التاريخ الإنساني أن إنساناً ما طلب ما يحقق له النقص والهوان وعدم الکمال ، فهو عندما يطلب شيئاً ويريد الوصول إليه ؛ لأنه بنظره فيه جمال لا بما فيه نقص للکمال ، ولکن هذا الجمال لم يکن جمالاً واحداً ، بل هناک جملة من الأشياء تملک الجمال الصوري فقط ، وبعضها تملک الجمال المعنوي فقط ، وثالثة فيها القسمان من الجمال ، فالطالب للدنيا تغره زخارفها وزبرجها ، ولکن باطنها نار تلظّي ، فيما لو طلبت بما هي هي ، لا بما هي طريق إلى الآخرة ، والطالب للمال بما هو مال فقط لا بما هو معين ومساعد له على فعل الخير وقضاء حوائجه وحوائج إخوانه المؤمنين ، فهو طالب للجمال ولکنه جمال مقيد لا يتعدى حدود عالم الدنيا ؛ لأنه بهذا اللحاظ لا شأنَ له بالآخرة ، نعم لو طلبه لأجل خدمة البشرية بما فيها صاحبه ، ولخدمة الأفعال الخيرية ، فأن جماله لا يتقيد بقيود وحدود عالم الدنيا بل له جمال آخر يبطن هذا الجمال الظاهري ، فالإنسان مجبول على حب الجمال ، ولکنه مختار في تحديد متعلقه ، وعليه فيجب على الطالب لهذا الأمر أن لا يتقيد بقيود الجمال الصوري ، بل عليه أن يأخذ بنظر الاعتبار إلى جانبه الجمال المعنوي ؛ لأجل تحقيق سعادته في الدارين ؛ لأن الجهل والنقص والهوان ليست مرغوبة للإنسان ؛ لأنها توجب الحرمان في الدنيا ، وتوجب الحرمان في الدنيا ، وتوجب النيران في الآخرة.
وأما الشعور الفطري الثالث فهو حب الخلود والبقاء عند الإنسان ، وهو الباعث في الإنسان الخوف من الموت ؛ لأنه يحب الخلود والبقاء في هذا العالم الدنيوي ، ولکن بما أنه لا مفر منه ، سعي الإنسان للقيام بدراسة ما يتعلق بعالم الدنيا ، من خلال مجموعة أسئلة يطرحها ويحاول إيجاد الجواب المقنع لها ، ومن جملتها :
هل تبقى الدنيا من دون أن تزول ؟
وهل موجودات هذه الدنيا باقية لا تزول ؟
وهل هناک عالم آخر وراءها ؟ وما هي خصائصه ؟
وکيف يتم التوقي من آفاته وآلامه ؟
يرى من خلال تجربته في الحياة ، أنه لا بقاء لشيء من هذه الموجودات ، ويرى أمام عينيه حصول التغيرات والتبدلات وعدم الدوام والبقاء ، فيتيقن أنه لا خلود في هذا العالم ، ولکنه ذاته ونفسه يطلب البقاء والخلود ، وهو حس فطري لا يکذب ، فعليه أن يطلب معرفة متعلقة ، أين هو ؟ وکيف يتم معرفة طريقة ؟ فلا يجد له متعلقاً دنيوياً يشبع هذا الحس الفطري الصادق ، فيبحث هنا وهناک لکي يصل إلى متعلقه الواقعي ، وعند اليأس من صلاحية موجودات عالم الدنيا ، يبدأ يفکر بعالم آخر خارج عالم الدنيا ، فيبعث فيه روح البحث والتحقيق والتفکير بذلک العالم الغيبي الأخروي ، فيقوم بدراسة واقعية دقيقة في ما يجب فعله وطبيعة التدابير اللازمة التي يجب مراعاتها ، بالشکل الذي يتناسب مع حقيقته ، فهو الموسوم بسمة البقاء والخلود الأبدي ، وهو السفر الطويل الذي ينتظره ، وذلک کله باعتبار أن الإنسان موجود مفکر ؛ لأنه الموجود الذي يمتلک قوة التفکير والإدراک ، فيرى من المنطق وجوب تهيئة جميع المستلزمات المطلوبة لذلک العالم الغيبي ، وهذا هو العامل الأساسي الذي دفع بالمجتمعات البدائية إلى البحث عن طريقة تحفظ أمواتهم ، وعقيدتهم بالحياة الأخرى دفعت بهم إلى دفن الطعام والملابس والأموال مع أمواتهم ، لعله يحتاج ذلک إليها في ذلک العالم ، على العکس من الإنسان الموحد الذي يأخذ عقائده وتعاليمه من السماء عن طريق الأنبياء والمرسلين : ، فهو بالإضافة إلى عقيدته بوجود ذلک العالم ، فإنه يرسل بطعامه وشرابه قبل رحيله من عالم الدنيا ؛ وذلک من خلال فعل الخيرات وأعمال الصالحات والابتعاد عن المنکرات.
