تتكون قريش من خمسة وعشرين بطنا ، وأشرف هذه البطون على الاطلاق وأفضلها بالنص الشرعي " بنو هاشم بن عبد مناف " (1)، ويليهم بالشرف بنو عبد المطلب بن عبد مناف، وبنو الحارث بن عبد مناف. وبنو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وبنو نوفل بن عبد مناف.... وهم سادة قريش، فقد ساروا بعد أبيهم ويقال لهم المجبرون وهم أول من أخذ العصم لقريش فانتشروا من الحرم، فقد أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام، وأخذ عبد شمس حبلا من النجاشي، وأخذ نوفل حبلا من الأكاسرة، وأخذ المطلب حبلا من حمير، فاختلفت قريش بهذه الأسباب إلى بلاد العالم وكان يقال لهم: أقداح النضار لفخرهم وسيادتهم على العرب (2).
وصلت بطون قريش إلى صيغة سياسية قائمة على اقتسام مناصب شرف في ما بينها " المناصب السياسية " من قيادة ولواء وندوة وسقاية ورفادة وسفارة لأسهم السياسة المحددة في هذه الصيغة أقصى ما استطاعت البطون أن تنتزعه، ولاح لهذه البطون أنها أفضل صيغة سياسية على الاطلاق، إذ ليس فيها غالب ولا مغلوب، فالمناصب السياسية قدر مشترك بين البطون ولا مصلحة لأي بطن بتغيير هذه الصيغة، لأنه لو حاول التغيير فلا يعرف على وجه الجزم واليقين عواقب محاولته فقد يفقد حقه، ثم إن الأمور قد استقامت ونظمت أمور ولاية البيت الحرام، فارتاحت كل البطون لهذه الصيغة، ومع الأيام أصبحت عنوان عقيدة سياسية وأثرا مأثورا مما تركه الأولون ومن غير الجائز الخروج عليه من قبل أي كان.
محاولات لزعزعة الصيغة
في السنين العجاف لم يكن لمكة غير هاشم، يطعم الناس ويساعدهم وقيل له أبو البطحاء وسيد البطحاء ولم تزل مائدته منصوبة في السراء والضراء، وكان يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف (3)، فخشي أمية بن عبد شمس وحسده فتكلف أن يصنع ما يصنع هاشم فعجز عن ذلك، فعيرته قريش، فدعا هاشما للمنافرة فأبى ثم تنافرا على خمسين ناقة وعلى الجلاء عن مكة عشر سنين، فقضى الحكم بأن هاشما أشرف من أمية، فنحرت النوق وجلى أمية إلى الشام، فكانت هذه بذرة العداء الأولى بين البيتين الهاشمي والأموي ولعل الذي دفع أمية هو الحسد لهاشم والخشية من أن يشكل هاشم خطرا على هذه الصيغة لأن القيادة بيد بني عبد شمس وبروز نجم مثل هاشم قد يزعزع الصيغة كلها ويستخف الناس (4).
إشاعة النبوة
أشيع في مكة أن نبيا سيبعث، وأنه سيكون من سلالة عبد مناف. وممن استقرت في أذهانهم هذه الإشاعة أبو سفيان، فقد كان على علاقة وطيدة بأمية بن أبي الصلت، وأبو سفيان موقن أن هذا النبي سينسف الصيغة السياسية، وسيأخذ منه القيادة، وطالما أن القيادة لبني أمية فإن هذه النبوة من أكبر الأخطار، ولكنه اطمأن بعد عذاب ومعاناة، فالشائعة تقول: إن النبي من بني عبد مناف ولا يوجد حسب رأيه من هو جدير بالنبوة سواه (5)، فمن المؤكد أنه سيكون النبي المرتقب.
إعلان النبوة
أعلن محمد الهاشمي أنه النبي المرتقب الذي اختاره الله لهداية العرب خاصة والجنس البشري عامة وأن برهانه على هذه النبوة هو كلام الله، واتبعه نفر قليل ممن عرفوا بالحصافة وبعد النظر أو من أولئك الذين مستهم البشرية مسا أليما.
