إن وجود الإيمان العميق والفهم السليم الراقي هو الضمان الحقيقي لشرعية علاقاتنا ، هو الملاذ لتصفية خلافاتنا ونزع أغلال قلوبنا.
قد يكون نصيبنا من العلم والمعرفة ليس بالقليل ، لكن المشكلة التي نعاني منها اليوم افتقاد المرشد والموجه الصحيح والمؤشر الضروري الذي يمنحنا السلامة ويكسبنا الصواب.
القضية أننا قد نلم بشيءٍ من العلم والمعرفة ، لكننا افتقدنا خُلقه ، امتلكنا الوسيلة وضيعنا الهدف والغاية.
قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : تعلموا العلم ، وتعلموا للعلم السكينة .
دعونا نتصارح فإنَّ الشيطان ينزغ بيننا ، فما أكثر تشاغلنا بالمباح والمندوب عن الأمر الواجب ، لقد صرنا حُذَّاقاً في الخلاف ، ولكن بعيدين كل البعد عن الالتزام بأخلاقياته ، فكانت النتيجة المرة أن سقطنا فريسة التآكل الداخلي والتنازع الذي أورثنا هذه الحياة الفاشلة ، وأدى إلى ذهاب ريحنا.
قال تعالى : " وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " [الأنفال / 46] ، فحذرنا الله تعالى مغبة السقوط في مثل ما سقط فيه أهل الأديان السابقة ، وقصَّ علينا تاريخهم لأخذ العبرة والحذر.
قال تعالى : " وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " [الروم / 31 - 32]
انظر إلى الخلاف الذي وقع ، كيف تبرأ الله منه وأمر رسوله أن يتبرأ منه.
قال تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ " [الأنفال / 159] .
أهل الكتاب من قبلنا ، لم يؤتوا من قلة علم وضآلة فهم ، وإنما هلكوا لأنَّهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي.
قال تعالى : " وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ " [آل عمران / 19]
فهل ورثنا علل أهل الكتاب بدل أن نرث الكتاب ؟ هل ورثنا البغي دون المعرفة والعلم والالتزام بأخلاقهما ؟
إنَّ الاختلاف والفرقة والبغي كانت من وراء هلاك الأمم السابقة حتى مسخت أديانهم وبقيت قصصهم وسائل إيضاح للدروس والعبر المستفادة من حياتهم .
شريعتنا شريعة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فلا سبيل لنسخها ، وستبقى أمة الإسلام بذلك فهي لن تفنى كما فنيت الأمم السابقة ، ولكن الخوف أننا نسير في الطريق الخاطئ الذي سار فيه من قبلنا فأهلكهم الله ، فالخوف - اليوم - من الاستبدال ، الخوف - اليوم - من الخسف والمسخ والقذف الذي يكون في آخر الزمان ، فهل نفيق ؟!!
إن هذه الأمراض لم تقضِ على جسد الأمة نهائياً ، ولن تستأصل شأفتها بالكلية ، لكن حذار أن تستمر الأمة هكذا فتعيش أبداً حالة الوهن الدائم ، والذل القائم ، فلا شك هذا نذير أن نكون - نحن - أول من ينكل بهم ويستبدلون.
لا بد من علاج سريع لمشاكلنا الراهنة ، لا بد من مداواة لأمراضنا المستعصية ، نسأل الله لنا ولكن العافية ، اللهم ألف بين قلوبنا ، حتى لا نرى إلا الحق حقاً فنتبعه ، ونرى الباطل باطلاً فنجتنبه.
أوقفوا نزيف الدم المهراق في سنوات الذلة والاغتراب ، كفي ما نحن فيه من تآكل ، كفي ما نحن فيه من تشاحن وتنازع ، أما ترون ما قد حل بأمتنا من المهالك حتى لا تزالوا في تلك المهاترات تبيتون وتصبحون.
إن ما نعانيه اليوم لا يخرج عن كونه أعراضاً للمشكلة الإيمانية ، الناشئة عن خلل في البنية التربوية التي عليها تأسس العقل المسلم.
