
يعدُّ ما حدث في وادي حنين آخر المواجهات العنيفة بين الإسلام والوثنية .
كانت قبائل هوازن وثقيف التي تقطن الطائف قد وقفت موقفاً سلبياً حيال الإسلام في مراحل الدعوة الأولى .
وعندما غادر سيدنا الرسول الااکرم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم المدينة المنورة زاحفاً باتجاه مكّة ظنت تلك القبائل تسارعت الأحداث بشكل مثير ولم تسمع قبائل هوازن وثقيف بانتهاك قريش لصلح الحديبية ؛ ثم سيطرت مشاعر الغرور على حشودهم العسكرية الضخمة وحماس زعيمهم الشاب مالك بن عوف في مواجهة الجيش الإسلامي . انها ستكون الهدف من تلك الحملة العسكرية ؛ وهكذا تدفقت القبائل الوثنية إلى وادي حنين وتمركزت في المرتفعات المشرفة على الوادي في خطّة ذكيّة لمباغتة الجيش الإسلامي ؛ وقد ضم التجمع الوثني قبائل هوازن وثقيف ونصر وجشم وبلغت الحشود العسكرية الثني عشر ألف مقاتل ؛ وكان الجيش الإسلامي يتألف من اثني عشر ألف جندي هو الآخر .
وقد بلغ من تهوّر الزعيم الوثني الشابّ ان هدد بالانتحار إذا لم تنفذ القبائل المتحشدة تفاصيل خطّة دون قيد أو شرط ، وكانت خطّة تستند إلى ركنين . الأول : ضمان عنصر المفاجأة في احتلال المرتفعات ومباغتة الحشود الإسلامية بهجوم عنيف ، والثاني زجّه الأطفال والنسوة وما يمكن نقله من الأموال في المعركة وخلق حالة من الاصرار لدى القبائل ودفعها إلى القتال حتى النهاية .
وقد علّق الشاعر دريد بن الصمّة (دريد بن معاوية والصمّة لقب ابيه معاوية سيد بني جشم فقد بصره في اخريات عمره وكانت هوازن تستشيره في الأزمات . ) بمرارة قائلاً : ان المنهزم لا يردّه شيء ؛ وانقد مالكاً بن عوف لذلك .
كان على الجيش الإسلامي الزاحف أن يسلك المنعطفات الجبلية في منطقة حنين ؛ وعندما بدأت الكتائب الإسلامية في غبش الفجر الانسياب في بطن الوادي العميق ، فوجئت بوابل من السهام ؛ وهي تنبعث من قلب الظلمات ، وسادت الفوضى الكتيبة التي يقودها خالد بن وليد فارتدّت الى الوراء في انسحاب فوضوي جرف معه الكتلة الرئيسية من الجيش الإسلامي ، وتحوّل الانسحاب إلى هزيمة ، ولم يعر المنهزمون اذناً إلأى صيحات النبي وهي تدعوهم إلى الثبات والمقاومة ، وبهذا سجّلوا موقفاً اسوأ بكثير مما حصل في معركة أُحد .
لم يثبت مع النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلّة مؤمنة وقد تضاربت الروايات فيمن ثبت ولكنها اجمعت على ثلاثة في طليعتهم علي بن أبي طالب والعباس وأبو سفيان بن حارث (ابوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأخوه من الرضاعة ، كان يهجو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ؛ وفيما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يتجه صوب مكّة في عام الفتح غادر أبو سفيان مكّة مصطحباً ابنه وقد مال قلبه للإسلام فالتقى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في الطريق ، ورفض النبي استقباله ، وتوسطت أم المؤمنين أم سلمة له ولاخيها من ابيها قائلة :
ـ لا يكن ابن عمّك وابن عمّتك اشقى الناس بك يا رسول الله !
