متى بايع عليّ ؟
قد ثبت أنّ علي بن ابي طالب عليه السلام بايع بعد وفاة الزهراء سلام الله عليها ، وبعد ان انصراف وجوه الناس عنه ... كما في نصّ الحديث ... وكانت المدّة ستة أشهر ... وتفيد الأحاديث : أنّ الزهراء لو بقيت أضعاف هذه المدّة لما بايعت ولما بايع علي ... ولكنّها لحقت بأبيها ، وبقي علي وحده ، فاضطّر إلى البيعة ، قال :
« فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرّ من طعم العلقم » (1) .
وقال : « اللّهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قد قطعوا رحمي ، وأكفؤوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري ، وقالوا : ألا إنّ في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تمنعه ، فاصبر مغموماً ، أو مت متأسّفاً . فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد ، إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن المنيّة ، فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشجا ، وصبرت من كاظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من وخز الشغار » (2) .
وقال في كتابٍ له إلى معاوية :
« وزعمت أني لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر اليك : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .
وقلت : إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع .
ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ولا مرتاباً بيقينه ! وهذه حجتّي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها » (3) .
هذا كلّه ، مضافاً إلى الخطبة الشقشقية المشهورة ، وغيرها من كلماته المعروفة في خطبة وكتبه .
علي في الشورى وقوله : لأسلمنّ ... :
وفي الشّورى ... طالب عليه السّلام بحقّه ، وصرّح بحرصه عليه منذ اليوم الأول ، ففي خطبةٍ له :
« وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر ـ يا ابن أبي طالب ـ لحريص !
فقلت : بل أنتم ـ والله ـ لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وإنّما طلبت حقّاً لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه .
فلمّا قرعته بالحجّة الملأ الحاضرين هبّ كأنّه بهت لا يدري ما يجيبني به .
أللهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعا رحمي ، وصغّروا غظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرأ هو لي ، ثم قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه » (4) .
« ومن خطبةٍ له عليه السلام : لّما عزموا على بيعة عثمان : لقد علمتم أني أحق بها من غيري ، ووالله لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ، إلتماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (5) .
فهو عليه السلام في هذا الكلام أيضاً يصرّح بأنه أحقّ بالامامة من غيره مطلقاً ، ويقول للقوم بأنّكم عالمون بذلك ، ولم يقل قوله : « والله لأسلمنّ ... » إلاّ بعد أن ناشد القوم بحقّه ، وبعد أن هدّدوه بالقتل إن لم يبايع :
يقول ابن أبي الحديد : « ونحن نذكر ـ في هذا الموضع ـ ما استفاض من الروايات من مناشدته أصحاب الشورى ، وتعديده فضائله وخصائصه ، التي بان بها منهم ومن غيرهم . وقد روى الناس ذلك فأكثروا ، والذي صحّ عندنا أنه لم يكن الأمر كما روي من تلك التعديدات الطويلة ، ولكنه قال لهم ، بعد أن بايع عبدالرحمن والحاضرون عثمان ، وتلكّأ هو عليه السلام عن البيعة :
إنّ لنا حقّاً إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى ـ في كلام ذكره أهل السيرة ، وقد أوردنا بعضه فيما تقدم ـ ثم قال لهم :
أنشدكم الله ، أفيكم أحد آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بينه وبين نفسه حيث آخى بين المسلمين وبعضٍ ، غيري ؟
فقالوا : لا .
فقال : أفيكم أحد قال له رسول الله : من كنت مولاه فهذا مولاه ، غيري ؟
فقالوا : لا .
فقال : أفيكم أحد قال له رسول الله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ، غيري ؟
قالوا : لا .
قال : أفيكم من أوتمن على سورة براءة وقال له رسول الله : إنّه لا يؤدي عني إلاّ أنا أو رجل مني ، غيري ؟
قالوا : لا .
قال : أتعلمون أنّ أصحاب رسول الله فرّوا عنه في مأقط الحرب في غير موطن ، وما فررت قط ؟
قالوا : بلى .
قال : أتعلمون أني أول الناس إسلاماً ؟
قالوا : بلى .
قال : فأيّنا أقرب إلى رسول الله نسباً ؟
قالوا : أنت .
فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه وقال : يا علي : قد أبى الناس إلاّ على عثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً .
ثم قال : يا أبا طلحة ، ما الذي أمرك به عمر ؟
قال : أن أقتل من شق عصا الجماعة .
فقال عبد الرحمن لعلي : بايع إذن ، وإلاّ كنت متّبعاً غير سبيل المؤمنين ، وأنفذنا فيك ما أمرنا به .
فقال : لقد علمتم أني أحق بها من غيري ، ووالله لأسلمنّ ...
ثم مدّ يده فبايع » (6) .
فهذا واقع الحال في الشوري وقبلها ...
