أيها الصامت ! صمتك ابلغ من كل ابجديات الدنيا .. وسكوتك المدوّي صرخة حق في عالم الأباطيل .. وقد زلزلت الأرض زلزالها انهار عمود خيمة كانت تعصف بها الريح .. وتمزّق « الكساء » اليماني وكان يدثّر نبياً هو آخر الأنبياء في التاريخ .. ورجلاً يشبه «هارون » في كل شيء إلا النبوة .. وامرأة هي سيدة بنات حواء وسبطين هما آخر الاسباط في التاريخ .
آه منك يا يوم الاثنين ...
جثا علي أما جسد كانت روحه العظيمة تضيء الجزيرة وبقايا نور في الجبين البارد تشبه شمساً هوت في المغيب . هيمن صمت ملائكي في المكان فيما العالم خلف الحُجُرات يموج بالفتن .
ظهرت غمية في الافق حجبت ضوء الشمس ... وكمن
بيحث عن ظلّه في يوم غائم كان الناس ينظرون هنا وهناك ... هل غادر الحبيب الديار ؟!
واجتمعت طائفة من الانصار في سقيفة لهم ... فهناك من يريد الاستيلاء على « سلطان محمد » ( قريش ) لا تريد علياً .. ذلك الفتى الذي قهر بـ « ذي الفقار » جبروتها .. لا تريد لبني هاشم أن يحوزوا النبوّة والإمامة .. والوحي والخلافة والسماء والأرض ...
هل ادرك الانصار ما يدور في الخفاء من همس حول اقصاء علي ؟ ... هل طمعوا بـ « السلطان » ؟ . هل خافوا أن يضيع نصيبهم من « الأمر » .
يا يوم الاثنين :
اغمض النبي عينيه ... وعاد جبريل إلى السماء .. واستيقظت في النفوس .. غرائز كانت مكبلة أو نائمة ..
دخل عمر حجرة النبي .. كشف الملاءة عن وجه اضاء الدنيا قال بدهشة متصنّعة :
ـ ما اشدّ غشي رسول الله .
اجاب المغيرة مصعوقاً من موقف عمر :
ـ مات والله رسول الله .
ردّ عمر بلهجة فيها وعيد :
ـ كذبت ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه ... كما ذهب موسى ابن عمران .
وظل المغيرة ينظر إلى عمر بدهشة .
خرج عمر وقد جحظت عيناه من الغضب .. شهر سيفه مهدداً وراح يهتف :
ـ ان رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات ... لا والله ... ما مات .. ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ثم رجع بعد أربعين ليلة ...
والله ليرجعن رسول الله .. فليقطعن أيدي رجال وارجلهم ... » .
الغريق يتشبث بكل شيء ... يتشبث بالأمل الكاذب .. يتشبث بالقشة .. يحسبها .. طوق نجاة وخلاص .
وعندما يفقد الإنسان الأمل ... عندما تجتاحه عاصفة يأس فانه قد يعمد إلى وهم يهبه شكل الحقيقة فيغفو عليه ؛ لا يريد أن يرى بوضوح ما يجري .
تحلّق الناس حول رجل يبرق ويرعد ويهدد كل من يقول بموت محمد صلى الله عليه وآله وسلّم .. ما اجمل ما يقوله عمر .. محمد لم يمت .. ذهب إلى ربّه .. بعد ليال سوف يعود !
لقد ضربت الصاعقة الاذهان .. شلّتها عن التفكير .. في كل شيء ومن بعيد لاح « أبو بكر » .. وصل توّاً من خارج المدينة .. من منزل له في « السنح » .
هتف من بعيد :
ـ على رسلك أيها الحالف :
والتفت إلى الأمة المذهولة قائلاً :
ـ أيها الناس ! من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حيٌّ لايموت « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ... » .
فجأة خمد البركان ... وتظاهر « عمر » باستسلام عجيب ، وقف إلى جانب اخيه ... وانضم اليهما رجل ثالث هو « ابن الجرّاح » تبادل الثلاثة نظرات ... هي لغة كاملة .. ربّما كانوا يفكرون ليومين أو ثلاثة من المستقبل ... أو ربّما للتاريخ باسره .
ان كان التحولات الاجتماعية الكبرى انما تولد في الضمائر الإنسانية . قبل أن تشق طريقها إلى الواقع ... انها موجودة في الأعماق حتى يأتي من يستخرجها إلى ارض الوقائق ، كان في ضمائر جلّة المهاجرين ، وقريش قاطبة عزم في الا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم وقد قرأ رجال ما يجول من خواطر . فاخرجوا ما استتر في الضمائر .. وقد اخفق النبي في هزيمتها يوم هزم الأوثان العربية .
علامات استفهام : الشمس ما تزال وراء غيوم « نيسان » (انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى الرفيق الأعلى في نيسان سنة 632م.) ... جثمان آخر الأنبياء ما يزال مسجىً ... علي ذاهل دوّخته الفاجعة شعر بغربة شديدة لقد رحل الحبيب ... ستموت فاطمة ... ستذوي مثل شمعة تحترق في ليل الجزيرة ... وسيبقى وحيداً ...