إنها آثار الأزمة الأخلاقية التي يعانى منها سلوك المسلم ، ولا سبيل للخروج إلا بمعالجة جذور الأزمة الإيمانية الأخلاقية العلمية.
لا بد من تصويب الفهم ، وإعادة صياغة السلوك الأخلاقي ، وإلا كنا كمن يضرب في حديد بارد.
إن الاختلاف في وجهات النظر ، الاختلاف في تقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطرى طبيعي ، قال تعالى : " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين " [هود / 118]
فالاختلاف صار وسيلة - عندنا - للقتال وإنهاك القوى في معارك جانبية ، والأصل أن الاختلاف ظاهرة صحية تغنى عقل المسلم بخصوبة الرأي من خلال الاطلاع على وجهات النظر المختلفة ، ورؤية الأمور من جميع الزوايا والأبعاد ، إنه إضافة عقول إلى عقل ، فتعدد وجهات النظر المكافئة والمتكاملة - لو أمعنا النظر - حرىٌ بأن ينهض بالعقل المسلم في عصر التخلف ، لكن الذي حدث يندى له الجبين ، معارك ... خصومات ... استنصار بأعداء الدين على صاحب الرأي المخالف ... الخ ، ولهذا كله شواهده من التاريخ القريب والبعيد.
إن النظرة الكلية السوية للأمور ، والنظرة الشاملة للأبعاد المتعددة يعجز المرء كثيراً عن الإحاطة بها ، فيقع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه فلا يرى معها شيئاً آخر، حتى يصل الأمر ببعضهم أن يرى الأمور بمقاييس مخجلة محزنة ، يرى عدوه أقرب إليه من مخالفه في الرأي.
شيء عجيب هذا الذي نحن فيه ، مع أن الخلاف سهل ميسور والأمة تعانى من مثل هذه القضايا ، وبدل أن نتفق تذهب أقدامنا جهة الخلاف ، وكيف لنا أن نتفق ونحن نختلف على أرض الإسلام ؟ فكيف تجمعنا " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ؟!!
انظروا إلى هذه الحادثة التي وردت في كتاب " سير أعلام النبلاء" (1) أن المسور بن مخرمة وقد كان عند معاوية - رضي الله عنه - فقضى حاجته ثم خلا به .
فقال : يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة ؟!! .
قال المسور : دعنا من هذا وأحسن .
فقال معاوية : لا والله لتتكلمن من ذات نفسك بالذي تعيبه علىَّ .
قال المسور : فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا وبينتُه له .
فقال : لا أبرأ من الذنب فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة ؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها ، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان ؟
قال المسور : ما تُذْكَر إلا الذنوب . فقال معاوية : فإنَّا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه ، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر ؟
قال المسور : نعم . قال معاوية : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق منى ، والله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي ، ولكني والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا واخترت الله على ما سواه ، وإني على دين يقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات ، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها . قال المسور : فغلبني والله .
آه .. أريدك يا من تتكلم في حق العلماء والدعاة أن تذكر عيب نفسك !! ألست على ذنوب كذنوبه ، انظر لنفسك فإنَّه يلي من إصلاح الدين ودعوة الناس ما لا تصنع أنت ، والرجل له حسنات كثيرة فهو برجاء العفو ومحو السيئات ، وربما ليست لك من الحسنات ما يكفر ما تقدم عليه من الغيبة وإفساد ذات البين فلتقل خيراً أو لتصمت.
ينبغي أن ننتبه إلى هذا جيداً ، لينشغل كلٌ منا بإصلاح عيب نفسه أولاً.
سبق أن قلت لكم : إن رجلاً لقي أخاً له في الله ، فقال له : إني أحبك في الله ، قال أخوه ، لو علمت ذنوبي لأبغضتني في الله ، قال : لو علمت ذنوبك لمنعني علمي بذنوبي من بغضك .
تعالوا نضع أصولاً لقضية " الخلاف " رجاء ائتلاف القلوب ووحدة الصف.