رأي عليّ في خلافة من تقدّمه :
وبما ذكرنا يظهر رأي الامام عليه السلام في خلافة من تقدّمه وموقفه منهم ... وأنه ما كان بإمكانه من أن يتخّذ موقفاً تجاههم ... فقول بعض أهل السنة المعاصرين (7) :
« لو أنّ علياً ـ كرّم الله وجهه ـ اتخذ يوم السقيفة موقفاً مستقلاً ، اتخذ يوم استخلاف أبي بكر لعمر موقفاً مستقلاً ، أو يوم الشورى التي بويع على أعقابها لعثمان موقفاً مستقلاً ، إذن لتركنا كلّ نهج ، واتّبعنا نهج علي . آية هذا الاعتقاد : إن علياً لمّا اتخذ موقفاً صريحاً أمام أيام الفتنة من معاوية اتّجه جمهور المسلمين إلى ما اتّجه إليه علي » .
تجاهل عن الواقع ... وقد سبقه إلى هذا القول جماعة من أعلام المعتزلة ...
يقول ابن أبي الحديد : « وقد صرّح شيخنا أبو القاسم البلخي بهذا ، وصرّح به تلامذته وقالوا : لو نازع عقيب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسلّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه وتقدّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ،وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها » قال ابن أبي الحديد : « وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي وبه أقول » (8) .
وهذا عجيب للغاية !
يقولون : « لو نازع ... »
وتقول الأحاديث الصحيحة : كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلمّا توفّيت انصرفت وجوه الناس عنه ، وعند ذاك بايع أبا بكر !
ويقول هو : « وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر ... » ويقول : « فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ... » .
ويقولون : أمسك !
يقول : صبرت ...
ويقولون : ضحّى ، تنازل ، أغضى ... !
موقف عليّ من معاوية :
وأمّا موقف الامام عليه السلام من معاوية فقد اختلف تماماً ، لأن ظروفه أختلفت ، فما كان يشكو منه سابقاً ـ وهو عدم المعين إلاّ أهل بيته ـ منتفٍ الآن ... لقد وجد الآن من يعينه على أمره ، لقد بايعه المسلمون وعلى رأسهم المهاجرون والأنصار ، وأعلنوا الوقوف معه ضد كلّ من يبغي عليه ، وهم يعرفون معاوية واسلافه وفئته الباغية ...
لكنّ الامام عليه السلام لم ينابذه الحرب الاّ بعد أن أرسل إليه الرّسل والكتب ، وأتّم عليه الحجج ...
وقد كان ممّا قال له :
« إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر عمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنّما الشورى للمهاجرين والإنصار ، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسمّوه إماماً كان ذلك الله رضىً ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاّه الله ما تولّى » (9) .
وقد جاء هذا المعنى في خطبةٍ له عليه السلام :
« أيها الناس ، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ، فإن شغب شاغب استعتب ، فإن أبي قوتل ، ولعمرى ، لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى يحضرها عامّة الناس ، فما الى ذلك سبيل ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثم ليس للشاهد أن يرجع ، ولا الغائب أن يختار . ألا وإني أقاتل رجلين ، رجلاً ادعى ما ليس له ، وآخر منع الذي عليه » (10) .
إذن ، يعتبر في الامام النص والأفضلية ، كالنصوص والفضائل التي ناشد به أصحاب الشورى ، والمقصود هم والذين سبقوهم ، وكالأعلّمية التي ذكرها في الخطبة المذكورة هذه ...
فإن بايع المهاجرون والأنصار كان « أقواهم عليه » ... وكان على الآخرين المتابعة والطّاعة .
وقد توهّم بعض المتكلّمين من أهل السنة ، كالشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب ( التحفة الاثنا عشريّة ) فتمسّك بما جاء في كتاب الامام عليه السلام الى معاوية وجعله معارضاً لحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ...
غافلاً عن أنّ احتجاج الامام عليه السلام بما ذكره إنّما هو لإلزام معاوية ، لكونه يرى صحّة امامة أبي بكر وعمر وعثمان لبيعة المهاجرين والأنصار فقد بايعوني كلّهم ...
ولو أنّهم جميعهم اجتمعوا على أمرٍ كان لله فيه رضىً ، لأنّه حينئذٍ يكون فيهم المعصوم الذي فعله حجة ...
لكنّ الواقع عدم تحقّق هكذا اجماعٍ على واحد من الثلاثة ...
فما ذكره الامام لمعاوية ليس إلاً للالزام .
المصادر :
1- نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 68 .
2- نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 336 .
3- نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 387 .
4- نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 246 .
5- نهج البلاغة صبحي الصالح : 102 .
6- شرح نهج البلاغة 6 / 167 .
7- هو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الشامي .
8- شرح نهج البلاغة 2 / 296 .
9- نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 366 .
10- نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 247 .