
العداء للإسلام متأصل منذ فجر الدعوة الإسلامية ، قبل عصر الإمام الصادق (عليه السلام) يتوارثه الأبناء والأحفاد ، لأن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ بدايتها كانت موجهة إلى الناس كافة ، سواء منهم العرب أو غيرهم ، وثنيون كانوا أو يهود أو نصارى أو مجوس ، فهي لم تختص بطائفة دون أخرى ، ولا بقوم دون قوم ، ولا بقطر دون آخر ، بل دعوة لرسالة السماء عامة عالمية شاملة .
ولا بد أن تجابه هذه الدعوة بأقوى عدة وبأكثر عدد من المعارضين الذين قضى الإسلام على عقائدهم الفاسدة ومجدهم الغابر ، وهدم هياكل وبيوت عبادتهم التي يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى ، كما هدم صروح الكبرياء والأنانية وأزال عروش الظلم والاستبداد .
فلم يخضع لهذه الدعوة جبابرة قريش الذين ملكت الأنانية قلوبهم ، ولا الأباطرة من ملوك النصارى أو اليهود ، وزعماء الكنيسة والكنيست وغيرهم ، وعبدة الأوثان من المشركين .
وهدم النظام الاستبدادي المتعسف بنظام العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بين الناس كافة . فأحست هذه العناصر بخطر الدعوة ، فكانت للوثنية جذورها العميقة في الجزيرة العربية ، ولليهودية قواعد قوية في بلد الهجرة (المدينة المنورة وما حولها) ، وللنصرانية قوة في الشمال ، ولها كنائس وأتباع منبثون في مهد الدعوة ، أضف إلى ذلك المجوسية ومعابدها التي تدعمها دولة قوية تدين بدينها .
وكل هذه العناصر لا يروق لها انتشار هذا الدين وظهوره ، فتظاهر الكل بالعداء للإسلام ، وانتظم عقدهم وتكتلوا لشن حروب شعواء لا هوادة فيها ، حتى نصر الله رسوله ، فتيقنوا أن لا أمل لهم مطلقا في القضاء على الإسلام ، فاندحروا خائبين .
فدخل بعضهم الإسلام اعترافا منهم بعجزهم عن مقاومته ، وآخرون اعتقدوا صدق الدعوة فاستجابوا لها وأسلموا ، وفئة ثالثة دخلوا الإسلام نفاقا فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، وبقي الحقد يأكل قلوبهم ، والغيض يحز في نفوسهم ، فهم يتوارثونه ويتحينون الفرص ويتأهبون للوثبة ، ويعملون من وراء الستار ، وينتظرون الفرصة واليوم الذي ينتقمون فيه من الإسلام وأهله .
ولعل أول عهد حقق آمالهم هو الحكم الأموي ، لأن حكامهم قد رفضوا الخضوع لنظم الإسلام وقوانينه ، فكان دورهم فتحا لتلك العناصر المعادية للإسلام ، فقد سنحت الفرصة ، وكان لأمرهم متسع . فقد قرب الأمويون بعضهم ، وجعلوا منهم أداة سياسية يستعينون بهم على ترويج دعاياتهم ، وإظهار مقاصدهم ، كما أقام معاوية كعب الأحبار ، وهو يهودي أسلم في عهد عمر ، فغير مجرى الحوادث والتأريخ ، وأدخل الإسرائيليات في صميم تأريخ الإسلام على مسمع من عمر وعثمان ومعاوية .
وعلى كل حال فإن تعرض الإمام الصادق (عليه السلام) لهم والبراءة منهم وإعلان ذلك للملأ ، هو امتداد لحركة الأئمة ضد خصوم الإسلام في الحكم الأموي ، الذي كان مسرحا على لوحته الأمور المناقضة للإسلام والمخالفة لمبادئه .
وقد وجدوا أن أقرب طريق يوصلهم إلى غاياتهم الضالة وتحصيل أمنياتهم هو الدخول في صفوف المسلمين ، والعمل بكل الطرق المتاحة لهم على تفريق كلمة المسلمين وبث روح العداء بينهم .
ا فتفرقو لهذا الغرض فرقا وأحزابا ، فمن مستجلب ود السلطان لينال مركزا هاما في الدولة ، يستطيع بواسطته أن يفسد بعض الأمور ويغير بعض الحقائق .
ومنهم من سلك طريق إظهار المحافظة على الإسلام والانتصار له ، والردعلى ما يلصقه به إخوانه الذين سلكوا سبيله في تشويه سمعة الإسلام .
ومنهم من ضرب على وتر حساس يستطيع به أن يستميل القلوب ، ويحرك العواطف والشعور بإظهار حب أهل البيت (عليهم السلام) والغلو فيهم ، من حيث تأليب جميع الفئات الحاكمة على ظلمهم من دون مراقبة الله تعالى ولا مراعاة لحرمة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وصفوة القول إنهم توزعوا على جميع الطوائف الإسلامية ، فاندسوا في صفوفهم وامتزجوا في مجتمعهم .
فهذا سوسن النصراني كان أول من نطق بالقدر وقد أظهر الإسلام ، وعنه أخذ معبد الجهني ، وأخذ غيلان عن معبد (1) ، ثم عاد سوسن إلى النصرانية بعد أن بث فكرته وسمومه . وهذا ابن كلاب من بابية الحشوية ، وكان عباد بن سليمان يقول : إنه نصراني . قال أبو عباس البغوي : دخلنا على فيثون النصراني [الراهب] وكان في دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب فقال فيثون : رحم الله عبد الله (اسم بن كلاب) كان يجيئني فيجلس إلى تلك الزاوية - وأشار إلى ناحية من البيعة - وعني أخذ هذا القول ، ولو عاش لنصرنا المسلمين (2) ، أي لجعلناهم نصارى .