وقال ابو سفيان بمرارة : والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد ابني ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً ؛ وعلّمه علي كيف يقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قائلاً له :
ـ إئت رسول الله من قبل وجهه وقل له ما قاله اخوة يوسف : تالله لقد آثرك الله علينا وعندها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم . ) وايمن الذي هوى شهيداً في أرض المعركة .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عمّه العباس أن يطلق هتافاته الجهورية ليتذكر المسلمون بيعة في ظلال الشجرة (بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان وفيها بايع المسلمون سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم على الموت وذلك سنة 6 هـ ، وهي البيعة التي سبقت بأيام صلح الحديبية .) .
ودوّت في الوادي صيحات العباس :
ـ يا أهل بيعة الرضوان ! .. يا اصحاب سورة البقرة .. يا أهل بيعة الشجرة .. إلى اين تفرّون ؟
وكان ذو الفقار يسطع في غمرة الغبار كصاعقة مدّمرة ، وقد سجّل القرآن الكريم تلك اللحظات الحساسة من تاريخ الإسلام في قوله تعالى : « ويوم حنين إذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم انزل الله سكينة على رسوله وعلى المؤمنين وانزل جنوداً لم تروها » .
ان قلب المؤمن اقوى من الجبل ... وسيذكر التاريخ الإسلامي باجلال تلك اللحظات المصيرية ؛ فيوم هبّت العاصفة الوثنية صفراء مدمّرة ، لم يثبت سوى محمد وعلي ورجال صدقوا ... وانزل الله جنوده .. وتحولت الهزيمة إلى نصر وشيئاً فشيئاً عاد المنهزمون إلى الوادي الأيمن (النبي إلى يمين الوادي . ) ، وكانت راية الإسلام تخفق في قبضة علي ؛ واقتحم النبي عن بغلته وراح يباشر القتال ببسالة ادهشت المسلمين انفسهم ، واندفع علي إلى حامل الراية الوثنية فقضى عليه ، وسقطت راية الشرك وكان لهذا الموقف البطولي اثره في ارتفاع معنويات المسلمين .
وما ان اشرقت الشمس حتى كانت ارض الوادي تهتز لضرواة المعركة ، وعندما شاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أن كفة القتال تميل لصالح الجيش الإسلامي هتف معلناً بدء الهجوم المعاكس :
ـ الآن حمي الوطيس ، شدّوا عليهم !
واندفع المسلمون في هجوم مدمّر ، وراحوا يمزقون الفلول الوثنية ، التي فضلت الفرار والنجاة بأي ثمن .
لقد سقطت راية الشرك إلى الأبد فيما ظلت راية الإسلام تخفق في قبضة بطل الإسلام علي بن أبي طالب عليه السلام .
انظر كيف يتألق اسم علي في منعطفات التاريخ الإسلامي .. في اللحظات المصيرية .. في « بدر » و« أُحد » والاحزاب وفي يوم حنين ؛ ثم يختفي فجأة عندما يصبح الحديث عن الغنائم والاسلاب ، والاطماع الرخيصة ..
لقد حصل أبو سفيان وصفوان ومعاوية ويزيد على ثروات طائلة لم يكونوا ليحلموا بها .. وعاد علي ولا شيء في يديه سوى البيرق الإسلامي ، و« السكينة » التي انزلها الله على رسوله تملأ قلبه .
هارون : في السنة التاسعة من الهجرة المباركة وصلت المدينة انباء مثيرة حول حشود عسكرية هائلة في تبوك (وفي الشمال من شبه الجزيرة العربية . ) ؛ واستعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لمواجة أكبر امبراطورية في العالم آنذاك . كان الفصل صيفاً شديد الحرارة ، والعالم عام جدب مما جعل هذه المهمّة العسكرية شاقّة ، واعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم حالة النفير العالم ، ولأول مرّة استخدام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم اسلوب الحرب الشاملة بالتحاق جميع القادرين على حمل السلاح .
وسجّل المجتمع الإسلامي حالة رائعة من التضمن مقابل تيار المنافقين الذين بذلوا جهوداً قذرة في تثبيط الهمم (شهد ذلك العام نشاطاً محموماً من قبل المنافقين وكانت لهم اتصالات مشبوهة مع « ابي عامر الراهب » الذي لجأ إلى القسطنطنية لتحريض الرومان . ) .
