لا يمكن للمأمون أن يصل بغداد وفي صحبته الإمام الرضا (عليه السلام) أو الفضل بن سهل، لأن ذلك سيثير رياح الفتن التي لا ينجو منها شخص المأمون، ولا يستطيع الصمود أمامها، دليل ذلك أن العباسيين أجابوا المأمون بأغلظ جواب، وعلى تعبير بعض المؤرخين: بأغلظ ما يكتب إلى أحد.
هذا وهو يعلمهم بموت الرضا، وأنهم إنما نقموا عليه لبيعته إياه، فطالبهم بالدخول في طاعته والتسليم لسلطته، لذهاب أسباب النقمة والشغب على المأمون من قبل العباسيين، فكيف سيكون جوابهم لو أخبرهم أنه قادم عليهم بصحبة الرضا (عليه السلام)؟ بلا ريب سيكون السيف والحرب التي لا مناص منها، والتي قد يكون المأمون من ضحاياها.
إذن، لا بد للمأمون أن يتخلص من الإمام (عليه السلام) بعد أن قتل الفضل بن سهل، وعليه أن يتبع أسلوبا يلفه الغموض والإبهام في تصفية الإمام (عليه السلام) ليبقى بعيدا عن مدار الشكوك والشبهات، لأن قتله عيانا سيثير مشاعر المسلمين سيما الشيعة والعلويين، وهو أشد ما يتحاشاه المأمون، فعندئذ سيعطي الشيعة والعلويين الحق في الخروج على حكمه، وسيخسر عند ذلك كل ما كان يتصور أنه قد ربحه في صفقة ولاية العهد.
والخبر الذي نقلناه في مقتل الفضل بن سهل يشير بأصابع الاتهام إلى المأمون في تدبيره قتل الإمام (عليه السلام) والفضل في آن واحد في حمام سرخس، وذلك ضمن مخطط أعده مسبقا ينفذه بعض أذنابه الذين قالوا له: أنت أمرتنا بقتل الفضل، ومع ذلك ضرب أعناقهم، ولقد نجا الإمام (عليه السلام) من شباك هذا المخطط بفضل الرؤيا التي رآها، ورغم امتناع الإمام عن دخول الحمام، فإن المأمون أصر على ذلك، وأعاد عليه الرقعة مرتين، لكن الإمام أصدر أمرا قاطعا في الرفض، ونهى المأمون والفضل عن دخول الحمام ذلك اليوم في جوابه لرقعة المأمون، ولعله أراد بذلك أن يدفع المكيدة عن الفضل أيضا، إلا أن المأمون امتنع عن تحذير الفضل من ذلك قائلا: أما الفضل فهو أعلم وما يفعله.
إذن يبقى الفصل الأخير من مخطط المأمون، وهو قتل الإمام (عليه السلام)، فجعل المأمون يدبر المكيدة ويعمل الحيلة، ويحكم المخطط في هذا السبيل، وذلك تحاشيا من توجه أصابع الاتهام إليه، كما حدث في اغتيال الفضل بن سهل، ورغم ذلك فإنه لم يستطع إخفاء جريمته، فظهرت ملامحها واضحة من خلال مواقفه الشاخصة في التأريخ ضد معارضيه الذين يتودد لهم ومن ثم يقتلهم بطريقة غامضة، ومن خلال فلتات لسانه وطويات نفسه، وذكر كذلك فريق من المؤرخين المنصفين بأنه (عليه السلام) مات مسموما على يد المأمون، كل ذلك يشير من بعيد أو قريب إلى عدم براءة المأمون من دم الرضا (عليه السلام).
في سبب الوفاة: أن المأمون كان يحكم الخطط لأجل التضليل على الناس وإبعاد الشبهة عن نفسه، وكان نتيجة ذلك أن وقع بعض المؤرخين في تخبط واضح خلال سرد أسباب وفاة الإمام (عليه السلام) وكيفيتها، فقال بعض المؤرخين: إنه مات مسموما بسم دسه له المأمون أو بعض مساعديه في شراب الرمان. وقيل: في عنب قدمه له، وكان قد أدخل فيه السم بطريقة لا يعرفها أحد. وقيل: مات حتف أنفه، وذلك على أثر حمى أصابته، فاعتل منها ثلاثة أيام، وكانت نهايته بسببها. وقالوا أيضا: مات فجأة، وقالوا: أكل عنبا فأكثر منه، لكن القائلين بإنه مضى شهيدا بالسم - كما هو ليس ببعيد - هم أكثر محدثي الشيعة وجماعة غيرهم من محدثي أهل السنة ومؤرخيهم. وفيما يلي سنورد بعض هذه الأقوال:
1 - قال المسعودي في (مروج الذهب): وقبض علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بطوس لعنب أكله وأكثر منه. وقيل: إنه كان مسموما (1).
