مسألة تجسّم الأعمال والملكات من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم ، وقد أشرنا إليها عند البحث عن ضرورة إقامة الموازنة بين العمل والجزاء ، وحقيقته عبارة عن القول بأنّ للعمل الإنساني ظهورين :
ظهور بوجوده الدنيوي ، وظهور بوجوده الأُخروي. فما يكتسبه من الأعمال الحسنة كالصلاة والصوم والحج أو ما يحقّقه من أعمال الخير كالزكاة والصدقة وما يقوم به من البر والإحسان كلّها أعمال دنيوية ولا ظهور لها بحسب هذه النشأة سوى ما نشاهد ه منها.
ولكنّ لها ظهوراً في النشأة الأُخروية بوجود يناسبها كالجنة ونعيمها وحورها وغلمانها وما تشتهيه الأنفس وتلتذ به ، فليس لها حقيقة وراء تلك الأعمال التي اكتسبها أو حقّقها في حياته ، فالأعمال الدنيوية الصالحة تظهر بهذا النحو من الجزاء.
كما أنّ ما يقترفه الإنسان من الأعمال السيئة كالشرك بالله سبحانه وظلم العباد وهتك الأعراض وسفك الدماء في هذه النشأة تظهر في يوم القيامة بوجودها المناسب لها فتظهر بصورة الجحيم ونارها وما يواجهه من أنواع العذاب.هذه هي حقيقة القول بتجسّم الأعمال ، وقد سبق منّا القول إنّ من الشهود تجسّم الأعمال بواقعها الأُخروي كي لا تكون هناك ذريعة للمجرم.
فكما أنّ للأعمال ظهورين ، فهكذا الحال للملكات التي يكتسبها الإنسان في هذه الدنيا ، فتارة يكتسب ملكة الإطاعة والعدل ، وأُخرىٰ يكتسب ملكة التمرد والعصيان ، فلكلّ من الملكتين ظهور دنيوي وظهور أُخروي يتنعم الإنسان بواحدة منهما ويعذب بالأُخرى ، وهكذا الحال في النيات.
يقول الحكيم السبزواري في هذا الصدد :
فاعتبار خُلقه الإنسانُ *** مَلَكٌ أو أعجمُ أو شيطان
فهو وإن وحد دنيا ، وزعا *** أربعة عقبى فكان سبعاً
بهيمة مع كون شهوة غضب *** شيمته وان عليه قد غلب
مكرٌ فشيطانٌ وإذ سجية *** سنيّة فصورة بهيّة (1)
هذا إجمال ما ذكره أهل المعرفة في تجسّم الأعمال ، وعلى ضوء ذلك فليس للجنة ولا للنار حقيقة وراء تجسّم الأعمال التي اكتسبها الإنسان.
ويمكن أن يقال إنّ تجسّم الأعمال يشكل حيزاً من الجنة والنار ، ولكن لهما حقيقة أوسع من تجسم الأعمال.
فلنذكر من الآيات والروايات ما يدل عليه.
تجسّم الأعمال على ضوء القرآن والروايات
إنّ هناك طائفة من الآيات تدل بوضوح على أنّ ما اكتسبه الإنسان من خير أو شر يجده أمامه يوم القيامة فيجزىٰ به.1. قال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ).
2. ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ).
3. ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ).
فهذه الآيات تثبت انّ نفس الأعمال التي اكتسبها واقترفها الإنسان يجدها أمامه يوم القيامة بأعيانها وتحضر بواقعها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في كيفية الظهور وإلاّ فالعمل نفس العمل ، والواقعية محفوظة وظهورها مختلف.
هذه الآيات الثلاث أوضح ما في الباب للدلالة على تجسّم الأعمال ، فانّ الآية الأُولى تصرِّح بحضور عمل الإنسان من خير وشر في النشأة الأُخرى ، وأمّا كيفية التجسم فتستفاد من الآية الثانية والثالثة فهما صريحتان في أنّ عمل السوء ـ أعني : كتمان الحقيقة في مقابل ثمن بخس ، أو أكل مال اليتيم ظلماً ـ يتجسّم بصورة النار ، فكأنّ للعمل الدنيوي ظهورين ، ظهور في الدنيا وهو ما يشاهده كلّ إنسان ، وظهور في الآخرة هو تجلّيه بصورة النار المحرقة.
