غيبيات ثورة الحسينية

الإمام الحسين عليه‌السلام إنسانٌ سماوي ، متصل بالغيب اتصالاً وثيقا ، فقد رسم له الغيب دورا رساليا ، وحدد له خطوات المسير فنفذها ـ بدقة ـ على الرغم من طابعها المأساوي. يقول الشهرستاني : « تلوح من السيرة الحسينية المثلى انه مسبوق
Wednesday, November 30, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
غيبيات ثورة الحسينية
 غيبيات ثورة الحسينية

 





 

الإمام الحسين عليه‌السلام إنسانٌ سماوي ، متصل بالغيب اتصالاً وثيقا ، فقد رسم له الغيب دورا رساليا ، وحدد له خطوات المسير فنفذها ـ بدقة ـ على الرغم من طابعها المأساوي. يقول الشهرستاني : « تلوح من السيرة الحسينية المثلى انه مسبوق العلم بأنباء من جده وأبيه وأمه وأخيه وحاشيته وذويه بأنه مقتول بسيف البغي ـ خضع أو لم يخضع ، وبايع أو لم يبايع ـ فهلا يرسم العقل الناضج لمثل هذا الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة ، قوامها الشرع وزمامها النبل » (١).
ومن أجل ذلك فقد رفض كل الدعوات والنصائح التي تدعوه إلى عدم الخروج من مكة ، وتحذره من مغبة التوجه إلى العراق. وهذا الفهم لايتنافى ـ بطبيعة الحال ـ مع الحسابات الواقعية التي كانت تحتم على الإمام عليه‌السلام بأن يأخذ زمام المبادرة ، بعد أن استأثر الأمويون بالسلطة ، وطمسوا معالم الدين ، واتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خِولاً. اجل لقد تحرك الإمام عليه‌السلام على ضوء المعطيات العملية ، ومنها : وصول يزيد الفاسق إلى سدة الحكم ، واكراهه الحسين عليه‌السلام على لزوم البيعة له ، ولكن كان هذا التحرك ـ مع ذلك ـ بمشيئة وارادة إلهية.
وكشف عن هذه الرغبة الإلهية في عدة مواقف ، منها : « جاء عبداللّه ابن عباس رضى الله عنه وعبداللّه بن الزبير فأشارا إليه بالإمساك. فقال لهما إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه. قال : فخرج ابن عباس وهو يقول : واحسيناه » (2).
فهنا تتطابق الحقائق الواقعية مع الأوامر النبوية الصادرة عن عالم الغيب ، فالحسين عليه‌السلام يدرك بصورة لايشوبها الشك أنه بين خيارين أحلاهما مرّ : إما البيعة قسرا ، أو القتل حتما. وليس أمامه إلا المسير حسب أوامر الغيب ، المتمثلة بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له بالتحرك.
وإذا كان الحسين عليه‌السلام هنا يفسر المسير بالأهل والنساء والأطفال إلى كونهم ودائع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عنده وخوفه عليهم من أزلام يزيد ، لا سيما وهو يعلم بأنهم لا يتورّعون عن فعل شيء ، فليس من المستبعد أن يستخدمهم هؤلاء كرهائن لثني الحسين عليه‌السلام عن المسير إلى العراق. وهناك دلالة عميقة استنبطتها العقول الكبيرة لتثبت من خلالها أن الحسين عليه‌السلام ضحى بعياله من أجل الدين ، يقول « جارلس ديكنز » ، الكاتب الانكليزي المعروف : « إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية ، فانني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن العقل يحكم انه ضحى فقط لأجل الإسلام » (3).
ولكن الحسين عليه‌السلام في موقف آخر يعزو أخذ العيال معه وفق نظرة غيبية بحتة ، وفقا للمشيئة الإلهية ، وذلك لما «أراد العراق قالت له أمّ سلمة : لا تخرج إلى العراق ، فقد سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : يقتل ابني الحسين بأرض العراق وعندي تربة دفعها إليّ في قارورة.
فقال : « واللّه إنّي مقتول كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضا ، وإن أحببت أن أُريك مضجعي ومصرع أصحابي. ثمّ مسح على وجهها ، ففسح اللّه في بصرها حتى أراها ذلك كلّه ، وأخذ تربة فأعطاها من تلك التربة أيضا في قارورة أخرى ، وقال عليه‌السلام : فإذا فاضتا دما ، فاعلمي أنّي قد قتلت. فقالت أمّ سلمة : فلمّا كان يوم عاشوراء نظرت إلى القارورتين بعد الظهر فإذا هما قد فاضتا دما ، فصاحت » (4).
وبطبيعة الحال لا تكون الإرادة والمشيئة الإلهية بدون حِكم بالغة ، بعضها يتصل بالحسين عليه‌السلام من أجل تكريمه ، ورفعه إلى الدّرجات السامية التي لا تنال إلاّ بالشهادة الدامية ، والبعض الآخر منها لكشف معدن أعدائه ، ولكي يدرك القاصي والداني بأن هؤلاء من أهل الأهواء والمصالح ، وبعيدون ـ كل البعد ـ عن جوهر الدّين.