أولاً : ينبغي أن ندرك أنَّ نصوص الكتاب والسنة ، منها ما هو قطعي في ثبوته ( وهو القرآن والسنة المتواترة ) ومنها ما هو ظني الثبوت ( وهو حديث الآحاد ) .
كما أنَّ دلالة النص قد تكون ظنية وقد تكون قطعية ، على هذا فهناك :
ألف ) نصوص قطعية في ثبوتها ودلالتها ، فلا يجوز الخلاف فيها.
ب) وهناك نصوص ظنية في دلالتها يسعنا فيها اختلاف وجهات النظر.
مثال ذلك : قال الله تعالى " وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ " [البقرة / 228] ، هذا نصٌ قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة ، فالقروء مفردها قُرء وهو يستخدم لمعنيين مختلفين الطهر والحيض.
فهنا تختلف وجهات النظر فمن أهل العلم من يرجح أن المراد بالقرء في الآية "الطهر" ويأتي بأدلة وقرائن على ذلك ، ومنهم من يرجح أنه بمعنى " الحيض " ويأتي أيضاً بأدلته.
وهناك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة على هذه الشاكلة ، تتجاذب فيها العقول أطراف الفهم .
وقد يستدل الفريقان المتعارضان بالنَّص الواحد على رأيه .
فمثلاً : النهي عن أن يبرك الرجل كبروك البعير(2) يستدل به بعضهم على النزول باليدين للسجود قبل الركبتين ، وبعضهم يرى فيه دليلاً على نزول الركبتين قبل اليدين.
قالوا : إن ركبتي البعير في يديه ، وعلى ذلك فالنزول باليدين.
قال الفريق الثاني : إن البعير ينزل على يديه وعلى ذلك فالنزول بالركبتين وهكذا .
ومثل الإشارة بالإصبع في الصلاة ونحو هذا من المسائل كلٌ يفهم النص من وجهة نظره وبالقرائن التي قويت عنده.
فمثل هذا - والحالة هذه - لا ينبغي أن يقيم بيننا المعارك والخصومات أبداً لا ينبغي أن يكون ذلك ، فلا بد من سعة الصدر في تقبل الرأي المخالف، لا بمعنى التمييع بحيث لا يكون للمرء وجهة ، وإنما بمعنى الاستعداد لقبول الرأي الآخر.
لا بد من تربية الشباب على هذا ، فمعرفة هذه الأمور لها شأنه في الاستنباط والاجتهاد والفهم من النصوص ، فليس لأحد أن ينكر على الآخرين ما يفهمونه من النص من فهم مخالف ما دام اللفظ يحتمله ، والدليل يتسع له ، ونصوص الشرع الأخرى لا تناقضه فهذه ثلاثة ضوابط للفهم: (1) اللفظ يحتمل.
(2) الدليل يتسع له.
(3) نصوص الشرع لا تناقضه.
معظم الأحكام المتعلقة بالفروع التي تتناول الجوانب العملية تجدها من هذا الباب ، يتسع للناس فيها مجال الاجتهاد ، والشارع قد جعل مقصد الشريعة الأساسي تحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم ، وآذن برفع الحرج عنهم والعمل على التيسير دون التعسير.
ما دام الأمر كذلك فلا يليق بأحدٍ أن ينسب مخالفيه في الرأي إلى الكفر والفسق والبدعة ، بل يلتمس لهم العذر ، ويجعل حبل الود موصولاً وإن اختلفت آراؤهم.
القاعدة والأصل الثاني في باب "آداب الخلاف" أن ندرك جميعاً أن الأخوة الإيمانية ووحدة الصف ونبذ الفرقة من أهم الواجبات على كل مسلم ، وعلى ذلك فينبغي الحفاظ على صرح الأخوة ، ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها.
علينا أن نتعامل مع الأمر على أنه قربة من القربات وعبادة كلفنا الله بها ، فإننا بتلك الأخوة نقوى على التصدي لكل العقبات التي لا ترضى الله ورسوله.