وبالرغم من قسوة الظروف فقد حشد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ثلاثين الف مقاتل وغادر المدينة واستخلف عليها وصية علي بن أبي طالب وهي المرّة الأولى التي لم يشترك فيها على في حروب الإسلام .
كان المنافقون ينتهزون هذه الفرصة ولكنهم اصيبوا بخيبة أمل لدى اكتشافهم ان خليفة النبي هو ابن عمه علي .
وجاء وفد من المنافقين وعرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أن يصلي في مسجد (تعود فكرة بناء مسجد « ضرار » إلى أبي « أبي عامر الراهب » وهو من أهل المدينة ومن قبيلة الخزرج ، اعتنق النصرانية في الجاهلية ، واظهر العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم بعد قدومه إلى المدينة وفرّ إلى مكة بعد معركة البدر ، وراح يحرّض قريشاً على حرب الإسلام ، اشترك في معركة أحد ، وظل في مكّة حتى الفتح ؛ لجأ إلى الطائف ثم فرّ منها إلى بلاد الروم ، والتقى هرقل وحرّضه على قتال الدولة الإسلامية ، ومن هناك كتب إلى جماعة من المنافقين ودعاهم إلى بناء مسجد يكون لهم مقرّاً ومعقلاً له إذا فكر بالعودة إلى المدينة ؛ وقد استجاب المنافقون لفكرته وشرعوا في بناء مسجد مقابل مسجد « قبا » . ) لهم بنوه في قرية « قبا » في ضواحي المدينة ؛ ولم يذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى قبا ؛ وارجأ ذلك لحين عوجته من تبوك .
وقف الاطفال والنساء والشيوخ فوق سطوح المنازل يودّعون الجيش الإسلامي والشفاه تتمتم بالدعاء أن ينصر الله رسوله والذين آمنوا .
واستيقظت في نفوس المنافقين كوامن الخيانة والغدر ووجدوا في علي عقبة كأداء في الوصول إلى أهدافهم الرخيصة .
اطلق المنافقون الشائعات حول المنافقين الشائعات حول الستخلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لعلي بن أبي طالب قائلين : انما خلّفه استثقالاً له . ولم يجد علي وهو الذي لم يفارق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم طيلة حياته إلا أن يأخذ سلاحه ويلتحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
كان النبي قد عسكر في « الجرف » قريباً من المدينة عندما وصل علي وقال مخاطباً رسول الله :
ـ يا نبي الله زعم المنافقون بانك انما خلفتني استثقالاً لي !
أجاب النبي مستنكراً :
ـ كذبوا .. انما خلّفتك لما ورائي .. ان المدينة لا تصلح إلا بي أو بك .. فانت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي ..
واردف قائلاً كلمته الخالدة :
اما ترضى يا علي أن تكون مني بنزلة هارون من موسى ولكن لا نبي بعدي ؟
وعاد « هارون » إلى المدينة وهو يحمل أوسمة المجد ؛ وشعر المنافقون بالاحباط ؛ وهم يرون علياً يعود إلى المدينة ، فانطلقوا إلى مسجدهم (مسجد ضرار الذي احرق فيما بعد بامر من السماء . ) خارج المدينة .
مشاهد النبوءات :
المشهد الأول :حل ذو الحجة الحرام من السنة التاسعة للهجرة ، وهبط جبريل يحمل آيات « البراءة » ، ايذاناً سماوياً بانتهاء الوثنية في شبه الجزيرة العربية ، استدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر وسلّمه البلاغ السماوي (« براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلوا انكم غير معجزين الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولهُ فان تبتم فهو خير لكم وان توليتم فاعلوا انكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب اليم » (1)
ومضى أبوبكر أميراً على الحج ذلك العام ؛ حتى إذا وصل « ذي الحليفة » (الميقات المعروف اليوم بـ « مسجد الشجرة » . ) . هبط الوحي في المدينة المنورة ، يأمره إلا يبلّغ تلك الآيات إلا نبي أو وصي نبي واستدعى رسول الله علياً وأمره أن يركب « القصوى » ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
وأن يدرك أبابكر ويأخذها منه .