احتضن الهاشميون محمدا بكل قوة، وهددت زعامة قريش بفشل محمد، وأشيع أنه قد قتل، فجمع أبو طالب بني هاشم وأعطى كل واحد منهم حديدة صارمة وسار مع الهاشميين والمطلبيين ونادى: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به ؟
قالوا: لا، فأخبر الخبر وقال للفتيان: اكشفوا عما في أيديكم، فكشفوا، فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة فقال أبو طالب: والله لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحدا حتى نتفانى وإياكم، فانكسر القوم وكان أشدهم انكسارا " أبو جهل " (6).
حفاظا على الصيغة السياسية وحسدا لا حبا بالأصنام
قاومت بطون قريش بقيادة أبي سفيان محمدا وبكل أساليب المقاومة، ولم ينثن وأمام إصرار ورفض بني هاشم لفكرة تسليمه، اتفقت بطون قريش بدون استثناء وعلى ما يلي: -
1 - مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة، فقاطعتهم قريش كلها بما فيهم بني عدي وبني تيم وحصروهم في شعاب أبي طالب ثلاث سنين واضطروهم أن يأكلوا ورق الشجر من الجوع واضطر أطفالهم أن يمصوا الرمال من العطش. تلك حقيقة كالشمس لا يجادل بها أحد، ولم يركع محمد ولم يركع الهاشميون وأبطل الله كيد بطون قريش وزعامتهم وفشل الحصار بعد مقاطعة استمرت ثلاث سنين.
2 - عندما سمعت قريش أن محمدا سيهاجر إلى يثرب بعد أن تمكن من إيجاد قاعدة له، قررت بطون مكة بالإجماع أن تقتل محمدا، فاختاروا من كل قبيلة رجلا حتى يضربه هؤلاء الرجال دفعة واحدة، فيضيع دمه بين القبائل ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه لأنه إن ذهب إلى يثرب نجح وسلبهم القيادة والشرف، وباللحظة التي أجمعوا أمرهم دخلوا فوجدوا عليا ابن أبي طالب نائما في فراشه، وجن جنون القيادة المكية وخصصت الجوائز لمن يقبض على محمد حيا أو ميتا.
وفي الطرف الآخر كان محمد وصاحبه ودليلهما المشرك يشقون طريقهم سالمين بإذن الله وتلك حقيقة ساطعة كالشمس لا تحتاج إلى دليل (7).
حروب من أجل الصيغة السياسية وحسدا لا حبا بالأصنام
لم تيأس بطون قريش وقيادتها من هزيمة محمد وبني هاشم ودينهم، ولم ييأس محمد والهاشميون وأصحابه من هزيمة الشرك وقيادته، وانقسم العرب أثلاثا، قسم مع قريش وقيادتها المشركة، وقسم قليل مع محمد، والقسم الثالث تربص يتبع الغالب، واشتعلت الحروب في بدر وأحد، وجيشت زعامة قريش بالتحالف مع اليهود جيش الأحزاب وزحفت إلى المدينة المنورة فاعتصم النبي صلی الله عليه وآله وسلم بالمدينة وفشلت الأحزاب وفوجئت قريش وقيادة الشرك بجند الله يدخل مكة عاصمة الشرك وركعت زعامة مكة واضطرت للدخول في الإسلام، وبركوعها ركع كل العرب، ودانت الجزيرة لدولة النبي، وأخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا.
النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه
رفضت بطون قريش بزعامتها الأموية الدين المحمدي ونبوة محمد الهاشمي بكل أصناف الرفض وألوانه، وقاومت بكل فنون المقاومة، لا وفاء للأصنام ولكنها تكره أن يأتي الدين عن طريق هاشمي وتكره أن تكون للهاشميين القيادة، وأن تهز الصيغة السياسية، وأخيرا فوجئ أبو سفيان بجند الله قرب مكة، ويوقفه العباس فيرى جند الله، فيدخل الرعب في قلبه، وينتزع منه فتيل المقاومة ويفصح قائد الحزب عن حقيقة تصوراته لدعوة محمد فيقول: ما رأيت ملكا مثل هذا لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الأصفر (8)،
ويجره العباس إلى محمد فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): " ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله "، فيقول أبو سفيان: لقد ظننت أنه لو كان مع الله إلها غيره لما أغنى عني شيئا، قال (صلى الله عليه وآله): يا أبا سفيان ألم يئن لك أن تعلم أني رسول الله ؟
قال أبو سفيان: أما والله فإن في النفس حتى الآن منها شئ. صاح العباس: ويحك يا أبا سفيان أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، هنا فقط بعد ذكر ضرب العنق وبعد الإحاطة وضعف الحيلة أسلم لينجو بنفسه، ودهش أبو سفيان وهو ينظر للنبي فقال في نفسه: ليت شعري بأي شئ غلبني، فأوحى الله إلى نبيه بما في صدر أبي سفيان فقال له الرسول " غلبتك بالله ".
