اقتصاد النظام الإسلامي‏

إنّنا نريد بالاقتصاد الإسلامي المذهب الاقتصادي لا علم الاقتصاد . ولكي نستوعب ذلك ، لا بدّ لنا أن نميّز بين المذهب والعلم .
Saturday, December 3, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
اقتصاد النظام الإسلامي‏
 اقتصاد النظام الإسلامي‏

 





 

إنّنا نريد بالاقتصاد الإسلامي المذهب الاقتصادي لا علم الاقتصاد . ولكي نستوعب ذلك ، لا بدّ لنا أن نميّز بين المذهب والعلم .
فالمذهب الاقتصادي هو عبارة عن إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصاديّة تتّفق مع وجهة نظر معيّنة عن العدالة ، وعلم الاقتصاد عبارة عن تصوير وتفسير لحركة الأحداث في الحياة الاقتصاديّة على ضوء الملاحظة والخبرة ، فهو يمارس عمليّة الاكتشاف لما يقع في الحياة الاقتصاديّة من ظواهر اجتماعيّة وطبيعيّة ، ويتحدّث عن أسبابها وروابطها ، بينما يقيم المذهب الاقتصادي الحياة الاقتصاديّة ويحدّد كيف ينبغي أن تكون وفقاً لتصوّراته عن العدالة .
العلم يتحدّث عمّا هو كائن وأسباب تكوّنه ، والمذهب يتحدّث عمّا ينبغي أن يكون وما لا ينبغي أن يكون .
حركة الأسعار صعوداً وهبوطاً في السوق الحرّة يفسّرها علم الاقتصاد ، ويكتشف قوانينها المرتبطة بكمّيّة العرض والطلب . وأمّا تقييم السوق الحرّة نفسها ، وأنّ ما ينبغي أن يكون ، هل السوق الحرّة أو السوق الموجّهة ، فهذا من وظيفة المذهب الاقتصادي .
والاقتصاد الإسلامي الذي نحاول الآن دراسته عبارة عن مذهب اقتصادي وليس علماً للاقتصاد ، فنحن حين نقول إنّ الإسلام له اقتصاده المتميّز ، لا نحاول أن نزعم أنّ الإسلام جاء بعلم اقتصاد ، وإنّما نعني أنّ له مذهبه الاقتصادي الخاصّ في تنظيم الحياة الاقتصاديّة ، وذلك أنّ الإسلام لم يجى‏ء ليكتشف أحداث الحياة الاقتصاديّة وروابطها وأسبابها ، وليس من مسؤوليّاته ذلك ، كما ليس من مسؤوليّاته أن يكشف للناس قوانين الطبيعة أو الظواهر الفلكيّة وروابطها وأسبابها . فكما لا يجب أن يشتمل الدين على علم الفلك وعلوم الطبيعة ، كذلك لا يجب أن يشتمل على علم الاقتصاد .
وإنّما جاء الإسلام لينظّم الحياة الاقتصاديّة ، ويضع التصميم الذي ينبغي أن تنظّم به وفقاً لتصوّراته عن العدالة .

الترابط في الاُطروحة الإسلاميّة للحياة بما فيها الاقتصاد :