وأما الشعور الرابع فهو الشعور الديني ، ويعد هذا البعد للنفس من مکتشفات بعض محققي ومحللي علم اجتماع ، ودليلهم عليه ظهور حالة التدين وعبادة الله عند البشر منذ القدم ، التي تکشفها لنا الشواهد التاريخية ، وعلم الآثار ، والمخلفات القديمة ، وغيرها ، التي تحکي عن حالي الثبوت عبر الأجيال البشرية على امتداد التاريخ ، فيرون أنها خير دليل على فطريتها.
ولکن ينبغي التنبيه على شيء مهم وهو : أن الأمر الفطري قابل للشدة والضعف ، فيتفاوت بتفاوت الأفراد ، حتى يصل إلى حالة الخمول والکمون والخفاء ، نتيجة لتعرض وتأثر الفرد بمجموعة عوامل خارجية وداخلية ، تارة تؤدي إلى تقوية هذه الأمور الفطرية ، وأخرى تؤدي إلى ضعفها وخمودها وإخفائها ، فلهذه العوامل تأثير سلبي وإيجابي ، کل بحسبه.
ولکي نقف بشکل دقيق على ما نقله لنا التاريخ البشري من صور مختلفة عن طبيعة تعامل الشعوب مع هذه العقيدة ، بالشکل الذي يتناسب مع أفکارها ودياناتها وظروفها الخاصة بکل واحد من هذه المجتمعات ، وهل إن جميع الشعوب والأمم والأقوام قد اهتمت بهذه المسألة التي بينا فطريتها ، أم أن بعضها تعرض لظروف خاصة حالت دون تحقق ذلک ؟ هذا ما سيأتي البحث عنه في الصفحات القادمة ، مراعين في ذلک بقدر الإمکان التقدم الزماني لهذه الأمم والأقوام.
1. تصور المجتمع البدائي
يعتبر البدو القاطنون في الصحراء والبر نموذجاً حياً للمجتمع البدائي المنقرض ، باعتبار أن الأسر الأولى کانت تعتمد في مسيرة حياتها المعيشية على ممارسة الزارعة الديمية بواسطة سقي الأمطار وسهولة استغلال الأراضي وتربية الحيوانات لغرض الاستفادة من ألبانها ولحومها وجلودها وأصوافها وأوبارها ، وکذلک الانتقال عليها من مکان إلى مکان آخر تبعاً لمصدر معيشتهم ومعيشة حيواناتهم ؛ وذلک عند غياب وسائل النقل الحديثة ، والجدير بالذکر أن الکلام لا يعم بدو اليوم الساکنين في الصحراء والبر ، وإنما کلامنا في المجتمعات البدائية التي يغلب على طباعها التوحش والغلبة للقوة ، فإن هؤلاء القوم لهم طقوس خاصة في دفن الموتى ، وهي علامة ودليل کاشف عن اعتقادهم بعود الأرواح إلى الأجسام المدفونة ، ومن ذلک أنهم يضعون حجارة کبيرة على صدور موتاهم ، ويربطون أعضاءهم بحبال متينة ؛ لئلا يتحرکوا بعد عود الروح ، ويخرجوا من أماکنهم. (1)2. المجتمع المصري القديم
کانت لعقيدة الخلود مکانة خاصة في نفوس المصريين تکاد لا توجد عند غيرهم من الشعوب الأولى ، وذلک ظاهر من مصادر التاريخ المصري الذي يحکي لنا طبيعة الحياة والأفکار والعقائد عند المصريين القدماء ، فلا نجد مصدراً منها إلاوفکرة الخلود والحياة بعد الموت تحتل مکان الصدارة فيه ، وهذا يکشف لنا عن أهمية هذه الفکرة عندهم.يقول المؤرخ اليوناني هيرودوث : ( إن المصريين هم أول الشعوب الذين اعتقدوا بخلود النفس ).