وأدركت بطون قريش أن النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه ولا محيد عنه، ولا علاقة لها باختيارها، ولو كان لها أي دور بهذا الاختيار لما قبلت أبدا أن يكون النبي من بني هاشم، والنبوة الطاهرة لن تتكرر، وأنه لن يلحق أي بطن من بطون قريش ببني هاشم، فقد سبقوا تماما وأدركت بطون قريش أن صيغتها السياسية قد اهتزت ونسفت تماما، وأضمرت العمل على وقف ما تعتبره زحفا هاشميا للجمع بين النبوة والملك وحيازة الشرف كله.
أكثر البطون اندفاعا لوقف ما يسمى بالزحف الهاشمي
كل بطون قريش مجمعة على أن النبوة الهاشمية قد هزت هزا عنيفا الصيغة السياسية التي كانت قائمة على اقتسام مناصب الشرف بين القبائل المكية. وكل البطون رفضت هذه النبوة الهاشمية باستثناء بني المطلب بن عبد مناف حيث وقفوا مع الهاشميين لكن أكثر البطون رفضا واندفاعا لوقف الزحف الهاشمي والحيلولة بين جمع الهاشميين الملك والنبوة هم بنو أمية وذلك لعدة أسباب منها:
1 - ماض طويل من الشحناء والعداوة والحسد لبني هاشم حتى قبل الإسلام.
2 - بسبب النبوة الهاشمية فقد الأمويون القيادة.
3 - الهاشميون قتلوا سادات بني أمية فهم لا يكرهونهم فحسب بل يحقدون عليهم وهند أم معاوية وزوجة أبي سفيان عكست مقدار هذا الحقد، فهي لم تكتف بقتل حمزة إنما مثلت بجثمانه الطاهر، ولكن مع انتصار النبوة وشمول نور الإسلام وتأخر الأمويين عن دخوله وذكريات مساعيهم الطويلة في محاربته يتعذر عليهم الجهر والمنادات علنا بمنع الهاشميين من أن يجمعوا مع النبوة الملك.
التيار الغلاب
لقد تحولت مقولة لا ينبغي أن يجمع الهاشميون النبوة مع الملك إلى تيار غلاب ولكنه ساكن ومستقر في النفوس وملجوم بوجوده (صلى الله عليه وآله) وبالشرعية وبوحدة الصحابة الصادقين تحت قيادته، فلو فقد عنصر من هذه العناصر الثلاثة فستهتز الشرعية، وسيتحول الصحابة الصادقون إلى شعرة بيضاء في جلد ثور أسود على حد تعبير معاوية وسيأخذ الأمر من يغلب.
القرابة الطاهرة الأساس الشرعي للخلافة الراشدة
عندما دخل المهاجرون الثلاثة إلى سقيفة بني ساعدة احتجوا بما يلي: فقال أبو بكر: " نحن عشيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنتم وزراؤنا في الدين ووزراء رسول الله، (صلى الله عليه وآله)... ".
قال عمر: " لا يجتمع سيفان في غمد واحد، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم... لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه نحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة " ، قالت الأنصار كلها: " لا نبايع إلا عليا، وعلي غائب. قال بعض الأنصار: لا نبايع إلا عليا " (9).
وسريعا أبرم الأمر للصديق رضي الله عنه ودعي علي لمبايعة أبي بكر، فقال علي: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأخذونه منا غصبا أهل البيت. ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الأمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا وميتا... الخ.