ويؤيد ذلك انّه سبحانه يصف الآخرة بأنّها يوم تبلى السرائر ، ويقول : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ).
فكأنّ الحقيقة اختفت تحت اللثام فأضحت سراً مستوراً وفي ذلك اليوم تزول كافة الحُجُب وتظهر الحقيقة في أنصع صورها.
4. ( يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ).
وظاهر الآية انّ نور المؤمنين يسعى أمامهم في ذلك الطريق المظلم ، وليس للنور مبدأ سوى وجودهم الذي يشع نوراً ويضيء الطريق كما تضيء مصابيح الحافلة ، الطريقَ لسائقها فيسير على ضوئها.
ولأجل انّه لم يكن لنور المؤمنين الساطع مبدأ سوى وجودهم ، يسألهم المنافقون عن النظر إليهم بغية الانتفاع من نورهم كما يحكي عنهم سبحانه بقوله :
( يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ).
ولما كان النور هو تجسيد للعمل الصالح الذي اكتسبه المؤمن والمؤمنة في النشأة الأُولى يجابون بقولهم : ( قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ) معرباً عن أنّ هذا النور هو ظهور لما قاموا به من الأعمال الصالحة ، فمن لم يغتنم الدنيا في إقامة الأعمال الصالحة فهو محروم من هذا النور.
وليس أمرهم بالرجوع إلى الدنيا والتماس النور إلاّ أمراً تعجيزياً ، كقوله سبحانه : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ).
5. ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ).
والآية صريحة في أنّ الذهب والفضة يُحمىٰ عليها في نار جهنم فتكوىٰ بها جباه المكنزين وجلودهم وظهورهم.
كما أنّها صريحة في أنّ النار نفس ما اكتنزوه في النشأة الأُولى ، فكأنّ للكنز ظهورين : ظهوراً بصورة الفلز وآخر بصورة النار المكوية ، وهذا هو الذي ركزنا اهتمامنا عليه في صدر البحث ، وهو انّ لكلّ عمل من خير وشر ظهورين ووجودين حسب اختلاف النشآت.
6. ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
وظهور هذه الآية كظهور الآية السابقة وهو انّ ما كان يبخل به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما يظهر في النشأة الأُخرى بهيئة سلسلة من نار تُطوِّق العنق وتلتف حوله وتقحمه النار.
7. ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ).
وظاهر الآية أنّ نفس العمل يؤتى به يوم القيامة ، فيؤتى بالصلاة والزكاة بثوبهما المناسب للنشأة الأُخروية ، وهكذا الحال في الأعمال الطالحة.
8. ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ).
فالضمير في قوله : ( يَرَهُ ) يرجع إلى العمل المستفاد من قوله : ( يَعْمَلْ ) أو إلى الخير والشر ، وعلى كلا التقديرين فالإنسان يرى عمله من صالح وطالح ، فيرى السرقة والنميمة بوجودهما المناسب لتلك النشأة كما يرى الإحسان والعمل والخير بظهورها المناسب لتلك النشأة. قال سبحانه : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ).
9. وفي آية أُخرى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ).
ويقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ).
ويقول أيضاً : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ).
فهذه الآيات تعد العصاة والأصنام والأوثان ( الحجارة ) وقوداً لنار جهنم ، والوقود ما تشعل به النار ، فيصير وجود الإنسان والأصنام المعبودة بؤرة نار تؤجج به نار الجحيم.
10. ( وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ).
ويقول سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ).
فالآيتان ظاهرتان في أنّ الجزاء هو نفس العمل وليس الجزاء شيئاً وراء العمل فبظهوره حسب النشأة الأُخرى يجزى به الإنسان من صالح وطالح.
11. ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ).
فالآية تؤكد على أنّ الإنسان كان في غفلة من يوم الوعيد ، وانّ لكلّ نفس سائقاً وشهيداً ، فهذه الحقيقة كانت مستورة عن الإنسان في هذه النشأة ويرتفع الغطاء عن بصره وبصيرته فيرىٰ ما خفي عليه ويتذكر وإن كان لا يجدي نفعاً ، يقول سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ).