اسفر الجدل في « السقيفة » (مكان كانت تعقد فيه الخزرج اجتماعاتها المصيرية وهو يشبه إلى حدٍ كبير دار الندوة في مكّة ) عن انتخاب « سعد بن عبادة » خليفة للمسلمين !! الاطماع ، والقلق ، والخوف هي وحدها وراء اجتماع « الأنصار » في سقيفة بني ساعدة .. هناك من يحلم بالمجد وهناك من ينظر إلى الافق البعيد فيرى « قريش » تتحفز للانتقام من « أهل يثرب » تريد أن تأخذ ثاراتها في « بدر » و « أحد » و «الأحزاب » !
الدقائق تمرّ بطيئة كأن التاريخ اصيب بالذهول ؛ الأوس يكظمون غيظاً ازاء « سعد الخزرجي » ... ولكن ماذا بوسع « الأوس » أن يفعلوا لا مفرّ من ذلك ثم انه سيكون أوهن من « قريش » ! ... قريش التي لم تنس ثاراتها بعد . وفي لحظات تاريخية غادر رجلان من الأوس ؛ وانصار على وشك البيعة .. انطلقا باقصى سرعة إلى « ابي بكر وعمر وابن الجراح » وفي قلبيهما عزم على حرمان «سعد»
من المجد !!
ولكن لماذا هؤلاء الثلاثة بالذات !! لماذا عمر ؟ لماذا لم يذهبا إلى علي أو عمّه العباس ؟!
السماء لم تزل غائمة وانطلق الثلاثة إلى « السقيفة » ، سوف يفاجأ الرجل المريض (سعد بن عبادة حضر الاجتماع بالرغم من حالته الصحية المتردّية .) . جاءت قريش تحتج بانها شجرة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وقد رمت بعيداً ثمرتها اليانعة !!
إذا الشمس كوّرت :
ترى ماذا كان يفعل علي في تلك اللحظات المثيرة ... « الأنصار » و« المهاجرون » ، في صخب وجدل وشجار حول « سلطان محمد » ... لنترك « السقيفة » في صخبها ولنعد إلى صخبها ولنعد إلى حجرة آخر الأنبياء ..
الصمت ما يزال يهيمن .. وبالرغم من غياب الشمس .. بالرغم من غياب الشمس .. بالرغم من غيوم « نيسان » فقد بدت الحجرة مضيئة ... مضيئة بنور شفاف لعلّه تألقات لكائنات سماوية وفدت لتحمل « الروح العظيم » .
محمد صلى الله عليه وآله وسلّم يهيمن على الزمن حيّاً وميتاً .. محمد ساكت .. وما اعظم صمت الأنبياء
ليت الذين يتشاجرون في السقيفة ينصتوا ليصغوا إلى صمت محمد .. أو يحترموا صمته .
ما هذه الضدة .. تقترب من المسجد .. وكان هناك رجل طويل (عمر بن الخطاب .) بيده عسيب نخل يحوش الناس ؛ رفع علي عينيه وكان العباس قد ذهب يستطلع الضوضاء .. قال عم الرسول :
ـ لقد بويع أبوبكر !!
وارتفعت علامات استفهام كبرى فوق رؤوس بعض المهاجرين والأنصار ...
سأل علي عمّه :
ـ بم احتجوا على الأنصار ؟
ـ قالوا انّا شجرة النبي !
علّق الإمام بحزن :
ـ احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة .
سوف تبقى السقيفة بداية لسلسلة من المآسي في تاريخ الإسلام .
ومن يريد أن يبحث عن جذور لكارثة « صفين » أو مأساة
« كربلاء » فانه يجدها في تلك الاشبار من الأرض .. عندما ظلّ علي وحيداً .
ترى ماذا فعل على وهو يشهد انعطافة التاريخ في غير الوجهة التي ارادها سيد التاريخ ؟
تلقى علي انباء السقيفة بصمت .. ربّما شاهدت بعض الصحابة في عينيه حزناً عميقاً .. أسفاً ..
استأنف علي عمله في تجهيز جهمان سيد الخليقة ..
الثلاثاء 29 / صفر / 11 هـ :
وقف العباس عم النبي وولداه (الفضل وقثم .) وقفوا صامتين يتأملون علياً ؛ التفت علي إلى الفضل :
ـ ناولني الماء .
اسامة يصبّ المياه فوق الجسد الطاهر ، وعلي يغسله .
شهق بعبرته وهو يتمتم :
ـ بابي أنت وأمي ما اطيبك حيّاً وميتاً .
فاحت في فضاء الحجرة رائحة طيبة .. وتوهجت ذكريات قديمة .. وتذكر اسامة حديثاً للحبيب الراحل :
ـ « ايها الناس انما انا بشر يوشك أن ادعى فاجيب ، واني تارك فيكم الثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، وأهل بيتي ، اذكّركم الله في أهل بيتي .. اذكّركم الله في اهل بيتي .. اذكركم الله في أهل بيتي » .
الإنسان السماوي يتأهب للرحيل ، يرتدي ثياباً بيضاء بلون رسالته بلون حمائم السلام بلون الرباب (الغيمة البيضاء .) بلون النور الذي سطع في جبل حراء .
الصلاة :
تقدم علي للصلاة على الجثمان الطاهر .. تقدم وحده .. والمسلمون في المسجد يخضون جدلاً في من يؤمهم في الصلاة .
وقال علي :
ـ ان رسول الله امامنا حيّاً وميتاً ... فليدخل عليه فوج بعد فوج فيصلون عليه بغير امام وينصرفون ..