الانقلاب وانفلات التيار الغلاب
وعمر على فراش الموت يتفكر بمستقبل أمة محمد ويقلب الأمر على وجوهه المختلفة قال: لو أدركت أبا عبيدة باقيا استخلفته ووليته، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته.... ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته، ولو أدركت سالم مولى أبي حذيفة وليته.... الخ.
وسالم من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب، ومعاذ من الأنصار ويوم السقيفة لم يكن جائزا تولية الأنصار، وخالد من بني مخزوم ومن الطبقة العاشرة من طبقات الصحابة حيث هاجر في الفترة الواقعة بين صلح الحديبية وفتح مكة.
قال عمر لابن عباس أثناء خلافته: يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (صلى الله عليه وآله) ؟ قال ابن عباس: فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدري، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، قال:
فقلت: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت، قال:
تكلم، قال ابن عباس فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت فلو أن قريش اختارت لأنفسها من حيث اختيار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك: إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهية فقال: * (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) *. فقال عمر: هيهات يا ابن العباس قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتنزل منزلتك مني. فقلت: يا أمير المؤمنين فإن كان حقا فما ينبغي أن تنزل منزلتي منك، وإن كان باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول صرفوها عنا حسدا وبغيا وظلما. قال ابن عباس: فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين ظلما فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسدا فإن آدم حسد ونحن ولده المحسودون، فقال عمر: هيهات هيهات أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا لا يزول. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين مهلا لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا..... " (10).
والواقعة التي يرويها المسعودي في كتابه مروج الذهب والتي جرت بين ابن عباس وبين الفاروق (رضي الله عنهما) تؤكد حدوث الانقلاب الفكري وانفلات التيار المغلوب الذي كان ساكنا في النفوس وملجوما أثناء حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبل أن تتأسس دولة الخلافة الراشدة، وسأورد النص الحرفي لهذه الواقعة.
النص الحرفي للقصة
ذكر عبد الله بن عباس أن عمر أرسل إليه فقال: يا ابن عباس، إن عامل حمص قد هلك وكان من أهل الخير، وأهل الخير قليل، وقد رجوت أن تكون منهم وفي نفسي منك شئ وأعياني ذلك فما رأيك في العمل ؟ قال ابن عباس: لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك. قال عمر: ما تريد إلى ذلك ؟ قال ابن عباس: أريده، فإن كان شئ أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت، وإن كنت بريئا من مثله علمت أني لست من أهله، فقبلت عملك هنالك، فإني قلما رأيتك طلبت شيئا إلا عاجلته.
فقال: يا ابن عباس إني خشيت أن يأتي علي الذي هو آت (يعني موت عمر) وأنت في عملك فتقول: هلم إليها، ولا هلم إليكم دون غيركم إني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم.
قال: والله قد رأيت من ذلك فلم تراه فعل ذلك ؟
قال عمر: والله ما أدري أضن بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم، أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيصبح العتاب ولا بد من عتاب، وقد فرغت لك من ذلك فما رأيك.
قال ابن عباس: قلت: أرى ألا أعمل لك. قال: ولم ؟ قلت: إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينك ؟ قال: فأشر علي ؟ قلت: إني أرى أن تستعمل صحيحا منك صحيحا عليك (11).
من فرط حرصه على مصلحة المسلمين يريد حتى بعد موته أن يتأكد بأن الهاشميين لن يسلطوا على رقاب الناس، ولن يحكموا أمة محمد!!.
وبالإجمال تحولت هذه المقولة إلى تيار غلاب أفصح عن ذاته وفرض نفسه كقناعة عامة تؤمن بها السلطة وآمنت بها الأكثرية الساحقة على اعتبار أن هذه المقولة هي الوسيلة المثلى لمنع الاجحاف الهاشمي وإنصاف البطون القريشية لتتداول الخلافة في ما بينها كرد على النبوة الهاشمية أو كتعويض لها عن الإختصاص الهاشمي بالنبوة وأخيرا على اعتبار أن هذه المقولة مظهر من مظاهر هداية قريش وتوفيقها على حد تفسير الفاروق.