وعاد أبوبكر إلى المدينة وهو يشعر بالقلق وخاطب النبي بلهجة يشوبها خوف :
ـ يا رسول الله انزل فيّ شيء ؟
اجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مطمئناً :
ـ لا ولكن قال لي جبريل : لا يؤديها عنك إلا انت أو رجل منك (« ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا إلى من ولاه الله من سمائه فعزلوه والى من عزله الله من سمائه فولّوه » هشام بن الحكم معلّقا على نتائج « السقيفة » . ) .
علي يطوي المسافات يقود قوافل الحج الأكبر . وشهد البيت العتيق للمرّة الثالثة نداءات التوحيد ؛ وكان الوثنيون يبحثون عن الات العزى وهبل وعن عشرات الألهة التي دكّها الزلزال الإسلامي .
وها هو علي بن أبي طالب ابن عم محمد وزوج ابنته فاطمة يعلن موت الوثنية وزوالها إلى الأبد .
تألقت شمس العاشر من ذي الحجة الحرام ، ووقف علي يتلو بلاغ السماء :
« انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا » .
ودوّت نداءاته في فضاء مكّة وهو يهتف عالياً :
ـ لا يحجّن بعد هذا العام مشرك ولا يطوفن في البيت عريان ولاتدخل الجنّة إلا نفس مسلمة ؛ ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى مدّته .. » .
المشهد الثاني : دخل الناس في دين الله أفواجاً ، ما خلا بعض القبائل هنا وهناك ، وفي شهر رمضان المبارك من السنة العاشرة للهجرة بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم علياً على رأس ثلاثمئة من المقاتلين إلى قبيلة مذحج في اليمن وكانت مشاهد التوديع مؤثرة فقد عمّم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم علياً بنفسه وسلّمه اللواء ، وقال له :
ـ ادعهم إلى قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فان أجابوك فأمرهم بالصلاة ولا تبغ منهم غير ذلك ..
واردف قائلاً :
ـ والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس .
وحفظ علي وصية النبي فعاش حياته كلها يجاهد من أجل الايمان .
وحفظ علي وصية النبي فعاش حياته كلها يجاهد من أجل الايمان .
قال علي وقد ساوره قلق من مهمّته :
ـ يا رسول الله تبعثني إلى قوم وانا حديث السن لا أبصر القضاء . تقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ووضع يده على صدر علي ونظر إلى السماء بخشوع وقال :
ـ اللهم ثبت لسانه واهد قلبه .
واردف وهو ينظر إلى فتاه وصهره :
إذا جاءك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر فانك إذا فعلت تبين لك القضاء (قال علي عليه السلام : « والله ما شككت في قضاء بين اثنين » . ) .
وانطلقت خيول الإسلام إلى اليمن ، وكان همّ عليّ الأول أن تدخل القبال القاطنة هناك في دين الله ؛ وقد نجح في مهمّته (كان خالد بن الوليد قد اخفق في هذه المهمّة رغم مرابطته ستة اشهر . ) ، ثم غادر اليمن بعد أن ترك فيها معاذ بن جبل يعلّم أهلها احكام
الشريعة ؛ أما علي فقد توجه من هناك إلى مكة ، فقد اطلّ موسم الحج ، وها هو رسول الله ومعه عشرات الألوف من المسلمين يقطعون الصحراء وهم يلبّون نداء ابيهم ابراهيم ، وقد سمّاهم المسلمين من قبل ؛ واسرع علي (كان علي قد ترك الجيش ليلحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم . ) يحث خطاه وفي قلبه شوق للقاء نبي الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، والتقى الاخوان على مشارف مكّة .
وزفّ علي بشائر النصر إلى رسول الله .
قال النبي وقد اشرقت الفرحة في وجهه :
ـ بم اهللت يا علي ؟
قال علي :
ـ يا رسول الله انك لم تكتب اليّ باهلالك ولا عرفته فعقدت نيّتي بنيتك ، وقلت اللهم اهلالاً كإهلال نبيك ، وقد سقت معي من البدن اربعاً وثلاثين بدنة .