ولعلّنا لا نغالي إذا قلنا بأن الحسين عليه‌السلام ـ بعد أن استلم الأمر الإلهي ـ أصبح شعلةً من حركة لا تخمد ، ولم يلتفت إلى النصائح والدعوات التي انهالت عليه من القريب والبعيد ، محاولةً ثنيه عن عزمه ، وكانت بالحسابات الدنيوية قد تتّصف بشيء من الواقعية ، فهو يتحرّك مع قلّة العدد والعدّة ، ويأخذ ـ مع ذلك ـ معه أطفاله وعياله ، ويتّجه إلى بلد كالعراق متعدّد الأعراق والفِرق ، ويتكوّن من فسيفساء عجيبة من الاتجاهات المتناقضة والمتنافرة ، وأهله ـ أهل الكوفة ـ كانوا آنذاك خليطاً عجيباً متناثراً من البشر ، يُوصمون ـ من قبل الغير ـ بالغدر ، وقد غدروا بأبيه وأخيه من قبل ، وإن كانوا ـ على وجه العموم ـ من أعوان أهل البيت ومواليهم. زد على ذلك فان العراق بلد تتشكّل جغرافيته من سهول ممتدة ، وليس فيه جبال وعرة ، ونتيجة لذلك ، فلا يمتاز بالأمن والمنعة للحسين عليه‌السلام ، فهو لا يصلح لحرب العصابات كبلاد اليمن. كل هذه الأسباب قد تضفي بعض المصداقية على تلك الدعوات المخلصة التي حثّت الإمام الحسين عليه‌السلام على استكشاف خياراته على ضوء معطيات الواقع.
ولكن الإمام عليه‌السلام خرج بوعيه من قفص الواقع وحساباته المادية البحتة ، التي يدركها جيدا ، ولكنه استشف آفاق أوسع من كل ذلك ، هي آفاق الغيب والشهادة التي تسمو على الحسابات المادية الآنية.
ومن مصاديق ذلك : « أنّ محمّد بن الحنفية لما بلغه أن أخاه عازم على الخروج من مكّة إلى العراق ... صار إلى أخيه الحسين عليه‌السلام في الليلة التي أراد الحسين عليه‌السلام الخروج في صبيحتها عن مكّة. فقال له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خِفتُ أن يكون حالك كحال من مضى ، فإن رأيت أن تُقيم ، فانّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه.
فقال الحسين : يا أخي ، قد خِفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يُستباح به حرمةُ هذا البيت. فقال له ابنُ الحنفية : فان خِفتَ ذلك فصِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البرّ ، فإنك أمنع الناس به ، ولايقدر عليك أحد. فقال : أنظر فيما قلت.
فلما كان السحر ارتحل الحسين عليه‌السلام فبلغ ذلك ابنَ الحنفية فأتاه ، فأخذ بزمام ناقته ، وقد ركبها ، فقال له : يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال : بلى. قال ابنُ الحنفية : فما حداك على الخروج عاجلاً؟ قال : أتاني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما فارقتُك ، فقال : يا حسين أخرج ، فان اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً. فقال ابنُ الحنفية : إنا للّه وإنا اليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك ، وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال الحسين عليه‌السلام : إن اللّه قد شاء أن يراهنّ سبايا. فسلّم عليه ومضى » (5).
إذن فالمشيئة الإلهية تسمو فوق الحسابات السياسية والقناعات الذاتية ، ولم يكن الحسين عليه‌السلام خائفا على نفسه ـ مع تيقّنه بأن هؤلاء لا يتركوه وشأنه ـ بل كان خائفا على رسالته ودينه. فقد تعهّد له « عبداللّه بن جعفر » بأخذ الأمان له ولأمواله ولأهله ، مع ذلك أصغى الحسين عليه‌السلام لنداء الغيب ، ولم يركن للأسباب. يقول الرّواة : « حاول عبداللّه بن جعفر إرجاع الحسين عليه‌السلام إلى مكّة ، فقد كتب مع ولديه عون ومحمّد كتابا يقول فيه : أمّا بعدُ : فإنِّي أسألك باللّه لمّا انصرفت حين تنظرُ في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكُك واستئصال أهلِ بيتك ، إن هلكت اليوم طفئَ نورُ الأرض ، فإنّك عَلَمُ المهتدينَ ورجاءُ المؤمنينَ ، فلا تستعجلْ بالمسير فإنّي في أثر كتابي ، والسلامُ.
وصار عبداللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أمانا ويُمنِّيَه ليرجع عن وجهه ، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتابا يُمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه ، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبداللّه بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع ، فقال : إني رأيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ له ، فقالا له : فما تلك الرؤيا؟ قال : ما حدّثت أحدا بها ، ولا أنا محدِّث أحدا حتى ألقى ربي جلّ وعزّ. فلما أيس منه عبداللّه بن جعفر أمرَ ابنيه عونا ومحمّدا بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّه (6).