واردف :
ـ وان الله لم يقبض نبياً في مكان إلا وقد ارتضاه لرمسه فيه ؛ واني لدافنه في حجرته التي قبض فيها .
الشمس تسير حزينة وراء الغيوم .. تتجه إلى المغيب والمسلمون يودعون آخر الأنبياء في صلاة طويلة .
الشمس تقترب من المغيب ؛ وانفذ العباس إلى ابي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لاهل مكّة ويضرّح ، وانفذ إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة ؛ وهكذا اشترك انصاري ومهاجر في الحفر ؛ ودسّ علي يديه تحت المجثمان العظيم .. ونادى الأنصار من وراء الحجرات :
ـ يا علي : نذكّرك الله وحقنا اليوم من رسول الله ان يذهب .. أدخل منا رجلاً يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله .
اجاب علي :
ـ ليدخل أوس بن خولى ...
ودخل الرجل البدري يمشي على اطراف اصابعه لكأنه يلج عالماً زاخراً بالملائكة .
قال علي :
ـ نزل القبر !
ونزل الصحابي قبر من هداه إلى ينابيع النور والأمل تمنى ان يموت وتعود الحياة إلى سيده العظيم . رفع علي الجثمان الطاهر .. ووضعه على يدي الصحابي وبرفق انزله في احضان الثرى ، فاحت رائحة المسك لكأن الفردوس فتحت أبوابها تستقبل آخر رسل السماء إلى الكوكب إلى الكوكب الزاخر بالحوادث .
طلب علي من أوس ان يخلي القبر فخرج باكياً ، وولج علي الضريح .. كشف عن الوجه الأزهر الذي اضاء الدنيا والتاريخ . انطفأت الشمس غابت خلف الافق المثقل بالغيوم .. كتلال من الرماد .. التراب علا الضريح شيئاً فشيئاً .
وجاءت فاطمة .. وهي لا تكاد تصدّق ان لدى أحد القدرة على ان يحثو التراب على رسول رب العالمين .
قالت مفجوعة :
ـ أطابت نفوسكم ان تحثوا التراب على رسول الله ؟!
أخذت بكفيها قبضة من التراب ... وضعت وجهها الأزهر .. شمّته شعرت انا ستختنق إذا لم تتنفس نسائم الهواء وهي تنبعث من مسامات التراب المشبع برائحة جنات الفردوس ؛ همست بنت محمد :
ـ ماذا على من شم تربة أحمد ***ان لا يشم مدى الزمان غواليا
لقد غابت الشمس ، وانطوت آخر ساعة من نهار الثلاثاء .
البرد يجوس خلال المدينة الحزينة ؛ ونهض علي ينفض يديه من تراب القبر .. لقد غابت كل الأشياء الجميلة .. لم يعد للحياة معنى إلا في مواصلة الدرب الذي اضاءه نور محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ..
الغضب المقدس :
وانبرى علي يسجل احتجاجه ضد أول « فلتة » في تاريخ الإسلام(اقتباس من تصريح لعمر بن الخطاب حول أبي بكر) :
ـ افسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقاً .
اجاب أبو بكر بشيء من اللين !
ـ بلى ! ... ولكن خشيت الفتنة (1) .
وهنا سكت التاريخ !!
ولكن موقف علي ورفضه البيعة يعبّر عن موقف واضح ازاء الطريقة التي تمت فيها معالجة واحدة من أهم المشكلات في الحياة الإسلامية ؛ والتزم علي جانب الصبر بالرغم من بعض العروض بالبيعة (جاء العباس الى علي ومعه أبو سفيان يبايعاه فرفض قائلاً : « ... افلح من نهض بجناح أو استسلم فاراح ... هذا ماء آجن ولقمة يفصّ بها آكلها ومجتني الثمرة لغير وقت ايناعها كالزراع بغير أرضه» .
وظل علي على مواقفه حتى وفاة زوجته فاطمة التي التحقت بالرفيق الأعلى بعد حوالي ثلاثة اشهر أو تزيد
ونظر علي يمناً وشمالاً فلم يجد معه أحد حتى عمّه العباس هو الآخر استرضي فرضي أو وقف موقف الحياد والاعراض عن النزاع (زار أبو بكر ومعه بعض أركان حكومته العباس ليلاً ، واسفر الجدل بتحييد الاخير ..) .(2)
وقد عبر علي بن أبي طالب عن أساه وحزنه بعد ربع قرن من حادثة السقيفة بقوله : « اما والله لقد تقمّصها فلان وانه ليعلم ان محلّي منها محلّ القطب من الرحى . ينحدر عني السيل ولا يرقى اليَّ الطير ؛ فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيه الكبير ويشيب فيه الصغير ، ويكدح فيها مومن حتى يلقى ربّه » .
وهنا يقرر الإمام الصبر : « وأيت أن الصبر على هاتا احجى ، فصبرت وفي العين قذىً وفي الحلق شجىً ارى تراثي نهباً » (3) .
ان المرء ليشعر من خلال هذا الخطاب عمق المرارة والأسى في بحه الحزن ودرجة حرارة الكلمات وهو يستعرض تاريخ تلك الحقبة المريرة التي امتدت لتستوقب ربع قرن من الزمن .