وباستمالة أبي سفيان إلى جانب السلطة، وترك ما بيده من الصدقات التي جمعها، وتولية ابنه يزيد قائدا على جيش الشام وتعيين ابنه الثاني قائدا من قواد يزيد ثم خلافته لأخيه يزيد كوال على الشام بعد وفاته، كل هذا كون حلفا حقيقيا بين السلطة وبين الطلقاء لهم قناعة سياسية مشتركة تقوم على عدم تمكين الهاشميين من أن يجمعوا مع النبوة الخلافة، وبهذا التحالف قطع دابر المعارضة وحجمت. وتم تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة والخلافة معا.
وهكذا فقدت العترة الطاهرة حتى نصيبها من امتيازات الشرف التي كانت مخصصة بموجب الصيغة السياسية التي سادت قبل الإسلام وعزلت تماما وحجمت أنظر إلى قول الفاروق مخاطبا العباس وبني هاشم: " إي والله وأخرى أنا لم نأتكم حاجة منا إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة فيتفاقم الخطب بكم وبها " (12). وبلغت الاستهانة بها حدا أنه حتى عبد الله بن الزبير هم بأن يحرق بيوت الهاشميين على من فيها لولا أن تدخل أهل الخير.
ومعنى ذلك أن أي قبيلة من القبائل التي حاصرت الهاشميين في شعاب أبي طالب ثلاث سنين وأرسلت مندوبها للاشتراك بقتل النبي هي أسعد حظا من الهاشميين، والفرد منها أولى وأحق برئاسة الدولة من أي هاشمي، فالرئاسة والولاية حلال لكل الناس وحرام على أي هاشمي من الناحية العملية، كل ذلك من أجل عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين النبوة والخلافة، وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان ؟
التكييف الشرعي لمقولة لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة
هذه مقولة جاهلية من كل الوجود، وتتعارض معارضة تامة مع النصوص الشرعية، ومع النظم السياسية المشتقة من العقائد الإلهية، فداود نبي وورثه ابنه سليمان فجمع كل واحد منهم النبوة والخلافة معا، وأوتي الأنبياء وذرياتهم الحكم والنبوة والكتاب، ولم يعترض عليهم أحد لأن الفضل بيد الله والخلافة منصب ديني وبالدرجة الأولى ودنيوي والخليفة قائم مقام النبي، ومن مهام النبوة البيان والحكم وعملية البيان والحكم عملية فنية تماما واختصاص.
ومن هو على علم بالتقاطيع الأساسية للنظام السياسي الإسلامي تبين له بأقل جهد ممكن أن هذه المقولة نسفت نسفا تاما النظام السياسي الإسلامي كنظام إلهي، وفرغته تماما من مضمونه وحولته من الناحية العملية إلى نظام وضعي لا يختلف عن الأنظمة الوضعية إلا بالشكل " سياسيا "، بل والأهم من ذلك أن رئاسة الدولة صارت غنيمة وطعمة يأكلها الغالب والغالب وحده، وبعد أن يغلب يجلس على كرسي النبي " أو حصيرته " ويلبس جبة الإسلام فإذا هو خليفة، فإن غلب الطليق الذي قاتل الإسلام بكل فنون القتال حتى أحيط به فأسلم رغبة أو رهبة فإنه يتأمر على المهاجر الذي قاتل مع الإسلام كل معاركه، ويصبح ولي الله المخصص شرعا لرئاسة الدولة الإسلامية مجرد مواطن عادي من رعاياه، يتكلم الجاهل، ويسكت العالم، يتقدم المحاصر " بالكسر " ويتأخر المحاصر " بالفتح ". كل هذا من أجل إنصاف القبائل الأخرى ومنع الهاشميين من أن يجمعوا مع النبوة الخلافة، أو بتعبير أدق من أجل العودة عمليا إلى الصيغة السياسية التي كانت سائدة قبل الإسلام ولكن بثوبها الجديد، فالصيغة السياسية الجاهلية كانت تقوم على اقتسام مناصب الشرف بحيث تأخذ كل قبيلة نصيبها من هذه المناصب، وبتطبيق المقولة أصبحت القبائل تتداول رئاسة الدولة وبنفس الوقت تتشارك بالشرف والمناصب أثناء عملية التداول، أما الأحكام الإلهية المتعلقة بالنظام السياسي الإسلامي فهي موضوع آخر، فهي لا تستجيب للصيغة السياسية التي وجدت قبل الإسلام في مكة.
