الإمام علي بن أبي طالب معين شرعيا ليكون وليا للأمة بعد وفاة نبيها، وقد أعلنت هذه الولاية أمام ماءة ألف أو يزيدون، وقال له النبي أنت الولي من بعدي، ومن كنت وليه فهذا وليه، وخاطب المسلمين قائلا: إنه وليكم بعدي، وإنه مولى كل مؤمن ومؤمنة بعدي، وقال الرسول: هذا سيد العرب. وقال: أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي، وقال على مسمع كل مؤمن ومؤمنة: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
تلك أمور ومراتب لم يقلدها النبي لأي شخص على الإطلاق، وعندما أرسل رسول الله أبا بكر ومعه سورة براءة ليبلغها إلى المشركين أثناء الحج، أرسل على أثره عليا ليأخذ السورة من أبي بكر ويبلغها هو، وعند عودة أبي بكر استفسر من رسول الله عن سبب أخذ السورة منه فقال رسول الله: لا يؤدي عني إلا أنا أو علي أو رجل مني! وقد وثقنا ذلك في البحوث السابقة، وفي كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام خصصنا بابا كاملا للقيادة السياسية، كذلك في كتابنا النظام السياسي في الإسلام.
تلقين المجتمع المسلم
تلقن المجتمع المسلم تلقينا، وتعددت صور القرار الإلهي بهذه الناحية، حتى أصبحت مفهومة للعامة والخاصة، للمهاجر والطليق، فكل الناس على علم بأن الولي من بعد النبي هو علي، فلم يصادف على الإطلاق أن أمر رسول الله على علي أحدا.أعدى أعداء علي على ذلك من الشاهدين
أعدى أعداء رسول الله هو أبو سفيان وولده خاصة، وبنو أمية عامة، فقد قاد أبو سفيان حرب الشرك ضد الإيمان ثماني سنوات، وحارب الرسول بكل وسائل الحرب، حتى أحيط به فاستسلم وأسلم.
وبعد موت رسول الله وقف معاوية بن أبي سفيان خاصة والأمويون عامة ضد علي وحاربوه بكل وسائل الحرب، وغالبوه فغلبوه، فشهادة معاوية حجة عليه، وحجة للإمام، وحجة على شيعة القوة المتغلبة.
والنص الحرفي لشهادة معاوية للإمام علي في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم، وفي مروج الذهب للمسعودي حيث أوردا النص الحرفي لرسالة معاوية بن أبي سفيان لمحمد بن أبي بكر الذي تشيع للإمام علي ووالاه، حيث قال معاوية وبالحرف مخاطبا ابن أبي بكر:
(وقد كنا وأبوك في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا..... إلخ.
فلما اختار الله لنبيه ما عنده... فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه، وعلى ذلك اتفقا واتسقا.... إلخ.)! (1)
تتضمن شهادة معاوية
1 - إن المسلمين كانوا يرون حق علي ابن أبي طالب بالإمامة لازما لهم ولا مفر منه، وأن فضل علي كان مبرزا على المسلمين.2 - إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا أول من ابتزه هذا الحق وعلى ذلك اتفقا واتسقا... بمعنى أن حق علي بالخلافة والإمامة قد ترسخ في المجتمع المسلم، وأن المجتمع المسلم كان يعتقد أن هذا الحق لازم وملزم له. وأن فضل علي على الجميع كان مبرزا، وتميزه عن الجميع كان واضحا، فلما توفي النبي انقض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على هذا الحق فابتزاه على حد تعبير معاوية، وعلى هذا الفضل فطمساه، وعلى هذا التميز فأزالاه!
الإمام علي يشهد لنفسه كما شهد عدوه معاوية له
قال الإمام علي كما جاء بالجزء الثالث صفحة 69 من شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد (اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيره، وقالوا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تمنعه....!وعندما انتقلت إليه الخلافة قال (الآن رجع الحق إلى أهله، ونقل إلى منتقله،) (2)
وقال مرة مفندا حجة خصومه (وقال قائل إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص، فقلت بل أنتم والله لأحرص وأنا أخص وأقرب، إنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني...!) (3)
وقال مرة (أصفيتم بالأمر غير أهله، وأوردتموه غير مورده) (4)
وقال مرة أخرى (حتى إذا قبض الله رسوله، رجع قوم على الأعقاب وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة...!) مجلد 3 صفحة 222
مضمون شهادة الإمام لنفسه
أنت تلاحظ أن شهادة الإمام علي لنفسه تطابق تمام المطابقة شهادة عدو الإمام معاوية للإمام، وهي أن لإمام حق بالإمامة، وأن هذا الحق قد ابتز منه، وأنه كان هنالك اتفاق واتساق على ابتزاز هذا الحق!الشهادتان موافقتان لحكم المنظومة الإلهية
إقرار معاوية بأن الإمام علي هو صاحب الحق اللازم على الأمة، واحتجاج الإمام علي بأنه هو صاحب الحق، وقد نازعوه هذا الحق وأخذوا منه بالقوة وأنهم يحولون بين الإمام وبين حقه بالإمامة، هذا يتفق من حيث النتيجة مع المعلوم من أحكام المنظومة الإلهية التي تؤكد بأن الولي من بعد النبي هو علي فهو مولى المؤمنين مجتمعين، ومولى كل مؤمن ومؤمنة على انفراد، ومن لم يكن علي مولاه فليس بمؤمن حقا، وأن مقام ومنزلة علي من النبي هي بمنزلة هارون من موسى، إلا أن عليا ليس نبيا. وأنه لا يؤدي عن النبي إلا علي.