علي مع القرآن :
واعتزل علي .. أوى إلى منزله يجمع القرآن كما انزله الله وذكريات الآيات تتوهج في عقله .. وبين الفينة والأخرى يقتحم بعضهم حرمة الصمت . فعلى علي أن يبايع .. وفي كل مرّة كانت فاطمة تصدّ هجمات بعض « الصحابة » ، لقد انتزعوا منها « فدك » (..صودرت « فدك » على أساس حديث : « نحن معاشر الانبياء لا نورّث » الذي لم يروه سوى الخليفة الأول .) وها هم يرومون انتزاع زوجها وقد اغمد ذا الفقار بعد أن وضعت الحرب أوزارها .
رحيل فاطمة سلام الله عليها:
وتمرّ الأيام مريرة .. وتذوي فاطمة .. كشمعة في قلب الظلمات .. قوامها يزداد نحولاً .
سكتت فاطمة هي الأخرى .. صامت مريم من قبل .. وادرك علي أن رحيلها سيكون وشيكاً وأن « البيت » الذي بناه من جريد النخل بـ « البقيع » سيكون النهاية .. سيشهد ذلك البيت انطفاء الشموع .. رحيل النجوم .. ومصرع شمس أضاءت حياته مدّته بالدفء .. النور .. الأمل .
سكتت فاطمة والذين اشتكو من بكائها لم يعودوا يسمعون انيناً ينبعث من اعماق قلب كسير . لم يعد أحد يسمع نشيجها إلا الذين يمرّون بالبقيع .
غابت فاطمة كما تغيب النجوم خلف السحب الدكناء غابت فاطمة كفراشة تبحث عن الشمس .. عن ربيع مضى تطارده ريح شتائية .
غابت فاطمة .. لم يعد أحد يسمع بها .. أنها تذوي وحيدة في بيت من جريد النخل غادرة الحياة .. الملائكة لا تريد حياة الأرض ، والحوريات لا تعيش في عالم التراب .. والذين اكتشفوا السماء لن يطيقوا الانتظار .
وعندما يدرك الأنبياء ان مواعظهم لا تجد آذاناً واعية سيتحدثون بلغة الصمت ..
في « بيت الاحزان » كانت فاطمة تذوب كشمعة متوهّجة تحرق نفسها لتهب النور والدفء من حولها ... فاطمة تتحدث بلغة الشموع .. لغة لا يسبر غورها إلا فراشات النور .. ها هي فاطمة تصرخ بصمت :
ـ بدوي صمتي اناديكم .. ثورتي تنطوي في حزني .. ورفضي كامن في دموعي .. وهذا كل ما املكه من لغة علّكم تفهمون خطابي انا مظلومة يا ربّي .. حرّرني من هؤلاء .
ذوت الشمعة .. احرقت نفسها .. لم يبق منها إلا حلقات من نور واهن .. آن لها أن تنطفئ . الوجه يشبه قمراً انهكته ليلة شتائية طويلة .. بدا مصفرّاً .. وكان الصوت واهناً تحمله أمواج حزينة ... والدموع غزيرة كسماء تمطر على هون .
رقدت فاطمة في فراشها .. وضعت يدها تحت خدّها اغمضت عينيها ونامت .. سمعتها « اسماء » (زوجة جعفر ابن أبي طالب .) تهمس بصوت ملائكي :
ـ السلام على جبريل ... الهي في رضوانك وجارك ودارك دار السلام .
وجاء علي .. بدا مكسور الظهر .. كما لو أنه ينوء بحمل جبال من الحزن .. راح يقرأ ما كتبته فاطمة قبل أن تغفو بسلام :
ـ بسم الله الرحمن الرحيم ... هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله ... وهي تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله .. وان الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ..
يا علي أنا فاطمة بنت محمد زوجني الله منك لأكون لك في الدنيا والآخرة ..
حنطني وغسلني وكفّني وصلّ علي وادفني بالليل ولا تعلم أحداً واستودعك الله إلى يوم القيامة .
وهكذا شاءت فاطمة أن ترحل بصمت .. ان تدفن في قلب الليل .. أن يبقى قبرها مجهولاً لترسم سؤلاً كبيراً مايزال حتى اليوم يستفهم التاريخ والإنسان !
لم يدفن علي فاطمة حتى دفن معها قلبه وحبّه العظيم ، ثم يمم وجهه شطر الرجل الذي واراه الثرى بالأمس فيهمس لديه بكلمات الحزن .. ولوعة الفراق :
ـ السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة والسريعة اللحاق بك .. قَلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ورق عنها تجلدي ..
أما حزني فسرمد .. وامّا ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي انت بها مقيم ..
وستنبئك ابنتك بتظافر امّتك على هضمها ، فاحفها السؤال واستخبرها الحال ..
هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر .. والسلام عليكما .. سلام مودّع لا قالٍ ولا سئم .. فان انصرف فلا عن ملالة .. وأن اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ... »
ونهض علي يواجه الدنيا وحيداً .. يشعر بالغربة فلقد وارى بيده قلبه وسعادته وسيفه ذا الفقار .. تمتم بحسرة :
ـ فقد الأحبّة غربة .
توهجات الزمن الأول :
بايع علي « مكرهاً » .. وانطوى وحيداً يعالج همومه واحزانه وشيئاً فشيئاً بدأت عجلة الحياة تدور .. وقلّ الحديث عن مسألة الخلافة .. وانطلقت جيوش الفتح الإسلامي في الجبهات .. وانصرف علي إلى العمل .. يحفر الآبار ويفجّر العيون لتسيل أودية بقدر .. يحرث الحقل ويسقي الزرع لتخضرّ الأرض ..