وكان الإمام يصغي بإذن متعاطفة مع الذين نصحوه وأشاروا عليه بعدم الخروج أو بتغيير وجهة المسير ، كان يريد أن يسمع إلى ما يريد الآخرون قوله ، ومن هذه الأقوال انطلقت آراء اتصفت بالحكمة وبعد النظر ، منها رأي ذلك الشيخ الذي أشار عليه بالانصراف عن المسير إلى الكوفة ، وحذّره من النتيجة المأساوية المتوقّعة ، وتساءل ـ محقا ـ لماذا لم يقم أهل الكوفة بالمقدمات المطلوبة ، كالتمرّد على أتباع يزيد ، وتمهيد الأرضية المناسبة للثورة؟! وبذلك يكفوه مؤنة القتال ، يروى أنه « لما سار عليه‌السلام من زبالة (زبالة : اسم لأحد المنازل على الطريق بين مكّة والمدينة ، نزل فيه الحسين عليه‌السلام.) حتى مرّ ببطن العقبة ، فنزل فيها ، فلقيه شيخ من بني عِكرمة يقال له عمرو بن لوذان ، فسأله : أين تُريد؟ قال الحسين عليه‌السلام : الكوفة.
فقال له الشيخ : أنشدك اللّه لما انصرفت ، فواللّه ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّ السيوف ، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأشياء ، فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأما على هذه الحال التي تذكر ، فاني لا أرى لك أن تفعل. فقال له : يا عبد اللّه ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكن اللّه لا يُغلب على أمره ، ثم قال : واللّه لا يَدَعُونني حتى يستخرجوا هذه العَلقةَ من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللّه عليهم من يُذلّهم حتى يكونوا أذلّ فِرَق الأمم » (7).
كان الحسين عليه‌السلام ينظر للغيب من وراء ستر رقيق ، ويعلم أن القدر قد رسم له دورا لابد له من القيام به ، ومواجهة الحقيقة المرّة وهي الموت المحقق. يروي الدَّينوري أنّه « لما سار الحسين عليه‌السلام من بطن الرمّة (مكان قريب من البصرة.) ، لقيه عبداللّه بن مطيع ، وهو منصرف من العراق ، فسلم على الحسين ، وقال له : بأبي أنت وأمي يا بن رسول اللّه ، ما أخرجك من حرم اللّه وحرم جدّك؟ فقال : إنّ أهل الكوفة كتبوا إليَّ يسألوني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء معالم الحقّ ، وإماتة البدع. قال له ابن مطيع : أنشدك اللّه أن لا تأتي الكوفة ، فواللّه لئن أتيتها لتقتلن. فقال الحسين عليه‌السلام : لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا. ثمّ ودّعه ومضى » (8).
وروى في مورد آخر : « إنّ عبداللّه بن مطيع استقبل الحسين عليه‌السلام ، وهو منصرف من مكّة يريد المدينة ، فقال له : أين تريد؟. قال الحسين : أمّا الآن فمكة ، قال : خار اللّه لك ، غير أنّي أحبّ أن أشير عليك برأي. قال الحسين عليه‌السلام : وما هو؟. قال : إذا أتيت مكة فأردت الخروج منها إلى بلد من البلدان ، فإيّاك والكوفة ، فإنّها بلدة مشؤومة ، بها قتل أبوك ، وبها خذل أخوك ، واغتيل بطعنة كادت أن تأتي على نفسه ، بل الزم الحرم ، فإنّ أهل الحجاز لا يعدلون بك أحدا ، ثمّ ادع إليك شيعتك من كلّ أرض ، فسيأتونك جميعا. قال له الحسين : يقضي اللّه ما أحب » (9). وبذلك يظهر أنّه عليه‌السلام استسلم ـ بالكامل ـ للمشيئة الإلهيّة.
وهذا الموقف لا يفسر بمعزل عن الظروف الواقعية الصعبة المحيطه به ، التي تعصف مثل ريح السّموم ، وموقفه هذا ليس قفزا على الواقع والوقائع بل ينسجم معها تمام الإنسجام ، فبنو أمية لايتركوه حيا حتى يوقع لهم على صك العبودية والاستسلام ، من هنا أدرك أنه لابد من تقديم نفسه كبش فداء خدمة للدّين والقيم ، لذلك اتخذ موقفا نهائيا بالمواجهة مع علمه المسبق بالنتيجة ، ومن الشواهد على ذلك أنه قبل أن يخرج قام خطيبا في الناس ـ بعد أن صلّى بين الرّكن والمقام ركعتين ـ فقال : « الحمدُ للّه ، وما شاءَ اللّه ، ولا قوّةَ إلاّ باللّه ، وصلّى اللّه على رسوله.
خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ مني أكراشا جوفا ، وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى اللّه رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويُوفّينا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لُحمتُه ، وهي مجموعة له في حَظيرة القُدس ، تقرّ بهم عينُه ، ويُنجز بهم وعده. من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّني راحلٌ مصبحا إن شاء اللّه تعالى » (10).