فكل الدلائل تشير صراحة وضمنا أن القائم مقام النبي بعد موت النبي هو علي.
واختيار الشارع الحكيم لكلمة (الولي) لها دلالات هائلة فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ونساؤه أمهاتهم.
وما يتبادر إلى الذهن عند ذكر الأم هو ذكر الأب، ولكن للأب حدودا لا يتعداها، فالأب ليس أولى من ابنه بنفسه، ولكن النبي أولى من كل مؤمن من نفسه، فعلي كولي يتمتع بحقوق الولاية تامة، ألا إنه ليس نبيا، وبغير هذه المكانة يتعذر عمليا على الإمام أن يمارس صلاحيته.
الأمة سارعت ورضيت بحق علي بالولاية
الأمة بأكثريتها الساحقة اعتبرت أن حق علي بالولاية ملزم لها، ولازم عليها، وفضله مبرز عليها، على حد تعبير معاوية وكأن ولاية علي كنبوة النبي، خارجة تماما عن أهواء البشر.وهكذا استقامت الأمور، وحلت أعظم مشكلة وهي رئاسة الدولة، فعندما ينتقل الرسول إلى جوار ربه، تكون قواعد الشريعة مكتملة، والأمور مستقرة في نصابها، ويحل محل النبي علي، فيتولى قيادة الأمة السياسية، ويتولى مرجعيتها الدينية، لأنه الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب حسب التشخيص الإلهي، والمعلن على لسان النبي، وترتاح الأمة لأن إمامها متميز بصفاته عن الجميع، ومشهود له من الله ونبيه.
رفض الشرعية
إذا سلمت الأمة بحق علي بالولاية، واعتبرت هذا الحق لازما لها وملزما، فإن قريشا في نفسها من هذا الحق شئ، فقد قاومت هذه البطون دعوة النبي 13 سنة، وشكلت هذه البطون جيشا حارب النبي ثماني سنوات، ثم سلمت مكرهة بنبوة محمد الهاشمي، وعندما أعلن النبي ولاية علي استكثرت هذه البطون على الهاشميين أن يجمعوا النبوة والملك، وأن يحوزوا الفضلين معا، ولكن تجربة هذه البطون الطويلة مع النبي، وحروبها المتوالية مع الولي علمتها أن لمعصيتها ضريبة لا تقوى تلك البطون على دفعها مرتين، لذلك سلمت بالأمر بالواقع، واختارت الدعة وتمنت لو أن أقدارا خفية تغير على الأقل ولاية علي الهاشمي بعد أن أصبحت نبوة النبي قدرا من الأقدار لا طاقة على تغييره!
وبالتالي فإن البطون مهيأة نفسيا لمناصرة أي فارس يخرج من بين الصفوف ويتمرد على هذه الترتيبات التي جمعت للهاشميين النبوة والخلافة.
ولا ريب بأن بطون قريش لم تعارض هذا الترتيب علنا أثناء حياة الرسول.
البطون تعقد الآمال على أبي بكر وعمر لقيادتها
أبو بكر شخصية مرموقة، وبانتصار دعوة الإسلام أصبح عميد بطن بني تيم بغير منازع، وذاع صيته أثر هجرته مع النبي، وعلا مقامه لمصاهرته للنبي، حيث تزوج ابنته عائشة، وأسلم على يديه ثمانية من أولئك الذين قال عمر بن الخطاب عنهم بأنهم من المبشرين في الجنة، وحصر القيادة فيهم.إنه لا يعقل أن يترأس الولي علي على أبي بكر، صحيح أن هاشما وبكل الموازين خير من تيم، وأن عليا كنفس رسول الله ولا يؤدي عن الرسول إلا علي كما أخبر رسول الله أبا بكر بالذات عندما أخذ منه سورة براءة وأعطاها لعلي، ولكن أبا بكر رجل كبير السن وعلي فتى، فهل من المعقول أن يترأس هذا الفتى على مشيخة قريش؟
وهل من المعقول أن يكون هذا الترتيب من الله؟ أم المعقول أنه ترتيب خاص رتبه النبي من تلقاء نفسه؟
ثم إن النبي بشر يتكلم في الغضب والرضا، فهل ينبغي أن تحمل كل أقوال النبي على محمل الجد والتصديق؟
هذه الأسئلة وعشرات من أمثالها كانت تتجاوب في نفس أبي بكر، ولكن الرجل ميال للآخرة، ومفضل للآجلة على العاجلة، يؤثر السلامة، ويكره المواجهة، ويحب رسول الله حقا، فلم يبد أي اعتراض علني على ولاية الإمام علي يوم أعلنها النبي في غدير خم، بل وبادر مع عمر بن الخطاب وقدما التهاني للإمام.
ولكن التساؤلات السابقة لم تبرح خياله، ولم تغادر نفسه، وهو مهيأ نفسيا لقبول فارس من عالم الغيب يقوده مع بطون قريش للخروج على هذا الترتيب، لكنه ليس مستعدا أن يقود المواجهة مع علي خاصة، ومع أهل البيت الكرام عامة، إكراما للنبي، واحتياطا لدينه.