2 - وقال ابن خلكان: توفي بمدينة طوس، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد، وكان سبب موته أنه أكل عنبا فأكثر منه. وقيل: بل كان مسموما، فاعتل منه ومات (2).
3 - وقال الطبري: وفي سنة 203 شخص المأمون من سرخس حتى صار إلىطوس، فلما صار بها أقام عند قبر أبيه أياما، ثم إن علي بن موسى الرضا أكل عنبا وأكثر منه فمات فجأة، وذلك في آخر صفر، فأمر به المأمون ودفن عند الرشيد. وكتب في شهر ربيع الأول إلى الحسن بن سهل يعلمه أن علي بن موسى بن جعفر مات، ويعلمه ما دخل عليه من الغم والمصيبة بموته. وكتب إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم موت علي بن موسى، وأنهم إنما نقموا بيعته له من بعده، ويسألهم الدخول في طاعته، فكتبوا إليه وإلى الحسن جواب الكتاب بأغلظ ما يكتب به إلى أحد (3).
4 - وقال ابن الأثير: في سنة ثلاث ومائتين مات علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وكان سبب موته أنه أكل عنبا فأكثر منه، فمات فجأة، وذلك في آخر صفر، وكان موته بمدينة طوس، فصلى المأمون عليه، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد، وكان المأمون لما قدمها قد أقام عند قبر أبيه. وقيل: إن المأمون سمه في عنب، وكان علي يحب العنب، وهذا عندي بعيد (4).
5 - وقال اليافعي: توفي علي الرضا بمدينة طوس، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملتصق قبر أبيه الرشيد، وكان سبب موته على ما حكوا أنه أكل عنبا فأكثر منه، وقيل: بل مات مسموما (5).
6 - وقال ابن الوردي: وفي سنة ثلاث ومائتين مات علي الرضا (عليه السلام) فجأة بطوس، وصلى عليه المأمون، ودفنه عند الرشيد (6).
وهكذا تنطلي على المؤرخين لعبة المأمون، فأخذوا يكررون قول الطبري، بأن الإمام (عليه السلام) أكل عنبا وأكثر منه فمات فجأة، وإلى الحد الذي يضعف بعضهم القول الآخر الذي ذكروه وهو أنه مات (عليه السلام) مسموما، وما ندري هل في العنب مادة لا نعرفها تقتل الإنسان إذا أكثر منه؟! بل هل ذهب عن هؤلاء أن الإمام (عليه السلام) وآباءه يهتدون بهدي جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الاقتصاد بالمطعم والمشرب، بل وفي كل سننه ومكارم أخلاقه وسيرته المباركة، وهم في هذا وغيره قدوة للعالمين، وأسوة للمسلمين، مثلهم الرائع في مجال الطعام والشراب: نحن أهل بيت لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع .
وقد تقدم في سيرة الرضا (عليه السلام) ومكارم أخلاقه أنه (عليه السلام) كان على حد كبير من الاقتصاد في المطعم والمشرب، وتقدم أيضا في ذكر مسيره (عليه السلام) إلى سناباد الحديث المروي عن عبد السلام بن صالح الهروي، أنه قال: لما دخل الرضا (عليه السلام) سناباد استند إلى الجبل الذي تنحت منه القدور، فقال: اللهم أنفع به، وبارك فيما يجعل فيه، وفيما ينحت منه، ثم أمر (عليه السلام) فنحت له قدور من الجبل، وقال: لا يطبخ ما آكله إلا فيها، وكان خفيف الأكل قليل المطعم، فاهتدى الناس إليه من ذلك اليوم، وظهرت بركة دعائه (عليه السلام) فيه (7).
وهل ذهب عن هؤلاء المؤرخين أن الرضا (عليه السلام) هو مؤلف الرسالة الذهبية في الطب، والتي ألفها بطلب من المأمون، وفيها أمثلة رائعة في مسألة الإقلال من الطعام والاقتصاد بالأكل والشرب، ومنها قوله (عليه السلام): ومن أخذ الطعام زيادة لم يفده، ومن أخذ بقدر لا زيادة عليه ولا نقص، غذاه ونفعه... وارفع يدك من الطعام وبك إليه بعض القرم، فإنه أصح لبدنك، وأذكى لعقلك، وأخف على نفسك (8). وحاشا الإمام (عليه السلام) أن يأمر الناس بما لم يفعله هو، فيأكل بإفراط إلى حد الموت. أسباب أخرى: وذكر البعض أسبابا أخرى في وفاة الإمام (عليه السلام) قد تكون أقرب إلى الواقع، لأنها تنسجم مع معطيات تلك المرحلة والظروف السياسية المحيطة برأس السلطة العباسية.