ولا يخفى عليک ما فيه من مخالفظ صريحة لظاهر النصوص الإسلامية القرآنية ، باعتبار أن المصريين ليسوا هم أول الأمم التي وجدت على وجهه الأرض ، وما من أمة إلاّ وکان لها نذير ، کما حکى لنا القرآن الکريم في قوله تعالى : ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) هذا من جهة الخبر السماوي ، وأما من جهة الخبر السماوي ، وأما من جهة الخبر الأرضي ، فإنه لم يثبت لنا التاريخ البشري أنهم کانوا أول الشعوب التي وصلنا خبرها ، فيمکن توجيه کلامه عندئذ ، وتأييده في حقيقة هذا الاعتقاد ، بما ورد من النصوص المنقوشة علي الأهرامات التي يرجع تاريخها إلى الأسر الأولى مکتوب عليها : « أن النفس خالدة لا تموت أبداً » ، (2) وما جاء في کتاب الموتي : « أن الميت يقول أنا لا أموت مرة ثانية في العالم الثاني ... ».
ويأتي کلام المؤرخ ويل ديورانت مؤکداً لوجود هذه العقيدة عند المصريين القدماء ، حينما تعرض في الحديث عن الديانة المصرية القديمة ، فقال :
«وکان أهم ما يميز هذا الدين توکيده فکرة الخلود». (3)
ويرى بعضهم أن أروع ما في العقيدة المصرية القديمة هو اعتقادهم بالحياة الأخرى ، وقصر فترة الدنيا بنظرهم ، وبقاء الحياة بعد هذه الدنيا الفانية ، فقال : ( فقد کانت الدنيا في نظرهم فترة قصيرة بعدها حياة لها أمر غير محدود ، بل إن دنيانا ليست إلا ممر إلى ذلک الخلود ... ). (4)
ثم أن الأستاذ « أنطوان ذکرى » رفع الإشکال المقدر الذي يرد على کلام الشيخ أبو زهرة الذي مرَّ في الفقرة السابقة ، من أن اهتمامهم الکبيرفي الحياة ما بعد الموت وتحقيرهم لعالم الدنيا ، قال : ( لا يعني أنهم ترکوا الاهتمام بالحياة الدنيا ، وأهملوها وعاشوا فيها زاهدين ، بل إن فکرة الحياة الآخرة سيطرت على تفکيرهم تماماً ، ومهما يکن من شيء فإن التاريخ نقل لنا صورة واضحة عن خلود النفس عند المصريين ، أوضح من سائر الأمم الأخرى ، وإن تغلغل هذه الفکرة في نفوسهم يفسر لنا سر اهتمامهم بکل ما من شأنه أن يخلد ذکراهم ، أو يساعد في ظنهم على حفظ أجسادهم للحياة الآخرة ) ، (5) ولذا يعزو صاحب الأدب والدين المقابر المصرية القديمة إلى أنه ليس حب التظاهر والکبرياء ، هو الذي جعل المصريين الأقدمين يصنعون قبوراً خالدة غير قابلة للمحو والزوال ، وإنما السبب الحقيقي هو اعتقادهم في خلود النفس في الحياة الأخرى.