وتابعت السماء اتصالها برجل الفداء ، وكانت الإشارات التي ترد عليه واضحة بلجاء بيضاء كوضح النهار ، لا تحمل في طياتها سوى النذر بأنه على موعد مع القدر ، قال أبو مخنف : حدَّثني عبدالرحمن بن جُندُب ، عن عقبة بن سمعان قال : «لمّا كان في آخر الليل أمر الحُسين عليه‌السلام بالاستسقاء من الماء ، ثمّ أمرنا بالرحيل ، ففعلنا. قال : فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين عليه‌السلام برأسه خفقة ، ثمّ انتبه وهو يقول : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، والحمد للّه ربّ العالمين.
قال : ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثا ، قال : فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، والحمد للّه ربّ العالمين. يا أبت ، جعلت فداك! ممّا حمدت اللّه واسترجعت؟ قال : يا بني ، إنّي خفقت برأسي خفقة ، فعنّ لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا ، قال له : يا أبت ، لا أراك اللّه سوءا ، ألسنا على الحقّ؟ قال : بلى والذي إليه مرجع العباد. قال : يا أبت ، إذا لا نُبالي ، نموت محقّين. فقال له : جزاك اللّه من ولد خير ما جزى ولدا عن والده (11).
والأغرب من كل ذلك أنه كان يعلم مكان مصرعه ومصرع أصحابه ، في كربلاء ، وأنه سيكون محلاً لقبره وقبور أهل بيته وأصحابه ، مع أن النتائج كانت في رحم الغيب!! كل ذلك بفضل أخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له ، ومن الشواهد التاريخية على ذلك أنه « لما سار عليه‌السلام والحُرّ يسايره ويُمانعه ، حتى إذا وصلوا كربلاء ، قال : ما اسم هذه الأرض؟ فقيل : كربلاء ، فقال عليه‌السلام : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء.
ثمّ قال : هذا موضع كرب وبلاء ، إنزلوا ، هاهنا محطّ رحالنا ، ومسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا ، بهذا حدثني جدي رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (12).
وفي رواية أخرى اكتفى بالقول : « هذا موضع الكرب والبلاء ، هذا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا » (13)
لقد أخذت إشارات الغيب تتوارد على الإمام عليه‌السلام في حلّه وترحاله ، وفي يقظته ومنامه ، فكثيرا ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يترائى لسبطه ، فمرّة يصدر له الأوامر بالنهوض ، وأخرى يحمل له بشائر الشهادة وقرب اللِّحاق به ، وقد كشف الإمام عليه‌السلام عن بعض تلك الاتصالات التي تحدث خلف ستار الغيب ، وقد أشرنا إلى البعض منها فيما سبق ومنها : « لما زحف ابنُ سعد على مُخيَّم الحسين عصر اليوم التاسع من المحرم. نادى : ياخيل اللّه اركبي وأبشري. وكان الحسين محتبيا بسيفه ، وقد خفق برأسه ، فسمعت أختهُ الصيحة ، فدنتْ من أخيها ، فقالت : يا أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه ، فقال : إنّي رأيتُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الساعةَ في المنام ، فقال لي : إنّك تروح إلينا. فلطمت أخته وجهها ، ونادت : بالويل!! فقال عليه‌السلام : ليس لك الويل يا أخية. اسكتي رحمك اللّه » (14).
علما بأن الحسين عليه‌السلام جاء ـ قبل خروجه إلى مكّة ـ إلى قبر جدّه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى عند القبر ركعات ، ثم قال : « اللّهم إنّ هذا قبر نبيّك محمّد ، وأنا ابنُ بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهم ، إنّي أُحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومن فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا ».
وجعل يبكي حتى إذا كان قريب الصباح وضع رأسه على القبر ، فأغفى ، فاذا هو برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ، فضمّ الحسين عليه‌السلام إلى صدره ، وقبّل مابين عينيه وقال : « حبيبي يا حسين ، كأني أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك مذبوحا بأرض كربٍ وبلاء من عصابةٍ من أُمتي ، وأنت مع ذلك عطشانُ لا تُسقى ، وظمآنُ لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجُونَ شفاعتي يوم القيامة ، وما لهم عند اللّه من خَلاق. حبيبي يا حسين ، إنَّ أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ ، وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجِنان لدرجاتٍ لن تنالها إلاّ بالشهادة ».
فانتبه الحسين عليه‌السلام من نومه فزعا مرعوبا ، وقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم ـ لا في شرق الأرض ولا في غربها ـ قوم أشدّ غما من أهل بيت رسول اللّه ، ولا أكثر باكيا وباكيةً منهم (15).
وروى ابن طاووس بإسناد ينتهي بأبي محمد الواقدي وزرارة بن خلج ، قالا : « لقينا الحسين بن علي عليهما‌السلام قبل أن يخرج إلى العراق فأخبرناه ضعف الناس بالكوفة وأنّ قلوبهم معه ، وسيوفهم عليه ... فقال : أعلم يقينا أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلاّ ولدي علي » (16).
ومع علم الإمام عليه‌السلام بالنتيجة مسبقا ، فإنّه تحرك على ضوء الأسباب الواقعية ، وأعد لكل شيء عدته.