قال الخزرجي: مات (عليه السلام) مسموما بطوس سنة 203 ه(9).
وقال ابن الساعي في (مختصر أخبار الخلفاء): قضى مسموما، ثم دفن في قرية يقال لها سناباد بأرض طوس (10).
قال السمعاني: مات علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بطوس يوم السبت آخروقد سم في ماء الرمان وأسقي (11).
وقال ابن الطقطقي: ومات علي بن موسى من أكل عنب، فقيل: إن المأمون لما رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله من نقل الخلافة إلى بني علي (عليه السلام)، وإنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل، ورأى الفتنة قائمة، دس جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمام، ثم أخذهم وقدمهم ليضرب أعناقهم، قالوا له: أنت أمرتنا بذلك ثم تقتلنا! فقال: أنا أقتلكم بإقراركم، وأما ما ادعيتموه علي من أني أمرتكم بذلك، فدعوى ليس لها بينة، ثم ضرب أعناقهم، وحمل رؤوسهم إلى الحسن بن سهل، وكتب يعزيه، ويوليه مكانه. ثم دس إلى علي بن موسى الرضا (عليه السلام) سما في عنب، وكان يحب العنب، فأكل منه فمات من ساعته. ثم كتب المأمون إلى بني العباس ببغداد يقول لهم: إن الذي أنكرتموه من أمر علي بن موسى قد زال، وإن الرجل مات (12).
وقال جرجي زيدان: وفكر في بيعته علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها، وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان فيقتلوه، فعمد إلى سياسة الفتك، فدس إليه من أطعمه عنبا مسموما فمات (13).
وقال أبو بكر الخوارزمي في رسالته: وسم علي بن موسى الرضا بيد المأمون (14).
وقال الحافظ ابن حبان المتوفى سنة 354 هفي (الثقات): ومات علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بطوس من شربة سقاه إياها المأمون فمات من ساعته، وذلك في يوم السبت آخر يوم سنة 203 ه(15).
وقال أحمد شلبي في (التأريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية): إن ثورة بغداد قد أرغمت المأمون على التخلص من الرضا وخلع الخضرة (16).
وقال أبو الفرج الإصفهاني: وكان المأمون عقد له على العهد من بعده، ثم دس إليه - فيما ذكر - بعد ذلك سما، فمات منه (17).
وقال المسعودي في (التنبيه والإشراف): وسار المأمون عن مرو يريد بغداد ومعه علي بن موسى الرضا (عليه السلام)... إلى أن قال: فقتل الرضا (عليه السلام) في طوس (18).
وروى ابن حجر عن الحاكم في (تأريخ نيسابور) أنه قال: استشهد علي بن موسى الرضا بسناآباد، ونقل عن ابن حبان أنه (عليه السلام) قد سم في ماء الرمان وسقي (19).
وقال الشيخ الصدوق: ذكر أبو علي الحسين بن أحمد السلامي في كتابه الذي صنفه في أخبار خراسان: أن المأمون لما ندم من ولاية عهد الرضا (عليه السلام) بإشارة الفضل بن سهل، خرج من مرو منصرفا إلى العراق، واحتال على الفضل بن سهل حتى قتله غالب خال المأمون في حمام بسرخس مغافصة في شعبان سنة 203 ه، واحتال على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) حتى سم في علة كانت أصابته فمات، وأمر بدفنه بسناباد من طوس بجنب قبر هارون الرشيد (20).
وروى الشيخ الصدوق عن عتاب بن أسيد، قال: سمعت جماعة من أهل المدينة يقولون... إلى أن قال: فأخذ المأمون له البيعة على الناس الخاص منهم والعام، فكان متى ما ظهر للمأمون من الرضا (عليه السلام) فضل وعلم وحسن تدبير، حسده على ذلك وحقد عليه، حتى ضاق صدره منه، فغدر به، فقتله بالسم، ومضى إلى رضوان الله تعالى وكرامته (21).
وقال الطبرسي: مات بالسم في العنب في زمن المأمون، بطوس (22).