إنّنا في فهمنا للاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن ندرسه مجزّءاً بعضه عن بعض ، نظير أن ندرس حكم الإسلام بحرمة الربا ، أو سماحه بالملكيّة الخاصّة بصورة منفصلة عن سائر أجزاء النظام الاقتصادي . كما لا يجوز أيضاً أن ندرس مجموع الاقتصاد الإسلامي بوصفه شيئاً منفصلاً وكياناً مذهبيّاً مستقلّاً عن سائر كيانات المذاهب الاجتماعيّة والسياسيّة الاُخرى ، وعن طبيعة العلاقات القائمة بين تلك الكيانات ، وإنّما يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصبغة الإسلاميّة العامّة التي تنظّم شتّى نواحي الحياة في المجتمع ، وفي إطار التربية الصالحة التي يعدّها الإسلام في المجتمع .
فعندما يستكمل المجتمع الإسلامي التربية الصالحة إسلاميّاً ، ويستوعب الصبغة الكاملة لتنظيم الحياة إسلاميّاً ، عندئذٍ فقط نستطيع أن نترقّب من الاقتصاد الإسلامي أن يقوم برسالته الفذّة في الحياة الاقتصاديّة ، وأن يضمن للمجتمع أسباب السعادة والرفاه ، وأن نقطف منه أعظم الثمار . وأمّا أن ننتظر من الرسالة الإسلاميّة أن تحقّق كلّ أهدافها من جانب معيّن من جوانب الحياة إذا طبّقت في ذلك الجانب بصورة منفصلة عن سائر شعب الحياة الاُخرى ، فهذا خطأ ، لأنّ الارتباط القائم في التصميم الإسلامي للمجتمع بين كلّ جانب منه وجوانبه الاُخرى ، يجعل شأنه شأن خريطة يضعها أبرع المهندسين لإنشاء عمارة رائعة ، فليس في إمكان هذه الخريطة أن تعكس الجمال والروعة - كما أراد المهندس - إلّا إذا طبّقت بكاملها .
وأمّا إذا أخذنا بها في بناء جزء من العمارة فقط ، فليس من حقّنا أن نترقّب من هذا الجزء أن يكون كما أراد له المهندس في تصميمه للخريطة كلّها .
وكذلك التصميم الإسلامي ، فإنّ الإسلام اشترع نهجه الخاصّ به ، وجعل منه الأداة الكاملة لإسعاد البشريّة ، على أن يطبّق هذا النهج الإسلامي العظيم في بيئة إسلاميّة قد صبغت على أساس الإسلام في وجودها وأفكارها وكيانها كلّه ، وأن يطبّق كاملاً غير منقوص يشدّ بعضه بعضاً ، فعزل كلّ جزء من النهج الإسلامي عن بيئته وعن سائر الأجزاء معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلّها تحقيق هدفه الأسمى .
ولا يعتبر هذا طعناً في التوجيهات الإسلاميّة أو تقليلاً من كفاءتها وجدارتها بقيادة المجتمع ، فإنّها في هذا بمثابة القوانين العمليّة التي تؤتي ثمرها متى توافرت الشروط التي تقتضيها هذه القوانين . وقبل كلّ شي‏ء لا بدّ للاقتصاد الإسلامي ، [ و ] للتنظيم الإسلامي للمجتمع بصورة عامّة من أن توجد التربة أو الأرضيّة الصالحة لإقامة مجتمع إسلامي عليها ، وهذه التربة أو الأرضيّة تتكوّن من العناصر الآتية :
أوّلاً : العقيدة ، وهي العقيدة المركزيّة في التفكير الإسلامي التي تحدّد نظرة المسلم الرئيسيّة إلى الكون والحياة بصورة عامّة .
ثانياً : المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامّة التي تبلورها العقيدة .
وثالثاً : العواطف والأحاسيس التي يتبنّى الإسلام بثّها(1) وتنميتها إلى صفّ تلك المفاهيم ، لأنّ المفهوم بصفته فكرة إسلاميّة عن واقع معيّن يفجّر في نفس المسلم شعوراً خاصّاً تجاه ذلك الواقع ، ويحدّد اتّجاهه العاطفي نحوه .