هذه هي الآيات التي يستنبط منها تجسّم الأعمال ، وهي بحاجة إلى دراسة أوسع ممّا ذكرنا.
ففي هذه النشأة تتبدل الأفعال التي يقوم بها الإنسان إلى طاقة على خلاف ما في الآخرة ، فتلك النشأة عبارة عن تبدل الطاقة المتجسمة بالأفعال إلى الأجسام الأُخروية والجواهر غير الدنيوية.
تجسّم الأعمال في الروايات
ثمة أحاديث تؤيد ما دلّت عليها الآيات القرآنية ، نأتي بنماذج منها :1. قال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم : « اتّقوا الظلم فانّها ظلمات يوم القيامة ». (2)
وكأنّ الظلم يتجلّىٰ في الآخرة بصورة الظلمة ، فللظلم ظهوران دنيوي وأُخروي.
2.وقال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم: « فإذا أُخرجوا من قبورهم خرج مع كلّ إنسان عمله الذي كان عمله في دار الدنيا ، لأنّ عمل كلّ إنسان يصحبه في قبره ». (3)
3. وقال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم في ضمن وصاياه لقيس بن عاصم : « إنّه لابدّ لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ ، وتُدْفَن معه وأنتَ ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثمّ لا يُحشَر إلاّ معك ولا تُبعث إلاّ معه ولا تُسأل إلاّ عنه فلا تجعله إلاّ صالحاً ». (4)
4. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم ». (5)
5. روى أبو بصير قال : سمعت أبا عبد الله 7 يقول : « من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة ». (6)
فكأنّ ما يأكله في هذه الدنيا يتجلّىٰ في الآخرة بهيئة جذوة من النار.
6. وقال الإمام الصادق عليه السلام : « عش ما شئت فإنّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ». (7)
وقوله : « واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه » دليل على أنّ الإنسان يلاقي نفس العمل ، وحمله على لقاء جزائه خلاف الظاهر.
7. وقال الإمام الصادق عليه السلام : « ما من موضع قبر إلاّ وقد ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات » إلى أن قال : « فإذا دخله عبد مؤمن ، قال : مرحباً وأهلاً ، أما والله لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري ، فكيف إذا دخلت بطني فسترىٰ ذلك ، قال : فيفسح له مدّ البصر ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة ، قال أو يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط أحسن منه فيقول : يا عبد الله ما رأيت شيئاً قط أحسن منك فيقول : أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه ، وعملك الصالح الذي كنت تعمله ». (8)
والحديث صريح في تجسّم العمل الصالح بصورة إنسان جميل.
8. وقال الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل : « إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه ، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة ، قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّوجلّ حتى يقف بين يدي الله عزّوجلّ فيحاسبه حساباً يسيراً ، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : يرحمك الله نعم الخارج ، خرجت معي من قبري ، وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني الله عزّوجلّ منه لأُبشّرك ». (9)
9. وقال الإمام الصادق عليه السلام : « إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستُ صور ، فيهن صورة هي أحسنهنّ وجهاً ، وأبهاهنّ هيئة ، وأطيبهنّ ريحاً ،وأنطقهنّ صورة ، قال : فيقف صورة عن يمينه ، وأُخرى عن يساره ، وأُخرى بين يديه ، وأُخرى خلفه ، وأُخرى عند رجليه ، ويقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه ، فإن أتى عن يمينه ، منعته التي عن يمينه ، ثمّ كذلك إلى أن يؤتىٰ من الجهات الست ، قال : فتقول أحسنهنّ صورة من أنتم جزاكم الله عني خيراً ؟ فتقول التي عن يمين العبد : أنا الصلاة ، وتقول التي عن يساره : أنا الزكاة ، وتقول التي بين يديه ، أنا الصيام ، وتقول التي خلفه ، أنا الحج والعمرة ، وتقول التي عند رجليه : أنا بر من وصلت من إخوانك ، ثمّ يقلن : من أنت ؟ فأنت أحسننا وجهاً ، وأطيبنا ريحاً ، وأبهانا هيئة ، فتقول : أنا الولاية لآل محمّد صلی الله عليه وآله وسلم ». (10)
10. روى الصدوق بسنده عن العلاء بن محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال قيس بن عاصم : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي صلی الله عليه وآله وسلم دخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس ، فقلت : يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم نعبر في البرية.