ولا شک في قبول ما جاء به الأستاذ « انطوان ذکرى » في الجملة لا بالجملة ؛ بمعنى إننا نقبل کلامه بنحو جزئي لا بنحو مطلق ؛ لأن اهتمامهم ببناء الأهرامات بالشکل المشهود الذي ساعد على خلودها وخلود قبور أمواتهم ، لا يخلو من حب التظاهر والتفاخر ؛ لأنها حالة طبيعية عند أصحاب الفنون والصنعة ، ولا تضاد لها مع فکرة الخلود؛ والدليل على ذلک لم يکن هذا اللون من الاهتمام في بداية حياتهم ، قبل بناء الأهرامات ، ومقابر الملوک.
ويستخلص « الأنبا يؤانس » من طريقتهم الأولى في دفن أمواتهم قبل بناء الأهرامات ومقابر الملوک ، التي کانت تدفن على هيئة القرفصاء بحيث تکون رقبته قرب ذقنه وهو الوضع الذي يکون عليه الجنين في بطن أمه ، أنه تعبير قوي علي البعث ، وأن الإنسان سيحيا ثانية ، کما خرج من أحشاء أمه. (6)
کما أن مسألة ترک الوافذ في القبور ، ودفن الطعام والشراب مع الميت ، وتحصين القبور وبناء الأهرامات على هذا الشکل المرئي ، وبهذه الهندسة العجيبة الباهرة للعقول ، تکشف من جهة عن مدى اعتقادهم بفکرة الحياة بعد الموت ، ومن جهة أخرى تحکي التقدم الحضاري للشعب المصري في تلک القرون القديمة.
3. المجتمع الهندي
أ) ديانة البراهمة :هناک حقيقة لا يمکن غض النظر عنها ، وهي کما يعبر عنها مؤرخ الأديان الدکتور دراز : ( إن الحقيقة الکبري التي أجمع عليها مؤرخو الأديان هي أنه ليست هناک جماعة إنسانية ـ بل أمة کبيرة ـ ظهرت وعاشت ، ثم مضت دون أن تفکر في مبدأ الإنسان ومصيره ، وفي تعليل ظواهر الکون وأحداثه ). (7)
ولا شک أن الهنود أمة من الأمم التي ظهرت ومازالت حية ، ولها الدور الکبير في رقي الحياة وتطورها ، ولها حضارتها العريقة ، فهي واحدة من الأمم التي فکرت في مبدأ الإنسان ومصيره ، وعللت ظواهر الکون وأحداثه ، ولکن يجب أن يعلم أن أمة الهنود لم تکن على ملة وديانة واحدة ، بل قد لا نجد بلداً کالهند بالنسبة لوجود الديانات المتعددة والمختلفة فيها ، حتى أنها اشتهرت على ألسن الناس بأنها بلد العجائب والغرائب ، ولکن أبرزها کانت ديانة البراهمة ، التي تعد من أقدم الديانات ظهوراً في الهند ، وإلى جانبها الديانة البوذية المعروفة ، وترتبط عقيدتهم بالحياة بعد الموت بمجموعة أمور ينبغي التطرق إليها بالشکل الذي يتناسب مع بحثنا وغرضنا من هذه المواضيع.
علاقة العمل بالجزاء :
إن الهنود البراهمة يعتقدون أن جميع أعمال البشر الاختيارية التي تؤثر في الآخرين خيراً کان أو شراً ، لابد أن يجازي عليها بالثواب والعقاب ؛ طبقا لقانون العدل الصارم ، فالنظام الکوني الإلهي قائم على العدل المحض ، وإن العدل الکوني قضى بالجزاء لکل عمل ، وأن في الطبيعة نوعاً من النظام لا يترک صغيرة ولا کبيرة من أعمال الناس بدون إحصاء ، وبعد إحصائها ينال کل شخص جزاءه على عمله ، ويکون هذا الجزاء في هذه الحياة ، ثم أن الکهنة الهندية ترى أن يکون هنالک قانون للحياة ، يجازى فيه الخير خيراً مثله ، والشر شراً مثله ، يطلق عليه اسم « الکراما ».