العملاق عمر بن الخطاب
لنفترض أن بطون قريش كلها سلمت بحق علي بالولاية، وأيدت مبدأ جمع الهاشميين للنبوة والخلافة، فهل يقبل عمر بن الخطاب بهذا؟ وهو ابن البطون البار الذي يعلم حقيقة تفكير البطون والذي انبرى ليعبر عن مشاعر تلك البطون، وساعده على ذلك أن صيته قد ذاع بالإسلام وأن مكانته قد ارتفعت بالإسلام، وأن مقامه قد علا بمصاهرته لرسول الله، ولفت الأنظار إلى ذاته بكثرة معارضاته لرسول الله، فأصبح عميد بطن بني عدي، وموضع ثقة كل بطون قريش التي دخلت في الإسلام يوم أحيط بها، وموضع إعجاب الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، فقد تعجبوا من جرأة هذا الرجل على رسول الله.ومع هذا فإن عمر بن الخطاب على كثرة معارضاته للرسول لم يعارض عندما أعلن الرسول ولاية علي بن أبي طالب، بل تقدم مع أبي بكر وقدما معا التهاني للولي بالولاية، ولم يظهر أي نوع من المعاندة والمعارضة على حد علمي، فقد اكتشفت بأن معارضة هذا القرار بذلك الوقت بالذات قد تزيد القرار ترسيخا، وأن احتجاجه على هذا الترتيب قد يؤدي إلى ترتيب جديد يثبت الأول، وأدرك أن المعارضة والاحتجاج وحدهما لا يكفيان، وأنه لا بد من إعداد العدة والتدبر والتخطيط المحكم، ثم تأتي بعد ذلك المعارضة وتتوج بالنجاح.
ويبدو جليا من استقراء الأحداث أن هذا الرجل العملاق هو الذي قاد عملية تكفيك الترتيبات الإلهية، وإيجاد الترتيبات الوضعية الجديدة.
المواجهة وطريقة ضرب الشرعية
علي بن أبي طالب ولي الله بالنص، وعلم الأمة بعد النبي بالنص، وصاحب الحق الشرعي ليقوم مقام النبي بقيادة الأمة سياسيا ومرجعيتها دينيا، وهو لن يتنازل عن هذه الحقوق بالرضا، لأنها حقوق خصه الله تعالى بها، وأعلنها نبي الله أمام المسلمين، وشاعت هذه الحقوق بينهم، فالكل يعرف مكانة علي بعد النبي، وفضله المتميز على الجميع، وحقه المسلم به من الجميع، بما فيهم معاوية وآل أمية أجمعين.ولكن بطون قريش وعلى رأسهم عمر بن الخطاب وأبو بكر بدرجة أقل ومن شايعهم من الأنصار، يريدون أن يأخذوا هذا الحق من صاحبه، لأكثر من سبب.
لكن عملية أخذ الحق من صاحبه أو تجريد صاحب الحق من حقه، تحتاج إلى وسيلة شرعية، وتحتاج إلى مبرر شرعي.
ومبرر التجريد غير وارد شرعا لأن الله تعالى هو الذي تفضل بهذا الحق وأعطاه لعلي، ولأن ولاية علي قد أعلنت بأمر من الله تعالى، ولأن ماءة ألف حاج من الأمة شهود على ذلك! لذلك لا بد من البحث عن خطة محكمة!
الطريق الوحيد لتجريد الإمام من الولاية هو القوة والتغلب
لا حل أمام الذين يريدون إلغاء الترتيبات الإلهية، وتجريد الإمام علي من حقه بالولاية وابتزاز هذا الحق، لا حل أمامهم غير استعمال القوة والتغلب، وبالقوة يعزل صاحب الحق عن حقه عمليا، ويعزل عن الأمة التي يمكن أن تدعمه ليحتفظ بحقه!والتخطيط المحكم والتدبير المتروي لإعداد القوة، والإخراج المتقن، حتى يكون ابتزاز الحق بأقل كلفة ممكنة، وبدون معارضة تذكر!
وهذا ما تعهد به وأعد له عمر بن الخطاب ، فاستجابت له بطون قريش، وبدأ به عمر والنبي بكامل عافيته، ثم أعلن ذلك، ودخل بمواجهة علنية صاخبة حول هذا الموضوع مع النبي نفسه، ولكن عندما كان على فراش الموت عندما قال النبي لمن حوله:
قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتصدى عمر للنبي وقال: (حسبنا كتاب الله) وردد الحاضرون من حزب عمر قائلين: القول ما قاله عمر!!
هل نبتت هذه القناعة في قلوبهم من لحظتها!
ما المنفر من قول رسول الله: قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا!
وما هو المقنع في قول عمر: (حسبنا كتاب الله)!
ثم من الذي جعل عمر بمستوى النبي!
وما الذي ميزه عن النبي حتى يرجح قوله بقول النبي!! ويتبع ويعصي النبي!
إن هذا لأمر عجاب!
ولا جواب مقنع على هذه التساؤلات سوى التخطيط المسبق، والتدبير السابق، والاتفاق المبيت لتجريد الإمام من ولايته، وابتزاز حقه على حد تعبير معاوية، وطمس فضله والاستيلاء على السلطة بالقوة والتغلب!
