![تدعيم أركان النظام البديل تدعيم أركان النظام البديل](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/A13284.jpg)
کانت رجالات بطون قريش تجري استعداداتها بهدوء وصمت لإقامة نظام سياسي معدل، يحكم عصر ما بعد النبوة، ويأخذ بعين الاعتبار مصالح البطون القريشية ووحدتها حول دين الإسلام، وقد استقر رأي قادة هذه البطون على أن تكون النبوة خالصة لبني هاشم ولآل محمد لا يشاركهم فيها أحد من بطون قريش، وأن الخلافة لبطون قريش تتداولها في ما بينها لا يشاركها فيها أي واحد من آل محمد، واعتقد قادة هذه البطون أن هذا التقسيم هو الصواب بعينه، والتوفيق بذاته.
واستقر قرارهم على اعتماد القرآن الكريم وحده وبالكيفية التي تتلاءم مع التقاطيع الأساسية للنظام البديل المعدل، وبالفهم الذي يراه الحاكم الغالب ومساعدوه، على اعتبار أن هذا الحاكم الغالب هو الخليفة الفعلي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ومساعدوه أدرى بمصلحة المسلمين!
1 - في الحجرة المقدسة
كانت أول خطوة علنية وفعلية قام بها قادة البطون للإعلان عن نواياهم وإقامة النظام البديل، في الحجرة المقدسة. ويبدو أن عمر ومن معه قد استعدوا استعدادا كاملا لهذا المقام، وأنهم ذهبوا جميعا لزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما دخل عمر ومن معه
الحجرة المقدسة، وجدوها غاصة بعواد النبي الذين هرعوا لزيارته في مرضه، فأراد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يغتنم هذه الفرصة وأن يلخص الموقف نهائيا لأمته، لتتمكن من مواجهة عصر ما بعد النبوة.
2 - رسول الله يتكلم ويشرع بتلخيص الموقف
عيون من في الحجرة المباركة شاخصة نحو النبي، الآذان صاغية، وتكلم النبي بصوت مسموع فقال من حوله (هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده). راجع صحيح البخاري ، وصحيح مسلم .
وفي رواية ثانية أنه قال (إئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا) راجع صحيح البخاري ، وصحيح مسلم.وفي رواية ثالثة أن رسول الله قال (إئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لم تضلوا بعده).راجع صحيح البخاري .
وفي رواية رابعة أنه (صلى الله عليه وسلم) قال (إئتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا) صحيح البخاري .
وفي رواية خامسة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (إئتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا).
وفي رواية سادسة أن رسول الله قال (هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده) صحيح البخاري (1)
3 - ما قاله الرسول
الرسول قال جملة واحدة لا ثاني لها، وهي أنه يريد أن يكتب للأمة كتابا لن تضل بعده أبدا، ما هو الخطأ في هذه الجملة؟!
بطون قريش تعترض
ما أن سمع عمر بن الخطاب جملة رسول الله هذه، حتى وقف محتجا: لا حاجة لنا بهذا الكتاب، (حسبنا كتاب الله) إن النبي قد غلب عليه الوجع، حسب الرواية الأولى والثالثة والسادسة، وحسب الرواية الثانية فقالوا: هجر رسول الله، وحسب الرواية الرابعة فقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه! وحسب الرواية الخامسة فقالوا: ما له أهجر؟
استفهموه.
من الذي قال إن النبي قد هجر - حاشا له - لا أحد في الدنيا كلها يجرؤ على مواجهة رسول الله بهذه الكلمة غير عمر، ولكن إشفاقا من الرواة لم يسندوا هذا القول لعمر، ومع هذا فقد ذكر صاحب تذكرة الخواص السبط بن الجوزي في تذكرته، وأبو حامد الغزالي ، أن عمر بن الخطاب هو وحده الذي قال: إن النبي يهجر.(2)
4 - وانقسمت الأمة إلى فريقين
بسبب جملة واحدة قالها رسول الله في بيته، قسم عمر بن الخطاب الحاضرين إلى قسمين: القسم الأول وهم حزبه الذين جاءوا معه، وهم يعارضون بشدة أن يتكلم الرسول، أو أن يسمح له بكتابة أي شئ إطلاقا، وحجتهم أن المرض قد اشتد به أو غلبه الوجع أو أنه يهجر - حاشا له -وهذا الحزب متضامن بالكامل مع عمر بن الخطاب، ويعرف ما يريده تماما، ويبدو أن بينهم وبين عمر اتفاقا مسبقا، لأن كلمة عمر إن المرض قد اشتد بالرسول أو غلبه الوجع، أو أنه يهجر، أو (حسبنا كتاب الله) لا تكفي وحدها لخلق قناعة فورية للدخول بمواجهة علنية مع النبي، والأقرب إلى المنطق والعقل أن هنالك إعدادا مسبقا ومحكما لهذه المواجهة، بدليل قولهم: القول ما قال عمر.
القسم الثاني: وهم بقية الحاضرين في الحجرة المباركة، فقد ذهلوا من موقف عمر ومن معه، ومن إصرارهم على الحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد!! خاصة وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل خطأ، وأنه يتكلم في بيته لا في بيت عمر، وأنه ما زال رسول الله ونبيه، الذي لا ينطق عن الهوى! ثم إنه ما زال رئيسا للدولة، ثم إنه على الأقل مسلم ومن حقه أن يقول ما يشاء أثناء مرضه، وأن يوصي بما يشاء!!
5 - تنازع الفريقين
تنازع الفريقان، الفريق الأول بقيادة عمر بن الخطاب، والفريق الثاني لا قائد له لأنه تصرف بعفوية تامة، وبدون إعداد مسبق أما فريق عمر فقد كان يعرف ما يريد ويمضي قدما لتحقيق كل ما يريد. وما يعنينا أن الفريقين قد تنازعوا وأكثروا اللغو والاختلاف واللغط والترديد، فعمر وحزبه هدفهم الحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد، لأن القرآن وحده يكفي ولا حاجة لكتاب النبي ولا لوصيته، حيث إن الوجع قد غلبه، أو اشتد به المرض، أو بتعبيرهم الأصلي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هجر أو يهجر - حاشا له -.
أما الفريق الآخر فلم يستطع فهم ما يجري من جانب عمر وحزبه، لأن رسول الله لا ينطق عن الهوى، وهو ما زال نبيهم ورسولهم ووليهم، ولا يملك لا عمر ولا غيره أن يتأمر على المسلمين والرسول موجود، ولا أن يدعي أنه أعلم بالإسلام وبمصلحة المسلمين من الرسول نفسه!
من هنا تعمقت حدة المنازعة والاختلاف، وتعذر على النبي أن يكتب كتابه الذي أراد!!
6 - النبي يحسم المنازعة
صدم خاطر النبي الشريف من موقف عمر ومن معه، ومن قولهم أن النبي هجر أو يهجر، ومن تفريقهم بين الله وكتابه من جهة وبين رسوله من جهة أخرى، ومن قولهم إن كتاب الله يكفي ولا حاجة لكتاب رسول الله، حتى لو كان تأمينا ضد الضلالة كما وصفه النبي، وأدرك أنه لم يعد ما يبرر كتابة هذا الكتاب في هذا المناخ، واكتفى بالنصوص السابقة.
وكما أثارت كلمة من كلامه حفيظة عمر وحزبه، فإن جملة كريمة أخرى منه حسمت الموقف فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) (قوموا عني) حسب الرواية الأولى، أو قال حسب الرواية الثانية: (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) وحسب الرواية الثالثة أنه قال (قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع) وحسب الرواية الرابعة أنه قال (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) وحسب الرواية الخامسة قال (ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) وحسب الرواية السادسة أنه قال (قوموا عني) فانتهت المنازعة، لأن فريق عمر حقق ما أراد، وحال بين الرسول وبين كتابة الكتاب الذي أراد، وما تسببوا بحالة اللغط والتنازع إلا لتحقيق ذلك.
أما الفريق الآخر فقد امتثل لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!!