فقال رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم: « يا قيس إنّ مع العز ذلاً ، وإنّ مع الحياة موتاً ، وإنّ مع الدنيا آخرة ، وإنّ لكلّ شيء حسيباً وعلى كلّ شيء رقيباً ، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً ولكلّ سيئة عقاباً ، ولكلّ أجل كتاباً ، وانّه لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتُدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ثمّ لا يحشر إلاّ معك ولا تبعث إلاّ معه ولا تُسأل إلاّ عنه ، فلا تجعله إلاّ صالحاً ، فانّه إن صلح آنست به ، وإن فسد لا تستوحش إلاّ منه وهو فعلك. (11)
هذه هي بعض الأحاديث الدالة علىٰ تجسّم الأعمال ، ومن أراد الاستقصاء فعليه الرجوع إلى الجوامع الحديثية.
تجسّم الأعمال من منظار العقل والعلم
إلى هنا وقفت على أدلة تجسّم الأعمال من جانب الكتاب والسنّة ، وإكمال البحث يفرض علينا طرحه على صعيد العقل والعلم.إنّ لفيفاً من المفسرين والمتكلّمين أنكروا تجسّم الأعمال وقالوا بامتناعه ، وأوّلوا ما ورد من الآيات والروايات في ذلك المقام ، والسبب الداعي إلى ذلك أمران :
أ. انّ ما يقوم به الإنسان من الأعمال الصالحة والطالحة يفنىٰ بعد تحقّقه وتذهب سدىٰ ، فكيف يمكن إعادته بعد انعدامه ؟!
ب. انّ الأعمال من مقولة العرض ، وهو قائم بالجوهر ، ومعنىٰ تجسّمها هو تحقّق العرض بلا جوهر ، وهذا أمر محال.
هذا هو الشيخ الطبرسي ينقل في تفسير قوله سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا ) ، الكلام التالي :
اختلف في كيفية وجود العمل محضراً ، فقيل : تجد صحائف الحسنات والسيئات ، عن أبي مسلم وغيره ، وهو اختيار القاضي.
وقيل : ترىٰ جزاء عملها من الثواب والعقاب ، فأمّا أعمالهم فهي أعراض قد بطلت ، ولا تجوز عليها الإعادة فيستحيل أن ترىٰ محضرة. (12)
وفي المقابل ، هناك من يرفض تلك النظرية ويصحّح تجسّمها بالبيان التالي :
يقول بهاء الدين العاملي : إنّ الحيّات والعقارب ، بل والنيران التي تظهر في القبر والقيامة ، هي بعينها الأعمال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجلابيب ، كما أنّ الروح والريحان والحور والثمار هي الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة التي برزت في هذا العالم بهذا الزي وتسمَّت بهذا الاسم ، إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن ، فتحلّىٰ في كلّ موطن بحلية ، وتزيّىٰ في كلّ نشأة بزيّ ، وقالوا : إنّ اسم الفاعل في قوله تعالى : ( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ليس بمعنى الاستقبال بأن يكون المراد انّها ستحيط بهم في النشأة الأُخرى. (13)
ففي قوله : إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن فتحلّىٰ في كلّ موطن بحلية ، جواب عن الإشكالين الماضيين.
وحاصل الجواب : انّه لا مانع من أن يكون لشيء واحد تجليان حسب اختلاف الظروف ، ولم يكتب على جبين العرض انّه عرض في كلتا النشأتين.