وعندها قال النبي صلى الله عليه وآله :
ـ الله أكبر وأنا سقت ستاً وستين .. وانت شريكي في حجي ومناسكي وهديي فأقم على احرامك وعد الى جيشك فعجّل بهم حتى نجتمع بمكة .
المشهد الثالث : وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم النحر من حجة الوداع خطيباً :
ـ « اما بعد ايها الناس اسمعوا مني ما ابين لكم فاني لا أدري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا ، ان دماءكم واموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم وبلدكم هذا .. »
« ايها الناس انما المؤمنون اخوة ولا يحلّ لأمريء مال اخيه إلا عن طيت نفسه ، فلا ترجعوا كفاراً بعدي يضرب بعضكم اعناق بعض فأني قد تركت فيكم ما ان اخذتم به لن تضلوا بعدي ابداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ... » .
انطوى موسم الحج ، وغادر سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم مكّة ومعه مئة ألف أو يزيدون ؛ التاريخ يشير إلى يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام من السنة العاشرة للهجرة .
قوافل الحجيج تهوي في بطون الأودية ؛ الشمس في كبد السماء وقد بدت وكأنها تتشظى لهباً ، القوافل تصل مكاناً (غدير خم . ) قريباً من الجحفة ، حيث مفترق الطرق .
وغمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو على ناقته « القصوى » حمّى الرسالات لقد هبط جبريل يحمل بلاغ السماء ، وتوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يتشرب انذاراً سماوياً :
ـ « يا ايها الرسول بلّغ ما انزل اليك من ربّك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس » .
وتوقفت عشرات الألوف وهي تتساءل عن السرّ في توقف النبي ، في هذه البقعة الملتهبة من دنيا الله .
وانبرى بعض الصحابة يصنعون للنبي مرتفعاً فلديه كلمات تامّات يريد ابلاغها لعشرات الآلاف من الصحابة .. والأجيال القادمة ... والتاريخ .
كلمات الحمد والثناء لله تنساب من بين شفاه آخر الأنبياء كان علي واقفاً قرب الإنسان الذي ربّاه صغيراً وعلّمه كيف يحيا ؛ قال النبي وعشرات الاُلوف تتطلع إليه :
ـ ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم ؟
وجاء الجواب من عشرات الحناجر :
ـ بلى يا رسول الله .
وأخذ النبي بيد علي ورفعها عالياً :
من كنت مولاه فهذا علي مولاه ...
ورفع آخر الأنبياء يديه إلى السماء :
ـ اللهم وال من والاه .. وعاد من عاداه .. ونصر من نصره .. واخذل من خذله .
وهبط جبريل يبشر محمداً صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قد ادّى رسالته وقد آن له أن يستريح ؛ لقد اكتمل الدين وتمت النعمة وقيل الحمد لله رب العالمين .
تصفد الجبين الازهر ؛ عرقاً تألقت حبّات العرق كقطرات الندى وقد انطبعت كلمات السماء فوق شغاف قلبٍ وسع الدنيا والتاريخ :
ـ « اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا » .
ارهاصات الرحيل :
عاد رسول الله إلى المدينة ، ينوء بثقل السنين ، تؤرقه هواجس المصير ؛ جبريل يعرض عليه القرآن مرّتين ، أنه يقترب من النهاية .. نهاية كل الحيوات ، وقد ظهرت في الافق غيوم وغيوم (تعدّ الشهور الأخيرة من حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم « أواخر السنة العاشرة ومطلع السنة الحادية عشرة من الهجرة » من الفترات العاصفة في تاريخ الإسلام وما تزال بعض حوادها تثير حتى اليوم اسئلة عديدة . ) .
انتصف الليل وبدت النجوم في صفحة السماء قلوباً تنبض بوهن استدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مولاه « أبا مويهبة » .
قال النبي بشيء من الحزن :
ـ اني قد أمرتُ أن استغفر لاهل البقيع فاخرج معي .
ـ لبيك يا رسول الله .