7 - موقفان متخلفان
وأبو بكر على فراش الموت، وقد اشتد به الوجع وغلبه، حتى أنه قال لعثمان بن عفان: أكتب، ثم أغمي عليه من شدة الوجع، ومع هذا كتب في هذه الظروف ما أراد، كما يجمع الرواة بل وتجمع الأمة على ذلك!
وعمر لا يكف عن القول: أيها الناس إسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله، إنه يقول إني لم آلكم نصحا. كما ذكر الطبري في تاريخه ط. أوربا صفحة 2138
فلم يقل إن أبا بكر قد اشتد به الوجع أو أنه هجر، ولم يقل ساعتها: حسبنا كتاب الله!!
لو قارنا موقف عمر هذا من أبي بكر، وموقفه السابق من رسول الله، لها لنا ذلك!
ولما وجدنا تفسيرا مقبولا للتوفيق بين هذين الموقفين المختلفين!!
8 - حجر الأساس لنظام عصر ما بعد النبوة
صرح عمر بقناعاته أمام النبي نفسه وأمام كبار الصحابة الذين حضروا، فقال لمن حضر وعلى مسمع من النبي: (حسبنا كتاب الله) ودخل بمواجهة حقيقية مع النبي!
وقال على مسمع من النبي: إنه يهجر أو هجر - حاشا له - ورأى أنه لا ضرورة لأن يكتب النبي كتابه، وأنصاره ضجوا من بعده: القول ما قال عمر، وأيقنوا أن عمر سيقودهم إلى النصر، وزادت ثقة عمر بنفسه بعد أن نجح بالحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد، وأصر على القيام بدور المؤسس لعصر ما بعد النبوة، وبدور المنظر لتعديل النظام الإلهي!!
وكانت هذه المواجهة هي حجر الأساس الذي وضعه عمر للنظام الذي سيحكم عصر ما بعد النبوة!
9 - لكي نفهم عصر ما بعد النبوة
نتيجة المواجهة التي جرت أمام النبي وفي حضرته:
ألف - خرج النبي عمليا من دائرة التأثير على الأحداث، فقد كانت المواجهة غير متوقعة بهذه الصورة، حسب الموازين الإيمانية.
ب - تلقت الشرعية ضربة ماحقة قصمت ظهرها، فقد أصبح النبي الكريم شيئا، والقرآن شيئا آخر، فصار بالإمكان مخالفة النبي الموجود، والإعتصام بشعار (حسبنا كتاب الله) أو بتعبير أدق: حصر الدين بالقرآن الكريم وحده، وكما يفهم ذلك المتغلب الذي يقود الأحداث!
ج - وضع حجر الأساس عمليا لعصر ما بعد النبوة الذي سيحكمه شعار (حسبنا كتاب الله) فبعد وفاة النبي جمع أبو بكر الناس وقال لهم: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا شيئا عن رسول الله، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله! راجع تذكرة الحفاظ للذهبي بترجمة أبي بكر مجلد 1 صفحة 2 - 3
وزيادة بالاحتياط فقد أمر أبو بكر بحرق 500 حديث كان قد جمعها أصحابها! راجع مجلد 5 صفحة 233 من كنز العمال.
كذلك فإن عمر بن الخطاب ناشد الناس أن يأتوه بأحاديث رسول الله المكتوبة، فلما أتوه بها أمر بحرقها! كما ذكر ابن سعد في طبقاته مجلد 5 صفحة 140 بترجمة محمد بن أبي بكر.
ويمكنك القول كما أثبتنا، أن السلطة منعت كتابة ورواية أحاديث رسول الله وسنته مدة 95 سنة، واستمر المنع حتى جاء عمر بن عبد العزيز فحاول جهده أن يرفع الحظر عن كتابة ورواية سنة الرسول.
ثم إنك بعد ذلك لن تعجب إذا وجدت معاوية بن أبي سفيان الذي حارب وأباه الإسلام 21 عاما بكل وسائل الحرب يرفع هذا الشعار بمواجهة علي بن أبي طالب، الذي حارب وأهله من أجل الإسلام 23 عاما! فهذا هو معاوية ورهطه يقولون لعلي:
بيننا وبينكم كتاب الله!!
د - بروز فكرة التغلب، واعتبارها سببا للوجاهة والمؤسسية، فمن الذي خول عمر أن يوجه، وأن ينظر، والرسول نفسه موجود!!
ومن الذي قال له إن رأيه هو خير من حكم رسول الله!! أو أنه أعلم بمستقبل هذه الأمة من رسول الله!! أو أنه أفهم بمصلحة الإسلام من رسول الله!!
والأهم من ذلك، فمن الذي أقامه قيما على رسول الله، ليقول أن هذا التصرف من رسول الله مناسب، وذلك غير مناسب!! ومن الذي أعطاه الصلاحية ليتولى أمر القيام بدور المؤسس لعصر ما بعد النبوة!!
إن المبرر لكل ذلك هو فكرة التغلب، فالغالب غالب حتى ولو كان عمر!!
والمغلوب مغلوب حتى ولو كان النبي نفسه!! أو كانت الشرعية بذاتها!!
وجاء العلماء في ما بعد فأقروا بالغلبة سببا لشرعية الحكم والمرجعية، راجع الأحكام السلطانية (للفرا)، والأحكام السلطانية للماوردي تجد صحة هذا السبب عندهم، ثم تصفح وقائع التاريخ تجد أن فكرة الغلبة هي التي سادت وقادت التاريخ السياسي الإسلامي!!
هل تتصور أن هنالك آية في القرآن تبيح ذلك؟!! أو أن هنالك حديثا أو سنة عن الرسول تبيح ذلك؟ لا والله لقد أصبح ذلك مباحا بالاستناد إلى قول عبد الله بن عمر بن الخطاب يوم الحرة (نحن مع من غلب).
هـ - تقدم التابع على المتبوع وتأمير المفضول على الأفضل، فعمر تابع بكل الموازين، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) متبوع بكل الموازين، وعمر هو المفضول بكل الموازين، والنبي هو الأفضل بكل الموازين، ومع هذا نفذ قول عمر ورأيه، وتعطل حكم النبي، وخرجت الشرعية عن دائرة الحكم من اللحظة التي حيل فيها بين الرسول وبين كتابة ما أراد.
ومن هنا وضعت قاعدة: أن بإمكان العالم أن يتكلم، وعلى الأعلم أن يسكت، ونشأت في ما بعد قاعدة: جواز حكم المفضول مع وجود الأفضل إن كانت هنالك مصلحة في ذلك، والذي يقدر هذه المصلحة عمليا هو الغالب!
ولا خلاف بين أهل السنة بالنتيجة حول هذا الموضوع، فمعاوية مفضول وابنه مفضول، ومروان بن الحكم مفضول وأولاده مفضولون، ولكن قدموا لمصلحة وهي وحدة الأمة تحت ظلال حكم الغالب المفضول، بمعنى أن الواقع قاد الشرعية ووجهها ورشدها! والأصل أن تقود الشرعية الواقع وتوجهه وترشده.
10 - عمر يعود للحجرة المقدسة ولكن بعد وفاة النبي
توفي رسول الله منتصف نهار يوم الاثنين، وكان أبو بكر غائبا بمنطقة السنح، وكان عمر حاضرا يراقب بعين ثاقبة، ويرتب لعصر ما بعد النبوة. فجاء ليعرف حالة رسول الله، واستأذن ودخل الحجرة المقدسة التي شهدت مواجهته للنبي قبل يوم أو بعض يوم، فكشف الثوب عن وجه رسول الله، وتصور أن النبي في حالة غشوة، فقال له المغيرة بن شعبة الذي جاء معه إن النبي قد مات.
11 - اجتماع عمر وأبو بكر
خرج عمر وأخذ يقول: إن رجالا يزعمون أن رسول الله قد مات، إن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى! ومن قال إن رسول الله قد مات علوت رأسه بسيفي!! راجع تاريخ الطبري ، فما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه، راجع أنساب الأشراف ، والطبقات لابن سعد، وكنز العمال وجاء أبو بكر وعمر على هذه الحالة وتلا قوله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل....) فقال عمر: هذا في كتاب الله؟ قال أبو بكر: نعم، فسكت عمر! الطبقات لابن سعد، والطبري وابن كثير
وكان ابن أم مكتوم قد قرأ هذه الآية على عمر قبل مجئ أبي بكر، إلا أن عمر لم يتغير ولم يتوقف، فلما جاء أبو بكر وتلا نفس الآية سكت عمر وسكن، وتحول من حالة إلى حالة، وكأن لم يكن به شئ!