ثم تجدّد الاتصال بين الإمام عليه‌السلام وعالم الغيب ، ولكن ـ هذه المرّة ـ بتفاصيل أكثر وأغرب ، ففي يوم العاشر من المحرم وقت السحر ، خفق الحسين عليه‌السلام برأسه خفقة بعدما أعيته الآلام المرهقة ، فاستيقظ ، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم : « ما أراني إلاّ مقتولاً » ، قالوا : وما ذاك يا أبا عبداللّه؟ قال : « رؤيا رأيتها في المنام » ، قالوا : وما هي؟ قال : « رأيت كلابا تنهشني أشدُّها عليَّ كلبا أبقع » (17).
والأمر الذي يثير العجب والإكبار ، أن هذه الاتصالات بالغيب مع تأكيدها للحسين عليه‌السلام ـ ولأكثر من مرّة ـ أنه سوف يُقتل ، نجد أن الخوف لم يأخذ طريقه إلى قلبه ، بل ازداد اصرارا على المضي في طريق ذات الشوكة حتى نهاية الشوط ، إذ وقف صامدا صمودا اسطوريا ، وقف كالطود الشامخ لم تزعزعه الخطوب ، ومشى بخطى ثابتة على درب واضح المعالم.
يقول حميد بن مسلم : « فواللّه ما رأيتُ مكثورا (18) قطّ قد قُتل ولدُه وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه عليه‌السلام ، إنْ كانت الرّجّالة لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المِعزى إذا شدَّ فيها الذِّئب » (19).
وإن كان هذا يدلُّ على شيء ، فهو يشير إلى أن إشارات الغيب زادته قوّةً وصلابةً ، ومنحته شحنات معنوية عالية.
وهناك مواقف أخرى أفصح الإمام عليه‌السلام فيها عن مكنون الغيب ، وقد اطلع أصحابه وأهل بيته عن ذلك بمنتهى الوضوح والصراحة ، فمن المعلوم أنه خاطب بني هاشم قبل خروجه بقوله : « أما بعد ، فإنّه من لحق بي منكم استُشهد ، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح » (20).
والأمر الآخر هنا الذي يثير الاستغراب والدهشة ، ويكشف النقاب عن حقيقة اطلاع الحسين عليه‌السلام على معالم الغيب ، أنه كشف في حياته عن ملامح ومواصفات قاتله ، فعن محمّد بن عمرو بن حسين ، قال : « كنا مع الحسين بنهر كربلاء فنظر إلى شمر بن الجوشن ، فقال : صدق اللّه ورسوله!
قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي ، وكان شمر أبرصا » (21).
وروى سالم بن أبي حفصة قال : «قال عمر بن سعد للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبداللّه ، إنَّ قِبَلَنا ناسا سُفهاء ، يزعمون أني أقتلُكَ ، فقال له الحسين عليه‌السلام : إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حُلمَاء » (22).
ضمن هذا السياق تحقق ما أخبر به الإمام عليه‌السلام عمر بن سعد بتبدد آماله بملك الرّي ، ودنو نهايته المخزية ، وكان الإمام عليه‌السلام قد قال له قبل بدأ القتال : « يا عمر ، أنت تقتلني وتزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الرّي وجرجان ، واللّه لا تهنأ بذلك أبدا ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فانك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأني برأسك على قصبة قد نُصب ، يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضا بينهم » (23).
وبذلك فقد بلغت الصلافة ذروتها عند ابن سعد عندما واجه تحذيرات الإمام عليهما‌السلام الصادقة بالسخرية والاستهزاء.
روي أنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام قال لعمر بن سعد : « إنّ ممّا يقرّ لعيني أنّك لا تأكل من برّ العراق بعدي إلاّ قليلاً ، فقال مستهزئا : يا أبا عبداللّه ، في الشعير خلف ، فكان كما قال ، لم يصل إلى الرَّي ، وقتله المختار » (24).
ولعلّ أبلغ تعنيف صدر عن الإمام عليه‌السلام بحقّ هذا الشقي هو عندما فُجع (سلام اللّه عليه) بفلذة كبده علي الأكبر ، عند ذلك اتجه عليه‌السلام إلى السماء بقلب مفجوع ، والدموع تترقرق على لحيته الشريفة ، وقال : « قطع اللّه رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط اللّه عليك من يذبحك على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (25).
ودارت الأيام دورتها ، وإذا بابن سعد قد ذُبح على فراشه ـ كما أخبر الإمام ـ على يد المختار الثقفي ، الذي اقتصّ من قتلة الحسين عليه‌السلام ، وشُوهد الأطفال وهم يعبثون برأسه ويتخذونه غرضا بينهم!.
زد على ذلك ، فقد سبر أغوار الغيب وأخبر عن كيفية شهادته ، وكيف أن جسده الشريف سيتقطّع إربا إربا في العراء وتصهره الرّمضاء ، يروى أنه قبل أن يغادر مكّة ، قام خطيبا ، فحمد اللّه وأثنى عليه وبيّن مدى اشتياقه لأسلافه واستهانته بالموت ، كما كشف عن غطاء الغيب مرّة أخرى ، عندما قال عليه‌السلام : « .. كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا ، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم » (26).