فالعواطف الإسلاميّة وليدة المفاهيم الإسلاميّة ، والمفاهيم الإسلاميّة بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلاميّة الأساسيّة .
ولنأخذ لذلك مثلاً من التقوى : ففي ظلّ عقيدة التوحيد ، ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى القائل إنّ التقوى هو ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الإنسان ، وتتولّد عن هذا المفهوم عاطفة إسلاميّة بالنسبة إلى التقوى والمتّقين ، وهي عاطفة الإجلال والاحترام .
فهذه هي العناصر الثلاثة : العقيدة والمفاهيم والعواطف ، التي تشترك في تكوين التربة الصالحة للمجتمع .
والاقتصاد الإسلامي مرتبط بكلّ تلك العناصر ارتباطاً وثيقاً :
فهو مرتبط بالعقيدة التي هي مصدر التموين الروحي للمذهب ، لأنّ العقيدة تدفع المسلم إلى التكيّف وفقاً للمذهب ، وتضفي عليه طابعاً إيمانيّاً وقيمة ذاتيّة ، بقطع النظر عن نوعيّة النتائج الموضوعيّة التي يسجّلها في مجال التطبيق العملي ، وتخلق في نفس المسلم شعوراً بالاطمئنان النفسي في ظلّ المذهب ، باعتباره منبثقاً عن تلك العقيدة التي يدين بها . فقوّة ضمان التنفيذ والطابع الإيماني الروحي والاطمئنان النفسي ، كلّ تلك الخصائص يتميّز بها الاقتصاد الإسلامي عن طريق العقيدة الإسلاميّة التي يرتكز عليها ويتكوّن ضمن إطارها العامّ .
وهو - الاقتصاد الإسلامي - مرتبطٌ بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة ، وطريقته الخاصّة في تفسير الأشياء ، كالمفهوم الإسلامي عن الملكيّة الخاصّة وعن الربح : فالإسلام يرى أنّ الملكيّة حقّ وغاية يتضمّن المسؤوليّة ، وليس سلطاناً مطلقاً ، كما يعطي للربح مفهوماً أرحب وأوسع ممّا يعنيه في الحساب المادّي الخالص ، فيدخل في نطاق الربح بمدلوله الإسلامي كثيرٌ من النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي .
ومن الطبيعي أن يكون لمفهوم الإسلام ذاك عن الملكيّة أثره في كيفيّة الاستفادة من حقّ الملكيّة الخاصّة ، كما أنّ من الطبيعي أيضاً أن يتأثّر الحقل الاقتصادي بمفهوم الإسلام عن الربح أيضاً بالدرجة التي يحدّدها مدى عمق المفهوم وتركّزه ، وبالتالي يؤثّر المفهوم على مجرى الاقتصاد الإسلامي خلال تطبيقه .
وهو - الاقتصاد الإسلامي - مرتبطٌ بما يبثّه الإسلام في البيئة الإسلاميّة من عواطف وأحاسيس قائمة على أساس مفاهيمه الخاصّة ، كعاطفة الاُخوّة العامّة التي تفجّر في قلب كلّ مسلم ينبوعاً من الحبّ للآخرين ، والمشاركة لهم في آلامهم وأفراحهم . ويسري هذا الينبوع ويتدفّق تبعاً لدرجة الشعور العاطفي بالاُخوّة وانصهار الكيان الروحي للإنسان بالعواطف الإسلاميّة والتربية المفروضة في المجتمع الإسلامي . وهذه العواطف والمشاعر تلعب دوراً خطيراً في تكيّف الحياة الاقتصاديّة وتساند المذهب في تحقيق قيمه ومثله عن العدالة .
هذه هي ملامح عن ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالعناصر الثلاثة التي تتكوّن منها التربية الصالحة للمجتمع الإسلامي .