لقد اجتمع الاثنان معا، وتأكدا من أن رسول الله قد مات، وبدءا يخططان معا لمواجهة عصر ما بعد النبوة، وإقامة أركان النظام المعدل، الذي سيحكم ذلك العصر، وتصوروا معا أن العناية الإلهية قد قدرت لهما أن يسدا الفراغ الذي أحدثه موت النبي، وأن ينقذا أمة محمد من مصير مجهول تماما.(3)
12 - القوى السياسية المتواجدة في عاصمة النبي عند موته كانت عاصمة النبي شبكة متداخلة من القوى السياسية.
اولا - القوة السياسية الأولى: وهم أهل بيت محمد خاصة، وبني هاشم عامة، وعميد هذه القوة هو علي بن أبي طالب، المعروف بأنه ولي المؤمنين، ووصي النبي، والخليفة من بعده، وقد اشتهر بعلمه الذي لا يجارى، وفروسيته التي لا تبارى، وبمنزلة من النبي منزلة تتقاصر دونها المنازل، حتى أقر العدو والصديق أن منزلته من النبي كمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبيا. ويليه بالشرف ابناه الحسن والحسين، فهما ابنا رسول الله بالنص، وهما إمامان بالنص أيضا. ثم تتوالى دوائر الشرف الهاشمي.
ثانيا - المهاجرون: وهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة، وتطلق على أبناء بطون قريش ومن والاهم. والهاشميون من المهاجرين ولكن البطون تتخذ موقفا موحدا من بني هاشم، وتنظر للهاشميين نظرة غير مريحة، لأنها مشوبة بروائح التاريخ والقبلية والعواطف الإنسانية المتناقضة.
فالبطون قد أجمعت على محاصرة بني هاشم وفشلت.
والبطون قد أجمعت على قتل النبي وفشلت.
والبطون أعلنت حربها على النبي وقاومت دعوته وفشلت.
والبطون شنت حربا مسلحة على النبي وبني هاشم وفشلت. ثم سلمت واستسلمت لأنه لا بديل عن الإسلام، ولكنها بطبائعها البشرية لن تنسى الأحبة الذين قتلهم الهاشميون خاصة عميدهم علي بن أبي طالب.
وهي لم تقبل مختارة أن يكون النبي من بني هاشم.
وهي لا ترتاح إطلاقا للمكانة التي أعطاها الإسلام لبني هاشم عامة ولأهل البيت خاصة، ولا تطيب نفسا بمكانة علي الدينية.
عمادة البطون القريشية: يبدو واضحا أن بطون قريش لا تقبل أن يكون عميدها بعد النبي من بني هاشم، ويبدو واضحا أن بطون قريش بالإجماع تكره كراهية مطلقة أن يجمع الهاشميون مع النبوة الملك، ولا خلاف بينها على هذا المبدأ، إلا قلة من البطون قد شذوا عن هذا الإجماع. ولسوء الحظ أن عمر بن الخطاب يرى أن هذه الكراهية هي عين الصواب وعين التوفيق.
ولسوء الحظ أيضا أن أبا بكر يتعاطف مع مصالح البطون، ويريد إنصافها، ويريد لها أن تجتمع حول الإسلام ولا تتفرق. وأبو بكر رجل وديع يكره المواجهة، ورجل كبير بالسن، والعرب تحترم كبر السن، لذلك فإن عمادة البطون عمليا كانت لعمر، وفخريا كانت لأبي بكر الصديق.
ومما لا شك فيه أن البطون القريشية مجتمعة كانت أقوى القوى السياسية في عاصمة النبي.
ثالثا - الأنصار: وهما الأوس والخزرج والبطون المؤلفة لهذين الرهطين، وقد طبعا على التنافس في ما بينهم، فلم يقبل أحد منهما رئاسة الآخر، وقد لطف الإسلام حدة التنافس وساعد على تصفية النفوس، لكنه لم يقتلع النزعات الخفية للقناعات القبلية، وأكثريتهم تحب من أحب الله ورسوله، وتتعاطف مع الإمام علي.
رابعا - أبو سفيان وبنو أمية: صحيح أن بني عبد شمس من البطون ولكن موقع أبي سفيان القيادي ومكانته في الجاهلية يأنفان به عن القبول بالتبعية لبني تيم قوم أبي بكر أو بني عدي قوم عمر، فهو مؤمن ومقتنع أن هذين البطنين خلقا ليقادا لا ليقودا.
وقد حاول أبو سفيان أن يتحالف مع علي ضد أبي بكر تحت شعار بني عبد مناف، ولكن عثمان كان في صف أبي بكر، فضلا عن ذلك، فإن أبا بكر وعمر قد استرضياه وتركا له ما بيده من الصدقات، وأمرا ابنه على جيش الشام، فانضم إلى تحالف البطون وتوطد أمر معاوية بعد موت أخيه، وآلت لمعاوية زعامة بطون قريش المتحالفة.
5 - المنافقون: الذين آمنوا بألسنتهم وكفرت قلوبهم وهم قطاع كبير من أبناء المجتمع اليثربي، معروفون، وآخرون غير معروفين، غالبوا النبي فغلبهم، وخادعوا الله فخدعهم، ومكروا وأحاط الله بمكرهم، وكشفهم وعراهم، وبين الوسائل التي تميزهم - ومنها كراهيتهم للنبي، وبغضهم لعلي - وقد هلل المنافقون لوفاة النبي، وتصوروا أن الإسلام سيتهدم وأن القوى السياسية الإسلامية ستتصارع فاندسوا بين الصفوف، يؤيدون كل خارج على الشرعية، ويوسعون كل شق، ويباركون كل خلاف ويغذونه، ولكنهم أقل وأذل من يقودوا حركة المجتمع.
ولكن انقطاع الوحي وغياب الرسول أعطاهم الحرية، خاصة وأن هدف القوى السياسية صار جذب الأعوان وتكثير الأنصار، فدخلوا في حزب الغالب، وكان له دور مهم في توجيه الأحداث!
13 - الصدفة الغريبة
بطون قريش بالإجماع كرهت أن تجمع لبني هاشم النبوة والملك ورأت في ذلك إجحافا بحق البطون، لذلك عملت لأن يختص الهاشميون بالنبوة لا يشاركهم فيها أحد، وأن تختص البطون بالملك لا يشاركها فيها هاشمي، واعتقد رجالات البطون البارزين أن من مصلحة الإسلام أن تتحد بطون قريش حوله، وأن الحكمة ومصلحة الإسلام تقتضي إرضاء البطون وإغضاب بني هاشم، فذلك أفضل وأخف ضررا من إرضاء أهل البيت إغضاب البطون!
وبالصدفة أيضا فإن المنافقين كرهوا محمدا وعادوه طوال حكمه وكفروا برسالته وأنكرت قلوبهم نبوته، وهم بالضرورة يكرهون حكم آل محمد، ويكرهون من يحب محمدا، ويحقدون على النبي وآله. ولكن المنافقين لا يطمعون بالحكم بل يطمعون بالمشاركة، ومشاركتهم لآل محمد غير واردة، ولكن مشاركتهم للبطون ممكنة، وبالتالي فإن استطاع أن يتحالفوا حتى مع الشيطان في سبيل إبعاد آل محمد عن الحكم فلن يتوانوا. لذلك فإنهم أيدوا البطون بعد أن رصدوا حركة المجتمع وطبيعة القوى السياسية المتنافسة.
ورضيت البطون بما فعل المنافقون، وهذا هو السر باختفاء كلمة النفاق والمنافقين بعد موت النبي، حتى يخيل للإنسان لأول وهلة أن مشكلة النفاق الكبرى قد حسمت نهائيا، وأن الخلفاء قد نجحوا في ما عجز عنه النبي نفسه، وأن المنافقين عن بكرة أبيهم كانوا ينتظرون موت النبي ليؤمنوا!!! فلما مات استقاموا عن بكرة أبيهم!!!