التنبوء بمصير القَتَلة
ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ ، إذ تنبّأ الحسين عليه‌السلام بحالة الذّل والهوان والعار والتشرذم وكذلك السقوط السريع لأعدائه ، لقد تصوّر يزيد لعنه اللّه أنه سوف ينام قرير العين وبمل ء جفونه بعد مصرع الحسين عليه‌السلام ، لكنه غفل عن العواقب الوخيمة التي تترتّب على فعله الشنيع في الدارين ، فقد عصفت بعرشه رياح الثورات والانتفاضات ، وغدت اللَّعنات تطاردهم أينما حلّوا ورحلوا ، فتبدّدَ شملهم ، وتَمزّقَ حكمهم.
وها نحن نورد مجموعة من التنبؤات الحسينية ، التي تثبت ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ استشفاف الإمام عليه‌السلام لآفاق الغيب ، وخاصة ما يؤول إليه حال أعدائه من دمار وعار أبدي. قال لهم : « أعَلَى قتلي تَحاثُّون! أما واللّه لا تقتلون بعدي عبدا من عباد اللّه أسخط عليكم لقتله مني ، وأيم اللّه إني لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم ، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ، أما واللّه أن لو قد قتلتموني لقد ألقى اللّه بأسكم بينكم ، وسفك دماءكم ، ثمّ لا يرضى لكم حتى يُضاعف لكم العذاب الأليم » (27).
وفي موقف آخر يخترق حجاب الغيب ، ويُخبر عن دخائل نفوسهم وما يترسب في قاع وعيهم ، فيخبر عن إصرارهم على قتله ، وما يترتب عن ذلك من ذّل وهوان يلحق بهم بعد حين ، قال : « واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا سلط اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذلّ فِرق الاُمم » (28).
وله قول آخر حول هذا الأمر ، قاله لأبي هرة الأزدي عندما أتاه فسلّم عليه ثمّ قال : «يا بن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدّك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال الحسين : ويحك يا أبا هرة ، إنّ بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم اللّه ذلاً شاملاً وسيفا قاطعا ، وليسلطن اللّه عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم » (29).
وعليه فقد أزاح النقاب عن وجه الغيب ، وحدد ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث وتطورات هي حُبلى بها ، وماذا يحل من انتقام إلهي شامل ، وقصاص عادل بأعدائه ، قال : « واللّه لا يدع أحدا منهم إلاّ انتقم لي منه قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم » (30).
وفي نص آخر خاطبهم مستخدما تشبيها بليغا ، قائلاً : « ايم اللّه لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدي » (31).
وفي رواية قال : « وإنّي زاحف إليهم بهذه الأسرة على كلب العدو وكثرة العدد وخذلة الناصر ، ألا وما يلبثون إلاّ كريثما يركب الفرس حتى تدور رحا الحرب وتعلق النحور. عهد عهده إلي أبي عليه‌السلام. فأجمعوا أمركم ثمّ كيدون فلا تنظرون ، إني توكلّت على اللّه ربي وربّكم ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم » (32).
النص المتقدم يكشف النقاب عن ان علم الحسين عليه‌السلام للغيب هو عن طريق جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو علم عن ذي علم ، ومن الغرائب التي يجدها الباحث حول موضوع البعد الغيبي في النهضة الحسينية أن هناك روايات متواترة ومشهورة تتناقلها الألسن عن المصير المأساوي لحياة الحسين عليه‌السلام ، أفصح عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر من مناسبة ، ولأكثر من شخصية ، وبصورة مبكرة ، أي منذ ميلاد الحسين عليه‌السلام ، ومن الشواهد على ذلك روى الشيخ الطوسي بأسانيد معتبرة إلى الإمام الرِّضا عليه‌السلام عن آبائه ، عن اسماء بنت عميس ، قالت : لما ولدت فاطمة الحسين عليهما‌السلام كنت أخدمها في نفاسها ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هلّمي ابني يا أسماء. فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأخذه وجعله في حجره ، وأذّن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى.
قالت : ثم بكى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : انه سيكون لك حديث ، اللّهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك .... قالت : ثم وضعه في حجره وقال : يا أبا عبداللّه ، عزيزٌ عليَّ ـ ثم بكى ـ فقلت : بأبي أنت وأمي ، مم بكاؤك في هذا اليوم ، وفي اليوم الأول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبكي على ابني هذا ، تقتله فئة باغية كافرة من بني أمية ، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة .. » (33). وفي موقف آخر يكرّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الحقيقة المرّة لأم الفضل ، ويفهمها ذلك بالفم الملآن وبالصراحة
القصوى التي لا تحتمل التأويل ، قال لها بأن جبرئيل عليه‌السلام أخبره بقتل الحسين عليه‌السلام على يد أبناء أمته ، الأمر الذي حرك سحابةً قاتمةً من الحزن داخل نفسه ، فترقرقت الدموع من عينيه.