يقول العلاّمة المجلسي : القول باستحالة انقلاب الجوهر عرضاً ، والعرض جوهراً في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة الآخرة قريب من السفسطة ، إذ النشأة الآخرة ليست إلاّ مثل تلك النشأة ، وتخلّل الموت والإحياء بينهما لا يصلح أن يصير منشأ لأمثال ذلك ، والقياس على حال النوم واليقظة أشد سفسطة إذ ما يظهر في النوم إنّما يظهر في الوجود العلمي ، وما يظهر في الخارج فإنّما يظهر بالوجود العيني ، ولا استبعاد كثيراً في اختلاف الحقائق بحسب الوجودين ، وأمّا النشأتان فهما من الوجود العيني ولا اختلاف بينهما إلاّ بما ذكرنا ، وقد عرفت أنّه لا يصلح لاختلاف الحكم العقلي في ذلك.
وأمّا الآيات والأخبار فهي غير صريحة في ذلك ، إذ يمكن حملها على أنّ الله تعالى يخلق هذه بازاء تلك أو هي جزاؤها ، ومثل هذا المجاز شائع ، وبهذا الوجه وقع التصريح في كثير من الأخبار والآيات ، والله يعلم وحججه :. (14)
إنّ أساس الإشكال الأوّل باطل من رأسه ، فانّ البرهان العقلي قائم على أنّ من طرأ عليه الوجود لا يعدم أصلاً ، وعدمه بعد انقضاء زمانه عدم نسبي لا عدم مطلق ، فكلّ شيء موجود في ظرفه ولا يمكن أن يطرأ العدم عليه.
نعم كلّ موجود زماني محدَّد بزمان خاص فهو غير موجود في غير زمانه ، ولكنّه موجود في ظرفه لا يطرأ عليه العدم.
هذا هو القضاء الحاسم للعقل ويؤيده النقل ، يقول سبحانه : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )
فعلىٰ ضوء ذلك ، فالإشكال الأوّل لا أساس له من الصحة ، وكلّ فعل موجود في ظرفه لا يطرأ عليه العدم ، فالعمل يوم المعاد يحضر بنفس وجوده المحقق في ظرفه.
إنّما المهم هو الإشكال الثاني ـ أعني : انقلاب العرض جوهراً ـ وهو أيضاً أمر ممكن لأنّ جسمانية المعاد ليس بمعنى سيادة القوانين الدنيوية جميعها على النشأة الأُخرى ، بل اختلاف النشأتين ربما يورث اختلافهما في بعض القوانين.
يقول سبحانه : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ).
نعم القوانين العامة السائدة على الوجود بإطلاقه تكون محفوظة في النشأتين كامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدين.
وليس من ذلك تبدل العرض جوهراً ، فانّ كون العرض غير قائم إلاّ بالموضوع في تلك النشأة لا يكون دليلاً على كونه كذلك في النشأة الأُخرى ، إذ من الممكن أن يكون العرض قائماً بنفسه في النشأة متبدلاً ، متجليّاً بصورة النار والأغلال والسلاسل ، أو أن يكون العمل الصالح كالصلاة والصوم قائماً بنفسه في النشأة الأُخرى متجلّياً بصورة الحور والجنات والعيون.
وما ذكرنا لا يختص بتجسم الأعمال بل يجري في الصراط والميزان والأعراض ، وقد قلنا إنّ حقائقها خفية علينا ، وانّ التعبير عنها بالميزان وغيره تقريب للذهن بالحقائق المستورة.
وعلى ما ذكرنا فلا مانع من تجسّم الأعمال ، ولنذكر بعض كلمات الأعلام في هذا الصدد :
يقول صدر المتألّهين : كما أنّ كلّ صفة تغلب على باطن الإنسان في الدنيا وتستولي على نفسه بحيث تصير ملكة لها ، يوجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة يصعب عليه صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة ، وربما بلغ ضرب من القسم الأوّل حدّ اللزوم ، وضرب من القسم الثاني حدّ الامتناع ، لأجل رسوخ تلك الصفة. لكن لما كان هذا العالم دار الاكتساب والتحصيل قلما تصل الأفعال المنسوبة إلى الإنسان الموسومة بكونها بالاختيار في شيء من طرفيها حدّ اللزوم والامتناع بالقياس إلى قدرة الإنسان وإرادته دون الدواعي والصوارف الخارجية لكون النفس متعلّقة بمادة بدنية قابلة للانفعالات والانقلابات من حالة إلى حالة ، فالشقي ربما يصير بالاكتساب سعيداً وبالعكس ، بخلاف الآخرة فانّها ليست دار الاكتساب والتحصيل ، كما أشير إليه بقوله تعالى : ( لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) ،
وكلّ صفة بقيت في النفس ورسخت فيها وانتقلت معها إلى الدار الآخرة صارت كأنّها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشئة منها بصورة يناسبها في عالم الآخرة والأفعال والآثار التي كانت تلك الصفات مصادر لها في الدنيا ، وربما تخلفت عنها لأجل العوائق والصوارف الجسمانية الاتفاقية ، لأنّ الدنيا دار تعارض الأضداد وتزاحم المتمانعات بخلاف الآخرة لكونها دار الجمع والاتفاق لا تزاحم ولا تضاد فيها ، والأسباب هناك أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرضية فكلّما يصلح أثر الصفة النفسانية لم يتخلّف عنها هناك كما يتخلف عنها هاهنا لمصادفة مانع له ومعاوقة صارف عنه ، إذ لا سلطنة هناك للعلل العرضية والأسباب الاتفاقية ومبادئ الشرور بل الملك لله الواحد القهار.