14 - القوتان الرئيسيتان لم تنطلقا معا
القوتان السياسيتان المتنافستان: بطون قريش، وأهل البيت النبوي، لم تنطلقا معا ولم تخطبا ود الأنصار معا. كان قادة البطون ومن والاهم يتحركون معا بحرية تامة، يتشاورون ويخططون، ويتنقلون، ويقودون الواقع ويطورونه لصالح خطتهم في كل لحظة، في الوقت الذي
كان آل محمد غارقين في مصابهم الجلل، متحلقين حول الجثمان الطاهر، مشغولين بتجهيزه لمواراته في ضراحه الأقدس، لم يغادروا بيت النبي، وليس بإمكانهم أن يغادروه، فهل من الممكن عقلا أن يتركوا النبي جنازة ودون تجهيز، ويخرجوا لينازعوا الناس سلطانه!!!
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ولو من باب جبر الخواطر لأهل الفقيد، فمن غير الممكن عقلا ودينا أن تقطع البطون هذا الأمر في ما بينها في غياب آل محمد، فعلى الأقل لهم حق المشورة، حتى ولو كانوا من الموالي، هذا على افتراض تجاهل النصوص الشرعية التي رتبت أدق التفاصيل لعصر ما بعد النبوة، وبينت أن الهدى لا يدرك إلا بالتمسك بالثقلين، كتاب الله وعترة النبي أهل بيته، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بالثقلين كتاب الله وعترة النبي أهل بيته، فكيف يمكن للبطون أن تهتدي أو تتجنب الضلالة بغياب عترة النبي وأهل بيته؟!
ومن جهة ثالثة، إن المنظومة الحقوقية الإلهية قد بينت علنا وأمام جمع يزيد على مائة ألف مسلم من هو الولي من بعد النبي، وبينت هارون موسى وهارون محمد، بل وبينت بالنص المحكم أن عليا وحسنا وحسينا كنفس النبي تماما.
ومن جهة رابعة، فإن البطون التي صدمت قيادتها خاطر النبي الشريف، وهو على فراش المرض قبل الموت فقالت بمواجهته: هجر رسول الله أو يهجر - حاشا له - مع أنه لا ينطق عن الهوى، وقالت: (حسبنا كتاب الله) مع أنه الأعلم بكتاب الله، وتسببت بالتنازع واللغط والاختلاف، مع أن الوفاق وغض الصوت والوقار والسكينة في حضرته المباركة واجب شرعي، فمن غير الممكن عقلا ودينا أن تصدم هذه البطون خواطر أهل بيت النبوة، وحبيبهم وفقيدهم لم يدفن بعد، إن فطرة العرب تأبى أن تجمع بين هاتين الصدمتين!! وأن توجه لذات المضروب هاتين الضربتين معا!!
هذا هو تقدير أهل بيت النبوة للموقف آنذاك.
ثم من هو المؤهل إلهيا ليخلف النبي غير عميد أهل البيت؟!! وكيف يطبق الشرعية من لا يعرف أسرارها من مصادرها؟!!!
15 - الملك العقيم واللحظة الحاسمة
ماذا تعني الشرعية بمواجهة طلب الملك!! وماذا يعني مصاب أهل البيت الكرام أمام إصرار البطون على تعديل الترتيبات الإلهية، وتقسيمها بصيغة جديدة تحقق العدل للبطون وللهاشميين معا، فتأخذ البطون الخلافة وحدها، كما أخذ الهاشميون النبوة وحدهم!!!
إنها لحظة واحدة إذا اغتنمتها البطون فقد حققت النصر الساحق على آل محمد، وأقامت صرح العدالة! وهي لحظة انشغال أهل البيت بتجهيز النبي ومواراته في ضراحه الأقدس، فإذا استطاعت قيادة البطون أن ترتب أوراقها قبل انتهاء آل محمد من تجهيز النبي، عندئذ تواجه البطون آل محمد بقوة الواقع، وبوحدة الأمة، وتصور الآل الكرام بصورة الخارج عن الصف والمفرق لوحدة الأمة وجماعتها!!
أما إذا انتهى الآل الكرام من تجهيز النبي ودفنه قبل أن ترتب قريش أوراقها، فقد بطل التدبير وأحيط بقريش! فمن له حجة كحجة أهل البيت؟ ومن له منطق كمنطق أهل البيت؟ ومن له شرف كشرف أهل البيت؟ ومن له فخر كفخر أهل البيت؟ ومن تدعمه المنظومة الشرعية الإلهية كما تدعم أهل البيت؟ إن الدقائق والثواني من ذهب خالص! إنها خارج وحدة الزمن!!
16 - عين عمر بن الخطاب التي لم تنم
عمر بن الخطاب يعرف هذا حق المعرفة، ويعرف أهمية هذه اللحظات، وهو متيقن من صواب تعديل الترتيبات الإلهية (فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت) على حد قوله، لذلك لم تنم عينه وركب الهول، وواجه أحب الخلق إلى الله في سبيل هذا الصواب والتوفيق، وهو ماض قدما كالإعصار، يصنع الحدث، ويحركه، ويوجهه، بكفاءة عالية.
وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام
17 - الأهداف العليا المراد تحقيقها
الهدف الأول: من الواضح أن هدف البطون ينصب بالدرجة الأولى والأخيرة على منع آل محمد من أن يجمعوا النبوة والملك، حتى لا يجحفوا على قومهم بجحا بجحا، على حد تعبير عمر .
الهدف الثاني: وفي سبيل تحقيق الهدف الأول يتوجب تنصيب خليفة في غياب آل محمد، ومواجهة الآل الكرام بأمر واقع، وبوضع مستقر، فإذا رفض الآل الكرام هذا الأمر الواقع، عندئذ يصطدمون بكل المستفيدين من واقعة تنصيب الخلافة، ومن جهة ثانية يكونون بمواجهة سلطة دولة فعلية، ولا طاقة للآل الكرام على المواجهة في هذه الحالة.
الهدف الثالث: يجب استقطاب الأنصار حول الفكرة وإن أمكن تنصيب الخليفة بمنطقة الأنصار، وبعد التنصيب يخرج الخليفة الجديد محاطا بمؤيديه، ويتوجهون إلى آل محمد ليتأكد الآل الكرام هو أن الأمة هي نفسها التي نصبت الخليفة، وهي بنفسها التي تحيط به وتؤيده، وليس أمام الآل الكرام من سبيل غير تأييد هذا الذي اختارته الأمة، فإذا أيد الآل الكرام من نصبته الأمة فقد أفلحوا ورزقوا العافية، وإن عارضوا فإن معارضتهم لا قيمة لها، ولا جدوى عملية منها، ولا تشكل خطرا على سلطة فتية قائمة، ارتبطت بوجودها شبكة من المصالح.
وفي حالة استمرار معارضة الآل الكرام، فيغدو من واجب السلطة الحاكمة أن تقومهم باللين، وأن تردهم إلى طريق الجماعة، فإن استعصى تقويم الآل الكرام، فلا حرج على ولي الأمر الحاكم الفعلي الغالب من أن يسحق الآل الكرام، وأن يحرق عليهم بيوتهم عند الاقتضاء، وتلك رسالة ضمنية لمن تسول له نفسه معارضة الغالب.
هكذا قدرت قيادة البطون الموقف، ورسمت أهدافها على هذا الأساس، وأخذت تتحين الفرص لترجمة هذه الأهداف.
18 - الفرصة الوحيدة
هي تنصيب خليفة النبي قبل أن يفرغ الآل الكرام من تجهيز جثمان النبي ومواراته في ضراحه الأقدس، وهكذا يتم التنصيب في غياب الآل الكرام، وتتجنب البطون مواجهة معهم غير مضمونة النتائج، لأن منطق الآل الكرام ليس كمنطق البطون، وحجة الآل الكرام ليست كحجة البطون، وهيبتهم ونفوذهم وتاريخهم ليس كهيبة البطون ونفوذها وتاريخها، وموقع الآل الكرام في المنظومة الحقوقية الإلهية ودعم النصوص لهم، ليس كموقع بطون قريش ودعم النصوص لها.