ويجب أن ننبه إلى أن هذا الاعتقاد کان هو السبب في توليد عقيدة التناسخ عند الهنود البراهمة ، والتناسخ هو عبارة عن تردد الروح في الأجساد الدنيوية ، حتى تکفر ما عليها بحسب تعبييرهم وعقيدتهم ، وقد أشار البيروني إلى هذه العقيدة بقوله : ( کما أن الشهادة بکلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين ، والتثليث علامة النصرانية ، والاسباب علامة اليهود ، کذلک التناسخ علم النحلة الهندية ، فمن لم ينتحله لم يکن منها ، ولم يعد من جملتها ). (8)
وهذه العقيدة في الواقع جعلتهم لا يکترثون بالحياة ، وجعلتهم يستعذبون الموت ولا يخافون منه. ولذا نجد في عباراتهم ، يقولون : کيف ينکر الموت من عرف أن النفس أبدية الوجود ، ولکن الشيء الذي تستقر فيه الروح ولا تتجد فيه إلا بعد معرفة النفس هل هي شريرة أم خيرة ، ومنها نبعث عقيدتهم في الحساب ، کما سيأتي الکلام عنه بعد قليل.
الحساب عند الهنود :
کما ذکرنا في المسألة السابقة أن هذه المسألة تتفرع على عقيدتهم في تردد الأرواح على أساس التناسخ ، فالحساب في نظرهم يکون مباشرة بعد حلول الموت ، ومفارقة الروح للجسد الأول ، فتناسخها هو نوع من أنواع الحساب الذي تواجهه النفس العاصية ، ونحن لا ننکر وجود الحساب من أصله ، ولکن لا يکون الحساب في عقيدتنا بهذا النحو الباطل ، يقول الدکتور عمارة نجيب : ( قد انحدرت النصوص وتراجعت في العقيدة الهندية حتى صارت على هذا النحو الموجود منها الآن صورة مشوشة لعقيدة البعث والإيمان بالجزاء الصحيح ... ).
الجنّة والنار :
ومن عجيب الأمر أن هؤلاء بالرغم من اعتقادهم بمسألة التناسخ ، فإنهم يعتقدون بوجود الجنة والنار ، وعلى حد تعبير الدکتور عماره نجيب قال: ( مما يثير التساؤل ويبعث على الغرابة ) ، ويشرح البيروني عقيدتهم في الجنة والنار ، فيقول : ( المجمع يسمى « لوک » والعالم ينقسم قسمة أولية إلى علو وسفل ووسط ، ويسمى العالم الأعلى « سفر لوک » وهو الجنة ، والعالم الأسفل « تاکلوک » أي مجمع الحياة ، وهو جهنّم ويسمى أيضاً « ترکلوک » وربما يسموه « ياتال » أي أسفل الأرضين ، وأما الوسط الذي نحن فيه فيسمى « مادلوک » ، « ماتثرلوک » أي مجمع الناس ، والأوسط للاکتساب ، والأعلى للثواب ، والأسفل للعقاب ، وفي هذين الآخرين يستوفى جزاء العمل من استحقهما مدة مضروبة بحسب مدة العمل الکون في کل واحد منهما للروح المجردة من البدن ، وللعاجز عن السمو إلى الجنّة أو الرسوب إلى جهنّم « لوک » آخر يسمى « ترجلوک » وهو النبات والحيوان غير الناطق تتردد الروح في أشخاصهم بالتناسخ ، إلى أن ينتقل إلى الأنس على التديج من أدون المراتب النامية إلى عاليها الحساسة وکونها فيها على أحد الوجهين ). (9)
ولم تکن في عقيدتهم في الجنّة والنار ، جهنّم واحدة ، بل هي مجموعة جهنّميات بحيث يکون لکل ذنب جهنّم خاصة به ، ولکن العذاب يتعلق بالروح المجردة وکذلک الثواب ، ويکونان مؤقتين ومحدودين لا دائمين ، کما ذکر ذلک الدکتور عبد الواحد وافي. (10)
ب) الديانة البوذية الهندية :
تعتبر الديانة البوذية ثاني الديانات الکبري في الهند بعد ديانة البراهمة ، وکانت هذه الديانة تعتمد على أساس تزکية النفس وتخليصها من ارتباطها بالشهوات والرغبات ، وهو مسلک أنشأه بوذا مؤسس هذه العقيدة ، وهي الأخرى کسابقتها غير خالية من عود الأرواح إلى الأبدان عوداً تناسخياً ، ومن أهم دعائم هذا المذهب هي :
1. أن الألم من لوازم الوجود.