ينبغي أن ننتبه إلى أن التفريط في الأخوة الإيمانية أو المساس بها لمجرد الاختلاف في الرأي لا يجوز لمسلم أن يفعله ، أو أن يسقط في شراكه ، خاصة في هذه الظروف الصعبة التي تداعت فيها الأمم على أمتنا الإسلامية ، تريد أن تطفئ جذوة الإيمان التي تتقد في قلوب المؤمنين ، إن هذه الجموع المتكالبة لحرب الدين تريد استئصال شأفة المسلمين ، تريد أن تبيد هذه البذرة الطيبة التي بدأت تشق طريقها مع وجود من ينهال عليها ويحاول اجترارها واجتثاثها.
إن الأخوة في الله ووحدة القلوب لمن أولى الفروض وأعلى الواجبات، إنها شقيقة التوحيد وقرينته ، والواجبات مراتب بعضها آكد من بعض ، وكذلك شأن المنهيات ، فزنا الفرج أكبر من زنا العين وهكذا وإن كان الجميع منهياً عنه ، وهكذا شأن النيل من الأخوة يأتي في صدارة المنهيات لما فيه من إتلاف وإفساد لذات البين ، وتفريق لوحدة المسلمين.
كان سلفنا الصالح يتركون الفاضل أحياناً ، ويعملون بالمفضول حفاظاً على الائتلاف ومخافة الوقوع في الخلاف.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض ، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى الأئمة الأربعة يصلون بعضهم خلف بعض ، ومن أنكر ذلك مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة بإجماع المسلمين .1 لقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة ، ومنهم من لا يقرأ بها ، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلى خلف بعض ، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه يصنعون ، والشافعي يصلى خلف أئمة بالمدينة من المالكية ، وإن كانوا لا يقرءون بالبسملة لا سراً ولا جهراً ، هذا كله وارد وصحيح.
يقول شيخ الإسلام : وصلى أبو يوسف (صاحب الإمام أبى حنيفة) خلف الرشيد وقد احتجم (الحجامة خروج الدم بطريقة معينة) وقد أفتاه مالك بعدم الوضوء ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يُعد ، هذا مع أن صلاة الرشيد بهذه الكيفية باطلة ، لأنَّه انتقض وضوءه بالحجامة .
وكان الإمام أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف (نزيف الأنف) فقيل له : إنْ كان إمامى قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه ؟ فقال الإمام أحمد : كيف لا تصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك ، يريد ـ رحمه الله ـ أنَّ سعيد بن المسيب ومالكاً ـ رحمهما الله ـ يريان أن الوضوء لا ينتقض بالرعاف.
أين نحن من هؤلاء ؟ انظر إلى الأدب في احترام قول المعارض بل وتوقير صاحبه ، فهذا الذي يقال بيننا من طرح قول المخالف كائناً من كان لا ينبغي أن نردده دون وعي ، فالخلاف العقدي شيء ، والخلاف في الفروع والمسائل الفقهية شيء آخر.
اختلاف في الفروع لا مانع مطلقاً دون أن يفسد المودة والمحبة والأخوة الإيمانية.
أما قضايا العقيدة التي لا تحتمل التأويل فشيء أخر ، فلا ينبغي أن نفهم أن قبول الآخر يعنى التمييع وعدم وجود للهوية ، وينبغي أن ندرك من هذا الآخر الذي نقبل قوله ، وفي أي شيء يُقبل ، فإنَّ مجابهتنا لأعداء الأمة لا يدفعنا إلى أن نضع أيدينا في أيدي الذين لم يصيبوا من الإسلام إلا اسمه بدعوى الحرص على الأخوة فليتدبر ذلك.
معرفة أسباب الخلاف الفقهي .
وقد صنف العلماء في بيان ذلك الرسائل الماتعة ، ومن أبرز هذه الرسائل ما سطرته يد شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته الرائعة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" ، وأنا أوصى الأخوة باقتناء هذه الرسالة وتدبرها جيداً ، وهي مع صغرها عظيمة الإفادة.
فتعرف من خلالها أن أهل العلم قد يختلفون لأسباب عدة : بداية من معرفة الدليل أو ثبوته عندهم أو الاختلاف في تأويله أو وجود المعارض أو اختلافهم في الجمع بين الأدلة أو .. أو .. الخ.