ثمّ إنّ صدر المتألّهين ضرب مثالاً لتقريب الموضوع ، يقول : إنّ الجسم الرطب متى فعل ما في طبعه من الرطوبة في جسم الآخر قَبِلَ الجسم المنفعل الرطوبةَ فصار رطباً مثله ، ومتى فعل فعله الرطوبة في قابل غير جسم كالقوة الدراكة الحسية والخيالية إذا انفعلت عن رطوبة ذلك الجسم الرطب ، لم يقبل الأثر الذي قبله الجسم الثاني ولم يصر بسببه رطباً بل يقبل شيئاً آخر من ماهية الرطوبة لها طور خاص في ذلك كما يقبل القوة الناطقة متىٰ نالت الرطوبة أو حضرتها في ذاتها شيئاً آخر من ماهية الرطوبة وطبيعتها من حيث هي ، ولها ظهور آخر عقلي فيه بنحو وجود عقلي مع هوية عقلية ، فانظر حكم تفاوت النشآت في ماهية واحدة لصفة واحدة ، كيف فعلت وأثرت في موضع الجسم شيء وفي قوة أُخرى شيئاً آخر ، وفي جوهر شيئاً آخر وكلّ من هذه الثلاثة حكاية للآخرين ، لأنّ الماهية واحدة والوجودات متخالفة ، وهذا القدر يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعد الله ورسوله أو توعد عليه في لسان الشرع من الصور الأُخروية المرتبة على الاعتقادات الحقّة أو الباطلة أو الأخلاق الحسنة والقبيحة المستتبعة للذات والآلام إن لم يكن من أهل المكاشفة والمشاهدة.
ثمّ إنّه ضرب مثالاً آخر لتقريب ما رام إليه ، وقال :
إنّ شدة الغضب في رجل توجب ثوران دمه ، واحمرار وجهه ، وحرارة جسده ، واحتراق موادّه ، على أنّ الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام وقد صارت هذه الجهات والعوارض الجسمانية نتائج لتلك الصفة النفسانية في هذا العالم ، فلا عجب من أن يكون سورة هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الأُخرىٰ نار جهنم التي تطّلع على الأفئدة فاحترقت صاحبها كما يلزم هاهنا عند شدة ظهورها وقوة تأثيرها إذا لم يكن صارف عقلي أو زاجر عرفي يلزمها من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر ربما يؤدي إلى الضرب الشديد والقتل لغيره بل لنفسه ، وربما يموت غيظاً فإذا تأمل أحد في استتباع هذه الصفة المذمومة لتلك الآثار فيمكن أن يقيس عليها أكثر الصفات المؤذيات والاعتقادات المهلكات وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها يوم الآخرة من النيران وغيرها ، وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق والاعتقادات وكيفية استنباط النتائج والثمرات من الجنات والرضوان والوجوه الحسان. (15)
تجسّم الأعمال من منظار العلم
ما ذكرناه سابقاً كان تحليلاً لتجسّم الأعمال من زاوية العقل والفلسفة الإسلامية ، فحان البحث عنه من منظار آخر وهو منظار العلم.إنّ تجسم الأعمال أُرسي علىٰ قواعد ثابتة وهي :
انّ المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، المادة عبارة عن الطاقات المتراكمة ، وربما تتبدّل المادة في ظروف خاصة إلى الطاقة ، فتكون الطاقة وجوداً منبسطاً للمادة ، كتبدّل مادة الغذاء الذي يتناوله الإنسان إلىٰ حركة ، وكتبدّل وقود الحافلات إلىٰ طاقة حركية.