2. الرجوع إلى هذه الدنيا ناتج من تلوث النفس بالشهوات في حياتها السابقة للموت.
3. الخلاص من أثر الشهوات هو الوسيلة الوحيدة للنجاة من الحياة الأرضية بعد الموت ، وتلک النجاة هي نجاة من الألم وسبب للوصول إلى مکانه.
ويري بعضهم (11) أن حقيقة النفس ليست بمثابة جوهر مستقل ، بل حقيقتها حقيقة نسبية ، بمعني أنها مثل الجسد تتحلل إلى عناصرها ، وهذه العناصر تعود في جسد آخر.
وعليه کيفما کان فإن أصحاب هذه الديانات يعتقدون بأصل العود والرجوع ، ولکنهم أخطأوا بتفسير کيفية الرجوع ، فخيل لهم الرجوع في هذا العالم ، ما لم تصل النفس تجردها التام وقطع علاقتها مع ما لهذا البدن من خصوصيات تعود عليه باللذة والفائدة دون النفس ، ولذا نجد البوذية انتهجت منهج التطهير والتزکية على أساس رياضية اليوغا ، الذي شاع عنهم بعد ذلک في مناطق مختلفة غير الهند ، فالمهم أنهم يعتقدون بوجود معاد ، ولکنه تارة يمثل عود الروح إلى عالم المجردات النورية في حال عدم تلوثها بالشهوات ، وهو معاد روحاني لها ، وآخر معاد دنيوي تناسخي في حال تلوثها بتلک الشهوات.
المعاد في تصور الديانة الإيرانية القديمة
وقد اشتهر عن هذه الديانة أن محور مسائلها يدور على قاعدتين أساسيتين وهما :
القاعدة الأولى : تمکن في بيان سبب امتزاج النور بالظلمة.
القاعدة الثانية : تمکن في بيان سبب خلاص النور من الظلمة.
وقد قال صاحب الملل والنحل عبد الکريم الشهرستاني فيها : ( ... وجعلوا الامتزاج مبدأً ، والخلاص معاداً ... ) ، ثم أضافة قائلاً : ( کانت البلاد الفارسية مسرحاً لکثير من الديانات ، شأنها شأن الأمم التي شارکت في بناء البنات الأولى في الحضارة الإنسانية کالهند ، ومصر ، وبابل ، وآشور ). (12)
وقد نقل عن عقيدتهم في البعث والحساب : ( أن الروح لا بد بعد الموت أن تجتاز قنطرة تصفى فيها ، وهذه القنطرة مهمتها تمييز الأرواح الطيبة من الأرواح الخبيثة ، ولذلک فإن الروح تهب عليها ريح إما معطرة ، إذا کان الميت خيّراً ، وإمّا نتنة إذا کان شريراً ، فتحمل إلى موضع يلتقي فيه إمّا بفتاة جميلة ، وإمّا بعجوز مزعجة ، ليست الأولى فتاة حقيقة ، ولا الثانية عجوزاً حقيقة ، وإنما هي صور أعمال الميت ... ). (13)
وأمّا عقيدتهم في الجنّة والنار ، فقد اتضحت لنا من الفقرة السابقة ، وهي أن الأرواح الخبيثة لا تستطيع أن تجتاز تلک القنطرة ، فتتردى في درک من الحميم ، وأمّا الأبرار الذين حرصوا على أحکام عقيدتهم فإنهم يجتازون هذه القنطرة سالمين ، کيفما کان فإن للجنّة والنار وجوداً في عقيدتهم ، وهذا دليل واضح على إثبات المعاد وکونه جسمانياً بناءً علي ما جاء في اعتقادهم بتجسد الأعمال.