فينقدح في ذهنك أنَّ الأمر رحب واسع ، وليس كما يتصوره بعضنا حين ينال من العلم شبراً ، وستقول يوماً وأنت تعض أصابع الندم " أُكِلْتُ يوم أُكِل الثور الأبيض "
الإلمام بفقه الواقع .
فإنَّ معرفة المخاطر الهائلة والتحديات الخطيرة التي تواجه الأمة في عصرنا الحالي، يبعث هذا على ضرورة التكاتف ونبذ الخلاف ، ولا يكون ذلك إلا من خلال السلوك الأخلاقي والتأدب بآداب الإسلام في اختلافاتنا ، فإنَّ هؤلاء لا يريدون أن يبقوا للإسلام قائمة ، لا يتركون أسود ولا أبيض فالجميع سيؤكل إن آجلاً أو عاجلاً.
لذلك فإنَّ إثارة الاختلافات بين المسلمين وتنمية الخصومات في مثل هذا الزمان يُعد خيانة عظمى للأمة بأسرها ، بل علينا أن نحض القوم على التأدب بآداب الخلاف ، فيلتمس للمخالف الأعذار ، ويتسع الصدر لاختلاف وجهات النظر ، ولا تنخلع من القلوب المودة والمحبة المشتركة من خلال نسيج الأخوة الإيمانية.
التقوى
قبل أي شيء وبعده لا بد أن يتعلم الجميع أنَّه لا مناص من الالتزام بتقوى الله في السر والعلن ، وأن يبتغى وجه الله في حالتي الوفاق والخلاف.
إياكم والهوى .. إياكم ونزغات الشيطان فإنَّه يقعد لكم بكل طريق ، يريد أن يصدكم عن دينكم ويلبس عليكم أمر رشدكم ، بحسبكم ما لقيت الأمة وعانت على مدار هذه القرون من الذل والمهانة ، آن الأوان لتعود الأمة إلى وضعها الطبيعي ، آن الأوان أن تسير الأمة بنور الكتاب والسنة.
أمَا تشتاقون إلى نصرة دين الله على أيديكم ، أما ترجون أن يمكن الله لكم في الأرض ، فاللهم مكن لدينك في الأرض يا رب ، إذا صدقنا النية مع الله ، واتخذنا من السبل ما هو كفيل لقيادة الركب لبر الأمان فعسى أن ننال ذلك بعد أن طال ليل التيه والضلال.
سلوا الله أن يسدد خطانا ، لا يبخلن الصالحون منكم بالدعاء للعصبة المؤمنة بالسداد والتوفيق ، نسأل الله أن يهدى المسلمين ، وأن يؤلف بين قلوبهم ، وأن يصرف عنهم نزغات الشياطين.
سد باب النقل ورد قالة السوء
قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " [الحجرات /6] وفي القراءة الأخرى " فتثبتوا " .
فإذا أردت سعة الصدر ، وطيب القلب والخاطر فلا تسمع أحداً عن أحدٍ ، ولا تلتفت إلى حديثهم ، أما علمت أن كثيراً منهم لا يعقلون ولا يتثبتون.
وصفهم بعض السلف فقال : هؤلاء إذا رأوا خيراً كتموه ، وإن رأوا شراً أذاعوه ، وإن لم يعلموا كذبوا.
فهم في جميع الأحوال أعداءٌ ، أرباب الفتنة ، مثيرو الشغب ، فالنمام رجل مريض قد امتلأ عقله بالتخيلات ، وقلبه بالظنون السيئة ، فالناس معه بالهمز واللمز والطعن ، الناس دائماً من وجهة نظره لا يتكلمون إلا في العيب والتلصص ، شُغل بالناس عن خويصة نفسه وشئونه ، ولو علم أن لو كانت مناقب الناس ملء الأرض لن تنفعه ، ولو كانت للناس مساوئ ملء الأرض لن يضيره شيء ، كان في نفسه شُغل ، وأي شغل؟!