الصمت يهيمن على المكان ما خلا خطوات واهنة في طريقها إلى اناس عاشوا ثم ماتوا ؛ وقف آخر الأنبياء يحيّي أولئك الذين رحلوا بعيداً بالرغم من تلك الاشبار القليلة التي تفصلهم عمّا يجري فوق الأرض :
ـ السلام عليكم يا أهل المقابر : ليهن لكم ما اصبحتم فيه مما اصبح الناس فيه ، لو تعلمون ما نجاكم الله منه ...
أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع اخرها أولاها والآخرة شرّ من الأولى .
التفت رسول الله إلى مولاه :
ـ يا أبا مويهبة : اني قد اوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنّة ؛ وخيّرت بين ذلك ولقاء ربّي والجنّة ، فاخترت لقاء ربّي والجنّة .
قال أبو مويهبة بحزن :
ـ بابي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنّة .
أجاب النبي وقد هزّة لقاء الحبيب :
ـ لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربّي ..
وسمع أبو يهبة تمتمات الاستغفار ... ها هو النبي الأمّي يتذكر اصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
الأيام تمرّ حزينة والرسول يخطو إلى النهاية ... وقد ازفت ساعة الرحيل (تذكر المصادر التاريخة ان زينب بنت الحارث اليهدية اهدت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم شاة مشوية بعد أن سمّت ذراعها « وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يحبّ من لحم الشاة الذراع » ، وقد لاك النبي منها مضغة ولم يسغها ، وتناول أحد اصحابه « بشر بن البراء » منها لقمة فمات فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم : ان هذا العظم ليبخرني أنه مسموم واعترفت المرأة بجريمتها وبرّرت ذلك بقولها : قلت في نفسي : ان كان نبيّاً فيخبر وان كان ملكاً استرحت منه . وقد وقع الحادث بعد توقف العمليات الحربية في خيبر سنة 7 هـ ـ صيف عام 628 م . ) .
لزم النبي فراش المرض ، جسده يغلي من وقع الحمّى .
المسلمون رجالاً ونساءً يعودون آخر الأنبياء .. القلوب تذوب حزناً وجاءت أم بُشر تعوده ؛ قال النبي وقد ومضت في ذهنه حوادث خيبر :
ـ يا أم بشر ... وجدت انقطاع ابهري مع الاكلة التي اكلت مع ابنك بخيبر (2) .
الخميس 24 | صفر | 11 هـ :
اليوم هو يوم الخميس ، ارتدت الاشياء ثوب الحزن والقلق ؛ أو هكذا خيّل للمؤمنين ، فالقب الكبير يخفق بشدّة تتسارع دقّاته
تحت لهيب الحمّى ... والنبي يقطع الخطوات الأخيرة من حياته في كوكب الحوادث ؛ عيناه مشدودتان إلى الافق البعيد .. الافق المغمور بالطمأنينة والسلام ؛ والقلب يخفق لآخر الامم وقد ذرّ الشيطان قرنيه .
الحجرة الطينية المتواضعة تكتظ برجال رافقوا النبي وها هم يجتمعون حوله ، وآلاف الأفكار تصطرع في الرؤوس ، وقد « اقبلت الفتن كقطن الليل المظلم » .
نظر النبي إلى اصحابه .. دمعت عيناه .. ها هي لحظة الوداع قادمة من بعيد انها تقترب ، وها هي الفتن مقبلة .
تمتم النبي بصوت واهن :
ـ ائتوني تصحيفة ودواة لاكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً .
ونهض صحابي .. فاعترضه رجل فيه غلظة :
ـ أرجع .. لقد غلب رسول الله الوجع .. انه يهجر .. حسبنا كتاب الله .
الجسد يغلي تحت وطأه الحمى .. غامت المرئيات وولج النبي عالماً آخر اغضبته كلمات صاحبه .
ولمّا افاق وجد اصحابه يتنازعون ، قال رجل :
ـ ألا نأتي لك بدواة يا رسول الله !
اجاب النبي بحزن :
ـ أبعد الذي قلتم .