روي بالإسناد عن أم الفضل لبابة بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب قالت : « دخلت على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : يارسول اللّه ، إني رأيت حلما منكرا الليلة. قال : وما هو؟ قلت : إنه شديد. قال : وما هو؟ قلت : رأيت قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت خيرا ، ستلد فاطمة ـ إن شاء اللّه ـ غلاما يكون في حجرك. قالت : فولدت فاطمة الحسين ، فكان في حجري كما قال رسول اللّه ، فدخلت يوما على رسول اللّه ، فوضعته في حجره ، ثم حانت مني التفاتة ، فإذا عينا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تهريقان الدموع. فقلت : يانبي اللّه بأبي أنت وأمي ، مالك ، ومم بكاؤك؟ فقال : أتاني جبرئيل ، فأخبرني أن أمتي ستقتل أبني هذا ، وأتاني بتربة من تربته حمراء » (34).
وروي : « أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ذات يوم جالسا وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فقال لهم : كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى؟ فقال له الحسين عليه‌السلام : أنموتُ موتا أو نُقتل؟ فقال : بل تُقتل يا بُنيَّ ظلما ، ويقتل أخوك ظلما ، وتُشرّد ذراريكم في الأرض ، فقال الحسين عليه‌السلام : ومن يقتُلنا يا رسول اللّه؟ قال : شِرار الناس » (35).
ومن الجدير بالذكر أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان على علم بما يحمله رحم الغيب من مسلسل المآسي الذي سيقاسيه ولده الحسين عليه‌السلام وأهل بيته من بعده ، وبأن الأحداث سوف تنفث سمّها ، وتبعث بلهبها لتكوي بيت علي بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عندما يحين الحين ويصرع الحسين عليه‌السلام.
عن هرثمة بن سليم ، قال : «غزونا مع علي عليه‌السلام صفين ، فلما نزل كربلاء صلَّى بنا ، فلما سلّم رفع إليه من تربتها فشمّها ثمّ قال : واها لك يا تربة! ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب » (36).
وفي رواية الدَّينوري : « أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا نزل بكربلاء قال : وما اسم هذا المكان؟ قالوا له : كربلاء. قال : ذات كرب وبلاء. ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين ، وأنا معه ، فوقف فسأل عنه ، فأُخبر باسمه ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم ، وهاهنا مهراق دمائهم. فسئل عن ذلك ، فقال : ثقل لآل بيت محمد ، ينزلون هاهنا » (37).
وها هي كربلاء تكبر مكانتها يوما بعد يوم ، وعلى حدّ وصف العقاد : « فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى ، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة ، ولكنّها لو أعطيت حقّها من التنويه والتخليد ، لحقّ لها أن تصبح مزارا لكلّ آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسية وحظا من الفضيلة ، لأنّنا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء ، بعد مصرع الحسين » (38).
وليس أمير المؤمنين عليه‌السلام وحده من آل البيت عليهم‌السلام من اطَّلع على هذا السرِّ المقدَّس ؛ سرّ شهادة الحسين عليه‌السلام ، فهو وعدٌ غير مكذوب ، يتوارثه أهل البيت عليهم‌السلام ، ورد عن الامام الصادق عليه‌السلام : أنه قال : « دخل الحسين يوما على أخيه الحسن عليهما‌السلام ، فلمّا نظر إليه بكى ، فقال : ما يُبكيك؟ قال : أبكي لما يُصنع بك. فقال الحسن عليه‌السلام : إن الذي يُؤتى إليّ سُمّ يدسّ إليّ فاُقتل به. ولكن لايوم كيومك يا أبا عبداللّه ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدَّعون أنهم من أمة جدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وينتحلون الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها يحلّ اللّه ببني أميّة اللعنة ، وتمطر السماء دما ورمادا ، ويبكي عليك كلّ شيء حتى الوحوش والحيتان في البحار » (39).
لهذا فإننا لا نبالغ إذا ما قلنا بأن واقعة الطفّ هي تخطيط غيبي وسر إلهي عظيم ، فقد لوحظت فيها آثار الغيب وبصماته بصورة جليّة ، حتى بعد مصرع الحسين عليه‌السلام من خلال الكرامات التي انكشفت للأعداء قبل الأصدقاء ، فهذا مسروق بن وائل الحضرمي ، الذي كان يطمح في الحصول على رأس الحسين عليه‌السلام لكي يصيب منزلةً عند ابن زياد ، فجأة تخلّى عن القتال ، وترك الجيش عندما رأى بأم عينيه ما حَّل بابن حوزة ، هذا الشقي الذي نادى على الحسين عليه‌السلام بعدما حفر خندقا وأشعل فيه نارا لحماية مؤخرة جيشه من غدر الأعداء ، قال اللَّعين : «يا حسين أبشر تعجّلت النار في الدنيا قبل الآخرة قال : ويحك أنا! قال : نعم. قال : ولي ربّ رحيم ، وشفاعة نبي مطاع كريم ، اللهم إن كان عندك كاذبا فحزه إلى النار. قال : فما هو إلاّ أن ثنى عنان فرسه فوثب فرمى به ، وبقيت رجله في الركاب ، ونفر الفرس فجعل يضرب برأسه كلّ حجر وشجر حتى مات.