النتائج التي ترتبت على تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة والخلافة
1 - النتيجة الأولى
زوال الفوارق نهائيا بين الذين قاتلوا الإسلام بكل فنون القتال حتى أحيط بهم فأسلموا، وبين أولئك الذين قاتلوا مع الإسلام كل معاركه حتى أعز الله دينه ونصر نبيه وأقام دولة الإيمان، فالكل مسلم لا فرق من الناحية السياسية بين هذا وذاك، فكلهم مسلم وكلهم في الجنة، فالهاشمي الذي حاصرته قريش ثلاث سنين هو تماما مثل أي شخص كان على الشرك واشترك بالحصار، ألم يسلم ذلك الشخص ؟ أليس الإسلام يجب ما قبله ؟ فلو أن حمزة سيد الشهداء رجع إلى الدنيا فهو تماما كوحشي من الناحية العملية السياسية، فالقاتل كالمقتول تماما، والمهاجر كالطليق، والجاهل كالعالم، ولو غلب الجاهل لكان لزاما على العالم أن يطيعه سياسيا وأن يتبعه وينقاد إليه، بل على العكس، فلو كان هنالك هاشمي عالم كعلي بن أبي طالب وكان هنالك أنصاري بدرجته أو أقل علما منه، فالأنصاري العالم مقدم على الهاشمي.
أنظر إلى قول الفاروق رضي الله عنه بوجود علي بن أبي طالب وهو يقول: لو أدركت معاذ بن جبل لوليته، ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته. خالد قاتل الإسلام في أحد وفي أكثر من وقعة وعلي قاتل مع الإسلام في كل مواقعه، ومع هذا فالأولى هو خالد حتى أن الفاروق لو أدرك سالم مولى أبي حذيفة وهو من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب لولاه الخلافة وأمره على علي بن أبي طالب مع أن علي بن أبي طالب هو ولي سالم وعمر ومولى أبي عبيدة ومولى كل مؤمن ومؤمنة " باعتراف الفاروق وبإقراره "....
النتيجة الثانية: زرع بذرة الخلاف ونموها
طالما أن لا فرق بين المهاجر والطليق ولا بين القاتل والمقتول ولا بين المحاصر " بالفتح " والمحاصر " بالكسر " ومن حق كل واحد أن يفهم الإسلام وأن يستقطب حول هذا الفهم فمعنى ذلك وجود مرجعيات متعددة ووجود مفاهيم متعددة وقناعات متعددة وكل فريق يزعم أنه على الحق، ففريق يذهب إلى الشمال وآخر إلى اليمين وثالث إلى الشرق ورابع إلى الغرب وخامس إلى الشمال بزاوية كذا.... الخ، ولا يوجد مرجع يعتبر كلامه حجة يقينية شرعية يقر بها الجميع، بهذا الجو زرعت بذرة الخلاف ونمت بأرض خصبة، فلو قال علي (عليه السلام) كلاما وقال واحد من الطلقاء كلاما آخر فالذي يزن القولين هو السامع، لأنه عمليا لا فرق بين علي وأي طليق، فكلاهما في الجنة وكلاهما مسلم فهم صحابة أي لا يقرون عمليا بأي ترجيح شرعي لقول علي، فكيف يرجح بين المتساويين وكيف يفرق بين المتعادلين تماما ؟ فهذه قطعة ذهبية تتساوى حجما وشكلا ومقدارا وقيمة مع قطعة أخرى، فخذ ما شئت وإياك والتمييز، فالوفاق الحاصل وفاق ظاهري وتحت هذا الظاهر ينمو الخلاف ويشب ثم يتحول إلى سرطان عاجلا أم آجلا، يمزق وحدة الأمة ويخرجها من إطار الشرعية إلى الغامض والمجهول.