ولکنّ ما جاء في العبارة اللاحقة يؤکد تلک الحقيقة التي ذکرناها قبل قليل ؛ إذ أنهم يعتبرون يوم البعث فيه « مزدا » إلى الأرواح حياتها الأولى ، أي يوم يبعث فيه « مزدا » الأجسام الفانية جميعاً ، ويحيى فيه العظام التة کانت قد تحولت رميماً ، حيث نقل عنهم أنَّهم يقولون : ( يوم فيه سيعود الجسد ، وتعود الروح إلى تلک الصورة ، أو القالب الذي کان قد لحقه الفناء ، إن يوم البعث إنما هو اليوم الذي تحشر فيه جميع الأجساد ، وفيه سيکون الحساب الأخير ، وسيکون أهل المعرفة أکثر الناس مسؤولية وسؤالاً .
فإن المعلم المسؤول ( يوم الحشر ) عن إهماله في إرشاد من قد أجرم ، ومن عن الصراط السويّ کان قد انحرف ، ولسوف يرى کل امرئ أعماله حسنة أم قبيحة ، ولسوف يتميز المجرم يوم الحشر ويبقى ظاهراً ظهور النعجة البيضاء وسط النعاج السود ، ويعتب المجرم حينذاک على خلانه الذين عملوا صالحاً في دنياهم ، وکان لهم من المعرفة نصيب ، ولم يهدوه بهدايتهم وتقويم خلقه ، ويقول لهم : لماذا نسيتموني : لماذا ترکتموني ولم تعلموني طريق الفضائل ؟ وعندئذ يترک خلانه الأخيار مکانهم في الجمع ، وقد علاهم الخجل ، وقد ختم الله على قلوبهم وألسنتهم لما فرطوا من حق إرشاد صاحبهم ). (14)
المصادر :
1- جان ناس ، جامع الأديان ، ترجمة علي أصغر حکمت ، ص 17.
2- الأستاذ أنطوان ذکري ، الأدب والدين عند قدماء المصريين ، ص 101.
3- محمد بدران ، ترجمة قصة الحضارة ، مج 1 ، ج 2 ، ص 162.
4- الشيخ محمد أبو زهرة ، مقارنات الأديان القديمة ، ص 86.
5- الأدب والدين عند قدماء المصريين ، ص 107.
6- د. محمد عبدالله دراز ، کتاب الدين ، ص 34.
7- د. فرج الله عبدالباري في کتابه اليوم الآخر بين اليهود والإسلام ، ص 145.
8- أبو ريحانة بن احمد البيروني ، تحقيق ما للهند من مقولة ، ص 39.
9- عمارة نجيب ، الإنسان في ظل الأديان ، ص 46.
10- د. عبد الواحد وافي ، الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام ، ص 162.
11- حنا الفاخوري وخليل الجر ، تاريخ الفلسفة الإسلامية ، ص 21.
12- عبد الکريم الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج 2 ، ص 59.
13- عمارة نجيب ، الإنسان في ظل الأديان ، ص 231.
14- أبکار السقاف ، الدين في الهند والصين وإيران ، ص 285.