يقول الإمام الشافعي : "نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا ، كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به ، فإن المستمع شريك القائل ، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه فيعرض على أن يفرغه في أوعيتكم ، ولو ردَّت كلمة السفيه لسعد رادُّها كما شقي بها قائلها " .
وذلك لأنَّ النمام الساعي بقالة السوء يبتغي بذلك سلماً إلى الفتنة ، وإفساد صفو الإخوان ، وعلى هذا ينبغي محاربته وصده عن طريقته لعله يتدارك ما فرط منه ، وإلا كنا شركاء له في إثمه وإفساده.
يقول الإمام الشافعي : قبول السعاية أضر من السعاية ، لأنَّ السعاية دلالة ، والقبول إجازة ، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز"
السعاية بمعنى النميمة ، سميت هكذا لأنَّ المقصود بالكلام لم يحضر ، ولكن شخصاً يسمع فيسعى بصفة المنافقين ، تراه في الحق نائماً ، وفي الباطل على الأقدام ، وهكذا انعكست الصورة عما كان عليه السلف.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وهو بين أبى بكر وعمر ، وإذا ابن مسعود يصلى ، وإذا هو يقرأ النساء فانتهي إلى رأس المائة ، فجعل ابن مسعود يدعو وهو قائم يصلى ، فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - : " اسأل تعطه ، اسأل تعطه " . ثم قال : " من سرَّه أنْ يقرأ القرآن غضاً كما نزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد " .
فلما أصبح غدا إليه أبو بكر - رضي الله عنه - ليبشره ، وقال له : ما سألت البارحة . قال : قلت : اللهم إنِّي أسألك إيماناً لا يرتد ، ونعيماً لا ينفد ، ومرافقة محمَّد في أعلى جنة الخلد . ثم جاء عمر - رضي الله عنه - فقيل له : إنَّ أبا بكر قد سبقك . قال : يرحم الله أبا بكر ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه.(3)
فانظر كيف يسعد المسلم بالخير الذي يناله أخوه، ويسعى لبشارته، فنسأل الله لنا ولكم العافية، هذه سعاية بالحق والصدق والخير، لا السعاية بالباطل والإثم والعدوان.
الساعي منقوص إن كان صادقاً لهتكه العورة ، وإضاعته الحرمة، ومعاقب إن كان كاذباً لمبارزته الله بالبهتان وشهادة الزور ، فالنمام مريض ينبغي أن نعالجه ، فإن لم يكن ثم دواء فعلينا أن نستأصل هذا العضو حفاظاً على بقية الجسد.
أين هؤلاء من صدى صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : " لا يدخل الجنة قتات "(4) " لن يدخل الجنة نمام "(5) ؟!
أين هؤلاء من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن مرآة المؤمن ، المؤمن أخو المؤمن ، يكف عليه ضيعته ، ويحوطه من ورائه "(6)
ألا يخشى هؤلاء من تهديد ووعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا معشر من آمن بلسانه ولم تؤمن قلوبهم لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورة المسلم تتبع الله عورته "(7) نعم هؤلاء مَرضى ، والذي يقبل منهم أشد مرضاً وأسوأ خلقاً ، أليس من هؤلاء من قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بعد أن قاموا بعملية إحصاء دقيقة لكل اجتهاداته ، وصوروها بحسب ما يتخيلون بعقولهم المريضة ، وما يظنون من قِبل قلوبهم الضعيفة فاتخذوا ذلك سلماً للفتنة.
لا ينبغي أن تتخذ الأخطاء سلماً إلى الفتنة ، نحن في وقت نحتاج فيه لتأليف القلوب لا إشاعة الفتن ، فأين هؤلاء من قول الله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون" [النور/19] ؟!!
إنَّ الأبواب كلها مغلقة ، والطرق كلها مسدودة أمام النمام إلا أن يتوب إلى الله جل وعلا ، " والله تعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار " (8)
لا تبسط يدك إلا إلى خير ، ولا تقل بلسانك إلا معروفاً . يقول الفضيل بن عياض : لم يُدرك عندنا ما أُدرِك إلا بسخاء النفس وسلامة الصدر والنصح للمسلمين.