وفي رواية : « اللهم حزّه إلى النار ، وأذقه حرّها في الدنيا قبل مصيره إلى الآخرة » ، فسقط عن فرسه في الخندق ، وكان فيه نار. فسجد الحسين عليه‌السلام (40).
وعندما لاحظ مسروق الحضرمي تلك الدعوة المستجابة والكرامة الباهرة ، تخلّى عن القتال ، وفرّ بجلده من ساعته وهو يسرّ لصاحبه : « لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا » (41).
ومن الذين لمسوا الآثار الغيبية وأدركوا الغضبة الإلهية ، رجل من بني دارم ، كان يقول : « قتلت رجلاً من أصحاب الحسين ، وما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي آت فينطلق بي إلى جهنّم ، فيقذف بي فيها حتى أُصْبِح. فسمعت بذلك جارة له فقالت : ما يدعنا ننام الليل » (42).
ممّا تقدّم تبيّن أنّ الإمام عليه‌السلام قد كشف عن بعض ما خطه قلم الغيب من حوادث يوم الطفّ وما أعقبه من آثار.
المصادر :
1- نهضة الحسين / الشهرستاني : ١٨.
2- اللهوف : ٢١ ـ ٢٢.
3- موسوعة عاشوراء / جواد محدثي : ٢٩٠.
4- الخرائج والجرائح / الراوندي ١ : ٢٥٤ / الباب الرابع.
5- اللهوف في قتلى الطفوف : ٣٩ ـ ٤٠ ـ ط١ ، أنوار الهدى ، قم.
6- الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٦٨ ـ ٦٩ ، الشيخ المفيد ، الطبعة الأولى ـ رجب ١٤١٣ ه.
7- الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٧٦ ، تحقيق : مؤسسة أهل البيت لتحقيق التراث.
8- الأخبار الطوال : ١٨٥ ، دار الفكر الحديث.
9- المصدر السابق : ١٧٤.
10- اللهوف : ٣٨.
11- تاريخ الطبري ٦ : ٢١٧ ، حوادث سنة إحدى وستين ، دار الفكر ، الطبعة الأولى ١٤١٨ ه / ١٩٩٨ م.
12- اللهوف : ٤٩.
13- مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٤ : ٩٧ ، دار الأضواء ، بيروت.
14- الارشاد ٢ : ٨٩ ـ ٩٠.
15- بحار الأنوار ٤٤ : ٣٢٨ عن مقتل الحسين لمحمّد بن أبي طالب الحسيني الحائري.
16- اللهوف : ٣٨ ـ ٣٩.
17- كامل الزيارات / ابن قولويه : ١٥٧ ، مؤسّسة نشر الفقاهة.
18- المكثور : الذي أحاط به الكثير. انظر : الإرشاد ٢ : ١١١ ، هامش ٢.
19- الإرشاد ٢ : ١١١.
20- اللهوف : ٤١.
21- تاريخ مدينة دمشق / ابن عساكر ٢٣ : ١٩٠ ، دار الفكر ، ١٤١٥ ه ، كنز العمّال / المتقي الهندي ١٢ : ١٢٨ / ٣٤٣٢٢.
22- الإرشاد ٢ : ١٣٢.
23- مقتل الخوارزمي ٢ : ٨.
24- مناقب آل أبي طالب ٤ : ٦٢ ، دار الأضواء.
25- مقتل الخوارزمي ٢ : ٣٠ ، منشورات مكتبة المفيد ـ قم.
26- اللهوف : ٣٨.
27- تاريخ الطبري ٦ : ٢٤٦ ، حوادث سنة إحدى وستين.
28- الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٧٦.
29- اللهوف : ٤٣ ـ ٤٤.
30- مقتل الحسين / الخوارزمي ٢ : ٨ منشورات مكتبة المفيد ، قم.
31- اللهوف : ٥٩.
32- تحف العقول / ابن شعبة البحراني : ٢٤١ ، مؤسّسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين ط٢ ـ ١٤٠٤ ه.
33- الأمالي / الشيخ الطوسي : ٣٦٧ / ٧٨١ ، المجلس الثالث عشر.
34- الإرشاد ٢ : ١٢٩ ، ورواه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٧٦ ، وإبن عساكر في تاريخ دمشق /١٨٣ / ٢٣٢.
35- الإرشاد ٢ : ١٣١.
36- شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٣ : ١٦٩ ، دار احياء التراث العربي.
37- الأخبار الطوال : ١٨٩.
38- المجموعة الكاملة ـ الحسين أبو الشهداء ٢ : ٢٣٧.
39- اللهوف : ١٨ ـ ١٩.
40- مناقب آل أبي طالب ٤ : ٥٦ ـ ٥٧.
41- تاريخ الطبري ٦ : ٢٣٢ ، حوادث سنة إحدى وستّين.
42- مناقب آل أبي طالب ٤ : ٥٨.

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.