أدار آخر الأنبياء وجهه إلى الحائط .. ونهض الرجال وكان ابن عم له بيكي (عبد الله بن عباس . ) .. يبكي بمرارة ؛ لقد اضاع المسلمون مجدهم .. ولسوف يبكون .. يذرفون الدموع غزاراً قبل أن يعثروا عليه .
الجمعة 25 | صفر | 11 هـ :
جاءت فاطمة .. فتاة تحمل ملامح مريم .. النبع الدافق رحمة وحناناً .. جاءت « أم أبيها » (كلمة مأثورة عن النبي في حق ابنته . ) .. تعود أباها .. اراد آخر الأنبياء أن ينهض اجلالاً للمرأة المثال .. لسيدة كل امرأة في التاريخ .. ولكن الجسد الواهن لم يستجب للارادة .. هتف وقد شاعت الفرحة في وجهة .
ـ مرحباً يا بنتي ..
أخذ النبي بيدها واجلسها إلى يمينه ؛ همس في اذنها بكلمات .. شهقت الفتاة بعبرات واخضلّت الاجفان بالدمع .. كسماء تمطر بحزن ..
وهمس الأب بكلمات .. انقشعت الغميوم .. واشرقت شمس الأمل تبعث النور والدفء .. اشرقت ابتسامة في الوجه المضيء .. تعجبت عائشة .. حفصة .. أم سلمة .. وكل النسوة .. نهضت فاطمة .. لحقتها عائشة :
ـ لقد خصّك بسرّ .. تضحكين تارة وتبكين أُخرى !!
اخبريني بما قال لكِ .
قالت فاطمة وما تزال قطرات الدمع عالقة باهدابها :
ـ ما كنت لأفشي سرّ رسول الله .
السبت 26 | صفر | 11 هـ :
ترك أسامة جيشه في « الجرف » (شدّد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على اهمية هذه الحمله العسكرية واسند قيادتها إلى أسامة بن زيد بعد أن تناهت الأنباء حول حملة اضطهاد ينفذها الرومان حيال المسلمين وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كبار الصحابة بالانضواء باستثناء وصيه علي بن ابي طالب ، وهو أمر يدعو إلى التأمل في حوادث تلك الفترة العاصفة من التاريخ . وكانت مهمّة « اسامة » كما وردت في كتب التاريخ ان يوطئ الخيل تخوم البلقاء ( الأردن ) والدواروم من ارض فلسطين قريباً من « مؤتة » حيث سقط والده « زيد بن حارثة » شهيداً .)
ودخل منزل تموج في نفسه الهواجس ، فهناك من الصحابة من نتذمّر من قيادته لحداثة سنّة ، وهناك من يتعلّل بحالة النبي قال اسامة وهو مطرق الرأس :
ـ بأبي أنت وأُمي .. اتأذن ان امكث اياماً حتى يشفيك الله ..
ـ لا يا أُسامة .. انفذ بجيشك حتى توطئ خيلك ارض البلقاء والداروم حيث قتل أبوك .
ورأى النبي صاحبيه .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بألم :
ألم أمركم بانفاذ جيش اسامة ؟!
اجاب الأول : كنت في « الجرف » وقد جئت اجدّد بك العهد .
وقال الثاني : أما أنا فلم اخرج .. لا أريد أن أسأل عنك الاعراب في الصحراء !
تضاعفت آلام محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ... غلت العروق بسبب الحمى والغضب تمتم بحزن : انفذوا جيش اسامة ... انفذوا جيش اسامة .. أنفذوا ...
الأحد 27 | صفر | 11 هـ :
خفّت الحمّى ... وشعر آخر الأنبياء بشيء من النشاط يسري في جسده الواهن ؛ تاقت روحه العظيمة إلى مسجد أُسس بنيانه على التقوى ؛ كان الوقت ضحى ، طلت النبي من ابني عمّه (علي والفضل . ) .
ان يساعداه ؛ وبالرغم من العصابة التي شدّها حول رأسه إلاّ ان الحمى قد خفّت قليلاً ... وها هو النبي يمشي الهويني بين علي
والفضل ، وشاعت الفرحة بين اصحابه ...