وأمّا الارتباط داخل إطار التنظيم الإسلامي للمجتمع وللحياة الاقتصاديّة بين بعض أجزائه ، فلا يمكن تكوين فكرة تفصيليّة عنه قبل دراسة تفصيليّة للنظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام بصورة كاملة . غير أ نّه على أيّ حال ارتباط وثيق يجعل من الجزء متمّماً للجزء الآخر ، وشرطاً لنجاحه وتفادي المضاعفات خلال تطبيقه .
ومن أمثلة ذلك ، الارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي وأحكام الإسلام الاُخرى في المضاربة ، والتكافل العامّ والتوازن الاجتماعي : فإنّه إذا درس تحريم الربا بصورة منفردة ، واجهتنا مشاكل متعدّدة لدى تطبيق هذا الحكم الإسلامي ، لأنّ إلغاء الفائدة الربويّة يجعل الإنسان يتساءل : كيف يمكن للإنسان المحتاج إلى نقد عاجل لمعيشته الخاصّة وسدّ حاجاته الحياتيّة أن يحصل عليه بعد أن يمتنع أصحاب الأموال عن إقراض شي‏ء من نقودهم ما داموا لا يحصلون على فائدة عن طريق القرض ؟ وكيف يمكن لرؤوس الأموال التي لا يقدر أصحابها على استثمارها مباشرة أن تجذب إلى مجال الاستثمار ؟ الأمر الذي ينجز في المجتمع الرأسمالي عن طريق الفائدة وإغرائها .
ولكنّنا إذا قارنّا بين حرمة الربا وأحكام الإسلام الاُخرى ، وجدنا في تلك الأحكام ما يغطّي الفراغ الذي يخلّفه تحريم الفائدة في المجتمع الإسلامي .
فالسؤال الأوّل تجيب عليه أحكام الإسلام في التكافل والضمان والتوازن الاجتماعي : فبدلاً عن أن يسدّ المعوز حاجته الآنيّة إلى النقد عن طريق الاقتراض والالتزام بدفع فائدة لدائنه ، يمكنه في المجتمع الإسلامي أن يسدّها عن طريق الدولة ، وما تنشئه من مؤسّسات للضمان الاجتماعي ، بحكم مسؤوليّات الدولة في الاقتصاد الإسلامي .
والسؤال الثاني تجيب عليه أحكام الإسلام في المضاربة ، التي تجعل بإمكان صاحب رأس المال أن يحصل على نصيب من الربح ، وذلك بأن يتّفق مع شخص آخر على الاتّجار بالمال ، ويتحمّل مسؤوليّات العمل التجاري ، ويقسّم الربح بينه وبين العامل المباشر بنسبة يتّفقان عليها مقدّماً ، فتحلّ المساهمة في الربح بنسبة مئويّة معيّنة محلّ الفائدة في جذب رؤوس الأموال التي يعجز أصحابها عن استثمارها إلى مجال الاستثمار .
ومن أمثلة الارتباط في النظام الإسلامي ، الصلة الوثيقة بين الاقتصاد الإسلامي ونظام الحكم في الإسلام : فالارتباط بين النظام الاقتصادي ونظام الحكم في الإسلام قوي ، بحيث إنّ الفصل بينهما في البحث يؤدّي إلى خطأ في فهم الموقف الإسلامي العامّ ، فإنّ للسلطة الحاكمة في النظام الاقتصادي الإسلامي صلاحيّات اقتصاديّة واسعة وملكيّات كبيرة تتصرّف فيها طبقاً لاجتهادها .
وهذه الصلاحيّات والملكيّات يجب أن تقرن في الدرس دائماً بواقع السلطة في الإسلام ، والضمانات التي وضعها الإسلام في نظام الحكم لنزاهة وليّ‏ الأمر واستقامته ، من العصمة أو العدالة والاجتهاد والشورى مجتمعة . ففي ضوء هذه الضمانات نستطيع أن نفهم دور الدولة في المذهب الاقتصادي الإسلامي ونؤمن بصحّة إعطائها الصلاحيّات والحقوق المفروضة لها في الإسلام .