بمعنى أن الدرجة العليا من الإيمان لا تُنال إلا بهذه الثلاثة ، إنها وصية غالية لمن أراد سلوك الطريق الآمنة التي يتحصل فيها الإيمان ، وتغسل فيها الخطايا والذنوب العظام.
ليكن شعارك دائماً " النظافة " ، فنحن لا نريد نظافة الظاهر فحسب، بل آكد من ذلك نظافة الباطن ، نظافة الضمير والتفكير ، نظافة اللسان واليد والجنان ، النظافة في التعامل والمسلك ، نظافة القلب من الأحقاد والأدران. اللهم طهر قلوبنا يا رب.
ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً ، كان يقول عند المعتبة : " ماله ترب جبينه "(9)
فالمسلم " من سلم المسلمون من لسانه ويده "(10) ، نريد نظافة للجوارح ، ونظافة للقلب من الشبهات والشهوات .
قال الله تعالى " إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين " [البقرة / 222] نسأل الله أن يجعلنا منهم.
لابد من سد هذا الباب حتى لا تسمع أحدا يتكلم في أحد ، حتى لا تقبل كلام شخص في شخص ، حتى تعيش سليم الصدر ، هادئ البال ، مرتاح الضمير ، نريد حسن الظن بيننا.
أريدك ـ أخي ـ أن تقول للنمام إذا جاءك : سل الله أن يغفر لي ولك وله ، أريدك أن تصده ، فلينصرف راشدا دون أن تسمع منه ما يؤذيك ، فإنَّ السبيل شائكة .
يقول - صلى الله عليه وسلم - " سيصيب أمتي داء الأمم ، فقالوا يا رسول الله : ـ وما داء الأمم ؟ قال : ـ الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي " . (11)
اللهم اهد أمة حبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - ، اللهم ألف بين قلوب المسلمين.
أخاف على الذين يسعون في إيقاع الفتن بين المسلمين ، أخاف على الذين يمشون بالنميمة من سوء المنقلب غدا ، وأنتم تعرفون قصة هذين الرجلين اللذين أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهما يعذبان وما يعذبان في كبير فالأول : ـ كان لا يستتر من بوله والثاني : ـ كان يمشي بالنميمة (12) .
يا هذا لتقل خيرا أو لتصمت ، انشغل بعيب نفسك ، واترك ما لا يعنيك ، وإياك أن تكون سبب الخصومات والعداوات بين المسلمين ، أخاف أن يحلق دينك بإفسادك لذات البين .
عن أبى الدرداء - رضي الله عنه - قال : ـ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ، قالوا : ـ بلى . قال : صلاح ذات البين ، فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة (13) .
المصادر :
1- السير (3/150) .
2- أخرجه أبو داود (840) والنسائي (1090) وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح أبى داود (746) ، .
3- الإمام أحمد (1/454) .
4- أخرجه البخاري (6056) ومسلم (105) ك الإيمان ، باب بيان غلظ تحريم النميمة.
5- أخرجه مسلم في الموضع السابق.
6- أخرجه أبو داود (4918) والبخاري في الأدب المفرد (239) باب المسلم مرآة أخيه .
7- أخرجه أبو داود (4880) والإمام أحمد (4/421) ، و في صحيح الجامع (7984).
8- أخرجه مسلم (2759) ك التوبة ، باب قبول التوبة من الذنوب.
9- أخرجه البخاري (6301) ك الأدب ، باب لم يكن النبي فاحشاً ولا متفحشاً.
10- أخرجه البخاري (10) ومسلم (41) ك الإيمان ، باب بيان تفاضل الإسلام وأى أموره أفضل.
11- أخرجه الحاكم (4/168) وصححه ووافقه الذهبي .
12- أخرجه البخاري (216) ومسلم (292) .
13- أخرجه الترمذي (2590) وأبو داود (4919) ك الأدب ، باب في إصلاح ذات البين ، والإمام أحمد (6/444) .
/J