وباختصار شديد إما أن تغتنم البطون هذه الفرصة الوحيدة بالذات فتقيم ملكها، وترغم أنف خصمها، وإما أن تضيع هذه الفرصة وكل الفرص اللاحقة وإلى الأبد!
فإذا بايعت الجموع علي بن أبي طالب وهو فتى، فسيحكم طويلا، وسوف يأسرها بعلمه وعدله ورجولته ومكانته الشرعية، وبعد عمر طويل فسيموت علي ويأتي الحسن بن علي على قدر، وتكون الأوضاع مستقرة والحسن إمام بالنص، فهل يقوى ابن عمر أو ابن أبي بكر على منافسة ابن محمد وسيد شباب أهل الجنة؟!!!
وهكذا يذهب المجد من البطون، ويختص الآل الكرام بالنبوة والملك معا!!
صحيح أن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم الملك والنبوة وجمع لهم الملك مع النبوة، وقد أعلن النبي أن آل محمد هم أفضل وأعظم من آل إبراهيم، وأن الله تعالى قد جمع لهم الملك والنبوة كما جمعهما لآل إبراهيم، ولكن هذا قول محمد، ومحمد يتكلم في الغضب والرضا على حد تعبير البطون، فلا ينبغي أن يحمل كلام محمد كله على محمل الجد!!!(4)
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن القرآن وحده يكفي حسب رأي عمر، ولا داعي لقول النبي، ولا داعي لتوجيهه الشخصي، حتى وإن كان النبي موجودا.
راجع بربك مواجهة عمر للنبي نفسه في الحجرة المقدسة، وكيف قال على مسمع النبي: (حسبنا كتاب الله) ولا حاجة لنا بكتاب النبي، وكيف قال وحزبه: إن رسول الله قد هجر أو يهجر - حاشا له -.
وقد وثقنا ذلك بست صيغ من روايات البخاري ومسلم، وهما بعد كتاب الله بالصحة كما ألقي بروع الجموع!!
دعك من ذلك ولنرافق البطون في بحثها عن مكان الفرصة، بعد أن أجادت هذه البطون توقيت الفرصة!
19 - إختيار السقيفة مكانا لتنصيب الخليفة
لقد وضعت بطون قريش الخطة كاملة، ولم يبق عليها إلا اختيار مكان تنصيب الخليفة، وإعلان النظام المعدل الجديد، بالوقت المناسب الذي حددته.
20 - سعد بن عبادة وعواده
وتبين لقادة البطون أنه في الوقت الذي مات فيه رسول الله، كان سعد بن عبادة سيد الخزرج مريضا، لا يقوى على الحركة، وهو طريح الفراش، ولا خلاف بين أحد من أتباع الملة على صحة واقعة مرض سعد. (5)
ولا خلاف بين أحد من أبناء الملة بأن سعد بن عبادة كان سيد قومه، وركن الأنصار الأول، فابن عبادة وابن معاذ هما سيدا الأنصار بلا منازع، ومن الطبيعي جدا أن يتوافد وجهاء الأنصار على سعد لزيارته، والاطمئنان على صحته، ومن الطبيعي أن يطغى نبأ وفاة النبي على الأحاديث الخاصة التي كانت تجري بين سعد وعواده. وقرب بيت سعد كانت تقع سقيفة بني ساعدة.
21 - الإختيار الموفق
حادثة مرض سعد بن عبادة وتوافد وجهاء الأنصار لزيارته لم تكن خافية على عمر بن الخطاب، فقد أدرك عمر بثاقب بصيرته أن النبي ميت في مرضه لا محالة، والنبي نفسه قد أعلن ذلك لأصحابه. من هنا فإن عمر كان يرصد كل التجمعات بكفاءة عالية، بما فيها التجمعات التي تجري في بيت النبي نفسه، وكان يحاول أن يوجه هذه التجمعات وأن يسيطر على مجرياتها، ومواجهته للنبي في الحجرة المقدسة وقول عمر (حسبنا كتاب الله) وقوله وحزبه إن رسول الله قد هجر، أكبر دليل على رصده الناجح لكل التجمعات.
فما أن علم بوجود بعض الأنصار في بيت سعد بن عبادة حتى أدرك أن هذا تجمع، وأنه يضم مجموعة من وجهاء الأنصار الذين جاءوا لزيارة سعد بن عبادة، وأن الساحة أمام بيت سعد مناسبة لتتسع لتجمع أكبر، وأن هذا المكان بعيد نسبيا عن بيت النبي حيث يتجمع فيه آل البيت الكرام، وأن هذا المكان هو المكان الأفضل لتنصيب الخليفة وإعلان النظام الجديد المعدل، وهو نقطة مثالية لزف الخليفة الجديد بعد ذلك محاطا بالجموع المؤيدة له فيمرون من قرب بيت النبي، ويشاهدهم الآل الكرام. وعندئذ يتبين للآل الكرام أن الخليفة الجديد واقع، وأن السلطة الجديدة واقع، وأنه لا قدرة لهم على مواجهة هذا الواقع، وليس لهم من بديل إذا ما أرادوا العافية، غير تأييد هذا الواقع.
ولقد نجح عمر تماما ووفق بتقديره للموقف.
22 - عمر يرتب أعوانه
رتب عمر أعوانه بحيث يأتي قسم منهم إلى السقيفة فيبايعون ويشتركون بزفة الخليفة الجديد، وقسم آخر منهم يبقى بقرب بيت النبي، فإذا أقبل الخليفة الجديد يتحرك هذا القسم ويبايعه أمام الآل الكرام.
يقول عمر بن الخطاب وهو يتذكر لحظات السقيفة: ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر! (6)
كيف يوقن بالنصر لمجرد الرؤية؟ مما يعني أنه واثق ثقة مطلقة من تأييد أسلم!
فلما بويع أبو بكر أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفا إلى مسجد رسول الله!!
23 - الفريق الثاني من أعوان عمر
عندما وصل الخليفة الجديد إلى مسجد النبي صاح عمر بن الخطاب بالناس الجالسين حول المسجد وفيه: ما لي أراكم حلقا شتى قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعه الأنصار، فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوا، وقام سعد بن أبي وقاص ومن معه من بني زهرة فبايعوا.راجع الإمامة والسياسة مجلد 1 صفحة 19 لابن قتيبة الدينوري.
أنت تلاحظ أنه بمجرد أن قال عمر: قوموا فبايعوا قام كثير منهم، فالمبايعة لم تكن ثمرة قول عمر، إنما كانت ثمرة تصور سابق ومعروف ومعد له.
24 - رجال حول عمر
إن وحدة التصور هي التي وحدت بطون قريش ظاهرة النبوة، فقد وقفت كل بطون قريش ضد النبوة الهاشمية بلا استثناء، واشتركت بطون قريش بمقاطعة الهاشميين وحصارهم ثلاث سنين في شعب أبي طالب بلا استثناء، ووقفت كل بطون قريش بلا استثناء ضد الدعوة 13 عاما، واشتركت بطون قريش بلا استثناء في محاولة قتل النبي، وجيشت بطون قريش جميعا وبلا استثناء الجيوش، وحاربت النبي 8 سنوات بكل وسائل الحرب!!
ثم أحيط بهذه البطون وحصرت في جزيرة من الشرك وسط بحر من الإسلام، فاستسلمت إذ لم يعد أمامها خيار غير الاستسلام، ثم أسلمت مكرهة بعد أن أغلقت أمامها كل الأبواب ولم يبق إلا باب الإسلام، وبلغ إحساسها بالإحباط والمرارة المدى!