اتجه آخر رسل السماء إلى فارتقاه وكان يتساند على يد الفضل حتى استوى قال النبي اصحابه بنظرات تشّع رحمة وقال :
احمد اليكم الله .. ايها الناس . من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه ومن كنت اخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ..
ولا يقل رجل أني أخاف الشحناء من رسول الله ألا وان الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني الا وان احبكم اليّ من أخذ مني حقاً ان كان له .. أو حلّلني فأتيت الله وأنا طيب النفس ...
الاثنين 28 | صفر | 11 هـ :
دهمت الحمّى الجسد الواهن ، والروح العظيمة توشك على الرحيل ؛ القلب الكبير يخفق بعنف .. واخفقت مياه الآبار في اطفاء النار المشتعلة ..
ارتفع صوت بلال يدعو إلى الصلاة ... وخف بلال الى بيت الرجل الذي علّمه كيف يحيا ... وقف إزاء الباب وهتف بشوق :
ـ الصلاة يرحمكم الله :
قال النبي وهو ينوء تحت وطأة الحمّى :
ـ يصلّي بالناس بعضهم فاني مشغول بنفسي ..
هتفت عائشة : مروا أبابكر !
وهتفت حفصة : مروا عمر !
وتألم النبي فما يزال اصحابه في المدينة وقد أمروا بالجهاد .. مايزال جيش اسامة في المدينة وقد أمر أن يذهب إلى تخوم « البلقاء » .
ونهض رسول الله ... وساعده علي والفضل ... وكانت قدماه تخطان في الأرض ... ووجد صاحبه في الغار في المحراب فنحّاه ..
وعاد النبي إلى منزله ينوء بحمى الرحيل ...
وضع النبي رأسه في حجر اخيه ... وتوهجت الذكريات البعيدة تذكر مشاهد مضيئة ... انبعثت من بين غبار الأيام وتراب السنين ... تذكر يوم كان صبياً في حجر محمد ... تذكر رحلاته إلى جبل حراء ويوم هبط جبريل يحمل آخر الرسالات ... وتذكر اللحظات التي ودّعه فيها يوم فرّ من مكّة ... تذكر سنوات الجهاد والعناء ... ويوم تحطمت الأصنام وعنت الوجوه للواحد القهّار ... ها هو محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم يذوي ... يخبو بريق عينيه ... يشع اسمه في القلوب ... كل القلوب ... نهضت فاطمة احتراماً للرجلين ابيها وبعلها .. احتراماً للحظات الوداع ... بعد رحلة طويلة ناهزت الثلاثين سنة ونهضت النسوة احتراماً لفاطمة ... لم يبق في الحجرة الطينية سوى محمد وعلي وكلمات الوداع ... جلست فاطمة عند عتبة الباب .. في استسلام كامل للقدر وانبعثت كلمات محمد الأخيرة ... السماء تخيّره فاختار :
ـ بل الرفيق الأعلى ...
وعانق علي اخاه وسيّده ... وانطلقت الروح من أهاب الجسد تطوي المسافات ...
ودوّى هتاف حزين :
ـ وامحمداه («وسمعوا صوتاً من السماء بعد موته ينادي وامحمداه ... » 1) ! (3)
وانطفأت الشمس وحلّ زمن الزمهرير .
فاطمة تنوء بنفسها وقد اسندت رأسها إلى صدر لم يعد النسيم يزوره .
كانت تصغي إلى صمت الأنبياء ... وللصمت حديث تسمعه القلوب وتصغي اليه العقول .. العينان اللتان كانتا نافذتي نور قد اسدلتا جفونهما ، واليدان اللتان كانتا مهداً هما الآن مسبلتان ... والروح التي كانت تصنع التاريخ والإنسان قد رحلت بعيداً ..
غادر هذا الكوكب الزاخر بالويلات .
لقد حلّت لحظة الفراق ؛ وتخفف الإنسان السماوي من ثوبه الأرضي ليرحل بعيداً ... إلى عوالم حافلة بالنور والحبّ والسلام .
المصادر :
1- التوبة 1 ـ 3 .
2- الطبري 3 : 16 .
3- تاريخ بن الوردي 1 : 209 .