المبادئ الرئيسيّة في النظام الاقتصادي الإسلامي :

ويمكننا في استعراض إجمالي للنظام الاقتصادي في الإسلام ومقارنته مع الأنظمة الاقتصاديّة الاُخرى أن نلخّص خطوطه العريضة في المبادئ الرئيسيّة الثلاثة الآتية :
ألف - مبدأ الملكيّة المزدوجة .
ب - مبدأ الحرّيّة الاقتصاديّة في نطاق محدود .
ج - مبدأ العدالة الاجتماعيّة .

ألف - مبدأ الملكيّة المزدوجة :

يختلف الإسلام عن الرأسماليّة والاشتراكيّة في نوعيّة الملكيّة التي يقرّرها اختلافاً جوهريّاً .
فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاصّ للملكيّة ، أي بالملكيّة الخاصّة كقاعدة عامّة ، فهو يسمح للأفراد بالملكيّة الخاصّة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم ، ولا يعترف بالملكيّة العامّة إلّاحين تفرض الضرورة الاجتماعيّة وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك ، فتكون هذه الضرورة حالة استثنائيّة يضطرّ المجتمع الرأسمالي على أساسها إلى الخروج عن مبدأ الملكيّة الخاصّة واستثناء مرفق أو ثروة معيّنة من مجالها .
والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك ، فإنّ الملكيّة الاشتراكيّة فيه هي المبدأ العامّ الذي يطبّق على كلّ أنواع الثروة في البلد ، وليست الملكيّة الخاصّة لبعض الثروات في نظره إلّاشذوذاً واستثناء قد يعترف به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعيّة قاهرة .
وعلى أساس هاتين النظرتين المتعاكستين للرأسماليّة والاشتراكيّة ، يطلق اسم المجتمع الرأسمالي على كلّ مجتمع يؤمن بالملكيّة الخاصّة بوصفها المبدأ الوحيد ، وبالتأميم باعتباره استثناءً وعلاجاً لضرورة اجتماعيّة . كما يطلق اسم المجتمع الاشتراكي على كلّ مجتمع يرى أنّ الملكيّة الاشتراكيّة هي المبدأ ، ولا يعترف بالملكيّة الخاصّة إلّافي حالات استثنائيّة .
وأمّا النظام الاقتصادي في الإسلام فلا يتّفق مع كلتا النظرتين ، ولا يؤمن بأنّ الملكيّة الخاصّة هي وحدها المبدأ ، ولا أنّ الملكيّة العامّة هي وحدها المبدأ ، بل يقرّر الأشكال المختلفة للملكيّة في وقت واحد ، ويضع بذلك مبدأ الملكيّة المزدوجة ( الملكيّة ذات الأشكال المتنوّعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكيّة . فهو يؤمن بالملكيّة الخاصّة والملكيّة العامّة وملكيّة الدولة ، ويخصّص لكلّ واحد من هذه الأشكال حقلاً خاصّاً ، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً أو علاجاً مؤقّتاً اقتضته الظروف .
ولهذا كان من الخطأ أن يسمّى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسماليّاً ، وإن سمح بالملكيّة لرأس المال ببعض وسائل الإنتاج ، لأنّ الملكيّة الخاصّة ليست عنده هي القاعدة .
كما أنّ من الخطا أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي ، وإن أخذ بمبدأ الملكيّة العامّة في بعض الثروات ، لأنّ الشكل الاشتراكي للملكيّة ليس هو القاعدة في رأيه .
وكذلك من الخطأ أيضاً أن يعتبر مزاجاً مركّباً من هذا وذاك ، لأنّ تنوّع الأشكال الرئيسيّة للملكيّة في المجتمع الإسلامي لا يعني أنّ الإسلام مزج بين المذهبين الرأسمالي والاشتراكي وأخذ من كلّ منهما جانباً ، وإنّما يعبّر ذلك التنوّع في أشكال الملكيّة عن تصميم مذهبي أصيل ، لنظريّاته‏(2) الخاصّة التي تناقض النظريّات الخاصّة للرأسماليّة والاشتراكيّة .
وليس هناك أدلّ على صحّة الموقف الإسلامي من الملكيّة القائمة على أساس مبدأ الملكيّة المزدوجة ، من واقع التجربتين الرأسماليّة والاشتراكيّة ، فإنّ كلتا التجربتين اضطرّتا إلى الاعتراف بالشكل الآخر للملكيّة الذي يتعارض مع‏ القاعدة العامّة فيها ، لأنّ الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للملكيّة .
فقد بدأ المجتمع الرأسمالي منذ أمد طويل يأخذ بفكرة التأميم ، وينزع عن بعض المرافق إطار الملكيّة الخاصّة . وليست حركة التأميم هذه إلّااعترافاً ضمنيّاً من المجتمعات الرأسماليّة بعدم جدارة المبدأ الرأسمالي في الملكيّة ، ومحاولة لمعالجة ما نجم عن ذلك المبدأ من مضاعفات وتناقضات .
كما أنّ المجتمع الاشتراكي من الناحية الاُخرى وجد نفسه - بالرغم من حداثته - مضطرّاً إلى الاعتراف بالملكيّة الخاصّة قانونيّاً حيناً وبشكل غير قانوني أحياناً .

ب - مبدأ الحرّيّة الاقتصاديّة في نطاق محدود :