وقال الكفعمي: توفي الرضا (عليه السلام) في سابع عشر شهر صفر يوم الثلاثاء سنة 203، سمه المأمون في عنب (23).
وقال العلامة المجلسي: اعلم أن أصحابنا والمخالفين اختلفوا أن الرضا (عليه السلام) هل مات حتف أنفه، أو مضى شهيدا بالسم، وعلى الأخير هل سمه المأمون أو غيره، والأشهر بيننا أنه (عليه السلام) مضى شهيدا بسم المأمون... إلى أن قال: فالحق ما اختاره الصدوق والمفيد وغيرهما من أجلة أصحابنا أنه (عليه السلام) مضى شهيدا بسم المأمون اللعين (24).
قال السيد محسن الأمين: قد سمه المأمون في أثناء علته، والذي يقتضيه ظاهر الحال أن المأمون لما رأى اختلال أمر السلطنة عليه ببيعة أهل بغداد لإبراهيم ابن المهدي، وكان سبب ذلك بيعته للرضا بولاية العهد، كان الناس ينسبون ذلك إلى الفضل بن سهل، وكان الفضل يخفي اضطراب المملكة عن المأمون خوفا من هذه النسبة، ولأغراض أخر، سواء كانت النسبة صحيحة أو باطلة، فخاف المأمون ذهاب الملك من يده، ورأى أنه لا يكف عنه سوء رأي الناقمين فيه إلا قتل الفضل والرضا، فبعث إلى الفضل من قتله في حمام سرخس، ودس السم إلى الرضا (عليه السلام) فقتله.
وسواء قلنا: إن بيعة المأمون للرضا كانت من أول أمرها على وجه الحيلة، كما مر عن المجلسي، أو قلنا: إنها كانت عن حسن نية، لا يستبعد منه سم الرضا (عليه السلام)، فإن النيات يطرأ عليها ما يغيرها من خوف ذهاب الملك الذي قتل الملوك أبناءهم وإخوانهم لأجله. والسبب الذي دعا المأمون إلى قتل الفضل، هو الذي دعاه إلى سم الرضا (عليه السلام)، فقتله للفضل الذي لا شك فيه، يرفع الاستبعاد عن سمه الرضا (عليه السلام) بعد ورود الروايات به، ونقل المؤرخين له، واشتهاره حتى ذكرته الشعراء (25).
وعد محمد بن حبيب المتوفى سنة 245 هفي كتابه (المغتالون) علي الرضا (عليه السلام) من المغتالين الأشراف (26).
هذا غيض من فيض أقوال المؤرخين والمحدثين التي تؤكد جميعا ما ذهبنا إليه من أن يدي المأمون الآثمة كانت وراء استشهاد الرضا (عليه السلام)، ولو أردنا إيراد جميع الأقوال في هذا المجال لاستغرق وقتا طويلا، لذا اكتفينا بهذا المختصر.
المصادر :
1- مروج الذهب 3: 441.
2- وفيات الأعيان 3: 270.
3- تأريخ الطبري 8: 568.
4- الكامل في التأريخ 6: 351.
5- مرآة الجنان 2: 10.
6- تأريخ ابن الوردي 1: 290.
7- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 136 / 1، بحار الأنوار 49: 125 / 1، العوالم 22: 241 / 1.
8- الرسالة الذهبية، وقد تقدمت في طبه (عليه السلام).
9- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2: 257 / 5054.
10- تأريخ الأحمدي: 348. ص 509يوم من سنة 203 ه،
11- الأنساب 3: 74.
12- الفخري في الآداب السلطانية: 218.
13- الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 423، عن تأريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني - الجزء الرابع: 440.
14- الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 423.
15- الثقات 8: 456 - 457.
16- الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام): 423، عن التأريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 3: 107.
17- مقاتل الطالبيين: 375. 10:ص 511
18- التنبيه والإشراف: 303.
19- تهذيب التهذيب 7: 388.
20- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 165 / 28، بحار الأنوار 49: 143 / 19، العوالم 22: 279 / 2.
21- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 18 / 1، العوالم 22: 215 / 1.
22- بحار الأنوار 49: 293 / 7.
23- مصباح الكفعمي: 523، بحار الأنوار 49: 293 / 4.
24- بحار الأنوار 49: 311 - 313.
25- أعيان الشيعة 2: 31.
26- المغتالون من الأشراف في الجاهلية والإسلام: 201، مطبوع ضمن الجزء الثاني من نوادر المخطوطات.