وما هذه المواجهة مع النبي إلا مقدمة لما سيأتي، واستعراض للقوة التي تم إعدادها بالفعل، وتنفيذ للخطة التي رسمها!
وقد وثقنا أكثر من مرة تفاصيل مواجهة عمر بن الخطاب وحزبه للنبي في الحجرة المباركة.
إذا فإن الوسيلة الوحيدة لإلغاء الترتيبات الإلهية المتعلقة برئاسة الدولة وتجريد الولي من حقه الشرعي بالولاية، هي القوة والتغلب!
تبرير استعمال القوة وإلغاء الترتيب الإلهي المتعلق برئاسة الدولة
عمر بن الخطاب الذي جمع القوة، واستعرضها أمام النبي في حجرته المباركة، وخطط لتجريد الولي من ولايته، يعلم علم اليقين أن النبي قد أعلن ولاية علي أمام ماءة ألف حاج، ويعلم علم اليقين أنه قد قدم التهاني للولي بالولاية وقال للإمام: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو يعلم علم اليقين أن عليا هو عميد أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأنه سيد بني هاشم بعد النبي بغير منازع، وهو يعلم علم اليقين أيضا أن منزلة علي من النبي كمنزلة هارون من موسى، وأن لدى الإمام علما لدنيا فهو المخول ببيان ما تختلف فيه الأمة من بعد النبي!وقد شاهد عمر بن الخطاب في كل معارك الإيمان الإمام عليا وهو يصول ويجول ويتنمر في ذات الله، ويستعرض قوة بدنية خارقة، جعلته فارس العرب والمسلمين قاطبة.
كما يعلم عمر أن عليا داخل في آية المباهلة وهو كنفس النبي.
ولا يخفى على عمر بأن عليا هو زوج فاطمة الزهراء ابنة النبي الغالية، وهو والد سبطيه الوحيدين.
كما يعلم أنه لا يؤدي عن النبي إلا النبي أو علي، هذا ما قاله النبي لأبي بكر أمام عمر عندما أخذ منه علي سورة براءة، بناء على أوامر الله تعالى.
هذا معلوم بالكامل من عمر بن الخطاب.... ولكن بالمقابل فإن عمر بن الخطاب يعتقد أن الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضا، مما يعني أن كلام الرسول لا ينبغي أن يحمل كله على محمل الجد وقد وثقنا ذلك.
ربما كان يعتقد أن إعلان النبي لولاية علي يوم غدير خم لم تكن تنفيذا لأمر إلهي، إنما أعلنها الرسول من تلقاء نفسه، وبناء على تقديراته كبشر، أو بتعبير بطون قريش أنه أعلنها وهو في حالة غضب أو بتعبير علماء شيعتهم فيما بعد أعلنها اجتهادا من عند نفسه، وليس عن وحي!
وهو يعتقد أن معنى قوله تعالى على لسان النبي (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) إنما يتعلق ذلك بوحي القرآن، وما تبقى من أقوال النبي وأفعاله وتقريراته فهو موضع مسألة، فهو قابل للاعتراض، وقابل للاحتجاج، وقابل للتقويم، حسب رأي عمر، وسجل احتجاجات عمر واعتراضاته المتلاحقة على رسول الله دليل على ذلك!
مثال من سجل اعتراضات عمر
لما وقع النبي اتفاقية صلح الحديبية قام عمر بن الخطاب غاضبا وقال: لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا، فهو يعتقد - كما يفهم من كلامه - أن رسول الله عندما وقع صلح الحديبية أعطى الدنية، ولو كان بوسع عمر أن يجد أعوانا لما وافق على الصلح الذي وافق عليه رسول الله، ولألغاه وأبطله بالقوة.وحاول أن يستميل أبا بكر إلى صفه فقال له: يا أبا بكر، ألم يكن وعدنا أننا سندخل مكة؟ فأين ما وعدنا به؟ (يقصد أن الرسول قد وعد المسلمين بدخول مكة) فقال أبو بكر: أقال لك أنه العام يدخلها؟ قال عمر لا، قال أبو بكر: فسيدخلها.
فقال عمر ما هذه الصحيفة التي كتبت؟ وكيف نعطي الدنية من أنفسنا؟
فقال أبو بكر: يا هذا الزم غرزه فوالله إنه لرسول الله، وإن الله لا يضيعه!
فلما كان يوم الفتح، وأخذ رسول الله مفتاح الكعبة قال: ادعوا لي عمر، فجاء فقال الرسول: هذا الذي كنت وعدتكم به، (5)
تلك طبيعة الرجل الذي جمع القوة وجمع بيده كل أسبابها، فهو يعتقد أن الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضا، وأن كل ما يقوله أو يفعله أو يقرره ليس بالضرورة صحيحا، ولعله في صلح الحديبية تذكر أهمية الأعوان، وبدء بالإعداد للإكثار من الأعوان، حتى يقوم كلما يعتقده معوجا، وحتى لا يضطر أن يعطي الدنية على حد تعبيره، فيضطر لقبول ما يقبله الرسول.