ذكرنا هذا الحديث على سبيل المثال لما يفعله أصحاب الديانات الأخرى الذين كانوا يستغلون الفرص للتدخل في صفوف المسلمين .
موقف الإمام الصادق (عليه السلام) من الغلاة :إن من أعظم المشاكل التي واجهت الإمام الصادق (عليه السلام) وأهمها : حركة الغلاة الهدامة ، الذين تطلعت رؤوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلى بث روح التفرقة بين المسلمين ، وترعرعت بنات أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمة الانتصار لمبادئهم وأديانهم التي قضى عليها الإسلام . فكانوا يبثون الأحاديث الكاذبة ويسندونها إلى حملة العلم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلبسوا مبدأهم ثوبا لا يليق به .
فكان المغيرة بن سعيد (3) يدعي الاتصال بأبي جعفر الباقر (عليه السلام) ويروي عنه الأحاديث المكذوبة ، فأعلن الإمام الصادق (عليه السلام) كذبه والبراءة منه ، وأعطى لأصحابه قاعدة في الأحاديث التي تروى عنه ، قال : لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة ، أو تجدوا معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة ابن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقال (عليه السلام) : لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن يهودية كان يختلف إليها . . . الخ .
وهذا أبو الخطاب الأسدي ، وهو محمد بن مغلاص الأسدي الكوفي ، كان رجلا من الموالي واشتهر بكنيته دون اسمه . ظهر هذا الرجل في الكوفة ، وكان المجتمع يموج بالتيارات السياسية ، والدعوة العباسية تشق طريقها إلى النجاح بسرعة ، فاستغل ذلك الظرف الذي يأمل فيه نجاح مهمته في نشر دعوته الإلحادية ، فدعى إلى عقيدة عرف أتباعها بالخطابية ، وساعدته الظروف المواتية أن يجمع حوله تلاميذ يلقنهم تعاليمه ، ويرسم لهم خطط الدعوة والتجمع والظهور ، وكانت حركتهم سرية محكمة ، وهي حركة سياسية من جهة ، وعقائدية من جهة أخرى ، وتلتقيان في نقطة العداء للإسلام .
وقد أجمعت شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على لعن أبي الخطاب وتكفيره والبراءة منه ، وإنه غال ملعون كما هو مذكور في كتب رجال الحديث والتأريخ ، كما لعنه الإمام الصادق (عليه السلام) وكفره وأعلن البراءة منه .
وقد وقف الإمام الصادق (عليه السلام) تجاه هذه الدعوة الإلحادية موقفا مهما ، وأعلن استنكاره على أبي الخطاب ، فكان موقفه (عليه السلام) صدمة لموجة الغلو الجامحة وقضاء مبرما على مزاعم الملحدين ، ويتجلي عظيم اهتمامه من أقواله وأمره للناس بالابتعاد عنهم . فكان (عليه السلام) يهتم أشد الاهتمام بأمر الغلاة ، لأن بعضهم ادعى أن جعفر بن محمد إله - تعالى الله عن قوله - فعظم ذلك على الإمام جعفر بن محمد الصادق ، وحاول أن يقدر عليه فلم يقدر ، فأعلن لعنه والبراءة منه ، وجمع أصحابه وأعلمهم بذلك ، وكتب إلى جميع البلدان بكفره ولعنه والبراءة منه (4)
كما أعلن (عليه السلام) براءته من الغلاة ويقول لأصحابه : لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم ، ولما قتلوا بالكوفة ، قال (عليه السلام) : لعن الله أبا الخطاب ، ولعن من قتل معه ، ولعن الله من دخل قلبه رحمة لهم . وكان يقول : على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
وقال (عليه السلام) لأبي بصير : يا أبا محمد ، ابرأ ممن يرى إننا أرباب ، فقال أبو بصير : أنا أبرأ إلى الله منه . قال (عليه السلام) : ابرأ ممن يزعم أننا أنبياء . فقال : أنا برئ منه إلى الله تعالى . وقال (عليه السلام) : من قال بأننا أنبياء فعليه لعنة الله . وله (عليه السلام) كثير من هذه الأقوال التي أظهرها للملأ في محاربة تلك الفئة الباغية وحث الناس على مقاومتهم ومقاطعتهم ، وكان يقول : ليس لهؤلاء شيء خير من القتل .
ولم يكد يعلن (عليه السلام) على الملأ براءته حتى أحدث ذلك صدعا في صفوفهم وفرق كلمتهم ، وعرف الناس نواياهم وما يقصدون في إظهار تلك العقائد الفاسدة ، فمزق الله شملهم وأباد جمعهم ، ولم يبق لهم أثر في الوجود .
المصادر :
1- الفرق للبغدادي : 70 .
2- (2) الفهرست لابن النديم : 255 - 256 .
3- المغيرة بن سعيد مولى بجيلة ، كذاب ، قال ابن عدي : لم يكن بالكوفة ألعن من المغيرة ابن سعيد ، كان يكذب على أهل البيت (عليهم السلام) ، قتله خالد القسري سنة 119 هـ مع عدد من أصحابه .
4- عائم الإسلام : 62 - 63 .
/ج