ولأنه يتعذر عليها أن تجمع بين الإسلام وبين الحقد على النبي، وبين الدين الجديد وبين حسدها للذي جاء به، فلذلك فقد جيرت بطون قريش كل مشاعرها السلبية إلى الهاشمين، واعتبرتهم هم سبب هزيمتها وتدمير صيغتها السياسية الجاهلية، وحملتهم مسؤولية قتل رجالها، فبلغ حسد البطون للهاشميين المدى، وبلغ حقد هذه البطون على الهاشميين المنتهى، ولأن عميد الهاشميين بعد النبي هو علي بن أبي طالب، لذلك صبت بطون قريش جام غضبها عليه، إرغاما لأنفه، وانتقاما من تنمره في ذات الله.
25 - البطون تتحد برئاسة عمر
نبوة الهاشميين قدر لم يكن هنالك مجال للفرار منه بالرغم من المقاومة الضارية لبطون قريش طوال 21 عاما فليأخذ الهاشميون النبوة وحدهم لا يشاركهم فيها أحد من البطون، طالما أن النبوة قدر لا مفر منه. فلتكن خالصة للهاشميين ولا مانع لدى البطون من ذلك، لكن بطون قريش لا يمكنها أبدا أن تقبل أحكام أو تصريحات الرسول الأخيرة، خاصة إعلانه يوم غدير خم، والتي يفهم منها بوضوح لا لبس فيه بأن الله تعالى يريد أن يجمع لآل محمد الملك مع النبوة، كما جمعهما لآل إبراهيم. لذلك لا ينبغي أن تحمل تصريحات الرسول على محمل الجد، فالرسول يتكلم في الغضب والرضا وهو بشر! كما وثقنا ذلك أكثر من مرة.
فلو حملت البطون أقوال النبي في هذا المجال على محمل الجد فإن هذا يعني جمع الملك مع النبوة لبني هاشم، وفي ذلك إجحاف بحق البطون وقسمة ليست عادلة، فليس من العدل - برأي البطون - أن يجمع الهاشميون النبوة والملك، وأن تحرم البطون منهما، والأقرب للعدل الإلهي أن يأخذ الهاشميون النبوة وحدهم لا يشاركهم فيها أحد من البطون، وأن تأخذ البطون الملك وحدها تتداوله في ما بينها لا يشاركها فيه أي هاشمي طوال التاريخ!!!
وهذا هو التوفيق والصواب بعينه، وهذه هي وسيلة منع الإجحاف الهاشمي، على حد تعبير عمر راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير آخر سيرة عمر من حوادث سنة 23، وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ، وراجع شرح النهج تحقيق أبي الفضل ، وراجع تاريخ الطبري ولتعرف الإصرار التاريخي على هذه القسمة والحرص على دوامها. راجع مروج الذهب للمسعودي.(7)
ولسوء الحظ أن عمر بن الخطاب كان يؤمن بهذه القسمة، لأنه يحب العدل.
ونتيجة ذلك أصبحت كل البطون فريقا واحدا، وأصبح عمر بن الخطاب هو رئيس هذا الفريق، ترى البطون ما يرى عمر ، فهم رجاله وهو قائدهم.
26 - رجال من الأنصار
استقطب عمر حوله مجموعة من وجهاء الأنصار، ويبدو أن أكثرهم إخلاصا لعمر هو عويم بن ساعدة، وعندما مات عويم وقف عمر على قبره وقال:
لا يستطيع أحد من أهل الأرض أن يقول أنا خير من صاحب هذا القبر. راجع الإستيعاب لابن عبد البر مجلد 3 صفحة 170 والإصابة مجلد 3 صفحة 4، وأسد الغابة مجلد 4 صفحة 158
وممن استقطب حوله من الأنصار وكان لهم دور بارز في إقامة النظام الذي حكم عصر ما بعد النبوة، أسيد بن حضير، وثابت بن قيس، وسلمة بن سالم، وعاصم بن عدي. وبلغ من وفائهم لعمر أنهم دخلوا بيت فاطمة بنت محمد عنوة، بناء على أوامر عمر، ولو شاء لأحرقوا بيت فاطمة بنت محمد على من فيه!!!
نعم إن كل رجالات بطون قريش يرون ما يرى عمر، فقد قالوا حتى بمواجهة النبي نفسه: القول ما قال عمر!! فكيف في غياب النبي؟ ومن جهة ثانية فإن شخصية عمر قد جذبت كما رأينا مجموعة من وجهاء الأنصار، فصار رأيهم لأكثر من سبب مثل رأي عمر.
27 - فريق واحد من كل الوجوه
تصرفت بطون قريش طوال تاريخها السياسي كفريق واحد، لا فرق بين بطن وبطن طالما أن هدف الجميع، واحد وهو تحقيق العدالة ومنع الهاشميين من أن يجمعوا مع النبوة الملك. ففي سقيفة بني ساعدة قال أبو بكر مخاطبا الحضور من الأنصار:
إنني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين أبي عبيدة بن الجراح أو عمر، فبايعوا من شئتم، راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 9، فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا. راجع تاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 198، وشرح النهج مجلد 3 صفحة 17 ومجلد2 صفحة 103 ومجلد 1 صفحة 27
ومن الطبيعي أن موقف أبي عبيدة لا يختلف، وعندما قالت الأنصار: لا نبايع إلا عليا، رفض الثلاثة هذا العرض، وعندما كتب عثمان وصية أبي بكر قال أبو بكر: لو كتبت نفسك مكان عمر لكنت أهلا للخلافة. راجع مجلد 3 صفحة 429 من تاريخ الطبري، وصفحة 30 من سيرة عمر لابن الجوزي، وصفحة 58 مجلد 2 من تاريخ ابن خلدون.
فالفريق واحد من كل الوجوه، والأهداف واحدة، والغاية هي النجاح، بغض النظر عن شخصية القائد.
28 - في داخل السقيفة
في كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام من صفحة 287 وما فوق، أثرنا مجموعة هائلة من الأسئلة، وأثبتنا بالعقل والنقل أن أصل اجتماع سقيفة بني ساعدة كان في الأصل والحقيقة عبارة عن جلسة عادية ضمت مريضا طريح الفراش لا يقوى على الحركة بإجماع المؤرخين، وهو سعد بن عبادة، وضمت عواده وزواره، وأن هذه الجلسة كانت عادية من جميع الوجوه، ولم تخصص أصلا لاختيار خليفة كما روجت الرواية الرسمية، لكن الذي حول هذه الجلسة إلى اجتماع، وأعطى هذا الاجتماع طابعا سياسيا مخصصا لتنصيب خليفة، هو قدوم المهاجرين الثلاثة أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ومن والاهم من الأنصار، فقدوم هؤلاء هو الذي حول الجلسة إلى اجتماع، وأعطاه طابعا سياسيا ومكانا لتنصيب الخليفة، وموعدا لإعلان هذا التنصيب، ففريق سعد كان خالي الذهن تماما من هذا التصور ولا يدري عما يدور في الخفاء!!
يقول الزبير بن بكار في الموفقيات صفحة 580 (وكان عامة المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن المؤكد أن المهاجرين الثلاثة ومن دار في فلكهم تطرقوا إلى من سيخلف النبي، فقال الحاضرون من الأنصار: لا نبايع إلا عليا. راجع تاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 198، وراجع شرح النهج مجلد 2 صفحة 226. أو قال بعض الأنصار: لا نبايع إلا عليا.بينما كان فريق البطون على النقيض تماما من هذا التصور، فهو لا يريد عليا، ولو كان فريق البطون يريد عليا لما اختلف عليه اثنان من الأنصار، أنظر إلى قول بشير بن سعد أول من بايع أبا بكر كما روى أبو بكر الجوهري مجلد 6 صفحة 285 لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم بايعوا، راجع الإمامة والسياسة أيضا تجد هذا النص.
ووجدها فريق البطون وأعوانهم فرصة لتنصيب الخليفة وإعلان التنصيب، فالجلسة عند مريض تحولت إلى اجتماع سياسي، وأخذ أعوان الفريق يتوافدون زرافات ووحدانا، وبوصول بطن أسلم انتصر هذا الفريق! يقول عمر بالحرف:ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر. (8)
وقال الزبير بن بكار في الموفقيات برواية النهج مجلد 6 صفحة 287 (فقوي بهم أبو بكر) وبايع أنصار فريق البطون سيدنا أبا بكر ليكون أول خليفة للنبي، والحاضرون المعارضون بين مصدق ومكذب، وكأنهم في حلم!