هذا الرجل العملاق هو الحاكم الفعلي والحكم
في حجرة النبي أبرز عمر بعض قوته، وبموت الرسول وانشغال الآل الكرام بمصابهم، خلا الجولة فنفذ خطواته خطوة خطوة، وعين الخليفة! كان بإمكان عمر أن يعين أبا عبيدة خليفة بدلا من أبي بكر، لأن أبا بكر كان غائبا عندما مات الرسول، ولأن عمر يرغب بأن يكون أول خليفة هو أبو بكر، شغل الناس بمقولته أن الرسول قد غاب وسيرجع، وتهدد ومن خلفه أعوانه بالويل وتقطيع أيدي وأرجل من يزعم موت النبي!فلما جاء أبو بكر ترك مقولته وتوجه إلى الأنصار، وقد قدر أن تولية أبي بكر أولا أقوى لحجته، وأدحض للشبهات عنه، وبعد استقرار الأمور يعهد أبو بكر إليه بالخلافة فيأتيه ملكا مستقرا!
وقد فهم الولي ذلك في ما بعد فقال لعمر: إحلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا!
ومن ناحية ثانية حتى في عهد خلافة أبي بكر فإن القول الفصل كان لعمر!
عمر يتفل على قرار الخليفة ويمحوه والخليفة يشهد أن عمر هو الذي عينه
الكتاب الذي كتبه أبو بكر لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، أخذاه لعمر يشهد عليه، فلما قرأ الكتاب أخذه منهما ثم تفل فيه ومحاه... فرجعا إلى أبي بكر وقالا له: والله ما ندري أأنت أمير أم عمر؟ فقال أبو بكر بل هو لو شاء كان!فجاء عمر إلى أبي بكر وقرعه على هذا الكتاب، فقال أبو بكر: كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني، لكنك غلبتني! (6)
عمر القوي يقرر ويرسم مستقبل النظام ، قرر عمر أن الإمامة أو الخلافة بحد ذاتها ضرورة من ضرورات الإسلام، وأنه لا غنى للمسلمين عنها. وقرار عمر في هذه الناحية متفق مع الشرعية نصا وروحا ثم قرر عمر أن الولي الذي عينه الله ورسوله ليشغل منصب الإمامة والخلافة ليس مناسبا ولا لمصلحة المسلمين لأكثر من سبب وبالتالي فقد قرر تجريده من حقه بالولاية أو الخلافة!
وحسب الترتيبات الإلهية فإنه إمام الأمة وخليفتها يجب أن يكون من أهل بيت النبوة بوصفهم القاسم المشترك بين كل المسلمين، ولأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ولأنهم أهل العلم والذكر.... وجاء عمر وقرر عدم أهلية أهل البيت الكرام للإمامة أو الخلافة، وعدم استحقاقهم للزعامة والولاية، لأنهم من بني هاشم، وقد أخذ الهاشميون النبوة فلا ينبغي أن يجمعوا مع النبوة الخلافة، بل يجب أن تكون الإمامة أو الخلافة لبطون قريش تتداولها في ما بينها، ولا مانع لديه من أن تؤول الخلافة إلى الأنصار وإلى الموالي، فسالم مولى أبي حذيفة لو كان حيا لولاه عمر الخلافة، مع أنه لا يعرف لسالم هذا نسب في العرب! ولكن يحظر حظرا تاما أن يتولى أحد من أهل البيت الإمامة، ويحظر أن يولي أي هاشمي أي ولاية حتى لا يدعو لأهل البيت أو لبني هاشم في ما بعد ويخرب ترتيبات عمر لعهد ما بعد النبوة!
من الذي أعطى عمر هذه الصلاحيات لإصدار هذه القرارات الخطيرة؟
هل هو وحي على المسلمين؟ هل خولته الشريعة الإلهية رسم مستقبل النظام السياسي أعطته صلاحية لإلغاء الترتيبات الإلهية ووضع ترتيبات وضعية بديلة لها؟أو بتعبير أدق على ماذا استند عمر حتى أصدر هذه القرارات الخطيرة؟
سند عمر الوحيد لاتخاذ هذه القرارات هو القوة والتغلب، فقد جمع حوله الأعوان، وأعد للأمر عدته وأصبح مالكا لكل خطوط القوة، وتحت إمرته حزب حقيقي يعمل وفق توجيهاته، وبالتالي فإنه هو الذي يعين الخليفة، وهو القادر على تقريع الخليفة، وعلى أن يتفل في قراراته ويمحوها إن لم يرها مناسبة!
ثم هو الذي يحدد من يتولى الخلافة من بعده!
ثم إنه وحده الذي يستطيع أن يحظر على المسلمين كتابة ورواية أحاديث النبي ولا يجرؤ أحد أن يعترضه!
ثم إنه بالقوة كون لنفسه مهابة حتى صارت أفعاله وأقواله وتقريراته سنة فعلية لها من المهابة أكثر مما لسنة النبي صلی الله عليه وآله وسلم !
فقد يعترض على النبي ويقول للنبي نفسه، أنت تهجر!! ومع هذا لا يندهش أحد، ولا يلومه أحد، ولا يعلق على هذه الحادثة أحد، كأن قول عمر هو القول الفصل!
قالوا عن النبي النبي صلی الله عليه وآله وسلم إنه كان يسب ويلعن ويشتم من لا يستحقها! وقالوا عن النبي إنه كان يسقط من آيات القرآن! وقالوا عن النبي النبي صلی الله عليه وآله وسلم إنه يتكلم بالغضب والرضا ولا ينبغي أن تحمل كل أقواله على محمل الجد! وقد وثقنا ذلك، وقد نقلوا هذه الأقاويل ببساطة وهي عند الله عظيمة، ومع هذا لم يقل أحد عن عمر شيئا!