انهى علي احتجاجه الصامت وعاد إلى المسجد .. إلى « الجماعة » . بالرغم من كل الآلام ..
احتدم الجدل في مجلس الخليفة الأول حول غزو دولة الروم ؛ نظر الخليفة إلى علي وكان ساكتاً قال علي :
ـ إن فعلت ظفرت .
قال أبو بكر :
ـ بُشّرت بخير ..
وانطلقت خيول الفتح الإسلامي تنشر النور في الشمال .
كتب خالد بن الوليد إلى الخليفة انه وجد رجلاً في بعض ضواحي العرب ينكح كما ينكح المرأة !! جمع أبو بكر جماعة من اصحاب النبي واختلفت الآراء في عقوبته فقال علي :
ـ ان هذا ذنب لم تعمل به امّة من الأمم إلا امّة واحدة (قوم لوط في ارض سدوم وعامورا بالقرب من البحر الميت في فلسطين .) فصنع الله بها ما قد علمتهم .. أرى أن يحرق كتب أبو بكر إلى خالد يأمر يتنفيذ الحكم .
وصل وفد مسيحي إلى عاصمة الإسلام يحمل اسئلة عصره .. عجز الخليفة في حوار « الجاثليق » (عالم النصارى .) فأرسل وراء علي ..
قال الجاثليق :
ـ اين وجه الربّ ؟!
أمر علي باشعال النار في الحطب وارتفعت السنة اللهب .. سأل علي زعيم الوفد :
ـ أين وجه النار ؟
قال الجاثليق :
ـ هي وجه من جميع الجهات .
ـ هذه نار مصنوعة ، لا يعرف وجهها ، وخالقها لا يشبهها .. لله المشرق والمغرب .. فأينما تولّوا فثم وجه الله .
وسكت الجاثليق خاشعاً .
مسار الأحداث :
وقعت بعض الحوادث العامة خلال تلك الحقبة التي امتدت من ربيع الأول 11 هـ وحتى جمادى الأولى سنة 13 هـ .
في طليعتها تحرك جيش الإسلامي بقيادة اسامة بن زيد إلى ارض البلقاء حيث اضطدم بالحاميات الرومية هناك واحرز انتصارات في تلك المواقع .
والجيوش الإسلامية بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني تبدأ غزو العراق ؛ وفي تلك الفترة تم اغتيال آزرمي بنت كسرى وعمّت الفوضى في البلاد .
كما وقع حادث له دلالته عندما قام خالد بن الوليد بقتل مالك ابن نويرة (مالك بن نويرة بن جمرة بن شدّاد ، أبو حنظلة فارس شاعر من أردف الملوك في الجاهلية ، أدرك الإسلام وأسلم ولاه النبي صدقات قومه ، امتنع عن دفع الزكاة للظروف والملابسات التي اعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .) وآخرين دون مبرّر مقنع ، وقد عدّ الحادث وقتها افجع انتهاك لحقوق المسلم .
وفي سنة 12 هـ طلب أبو بكر من زيد بن ثابت أن يجمع القرآن الكريم .
هرقل امبراطور الروم يجهز حملة ضخمة بقيادة ( بانس ) ، والجيوش الإسلامية التي تقاتل في الجبهة العراقية تقطع الصحراء متجهة نحو الجبهة الشمالية لنجدة القوات الإسلامية المشتبكة مع الرومان ؛ والجيوش الإسلامية تتقدم باتجاه السقم الجنوبي من فلسطين .
وفي جمادي الأولى من سنة 13 هـ تدهورت صحة أبي بكر ، فاستدعى كلاً من عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ، وبحث معهما خلافة عمر (أهمل أبوبكر علي بن أبي طالب في مسألة الخلافة تماماً كما اهمله من قبل في مسألة جمع القرآن ، وسوف يبقى المنهج التبريري الذي يتناول تلك الحقبة المريرة من تاريخ الإسلام عاجزاً عن تقديم اجوبة مقنعة .) .
وكان الأخيران يدركان تماماً منزلة عمر لدى الخليفة الأول قال عبد الرحمن : ان عمر أفضل من رأيك فيه .
وقال عثمان : أن سريرته خير من علانيته ، وليس فينا مثله .
وطلب أبوبكر من عثمان أن يكتب عهده ... ويذكر التاريخ أن أبا بكر دخل في اغماءة اثناء مقدّمة العهد واستمر عثمان في الكتابة فسمّى الخليفة الجديد ، وهنا أفاق أبو بكر وقرأ عثمان ما كتبه اثناء فترة الاغماء ! فأقرّ الخليفة الأمر واستحسنه ! وبهذه الطريقة تمت تسمية الخليفة الثاني !
توهجات الزمن الثاني :
تسنم عمر بن الخطاب مسؤوليته في قيادة وادارة الدولة الاسلامية وتمّت مبايعته كأمير للمؤمنين (كان المسلمون يخاطبون أبابكر بـ «يا خليفة رسول الله » ، وحدث ما يشبه الأزمة في مخاطبة عمر بن الخطاب ، ويبدو لمن يتأمل الحوار الذي دار بين عمرابن الخطاب والمغيرة بن شعبة أن الأول كان يحاول مساعدة الأخير على اكتشاف التسمية الجديدة .) ؛ وقد امتدت خلافته لتستوعب عقداً كاملاً من الزمن قال علي فيها :
« حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ... فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، وان واسلس لها تقحّم » (المقطع الأخير يجسّد عمق معاناة علي عليه السلام في تلك الفترة ) .(4)
جمع الخليفة الثاني اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بعد ان أصبح التأريخ للحوادث مشكلة ، وكان السؤال : من أين نكتب التاريخ ، وتضاربت الآراء فقال علي عليه السلام : من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ...