النتيجة الثالثة: رئاسة الدولة حق للجميع إلا لهاشمي
بمعنى أنه لا شئ على الاطلاق يمنع أي مسلم من أن يتولى رئاسة الدولة الإسلامية شريطة أن يتمكن من الوصول إليها والاستحواذ عليها، وانقياد الجميع له وتسليمهم له بالغلبة والسلطان شريطة أن لا يكون من بني هاشم لأنهم اختصوا بالنبوة والنبوة تكفيهم.
هذا الحق حول الطمع برئاسة الدولة إلى كابوس بغيض وإلى آلية مزعجة سلبت الأمة قرارها واستقرارها، وحولتها إلى حقل تجارب لكل الطامعين بالرئاسة، وعطلت نظامها السياسي والشرعي.
أما من أي قبيلة هذا الرئيس ؟ ما هو علمه ؟ ما هو دينه ؟ ما هي سابقته ؟ من
الذين سيحكمهم ؟ تلك أمور ثانوية لا قيمة لها من الناحية العملية ولا يعول عليها لأن الغالب غالب والحصول على رضوان المغلوب فن قائم بذاته.
ما الذي يمنع يزيد بن معاوية وهو المشهور بعهره وفجوره من أن يكون رئيسا للدولة الإسلامية لأنه ابن معاوية الرئيس، ومن الذي يمنع الحسين بن علي بن أبي طالب سيد شباب أهل الجنة في الجنة بالنص وريحانة النبي من هذه الأمة بالنص، والإمام الشرعي لهذه الأمة بالنص، فما الذي يمنعه من أن يكون أحد رعايا يزيد وأحد الذين يتأمر عليهم، فكلاهما مسلم، وكلاهما في الجنة، يزيد القاتل المجرم في الجنة والحسين الإمام المقتول في الجنة، فكلاهما صحابي! ومن ينقد هذا الرأي فهو زنديق لا يواكل ولا يشارب ولا يصلى عليه.
النتيجة الرابعة: اختلاط الأوراق
اختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل والخير بالشر والعلقم بالشهد، وأصبح المتأخر كالمتقدم واللاحق كالسابق، والمجاهد كالقاعد، والقاتل كالمقتول والمحاصر كالمحاصر " بالفتح والكسر " ومن وقف مع الإسلام تماما مثل من وقف ضده، ومن قاتل الإسلام تماما كمن قاتل معه. لقد دخل الجميع بدين الله وشاهد النبي أو شاهدوه، فكلهم صحابة وكلهم في الجنة.
وضاع الصادقون، وتفرقوا في الأمصار وأصبحوا على حد تفسير معاوية كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود وانهار النظام السياسي الإسلامي وتأخر المتقدمون وتقدم المتأخرون، ولله عاقبة الأمور.
المصادر :
1- مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 291.(2) راجع السيرة الحلبية ج 1 ص 3 - 4 لعلي برهان الدين الحلبي وراجع الجامع للأصول في أحاديث الرسول لعلي ناصيف مجلد 3 ص 419 وما فوق وراجع السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية ج 1 ص 4 - 11 وراجع الطبقات لابن سعد، وراجع الخطبة 185 ص 156 ج 2 من شرح النهج لابن أبي الحديد.
2- الطبقات ج 1 ص 75 وتاريخ الطبري ج 2 ص 180
3- تاريخ الطبري ج 3 ص 180 والسيرة الحلبية ج 1 ص 5 والطبقات لابن سعد ج 1 ص 76، و ج 2 ص 179 من تاريخ الطبري.
4- السيرة الحلبية ج 1 ص 15 وكتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 170 - 172.
5- السيرة الحلبية ج 1 ص 80.
6- الطبقات لابن سعد ج 1 ص 202 - 203.
7- على سبيل المثال السيرة الحلبية ج 1 ص 80 والطبقات لابن سعد ج 1 ص 208 - 209 والسيرة الحلبية ج 1 ص 332.
8- السيرة الحلبية ج 3 ص 79 .
9- الإمامة والسياسة ص 6 - 8.و تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وراجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 266.
10- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 ص 24 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 3 ص 107 أخرجه الإمام أحمد أبو الفضل بن أبي الطاهر في تاريخ بغداد، راجع مجلد 2 ص 97 من شرح النهج
11- المجلد الثاني ص 253 - 254 من مروج الذهب للمسعودي.
12- الإمامة والسياسة ص 15.