إن له مكانة تفوق مكانة الأنبياء في قلوب شيعة الخلفاء، مع أن عمر لا يمكن أن يقبل ذلك لو كان حيا.
مقاصد عمر شريفة
كما يبدو واضحا أن عمر كان يقصد مصلحة الإسلام، ومصلحة المسلمين. ومن المؤكد أنه يؤمن إيمانا كاملا بأن الرسول قد بلغ الناس القرآن الكريم كما أوحي إليه من ربه. ولا شك ولا ريب عند عمر بذلك. فالرسول النبي صلی الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى بما يتعلق بالقرآن.لكنه كما يبدو يؤمن إيمانا مطلقا أنه ما عدا القرآن الكريم، فإن كل أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته تصدر عن الرسول بصفته الشخصية كبشر، وأن ما يصدر عن الرسول يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب، وعمر وحده هو القادر على تمييز الخطأ من الصواب!!
قبل رسول الله صلح الحديبية ووقعه، ولكن عمر كان يعتقد أن التوقيع على صلح الحديبية بهذه الشروط دنية، وأنه ما كان ينبغي لرسول الله النبي صلی الله عليه وآله وسلم أن يوقع هذا الاتفاق ولا أن يقبل به، وأنه لو كان لعمر أعوان ما أعطى الدنية أبدا، لماذا لأن عمر اعتقد أن الرسول قد وقع الاتفاقية كبشر، وأن هذه الاتفاقية ليست من مصلحة الإسلام، واكتشف أهمية الأعوان يومها.
وعندما أعلن الرسول ولاية علي أمام ماءة ألف حاج، قدم عمر التهاني للإمام، معتقدا أن الرسول قد أعلن هذه الولاية من تلقاء نفسه.
ثم فكر عمر بمصلحة الإسلام والمسلمين، فرأى أنه ليس من المناسب أن يكون النبي من بني هاشم وأن يكون الخليفة من بني هاشم، وأن تحرم بطون قريش كلها من فضل النبوة وفضل الخلافة، وانتظر عمر حتى مرض رسول الله واختار عمر المواجهة بهذه اللحظة، فعندما قال النبي قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتصدى له عمر على الفور وقال للنبي: لا حاجة لنا بكتابك (حسبنا كتاب الله)!
وما أن أتم عمر قوله حتى قال من حضر من حزب عمر وبصوت واحد: القول ما قاله عمر!
ولما كرر الرسول طلبه، قال عمر: إن رسول الله النبي صلی الله عليه وآله وسلم قد هجر، وردد أعوانه: إن رسول الله قد هجر!! وقد وثقنا ذلك.
وقد تصور عمر أن رسول الله يريد أن يصرح باسم علي ثانية فمنعه من التصريح وشوش عليه، إشفاقا على الإسلام!
قال عمر مشيرا إلى هذه الحادثة كما ذكر الإمام أحمد بن أبي الطاهر في كتابه تاريخ بغداد مسندا، وكما روى ابن أبي الحديد في شرح النهج مجلد 3 صفحة 769 تحقيق حسن تميم ما نصه بالحرف:
ولقد أراد (أي الرسول) في مرضه أن يصرح باسمه (أي باسم علي) فمنعته من ذلك إشفاقا على الإسلام، لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها...!!
عجبا، كأن عمر يعتقد بأنه أشفق على الإسلام من رسول الله النبي صلی الله عليه وآله وسلم!
وكأنه يتصور بأنه أدرى بعواقب الأمور من رسول الله النبي صلی الله عليه وآله وسلم!
والجدير بالذكر أن عمر بن الخطاب كان أول خارج على الإمام من قريش، وأول معارض لولايته، وهو الذي طمع الخارجين بالإمام وجمع المعارضين له!
قال معاوية بن أبي سفيان في رده على رسالة محمد بن أبي بكر ما نصه بالحرف (فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه، وعلى ذلك اتفقا واتسقا). (7)
لقد صرح عمر في صلح الحديبية بأنه لو كان له أعوان لنسف الصلح الذي قبل به رسول الله النبي صلی الله عليه وآله وسلم ، ولأمضى ما يريده، لأن ما يريده عمر هو وحده لمصلحة الإسلام، وهو مضمون العاقبة، أما ما يريده وما يفعله رسول الله فهو موضع شك!
ومن ذلك التاريخ بدأ بتجميع الأعوان، فلما مرض رسول الله واجه الرسول بأعوانه، وشرع بتنفيذ الترتيبات التي اعتقد أنها لمصلحة الإسلام، ثم أسس دولة على أساس هذه الترتيبات، وسخر إعلامها ومواردها لإثبات حجة ترتيباته!!