إنّ مفهوم حفظ الطاقة أحد المفاهيم الأساسية الذي يكون حاكماً علىٰ كافة الظواهر الطبيعية ، بمعنى انّ كافة التفاعلات والتحولات التي تحدث في عالم الطبيعة لا تخرج عن هذا الإطار العام وهو انّ عموم الطاقة لا يتغير فيها أبداً.
فالطاقة يمكن أن تتبدّل إلى أنواع مختلفة ، وهذه الأنواع تشمل الطاقة الحركية ، الحرارية ، الكهربائية ، الكيميائية ، والنووية. (16)
حقيقة العمل من الإنسان
كلّ عمل يقوم به الإنسان ـ سواء كان طاعة أو معصية ـ يعدّ جزءاً من عالم المادة وليس له حقيقة إلاّ تبدل جزء ضئيل من المادة إلى طاقة حركية ، فتعود حقيقة العمل في الإنسان إلىٰ تبدل المادة إلى طاقة.إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ تجسّم الأعمال يبتني علىٰ قواعد أربع :
1. حقيقة العمل هو تبديل المادة إلىٰ طاقة.
2. الطاقة الموجودة في العالم ثابتة لا تتغير.
3. المادة والطاقة حقيقتها واحدة.
4. كما أنّ المادة تتبدّل إلى الطاقة فهكذا تتبدّل الطاقة في ظروف خاصة إلى المادة.
فهذه المقدمات تنتج انّ تجسم الأعمال الذي ترجع حقيقته إلى تبدّل الطاقة إلى المادة أمر ممكن وإن لم يكن واقعاً في عالم الطبيعة ، ولعلّ العلم سيحقق هذه الأمنية ، ولكن القرآن الكريم طرح هذه المسألة قبل 14 قرناً يوم لم يكن للإنسان أي معرفة بها. غير انّ الأكابر من علماء الإسلام وصلوا إليها عن طريق المكاشفة ودراسة الأُصول الفلسفية.
نعم ما ذكرناه إنّما هو صورة ضبابية لما يتحقق في النشأة الأُخرىٰ ، ولا يمكن للإنسان الذي هو رهين عالم المادة أن يتصور ما يحدث خارج عالمه على وجه تام.
سؤال وإجابة
إنّ ما دلّ من الآيات والروايات على تجسّم الأعمال ممّا لا غبار عليه ، وانّ الإنسان يجزى من خلال تجسّم عمله الصالح أو الطالح وتمثّله بصورة النعمة والنقمة فيتنعّم به المؤمن ، ويعذّب به الكافر.لكن بقي سؤال : وهو انّ طائفة من الآيات دلت علىٰ أنّ الجزاء يوم القيامة أمر جعلي أشبه بمجازات المجرمين أو بإثابة المطيعين ، فعلىٰ ذلك يكون الجزاء أمراً خارجاً عن نطاق عمل الإنسان بل مفروضاً عليه من الخارج.
وبعبارة أُخرى : انّ القول بأنّ الجزاء يكمن في تمثّل عمل الإنسان بالجنة والنار يخالف مع ما دلّت عليه بعض الآيات من وجود جنة وجحيم خارج إطار عمل الإنسان من خير وشر ، وإنّما خلقهما الله سبحانه للمطيعين أو المذنبين قبل أن يخلق المطيع والعاصي ، فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من الآيات ؟
والجواب : انّ القرآن الكريم نزل من الله سبحانه : علىٰ قلب سيد المرسلين دون أن يكون فيه أي اختلاف ، وذلك آية انّه كلام الله سبحانه المنزّه من الخطأ والاشتباه والتناقض والتعارض ، يقول سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ).