وفي هذا المبدأ الثاني نجد أيضاً الاختلاف البارز بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظامين الرأسمالي والاشتراكي . فبينما يمارس الأفراد حرّيّات غير محدودة في ظلّ الاقتصاد الرأسمالي ، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريّات الجميع ، يقف الإسلام موقفاً وسطاً ، فيسمح للأفراد بممارسة حريّاتهم ضمن نطاق القيم والمثل واعتبارات العدالة التي يؤمن بها .
والتحديد الإسلامي للحريّة الاجتماعيّة في الحقل الاقتصادي على قسمين : أحدهما التحديد الذاتي ، الذي ينبع من أعماق النفس ، والآخر التحديد الموضوعي الذي يعبّر عن قوّة خارجيّة تحدّد السلوك الاجتماعي وتضبطه .
أمّا التحديد الذاتي : فهو يتكوّن طبيعيّاً في ظلّ التربية الخاصّة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكّم الإسلام في كلّ مرافق حياته ، فإنّ للإطارات الفكريّة والروحيّة التي يصوغ الإسلام الشخصيّة الإسلاميّة ضمنها قوّتها المعنويّة الهائلة ، وتأثيرها في التحديد ذاتيّاً وطبيعيّاً من الحريّة الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي ، وتوجيهها توجيهاً مهذّباً صالحاً دون أن يشعر الأفراد بسلب شي‏ء من حريّتهم ، لأنّ التحديد ينبع من واقعهم الروحي والفكري ، فلا يجدون فيه حدّاً لحريّاتهم . ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديداً قانونيّاً للحريّة في الحقيقة ، وإنّما هو عمليّة إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحرّ ، إنشاءً معنويّاً صالحاً ، حيث تؤدّي الحريّة في ظلّه رسالتها الصحيحة .
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي . وبالرغم من أنّ التجربة الإسلاميّة الكاملة كانت قصيرة الأمد ، فقد آتت ثمارها ، وفجّرت في النفس البشريّة إمكاناتها المثاليّة ، ومنحتها رصيداً روحيّاً زاخراً بمشاعر العدل والخير والإحسان . وناهيك من نتائج التحديد الذاتي أ نّه ظلّ وحده هو الضامن الأساسي لأعمال البرّ والخير في مجتمع المسلمين منذ خسر الإسلام تجربته للحياة ، وفقد قيادته السياسيّة وإمامته الاجتماعيّة . وبالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة والقيادة بعداً زمنيّاً وروحيّاً ، فقد كان للتحديد الذاتي الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة دوره الإيجابي الفعّال في ضمان أعمال البرّ والخير ، التي تتمثّل في إقدام الملايين من المسلمين بمل‏ء حريّتهم على دفع الزكاة وغيرها من حقوق اللَّه ، والمساهمة في تحقيق مفاهيم الإسلام عن العدل الاجتماعي .
وأمّا التحديد الموضوعي : فنعني به التحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارج بقوّة الشرع . ويقوم هذا التحديد الموضوعي للحريّة في الإسلام على المبدأ القائل إنّه لا حريّة للشخص فيما يتعارض من ألوان النشاط مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها . وقد تمّ تنفيذ هذا المبدأ في الإسلام بالطريقة التالية :
أوّلاً : كفلت الشريعة في مصادرها العامّة النصّ على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ، المعيقة في نظر الإسلام عن تحقيق المثل والقيم التي يتبنّاها الإسلام ، كالربا والاحتكار وغير ذلك .
ثانياً : وضعت الشريعة مبدأ إشراف وليّ الأمر على النشاط العام ، وتدخّل الدولة لحماية المصالح العامّة ، وحراستها بالتحديد من حريّات الأفراد ، في ما يمارسون من أعمال . وسوف يأتي عند دراسة مسؤوليّات الدولة في الاقتصاد الإسلامي الحديث عن هذا المبدأ .

ج - مبدأ العدالة الاجتماعيّة :

والمبدأ الثالث هو مبدأ العدالة الاجتماعيّة التي جسّدها الإسلام في ما زوّد به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلاميّة .
ويجب أن يكون واضحاً هنا أنّ الإسلام حين تبنّى العدالة الاجتماعيّة لم‏ يأخذ بها بمفهومها التجريدي العام ، ولم ينادِ بها بشكل مفتوح لكلّ تفسير ، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانيّة التي تختلف في نظريّتها للعدالة الاجتماعيّة باختلاف أفكارها الحضاريّة ومفاهيمها عن الحياة ، وإنّما حدّد الإسلام هذا المفهوم وبلوره في مخطّط اجتماعي معيّن ، واستطاع بعد ذلك أن يجسّد هذا التصميم في واقع اجتماعي حيّ تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة .
والصورة الإسلاميّة للعدالة الاجتماعيّة تحتوي على جانبين عامّين ، لكلّ منهما خطوطه وتفصيلاته : أحدهما التكافل العام ، والآخر التوازن الاجتماعي . وفي التكافل والتوازن بمفهومها الإسلامي يوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعيّة .
المصادر :
1- اقتصادنا : 338 للسيد محمد باقر الصدر طاب ثراه
2- اقتصادنا: 323

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.