كيف سكت رسول الله النبي صلی الله عليه وآله وسلم على الرجل حتى استفحل أمره
كان عمر بن الخطاب حرا يعيش في مجتمع الحرية، وعمر مؤمن بالله وبالقرآن وبالرسول، ويعارض ويحتج حتى على الرسول نفسه، والرسول لا يضيق صدرا بالاحتجاج أو المعارضة فهو الحليم صاحب الخلق العظيم، وهو الإمام العادل القدوة، وهو عبد مأمور أن يبلغ الناس ويعلمهم ويعاملهم على ما ظهر منهم فقط، فإذا يتعلم أصحابه فذلك كفيل أن يضع عمر بالمكان الملائم له، لقد سمع الرسول كلما قاله عمر في صلح الحديبية واتسع قلبه العظيم بما قال، وعندما فتح الرسول مكة قال: ادعوا عمر، فلما جاء عمر قال الرسول (هذا ما وعدتكم به) إنه أبلغ رد على أقوال عمر يوم صلح الحديبية، وأبلغ درس لو وعاه عمر.هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي قال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) يقصد أنه هو العزيز وأن رسول الله هو الأذل!
ولما اقترح عليه بعض أصحابه أن يقتل عبد الله بن أبي قال (كيف يقال إن محمدا يقتل أصحابه)!
تلك هي طبيعة العظمة المحمدية، رجل فهم حقيقة الحياة، واستوعب المنظومة الإلهية، فهو لا يعاقب على النوايا، وهو لا يكمم الأفواه، ولا يصادر حقوق الإنسان ، ولا يقع في الظلم، لقد أقام دولته لرفع الظلم، وإشاعة العدل، ورد الحرية للإنسان.
تبريرات عمر لأفعاله
أجمع تبريرات عمر لأفعاله الحديث الذي جرى بينه وبين ابن عباس أثناء خلافة عمر، وأثبت بأدناه النص الحرفي لهذه المحاورة، وكما ذكرها علامة المعتزلة بن أبي الحديد.(قال عمر: يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم؟ قال ابن عباس: لا يا أمير المؤمنين، قال عمر: لكني أدري، قال ابن عباس: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال عمر:
كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتجحفوا جحفا، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت! قال ابن عباس: أيمط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟
قال عمر: قل ما تشاء، قال ابن عباس فقلت: أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت، فإن الله تعالى قال لقوم (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) وأما قولك إنا كنا نجحف، فلو جحفنا بالخلافة جحفنا بالقرابة، ولكننا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله الذي قال الله تعالى له (وإنك لعلى خلق عظيم) وقال له (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) وأما قولك فإن قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) ولقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت قريش.
قال عمر: على رسلك يا ابن عباس، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول، وحسدا عليها لا يحول فقال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين لا تنسب هاشما إلى الغش، فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه، وهم أهل البيت الذي قال الله تعالى لهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وأما قولك وحسدا فكيف لا يحسد من غصب شيئه ويراه في يد غيره؟!
فقال عمر: أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به، فتزول منزلتك عندي؟ قال ابن عباس: وما هو يا أمير المؤمنين، أخبرني به فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به.
قال عمر: بلغني أنك لا تزال تقول أخذ هذا الأمر منكم حسدا وظلما. قال ابن عباس: أما قولك يا أمير المؤمنين حسدا، فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة فنحن بنو آدم المحسود، وأما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو؟ ثم قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله، فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.
فقال عمر: قم الآن فارجع إلى منزلك، فلما قام ابن عباس هتف به عمر: أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك. فالتفت ابن عباس فقال: إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول الله، فمن حفظه فحق نفسه حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع، ثم مضى.
فقال عمر لجلسائه: واها لابن عباس ما رأيته لاص أحدا قط إلا خصمه.
تحليل سريع لهذه المحاورة
1 - عمر يصرح بأن بطون قريش كرهت الترتيب الإلهي الذي جمع لآل محمد النبوة والخلافة معا.2 - إن هذا الترتيب الإلهي مجحف بحق البطون لأنه يعطي الهاشميين النبوة والخلافة وهم بطن من بطون قريش، ويحرم كل البطون الباقية من الفضلين معا.
3 - مع أنه ترتيب إلهي لكن البطون تتذرع بخشيتها من إجحاف البطن الهاشمي إذا جمع الخلافة مع النبوة.
4 - إن الخليفة ترك الترتيب الإلهي القاضي بجمع الخلافة والنبوة لآل محمد، وأوجد ترتيبا بديلا يجرد آل محمد من حقهم بالخلافة، ويصف ذلك بأنه توفيق وصواب.
5 - إن الخليفة يحكم بأن آل محمد غشوا بطون قريش وحسدوها، لأنها استردت الخلافة من الآل الكرام.
6 - إن الخليفة يعلن نفسه كناطق رسمي باسم البطون، وكمدافع عن مصالح بطون قريش.
7 - إن أول رجل من قريش اخترع هذه التبريرات وتجرأ على إعلانها وأقام دولة التاريخ على أساسها، هو عمر بن الخطاب، فهو بحق ابن البطون البار، والمنظر الأول للنظام البديل.
8 - إن الخليفة ينظر نظرة حذر وخوف وريبة إلى كل آل محمد، ويخشى منهم جميعا أن يستردوا حقهم بالخلافة. وتقريبه لابن عباس هو خطة سياسية المقصود منها تفريق الآل الكرام حتى لا يبقوا مجتمعين حول علي وابنيه السبطين، وقد تكررت هذه الخطة مع العباس كما روى ابن قتيبة حيث وعدوه ببعض الأمر له ولعقبه من بعده إن سايرهم وترك عليا وقد وثقنا ذلك.