وعلىٰ ضوء ذلك فلا مانع من أن يكون هناك نعمة ونقمة من خلال تجسّم الأعمال وتمثّلها ، وجنة ونار خارجين عن إطار عمل الإنسان وفعله ، فالجزاء الأوّل أمر تكويني يلازم وجود الإنسان ، والثاني أمر جعلي مفروض عليه حسب ما اكتسب من الحسنات والسيّئات.
سؤال آخر وإجابة
إنّ حقيقة تجسّم الأعمال ترجع إلى أنّ الإنسان حسب اكتساب الطاعات أو اقتراف السيئات يخلق ملكات حسنة أو سيئة تبعاً لها على نحو تكون تلك الملكات جزء وجوده وصميم ذاته ، ومن الواضح بمكان انّ كلّ ملكة تستتبع مقتضاها ، فالملكة الحسنة تستتبع صوراً مثالية حسنة أو صوراً مثالية قبيحة يتلذّذ بها أو يتعذّب وليست خلاّقية الملكات لهذه الصور فعلاً اختيارياً ، بل لم تزل خلاّقة للصور حسب مقتضاها.وإذا كانت الصور المثالية أمراً تكوينياً من لوازم وجود الإنسان بحيث لا ينفك عن وجوده مهما نزل أو سكن ، فما معنى الشفاعة التي تمحو المجازات الجعلية المفروضة عليه من خارج وجوده ؟
والجواب : انّ الملكات المكتسبة وإن كانت خلاّقة للصور المثالية جميلة كانت أو قبيحة شاء أم أبىٰ ، لكن ثمة مرتبة من الشفاعة تؤثر في صميم الإنسان
وذاته بنحو تؤثر علىٰ ملكاته السيئة وليس تأثير الشفيع في ملكات المشفوع له بأصعب من تأثير دعاء النبي صلی الله عليه وآله وسلم عند الاعجاز في عالم الكون حيث يعود ـ بفضل دعائه ـ الميت حياً والأعمى بصيراً والسقيم صحيحاً ، فكما انّ دعاء النبي وإرادته تؤثر في التكوين ، فهكذا الحال في شفاعة النبي في الآخرة تؤثر في الملكات السيئة وتقلبها رأساً علىٰ عقب.
ونظير ذلك دعاء المذنب في هذه الدنيا واستغفاره قبل الموت حيث إنّه يؤثر فيما اكتسب من الملكات ويقلبها إلىٰ غيرها.
وحصيلة البحث : انّ تأثير الملكات في الصور المثالية يتم علىٰ نحو المقتضي لا العلة التامة ، فهي تؤثر مادام العامل الخارجي وإلاّ فلا ، وبذلك يمكن الجمع بين القول بالشفاعة وتجسّم الأعمال.
المصادر :
1- منظومة السبزواري : 347 ، الفريدة الرابعة من المقصد الثالث.
2- الكافي : 2 / 332 ، باب الظلم من كتاب الكفر والإيمان ، الحديث 11.
3- البرهان : 4 / 87 في تفسير قوله ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) من سورة الزمر.
4- أمالي الصدوق : المجلس الأوّل ، الحديث 4.
5- نهج البلاغة : قسم الحكم : الحكمة 6.
6- الكافي : 2 / 333 ، باب الظلم من كتاب الإيمان والكفر ، الحديث 15.
7- الكافي : 3 / 255 ، باب النوادر من كتاب الجنائز ، الحديث 17.
8- الكافي : 3 / 241 ، باب ما ينطق به موضع القبر من كتاب الجنائز ، الحديث 1.
9- البحار : 7 / 197 ، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 69.
10- المحاسن للبرقي : 1 / 288 ، الحديث 432.
11- أمالي الصدوق : 12 ح 4 ، المجلس الأوّل.
12- مجمع البيان : 1 / 431 ، ط صيدا.
13- البحار : 7 / 229 ، باب أحوال المتقين من كتاب العدل والمعاد.
14- البحار : 7 / 229 ـ 230 ، باب أحوال المتقين من كتاب العدل والمعاد.
15- المبدأ والمعاد : 341 ـ.343
16- دائرة المعارف البريطانية : 6 / 894.