وهكذا بدأ تاريخ الهجري .
استدعى عمر امرأة وكانت حاملاً ، فشعرت بالذعر واجهضت حملها واستشار عمر في الدية قال عبد الرحمن وعثمان :
ـ لا عليك ... انما أنت مؤدب .
فقال علي :
ـ ان كانا قد اجتهدا فقد اخطأ ، وان لم يجتهدا فقد غشاك .
أرى عليك الدية .
لم تجد العقوبة المفروضة آنذاك (اربعون جلدة .) في الحدّ من استمرار تعاطي الخمرة في الهشام ؛ وبعث أبو عبيدة بن الجرّاح نداء استغاثة حول هذه الظاهرة ، فاستشار عمر اصحاب النبي فقال علي : اجعلها بمنزلة حدّ الفريه « ثمانون جلدة » .
ان الرجل اذا شرب هذى افترى ؛ واصبح رأي الامام جزءً من القانون الإسلامي حتى الآن .
جاءت الشرطة تسوق امرأة راعية اتهمت بالزنا .
وسأل عمر المرأة فاعترفت ، وظن الخليفة الثاني ان الأمر قد بات واضحاً فاصدر حكمه برجمها كما أمرت الشريعة بذلك . وحضر علي في الوقت المناسب ، ورأى علي امارات حزن عميق تموج في وجه المرأة فقال :
ـ لعل بها عذراً .
وخاطب المرأة قائلاً :
ـ ما حملك على ما فعلت ؟
قالت المرأة وهي تشهق بالبكاء :
كان لي خليط ، وفي إبله ماء ولبن ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن فاستسقيته ، فأبى أن يسقيني حتى اعطيه نفسي ، فأبيت ثلاث مرّات ، حتى كدت أموت عطشاً .. فاعطيته الذي أراد فسقاني .
هتف علي :
ـ الله أكبر !
ثم تلا الآية المباركة :
« فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم » .
وعندها سحب الخليفة الثاني حكم الموت وانطلقت المرأة سعيدة بالحياة .
كانت الجيوش الإسلامية تندفع هنا وهناك من العالم وبرزت مشكلة الأرض المفتوحة ، عندما طالب المسلمون باربعة اخماس الأرض ؛ على اساس ظاهر الآية ، وحدث جدل واسع حولها في المدينة ، فاشار علي عليه السلام على الخليفة بابقاء الأرض بايدي اصحابها الأصليين ، والزامهم بدفع ضريبة الخراج لسدّ حاجات الدفاع عن الأمة ؛ وكان لهذا الموقف الأثر الكبير في انتشار الإسلام .
وقعت جريمة فريدة في « صنعاء » عندما اقدمت إمرأة مع عشيقها على قتل زوجها وتردد عمر في اصدار حكم القصاص فهل يصح قتل الكثيرين بالواحد ؟!
فقال علي متسائلاً :
أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور هذا عضواً ، وهذا عضواً .. اكنت قاطعهم ؟
اجاب الخليفة :
ـ نعم .
عندها قال علي عليه السلام :
ـ فكذلك .
وهنا كتب عمر ألى عامله هناك : ان اقتلهما فوالله لو اشترك أهل صنعاء كلهم لقتلهم .
الحوادث : وقعت خلال العشرة اعوام تلك حمادث هامّة فعلى الصعيد الثقافي منع الخليفة الثاني تدوين الحديث ، وعرّض بذلك تراث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم إلى خطر الضياع ، غير أن علياً عليه السلام كان قد انبى إلى جمع القرآن وتدوين الحديث منذ اليوم الأول لرحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ألى الرفيق الأعلى ، فاصبح المرجع الأول في الأحكام باعتراف الجميع . وشهد هذا العقد من الزمن تتابع الفتوحات الإسلامية تواصل معاركها الضارية مع الرومان بعد معركة اجنادين الحاسمة ، وقوّات الإسلام تفتح عشرات المدن هناك .
( 132 )
وفي سنة 14 هـ توفى سعد بن عبادة في طريقه إلى الشام في ظروف غامضة (الخزرجي الأنصاري أبو قيس ، احد النقباء الاثني عشر في بيعة العقبة كان سيد الخزرج ، وكانت في يديه راية الفتح في تحرير مكّة ، سمعت تهديداته لابي سفيان وقريش ، فاخذ النبي الراية منه وسلّمها علياً كان زعيم مؤتمر السقيفة وبذل قصارى جهده في دفع الانصار إلى بيعته قبل أن يستولي عليها المهاجرون !) .
وفي السنة الخامسة العشرة من الهجرة وبعد مضي عامين على خلافة عمر بن الخطاب بدأ الأخير في تنفيذ سياسة مالية جديدة مخالفاً بذلك سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والخليفة الأول ، وبدأ منذ ذلك التاريخ التمييز في نظام العطاء ، في تقدم « البدريين » على غيرهم وتفضيل المهاجرين على الأنصار وتقديم امهات المؤمنين على غيرهن ، وتصنيف سائر شرائح المجتمع الإسلامي على أساس الانتماء القبلي ، فتجذرت بذلك ظاهرة العصبية التي ساعدت فيما بعد على توفير المناخ المناسب للعنصرية ؛ ونهضت عليها سياسة الحكم بعد ثلاثة عقود من الزمن (الحكم الأموي البغيض .) .