ابن عباس واجه عمر بمجموعة هائلة من الحقائق الشرعية بهذه المحاورة
1 - إن بطون قريش وعلى رأسهم عمر كرهوا ما أنزل الله باختيار آل محمد للقيادة السياسية.
2 - إن بطون قريش لم توفق ولم تصب الحقيقة الشرعية عندما اختارت غير الذي اختاره الله.
3 - إن خوف قريش من إجحاف أهل البيت إذا جمعوا الخلافة مع النبوة بالرغم من اختيار الله لهم، ليس له ما يبرره عقلا وشرعا.
4 - إن بطون قريش تبنت بالأمور السياسية مواقف مناقضة تماما للموقف الشرعي، حيث إنها تركت الاختيار الإلهي واختارت لنفسها، ووضعت عملية تركها للخيار الإلهي وعملية اختيارها بأنه صواب وتوفيق، ووصفت بالغش والحسد قوما أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
5 - لقد أوضح بن عباس لعمر بأن عمر يعلم علم اليقين من هو الولي من بعد النبي ومن هو الخليفة، وأنه علي، ومع هذا أخذوا حقه.
6 - إن بطون قريش حسدت الآل الكرام وظلمتهم عندما جردتهم من حقهم الشرعي بالإمامة.
7 - إن الذين ضيعوا حق أهل البيت، بالإمامة إنما ضيعوا بالحقيقة أنفسهم!
عمر يحتاط للمستقبل
لم يكتف عمر بتجريد الإمام علي من حقه بالولاية وأخذ هذا الحق منه، إنما ركز بكل قواه على تجريد أهل البيت الكرام طوال حياة الدولة الإسلامية من هذا الحق، وعزلهم تماما عن القيادة السياسية للأمة.فحسب تنظير عمر فإن قريشا بوضعهم أقرباء الرسول وعشيرته هم الأولى بسلطانه، راجع كلمة عمر في سقيفة بني ساعدة، ثم طور هذه المقولة فحرم الهاشميين من امتيازات القرابة حرمانا كاملا بدعوى أنهم أخذوا النبوة وحدهم وبالتالي يتوجب أن لا يجمعوا مع النبوة الخلافة، لأن ذلك يؤدي لإجحافهم على الأمة، وهذا التجريد ليس محصورا بزمن أبي بكر وعمر، بل يريده عمر أن يستمر إلى يوم القيامة.
جاء في المجلد الثاني صحفة 253 - 254 من مروج الذهب للمسعودي وقائع المحاورة التالية:
ذكر عبد الله بن عباس أن عمر أرسل إليه فقال: يا ابن عباس إن عامل حمص قد هلك وكان من أهل الخير، وأهل الخير قليل، وقد رجوت أن تكون منهم، وفي نفسي منك شئ وأعياني ذلك، فما رأيك في العمل؟
قال ابن عباس: لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك. قال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال ابن عباس: أريده، فإن كان شئ أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت، وإن كنت بريئا من مثله علمت أني لست من أهله، فقبلت عملك هنالك، فإني قلما رأيتك طلبت شيئا إلا عاجلته.
فقال عمر: يا ابن عباس إني خشيت أن يأتي علي الذي هو آت (يعني الموت) وأنت في عملك فتقول هلم إلينا، ولا هلم إليكم دون غيركم، إني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم.
قال ابن عباس قلت: والله قد رأيت من ذلك فلم تراه فعل ذلك؟ قال عمر: والله ما أدري أضن بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم، أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العتاب ولا بد من عتاب. وقد فرغت لك من ذلك.
خلاصة القصة
إن عمر من فرط حرصه على مصلحة المسلمين وكراهيته لجمع الهاشميين النبوة والخلافة معا يريد حتى بعد موته أن يتأكد بأن الهاشميين لن يحكموا بعده أبدا، وبالتالي لا بد من إبعادهم عن الولاية والأعمال حتى لا يستغلوا هذه الأعمال والولايات بعد موت عمر فيدعون الناس لمبايعتهم!وقد كرست دولة الخلافة كل وسائل إعلامها ومواردها لترسيخ هذه الأفكار في أذهان الناس وتنفيرهم من قيادة أهل البيت، ووضعت بديلا لذلك قيادة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. حتى تلخص الموقف بسؤال وخيار محدد: فإما الثلاثة وإما أهل البيت، فاختار الناس الثلاثة، لأن وسائل إعلام الدولة وكل مواردها قد خصصت لإخفاء الشرعية على الواقع التاريخي، ولترجيح كفة أولئك الذين أسسوا النظام التاريخي على كفة أهل البيت!
المصادر :
1- كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 148 و 149 ، ومروج الذهب للمسعودي ص 14 من مجلد 3 .
2- المجلد الأول من شرح النهج صفحة 125
3- مجلد 3 صفحة 350 من شرح النهج.
4- مجلد 3 صفحة 286 من شرح النهج.
5- شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد مجلد 3 ص 790 - 791 شرح حسن تميم.
6- المجلد 3 ص 789 - 790 من شرح النهج لعلامة المعتزلة، تحقيق الشيخ حسن تميم.
7- وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 148 و 149 ومجلد 3 ص 14 من مروج الذهب للمسعودي.