29 - الزفة
فلما بويع أبو بكر أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفا إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصعد منبر الرسول فبايعه الناس حتى أمسى وشغلوا عن دفن رسول الله حتى كانت ليلة الثلاثاء (9)
30 - النجاح الساحق والانتصار العظيم
وبتنصيب الخليفة في الغياب المطلق لآل محمد، وبإعلان التنصيب بالمبايعة، وزف الخليفة من قبل الذين بايعوه، وصعود الخليفة على منبر الرسول، وتكرار بيعة أتباعه له بهر الحاضرون فبايعوا، ومن خلال هذا كله نجحت خطة البطون نجاحا ساحقا، وانتصر عمر انتصارا عظيما، ومرر رسالة ضمنية لآل محمد أن خليفة النبي موجود، وأن الأمة زفته زفا وبايعته في غيابكم، وها هي الأمة تبايعه على منبر الرسول أمامكم، ففكروا 70 ألف مرة قبل أي تصرف!
إذا أردتم العافية فمعارضتكم للخليفة الجديد واعتراضكم عليه، هو من قبيل الاعتراض على إرادة الأمة والخروج على إجماعها، وبالتالي هو شق لعصا الطاعة ومفارقة للجماعة، مع ما يستتبع ذلك من عواقب وخيمة لآل محمد!!
31 - الغطاء الشرعي لتنصيب الخليفة
في الجلسة التي تحولت إلى اجتماع سياسي قال أبو بكر: نحن أولياء الرسول وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعنا ذلك إلا ظالم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. راجع تاريخ الطبري مجلد 3، وراجع الطبقات لابن سعد مجلد 2، وراجع سيرة ابن هشام مجلد 4، والموفقيات للزبير بن بكار، وراجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة.
وفي نفس الجلسة قال عمر: والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم... ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة. راجع على سبيل المثال النص الحرفي لكلمة عمر في الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 4 وما فوق.
عند هذه النقطة قام بشير بن سعد فقال: يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ألا إن محمدا من قريش، وقومه أحق بميراثه وأولى به، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
عند هذه النقطة قام أبو بكر وقال: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، بايعوا من شئتم، فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك... إلخ. فنهض بشير بن سعد وبايع أبا بكر، وتوالى أنصار فريق البطون على المبايعة كما أسلفنا، فأعلن تنصيب الخليفة، وتم زفه كما أسلفنا.
بمعنى أن أبا بكر قد نصب خليفة، ودانت له الأنصار أو من حضر من الأنصار، بوصفه من عشيرة النبي، ومن أقرباء النبي، وعشيرة النبي وأقرباؤه هم أولى بسلطانه، ولا ينازعهم بسلطان محمد إلا ظالم، على حد تعبير أبي بكر وعمر ، عندئذ سلم الأنصار بحكم الانبهار.
32 - محاولة لشق صفوف الآل الكرام وتفرقة القرابة
ربما اقترح المغيرة بن شعبة على أبي بكر وعمر أن يذهبا إلى العباس بن عبد المطلب، فيجعلا له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتكون الحجة على علي إذا مال العباس لهما. فذهبا إلى العباس وتكلم أبو بكر إلى أن قال: على رسلكم بني هاشم فإن رسول الله منا ومنكم، فرد عليه العباس ردا حاسما لا يقبل المساومة ثم قال: إن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.
33 - حجة القرابة ترتد على فريق البطون
لما تم لبطون قريش ما أراد، طلبوا من الإمام علي البيعة لهم، فقال الإمام علي: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله، واعرفوا لنا من الأمر ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. راجع تاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 442 وقال ابن قتيبة في مجلد 1 صفحة 10 من الإمامة والسياسة إن الإمام عليا قال:...
أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم، لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا وميتا... إلخ. قال بشير ابن سعد، أول من بايع أبا بكر: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان (راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 12)
34 - لا حاجة لآل محمد
حاول أبو بكر وعمر أن يجذبا العباس إلى صفهما، بأن يجعلا له ولعقبه نصيبا من هذا الأمر، فتكلم أبو بكر وقال قولا لينا ذكره ابن قتيبة في صفحة 15 من الإمامة والسياسة فقال عمر: إي والله، وأخرى أنا لم نأتكم حاجة منا إليكم، ولكنا كرهنا أن يكون الطعن منكم في ما اجتمع عليه العامة، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم ولعامتكم، راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 15، فمعنى ذلك أن بيعة الآل الكرام ليست ضرورية، فهي لا تقدم عمليا ولا تؤخر، ولكن عمر يخشى على الآل الكرام من العامة الذين اجتمعوا على بيعة أبي بكر، ويخشى أن تتسع شقة الخلاف بين الآل الكرام وبين العامة.
35 - جيوب المعارضين الأنصار
أدرك الأنصار أن الوضع الجديد قد استقر، وأن السلطة قد قبضت على مقاليد الأمور تماما في العاصمة، وبيد السلطة الأرزاق، وبيدها الفرص، فهي التي تضع وترفع، وتعطي وتمنع، وتؤمر وتعزل، وهي الغالبة، وبالتالي فإن مصلحة كل فرد من الأنصار أن لا يعاند هذه السلطة، وأن يعبر عن ولائه لها حتى تفسح له السلطة مجالا بالمشاركة، فانبهر الأنصار وبايعوا باستثناء سعد بن عبادة، وقد اكتشفت السلطة أن سعدا معارض عنيد، فأصدر نائب الخليفة عمر بن الخطاب أمرا بقتله بنفس السقيفة، ولكن تعذر تنفيذ الأمر في حينه!
وهذا الخبر قد وصل إلى مرحلة التواتر. راجع تاريخ الطبري، حوادث بعد وفاة الرسول، وراجع الإمامة والسياسة مجلد 1 صفحة 4 وما فوق حيث قال عمر: اقتلوه قتله الله، وقام على رأسه سعد فقال له عمر: لقد هممت أن أطأك.... فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر وقال له: والله لو خصفت منه شعرة، ما رجعت وفيك واضحة!
وفيما بعد أصر عمر على أن يبايع سعد بن عبادة، فأبى سعد بن عبادة ذلك، فقال عمر لأبي بكر: لا تدعه حتى يبايع، كما يروي ابن قتيبة، فقال بشير بن سعد (إنه قد أبى ولج، وليس يبايع حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه وأهل بيته وعشيرته، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج، ولن يقتل الخزرج حتى تقتل الأوس، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرا قد استقام لكم، فاتركوه فليس تركه بضاركم، فإنما هو رجل) فتركوه وقبلوا مشورة سعد. راجع الإمامة والسياسة صفحة 10 ومات سعد ولم يبايع!
وفي رواية البلاذري أن سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر وخرج إلى الشام، فبعث عمر رجلا وقال له: أدعه إلى البيعة واحتل له، فإن أبى فاستعن الله عليه، فقدم الرجل فوجد سعدا في حائط بحوارين من قرى حلب، فدعاه إلى البيعة فقال: لا أبايع، قال الرجل: فإني أقاتلك، قال سعد: وإن قاتلتني! قال الرجل: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال سعد: أما من البيعة فإني خارج، فرماه الرجل بسهم فقتله.(10)
وفي تبصرة العوام أن الرجل كان محمد بن مسلمة الأنصاري، فرماه بسهم فقتله، وقيل إن خالد بن الوليد كان في الشام، يومذاك فأعانه على ذلك. راجع صفحة 32 من تبصرة العوام. وفي رواية ابن سعد مجلد 2 صفحة 145 من الطبقات (أن سعدا جلس يبول في نفق فاقتل فمات من ساعته) وفي رواية بن عبد ربه (رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده) العقد الفريد مجلد 4 صفحة 259 - 260
والخلاصة: أنه بموت سعد تم تصفية آخر جيوب المعارضة في عاصمة النبي، واستقام للسلطة أمر الأنصار.
36 - تصفية جيوب المعارضة في المهاجرين
أكثرية المهاجرين من البطون يرون ما يرى عمر، والمهاجرون من الموالي انبهروا بما حدث، واقتضت مصلحتهم أن يقفوا مع القوي، والقوي هو السلطة، لذلك لم تكن هنالك مقاومة تذكر من أغلبيتهم، ما عدا خالد بن سعيد الأموي فقد كان عامل النبي على صنعاء، وعندما سمع بوفاة النبي عاد هو وشقيقاه، وتربص شهرين، وقال لعلي:
أمدد يدك أبايعك، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك. راجع شرح النهج مجلد 1 صفحة 135 نقلا عن الجوهري في سقيفته، وتاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 586
ولقد هم أبو بكر أن يوليه إمارة إحدى الجيوش المتوجهة إلى الشام، فذكره عمر بموقف خالد وتأخره عن البيعة، فعدل أبو بكر وانتهت معارضة خالد عمليا.
وأبو سفيان كان خارج المدينة عند وفاة الرسول، ولما عاد وقد اجتمعت الأكثرية الساحقة على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم، يا آل عبد مناف فما لتيم من أموركم!! راجع تاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 203، وشرح النهج لابن أبي الحديد مجلد 1 صفحة 306 - 307
واقترح عمر على أبي بكر أن يترك لأبي سفيان ما بيده من الصدقات، كما روى الجوهري في كتاب السقيفة، وقد أرسله النبي ليجمع له الصدقات، فتركها له.
وليجعل له عمر مصلحة من النظام الجديد عين يزيد بن أبي سفيان قائدا لأحد الجيوش، وأرسل معه أخاه معاوية قائدا، وبموت يزيد تولى معاوية القيادة من بعده، وتسلم ولاية الشام كلها، وبقي واليا طوال عهد الخلفاء الثلاثة. وغير معاوية في ما بعد مجرى التاريخ!
وبرضى أبي سفيان صفيت جيوب المعارضة، راجع كتابنا النظام السياسي صفحة 125 وما فوق.
37 - حقيقة أوضاع عاصمة النبي بعد أسبوعين من وفاته
اختفت نهائيا كلمة النفاق، وعلى كثرة المنافقين إلا أن الله تعالى بقدرة قادر أصلح كافة المنافقين بيوم وليلة، وأصبحت بطون قريش مجتمعة، والأكثرية الساحقة من الأنصار، وما تبقى من سكان المدينة برئاسة الخليفة الجديد في جهة، والآل الكرام في جهة أخرى. بمعنى أن دولة حقيقية وسلطة فتية في جهة، والبطن الهاشمي المبارك الذي أنهكته الحروب وأتعبته المواجهة، وهدته وفاة النبي في جهة أخرى.
38 - محاولات لإقامة الحجة على السلطة
حاول الإمام أن يقيم الحجة على قيادة فريق البطون التي تحولت إلى سلطة حقيقية، وبطريقة ومنهج المنطق والشرع، فنقض حجتهم بالقرابة من النبي كما أسلفنا، لكن السلطة - أي سلطة وبطبيعتها - لا تفهم المنطق الذي يعارض وجودها، ولا تفهم الشرعية إلا في حدود دائرة هذا الوجود، ومن هنا فقد ذهبت محاولات الإمام أدراج الرياح، وأصبحت سطورا في التاريخ، بعد أن فشل المنطق وتنكس رأس الشرعية خجلا!
39 - طبيعة المواجهة مع السلطة
إن مواجهة الهاشميين وحدهم للسلطة الجديدة وبقوتهم الذاتية انتحار، وبكل الموازين العقلية، خاصة وأن السلطة بقيادة نائب الخليفة عمر تتأهب لسحق من يعارض كائنا من كان، وبكل الوسائل، بما فيها حرق البيوت على من فيها، ولماذا لا فهو رجل البطون الأعظم، وهو مهندس عصر ما بعد النبوة، ثم إنه لا يتصرف بصفته الشخصية، إنما يتصرف كنائب رسمي للخليفة، وكخليفة من الناحية الفعلية، ثم إن له قاعدة شعبية ساحقة! فحنى والنبي موجود رأينا من يقول: القول ما قال عمر.
بل إن هذه القاعدة تجاسرت على النبي نفسه وقالت أمامه - حاشا له - إن النبي يهجر، فما الذي يمنع هذه القاعدة من أن تقول أي شئ بعد وفاة النبي؟
والأهم من ذلك، أن عمر يتصرف بقناعات مطلقة غير قابلة للمناقشة، فهو يعتقد أن الإصابة والهدى والتوفيق مرهون بعدم جمع الآل الكرام للنبوة مع الملك.
والأهم من ذلك أنه مقتنع بأنه لا ينبغي أن تحمل كل أقوال الرسول على محمل الجد، لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضا، لذلك وحتى في حياة الرسول كانوا ينهون عن كتابة أحاديث الرسول!! وقد وثقنا ذلك أكثر من مرة.
ثم إنه متيقن أن القرآن الكريم وحده يكفي، ولا حاجة لأي شئ آخر على الإطلاق، وهو وحده قيم القرآن الكريم!!
وهذا هو السر الذي دفعه لجمع كلما أمكن جمعه من أحاديث الرسول، ثم أصدر القرار بحرق هذه الأحاديث!!
وحتى عندما أراد الرسول نفسه أن يكتب وصيته التي تؤمن المسلمين ضد الضلالة، اعترض عمر على الرسول نفسه، ونجح بالحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما أراد.
هذه هي طبيعة السلطة التي يواجهها الآل الكرام! سلطة لها قناعاتها الخاصة، وأساليبها الخاصة، المختلفة بالكامل عن قناعات وأساليب الآل الكرام.
المصادر :
1- صحيح البخاري مجلد 7 صفحة 9، وصحيح مسلم مجلد 5 صفحة 75، ومجلد 11 صفحة 95بشرح النووي/صحيح البخاري مجلد 4 صفحة 31، وصحيح مسلم مجلد 2 صفحة 16، ومجلد 11 صفحة 89 - 94 /صحيح البخاري مجلد 1 صفحة /صحيح البخاري مجلد 5 صفحة 137، وتاريخ الطبري مجلد 1 صفحة 192 - /صحيح البخاري مجلد 4 صفحة 65 - /صحيح البخاري مجلد 8 صفحة 161
2- تذكرة الخواص السبط بن الجوزي في صفحة 64 وأبو حامد الغزالي في صفحة 21 من كتابه سر العالمين
3- تاريخ الطبري ط أوربا 1818، / أنساب الأشراف مجلد 1 صفحة 567، والطبقات لابن سعد، وكنز العمال مجلد 2 صفحة 53 / والطبري مجلد 1 صفحة 1817 - 1818، وابن كثير مجلد 5 صفحة 242
4- سنن الدارمي مجلد 1 صفحة 125 - وسنن أبي داود مجلد 2 صفحة 126 - ومسند أحمد مجلد 2 صفحة 192 و 216، ومستدرك الحاكم مجلد 1 صفحة 105 - 106، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر مجلد 1 صفحة 85
5- تاريخ الطبري ط أوربا مجلد 1 صفحة 1843 ومجلد 2 صفحة 146 وتاريخ ابن الأثير مجلد 2 صفحة 125، والإمامة والسياسية لابن قتيبة مجلد 1 صفحة 5
6- تاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 458 و ط أوربا مجلد 1 صفحة 1143، ا بن الأثير مجلد 2 صفحة 224 وشرح النهج مجلد 6 صفحة 287 .
7- الكامل في التاريخ لابن الأثير مجلد 2 صفحة 24 شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد مجلد 3 صفحة 107 شرح النهج تحقيق أبي الفضل مجلد 12 صفحة 52، /تاريخ الطبري مجلد 4 صفحة 223، ومجلد 2 صفحة / مروج الذهب للمسعودي مجلد 2 صفحة 253 - 254، .
8- تاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 458
9- الموفقيات صفحة 578، والرياض النضرة مجلد 1 صفحة 164 وتاريخ الخميس مجلد 1 صفحة 188
10- أنساب الأشراف مجلد 1 صفحة 589، والعقد الفريد مجلد 2 صفحة 64 - 65
/ج