وفي تلك الفترة الغى الخليفة الثاني منح المؤلفة قلوبهم الامتيازات المالية التي كانوا يحصلون عليها ، وقد عدّت الخطوة في الدراسات المعاصرة محاولة ناجحة في دمج تلك الشريحة المعادية الإسلام في الباطن بالمجتمع الإسلامي ، وتمهيد الطريق أمام بني امية في تسنم ارفع المناصب القيادية ؛ فاذا اضفنا إلى ذلك سياسته تجاه ولاة المدن التي تتسم بالشدّة والقسوة في بعض الأحيان ، واستثناء معاوية بن أبي سفيان من ذلك حتى اصبح الوالي المدلّل ، فان الأمر سوف يدعو إلى التساؤل عن بواعث هذا الاستثناء (كانت الاخبار تترى حول تجاوزات معاوية المالية وبذخه ، وكان عمر يكتفي بردّه قائلاً : ذاك كسرى العرب ، وقد بلغ من استهتار الاخير انه كان يلبس الديباج والحرير ويستعمل الذهب ، الأمر الذي دفع ببعض الصحابة إلى استنكار ذلك علنا فردّهم الخليفة الثاني قائلاً :
ـ دعونا من ذمّ فتى من قريش ، من يضحك في الغضب ، ولا ينال ما عنده من الرضا ، ولا يؤخذ من خوف رأسه إلا من تحت قدميه) !
اضاءتان :
سافر احدهم بعد أن أودع أمرأتيه لدى صديق له وكانتا حاملين فوضعت كلاهما ، وضعت احداهما بنتاً والأخرى صبياً ، واندلع النزاع ، حول الصبي ، حين ادعته المرأتان .
وجاء الصديق يستنجد بالقضاء لحلّ هذه المعضلة ، وعرض الخليفة الثاني ملف القضية على الصحابة فلم يجد لديهم حلاً فقال عمر :
أما والله اني لأعرف من لها .
وادرك بعضهم ما عناه الخليفة فقال :
ـ كأنك تعني علياً
ـ أجل .
وتطوع أحدهم باستدعاء علي ولكن الخليفة رفض ذلك قائلاً :
في بيته يؤتى الحكم .
ونهض الجميع المنطلقين إلى ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ؛ وبعد لأي وجدوه في بستان يعمل ... سمعوا صوته وهو يرتل آيات من القرآن فيمتزج الترتيل بالبكاء والدموع :
ـ « ايحسب الإنسان أن يترك سدىً ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فسوّى فجعل منها الزوجين الذكر والانثى أليس ذلك بقادر على أ، يحيي الموتى ... » .
ونظر بعضهم إلى بعض .. فالقضية التي جاءوا من اجلها تدور حول ذكر وانثى !
رحب الإمام بضيوفه وروى عمر ما جاءوا من أجله : فاشار إلى الرجل وقال :
ـ ان هذا ذكر ان رجلاً أودعه امرأتين ، فوضعتا جميعاً : احداهما ولداً ذكراً والأخرى بنتاً وكلتاهما تدّعي الابن وتنفي البنت ( يبدو أن الدوافع كانت من اجل الميراث أو لنيل الحظوة والمنزلة لدى الزوج .) .
إجتث الإمام شوكة صغيرة من الأرض وقال :
ـ القضاء فيها ايسر من هذه .
أمر الإمام باحضار قدحين متساويين في الوزن والتفت إلى احداهما وقال : احلبي في هذا القدح .. فحلبت .. وقال للأخرى مثل ذلك .. وجئ بميزان للصاغة فوضع في طرفيه القدحان وكان حجم الحليب متساوياً ؛ ودهش الصحابة وهم يرون أن أحد القدحين يرجح الآخر فقال لصحابة القدح الاثقل : خذي ولدك ، والتفت إلى الأخرى فقال : خذي بنتك ، والتفت إلى الخليفة . فقال : لبن البنت على النصف من لبن الولد ، وميراثها نصف ميراثه .
واعجب عمر بقضاء الإمام فقال متأثراً :
ـ لقد ارادك الحق يا أبا الحسن ولكن قومك أبوا (ممّا يثير التساؤل المرير هذا التأكيد الماتواصل على احقية علي عليه السلام بالخلافة واستبعاده القاتل في لحظات تقرير المصير .. مصير الحكم .) !
فقال الإمام بشيء من الحزن :
ـ هوّن عليك أبا حفص .. ان يوم الفصل كان ميقاتاً .
واندلعت ازمة قضائية أخرى ، عندما اقدمت امرأة على افتضاض بكارة فتاة يتيمة كان زوجها قد ربّاها في بيته وخشيت المرِأة بعد ان رأت تلك الفتاة قد شبت واضحت فائقة الجمال ان يقدم زوجها على الزواج منها ، فانتهزت سفر الزوج وسقتها الخمرة وازالت بكارتها بيدها بمعاونة بعض جاراتها ؛ وعندما عاد الزوج
اتهمت الزوجة الفتاة بالبغاء . وحار الخليفة في فصل القضية فانطلق مع اصحاب الدعوى وجمع من الصحابة إلى علي .
سأل علي الزوجة عن البيّنة في هذا الاتهام :
ـ الك بينة أو برهان .؟
اجابت المرأة :
ـ هؤلاء جاراتي يشهدون عليها بما أقول .
وجاءت النسوة فشهدن ضد الفتاة ؛ ودخلت القضية مطبّاتها أمام اصرار الفتاة بأنها لم ترتكب مثل هذا الاثم .
أمر الإمام باجراء لم يسبق له مثيل عندما طلب التفريق بين الشهود ؛ بدأ الإمام استجوابه التحقيقي مع زوجة الرجل فحذرها من عاقبة القذف فاصرّت المرأة على موقفها ، فغادر الإمام الحجرة إلى حجرة أخرى حيث توجد إحدى الشاهدات ؛ استلّ الإمام سيفه ذا الفقار من الغمد ، وجثا على ركبتيه وخاطبها قائلاً :
أتعرفيني .. ؟ انا علي بن أبي طالب وهذا سيفي ..
ثم أردف قائلاً :
ـ وقد قالت امرأة الرجل ما قالت ورجعت إلى الحق فاصدقي القول وإلا ملأت سيفي منك .
وانهارت المرأة فالتفت إلأى عمر قائلة :
ـ يا أمير المؤمنين الأمان على الصدق ؟
قال الإمام :
ـ فاصدقي إذن .
واعترفت المرأة بجريمة صاحبتها فقالت :
ـ والله ما بغت الفتاة .. ولكن زوجة الرجل رأت فيها جمالاً وهيئة .. وخافت أن يتزوجها ، فسقتها المسكر ودعتنا فامسكناها فافتضتها باصبعها ! وهناك هتف الإمام : الله اكبر ... أنا أول من فرّق بين الشهود بعد دانيال النبي .. واصدر الإمام حكمه في القضاء :
ـ على المرأة حدّ القذف وجميع العقر وهو اربعمئة درهم ... وأنت تنفى من الرجل (طلق الرجل زوجته بعد عودته ... فزوّجه الإمام الفتاة اليتيمة وساق عنه المهر .) ...
وانتهز عمر الفرصة فقال للإمام :
ـ حدّثنا يا أبا الحسن حديث دانيال .
فقال عليه السلام :
ـ كان دانيال النبي يتيم الابوين ... احتضنته امرأة من بني اسرائيل فربّته .. وان ملكاً من ملوك بني اسرائيل كان له قاضيان وكان لهما صديق وكان رجلاً صالحاً وله زوجة صالحة على جانب كبير من الجمال فبعثه الملك في بعض أموره ؛ فقال الرجل للقاضيين : اوصيكما بامرأتي خيراً ؛ وخرج الرجل ، وكان القاضيان يأتيان باب الصديق ، فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها ، فأبت . فقالا لها ان لم تفعلي لنشهدن عليك عند الملك بالزنى ثم لنرجمنك .
فقالت : افعلا ما احببتما .
فأتيا الملك فشهدا عنده انها بغت ، وكان لها ذكر جميل فاعترى الملك من ذلك أمر عظيم واشتد غمّه فقال لهما : ان قولكما مقبول فأجلوها ثلاثة أيام ثم ارجموها .
ونادى المنادي في تلك المدينة أن احضروا رجم فلانة العابدة قد بغت ، وقد شهد عليها القاضيان .
فاكبر الناس هذا العمل ودهشوا له ، وقال الملك لوزيره ما عندك في ذلك ؟ هل من حيلة ؟ فقال الوزير ما عندي في ذلك شيء ، فخرج الوزير في اليوم الثالث فاذا بغلمان عراة يلعبون وفيهم دانيال ، فقال دانيال لأصحابه : تعالوا نلعب فاكون أنا الملك وتكون انت يا فلان العابدة وقال وهذا سيفي ثم قال : خذوا بيد هذا الشاهد فاجعلوه في مكان كذا ثم دعا احدهما وقال : ان لم تقل حقاً قتلتك .. بم تشهد على هذه المرأة فقال : اشهد انها زنت .
قال : متى ؟
قال : يوم كذا وكذا .
قال : مع من ؟
قال مع فلان بن فلان .
في أي مكان ؟
في مكان كذا وكذا .
قال : ردوه إلى مكانه .
وجاء بالأخر .
فقال : علام تشهد ؟
قال : أنها زنت .
قال : في أي يوم .
قال : في يوم كذا وكذا .
قال مع من ؟
قال : مع فلان بن فلان .
قال : في أي موضع ؟
قال في موضع كذا وكذا .
فخالف صاحبه في الشهادة .
فقال الدانيال : الله اكبر ! شهدوا بزور ... ناد في الناس ان القاضيين شهدا على فلانة بالزور فاحضروا قتلهما .
فذهب الوزير إلى الملك مبادراً فاخبره بما رأى فبعث الملك إلى القاضيين ، ففرق بينهما ، وفعل بهما كما فعل دانيال فاختلفا في
القول كما اختلف الغلمان ، فنادى في الناس وامر بقتلهما .
المصادر :
1- مروج الذهب / المسعودي .
2- الشرح لابي الحديد : ج 1
3- نهج البلاغة / الخطبة رقم 3 .
4- نهج البلاغة . نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية .