إنّنا نريد بالاقتصاد الإسلامي المذهب الاقتصادي لا علم الاقتصاد . ولكي نستوعب ذلك ، لا بدّ لنا أن نميّز بين المذهب والعلم .
فالمذهب الاقتصادي هو عبارة عن إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصاديّة تتّفق مع وجهة نظر معيّنة عن العدالة ، وعلم الاقتصاد عبارة عن تصوير وتفسير لحركة الأحداث في الحياة الاقتصاديّة على ضوء الملاحظة والخبرة ، فهو يمارس عمليّة الاكتشاف لما يقع في الحياة الاقتصاديّة من ظواهر اجتماعيّة وطبيعيّة ، ويتحدّث عن أسبابها وروابطها ، بينما يقيم المذهب الاقتصادي الحياة الاقتصاديّة ويحدّد كيف ينبغي أن تكون وفقاً لتصوّراته عن العدالة .
العلم يتحدّث عمّا هو كائن وأسباب تكوّنه ، والمذهب يتحدّث عمّا ينبغي أن يكون وما لا ينبغي أن يكون .
حركة الأسعار صعوداً وهبوطاً في السوق الحرّة يفسّرها علم الاقتصاد ، ويكتشف قوانينها المرتبطة بكمّيّة العرض والطلب . وأمّا تقييم السوق الحرّة نفسها ، وأنّ ما ينبغي أن يكون ، هل السوق الحرّة أو السوق الموجّهة ، فهذا من وظيفة المذهب الاقتصادي .
والاقتصاد الإسلامي الذي نحاول الآن دراسته عبارة عن مذهب اقتصادي وليس علماً للاقتصاد ، فنحن حين نقول إنّ الإسلام له اقتصاده المتميّز ، لا نحاول أن نزعم أنّ الإسلام جاء بعلم اقتصاد ، وإنّما نعني أنّ له مذهبه الاقتصادي الخاصّ في تنظيم الحياة الاقتصاديّة ، وذلك أنّ الإسلام لم يجىء ليكتشف أحداث الحياة الاقتصاديّة وروابطها وأسبابها ، وليس من مسؤوليّاته ذلك ، كما ليس من مسؤوليّاته أن يكشف للناس قوانين الطبيعة أو الظواهر الفلكيّة وروابطها وأسبابها . فكما لا يجب أن يشتمل الدين على علم الفلك وعلوم الطبيعة ، كذلك لا يجب أن يشتمل على علم الاقتصاد .
وإنّما جاء الإسلام لينظّم الحياة الاقتصاديّة ، ويضع التصميم الذي ينبغي أن تنظّم به وفقاً لتصوّراته عن العدالة .
الترابط في الاُطروحة الإسلاميّة للحياة بما فيها الاقتصاد :
إنّنا في فهمنا للاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن ندرسه مجزّءاً بعضه عن بعض ، نظير أن ندرس حكم الإسلام بحرمة الربا ، أو سماحه بالملكيّة الخاصّة بصورة منفصلة عن سائر أجزاء النظام الاقتصادي . كما لا يجوز أيضاً أن ندرس مجموع الاقتصاد الإسلامي بوصفه شيئاً منفصلاً وكياناً مذهبيّاً مستقلّاً عن سائر كيانات المذاهب الاجتماعيّة والسياسيّة الاُخرى ، وعن طبيعة العلاقات القائمة بين تلك الكيانات ، وإنّما يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصبغة الإسلاميّة العامّة التي تنظّم شتّى نواحي الحياة في المجتمع ، وفي إطار التربية الصالحة التي يعدّها الإسلام في المجتمع .فعندما يستكمل المجتمع الإسلامي التربية الصالحة إسلاميّاً ، ويستوعب الصبغة الكاملة لتنظيم الحياة إسلاميّاً ، عندئذٍ فقط نستطيع أن نترقّب من الاقتصاد الإسلامي أن يقوم برسالته الفذّة في الحياة الاقتصاديّة ، وأن يضمن للمجتمع أسباب السعادة والرفاه ، وأن نقطف منه أعظم الثمار . وأمّا أن ننتظر من الرسالة الإسلاميّة أن تحقّق كلّ أهدافها من جانب معيّن من جوانب الحياة إذا طبّقت في ذلك الجانب بصورة منفصلة عن سائر شعب الحياة الاُخرى ، فهذا خطأ ، لأنّ الارتباط القائم في التصميم الإسلامي للمجتمع بين كلّ جانب منه وجوانبه الاُخرى ، يجعل شأنه شأن خريطة يضعها أبرع المهندسين لإنشاء عمارة رائعة ، فليس في إمكان هذه الخريطة أن تعكس الجمال والروعة - كما أراد المهندس - إلّا إذا طبّقت بكاملها .
وأمّا إذا أخذنا بها في بناء جزء من العمارة فقط ، فليس من حقّنا أن نترقّب من هذا الجزء أن يكون كما أراد له المهندس في تصميمه للخريطة كلّها .
وكذلك التصميم الإسلامي ، فإنّ الإسلام اشترع نهجه الخاصّ به ، وجعل منه الأداة الكاملة لإسعاد البشريّة ، على أن يطبّق هذا النهج الإسلامي العظيم في بيئة إسلاميّة قد صبغت على أساس الإسلام في وجودها وأفكارها وكيانها كلّه ، وأن يطبّق كاملاً غير منقوص يشدّ بعضه بعضاً ، فعزل كلّ جزء من النهج الإسلامي عن بيئته وعن سائر الأجزاء معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلّها تحقيق هدفه الأسمى .
ولا يعتبر هذا طعناً في التوجيهات الإسلاميّة أو تقليلاً من كفاءتها وجدارتها بقيادة المجتمع ، فإنّها في هذا بمثابة القوانين العمليّة التي تؤتي ثمرها متى توافرت الشروط التي تقتضيها هذه القوانين . وقبل كلّ شيء لا بدّ للاقتصاد الإسلامي ، [ و ] للتنظيم الإسلامي للمجتمع بصورة عامّة من أن توجد التربة أو الأرضيّة الصالحة لإقامة مجتمع إسلامي عليها ، وهذه التربة أو الأرضيّة تتكوّن من العناصر الآتية :
أوّلاً : العقيدة ، وهي العقيدة المركزيّة في التفكير الإسلامي التي تحدّد نظرة المسلم الرئيسيّة إلى الكون والحياة بصورة عامّة .
ثانياً : المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامّة التي تبلورها العقيدة .
وثالثاً : العواطف والأحاسيس التي يتبنّى الإسلام بثّها(1) وتنميتها إلى صفّ تلك المفاهيم ، لأنّ المفهوم بصفته فكرة إسلاميّة عن واقع معيّن يفجّر في نفس المسلم شعوراً خاصّاً تجاه ذلك الواقع ، ويحدّد اتّجاهه العاطفي نحوه .
فالعواطف الإسلاميّة وليدة المفاهيم الإسلاميّة ، والمفاهيم الإسلاميّة بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلاميّة الأساسيّة .
ولنأخذ لذلك مثلاً من التقوى : ففي ظلّ عقيدة التوحيد ، ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى القائل إنّ التقوى هو ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الإنسان ، وتتولّد عن هذا المفهوم عاطفة إسلاميّة بالنسبة إلى التقوى والمتّقين ، وهي عاطفة الإجلال والاحترام .
فهذه هي العناصر الثلاثة : العقيدة والمفاهيم والعواطف ، التي تشترك في تكوين التربة الصالحة للمجتمع .
والاقتصاد الإسلامي مرتبط بكلّ تلك العناصر ارتباطاً وثيقاً :
فهو مرتبط بالعقيدة التي هي مصدر التموين الروحي للمذهب ، لأنّ العقيدة تدفع المسلم إلى التكيّف وفقاً للمذهب ، وتضفي عليه طابعاً إيمانيّاً وقيمة ذاتيّة ، بقطع النظر عن نوعيّة النتائج الموضوعيّة التي يسجّلها في مجال التطبيق العملي ، وتخلق في نفس المسلم شعوراً بالاطمئنان النفسي في ظلّ المذهب ، باعتباره منبثقاً عن تلك العقيدة التي يدين بها . فقوّة ضمان التنفيذ والطابع الإيماني الروحي والاطمئنان النفسي ، كلّ تلك الخصائص يتميّز بها الاقتصاد الإسلامي عن طريق العقيدة الإسلاميّة التي يرتكز عليها ويتكوّن ضمن إطارها العامّ .
وهو - الاقتصاد الإسلامي - مرتبطٌ بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة ، وطريقته الخاصّة في تفسير الأشياء ، كالمفهوم الإسلامي عن الملكيّة الخاصّة وعن الربح : فالإسلام يرى أنّ الملكيّة حقّ وغاية يتضمّن المسؤوليّة ، وليس سلطاناً مطلقاً ، كما يعطي للربح مفهوماً أرحب وأوسع ممّا يعنيه في الحساب المادّي الخالص ، فيدخل في نطاق الربح بمدلوله الإسلامي كثيرٌ من النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي .
ومن الطبيعي أن يكون لمفهوم الإسلام ذاك عن الملكيّة أثره في كيفيّة الاستفادة من حقّ الملكيّة الخاصّة ، كما أنّ من الطبيعي أيضاً أن يتأثّر الحقل الاقتصادي بمفهوم الإسلام عن الربح أيضاً بالدرجة التي يحدّدها مدى عمق المفهوم وتركّزه ، وبالتالي يؤثّر المفهوم على مجرى الاقتصاد الإسلامي خلال تطبيقه .
وهو - الاقتصاد الإسلامي - مرتبطٌ بما يبثّه الإسلام في البيئة الإسلاميّة من عواطف وأحاسيس قائمة على أساس مفاهيمه الخاصّة ، كعاطفة الاُخوّة العامّة التي تفجّر في قلب كلّ مسلم ينبوعاً من الحبّ للآخرين ، والمشاركة لهم في آلامهم وأفراحهم . ويسري هذا الينبوع ويتدفّق تبعاً لدرجة الشعور العاطفي بالاُخوّة وانصهار الكيان الروحي للإنسان بالعواطف الإسلاميّة والتربية المفروضة في المجتمع الإسلامي . وهذه العواطف والمشاعر تلعب دوراً خطيراً في تكيّف الحياة الاقتصاديّة وتساند المذهب في تحقيق قيمه ومثله عن العدالة .
هذه هي ملامح عن ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالعناصر الثلاثة التي تتكوّن منها التربية الصالحة للمجتمع الإسلامي .
وأمّا الارتباط داخل إطار التنظيم الإسلامي للمجتمع وللحياة الاقتصاديّة بين بعض أجزائه ، فلا يمكن تكوين فكرة تفصيليّة عنه قبل دراسة تفصيليّة للنظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام بصورة كاملة . غير أ نّه على أيّ حال ارتباط وثيق يجعل من الجزء متمّماً للجزء الآخر ، وشرطاً لنجاحه وتفادي المضاعفات خلال تطبيقه .
ومن أمثلة ذلك ، الارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي وأحكام الإسلام الاُخرى في المضاربة ، والتكافل العامّ والتوازن الاجتماعي : فإنّه إذا درس تحريم الربا بصورة منفردة ، واجهتنا مشاكل متعدّدة لدى تطبيق هذا الحكم الإسلامي ، لأنّ إلغاء الفائدة الربويّة يجعل الإنسان يتساءل : كيف يمكن للإنسان المحتاج إلى نقد عاجل لمعيشته الخاصّة وسدّ حاجاته الحياتيّة أن يحصل عليه بعد أن يمتنع أصحاب الأموال عن إقراض شيء من نقودهم ما داموا لا يحصلون على فائدة عن طريق القرض ؟ وكيف يمكن لرؤوس الأموال التي لا يقدر أصحابها على استثمارها مباشرة أن تجذب إلى مجال الاستثمار ؟ الأمر الذي ينجز في المجتمع الرأسمالي عن طريق الفائدة وإغرائها .
ولكنّنا إذا قارنّا بين حرمة الربا وأحكام الإسلام الاُخرى ، وجدنا في تلك الأحكام ما يغطّي الفراغ الذي يخلّفه تحريم الفائدة في المجتمع الإسلامي .
فالسؤال الأوّل تجيب عليه أحكام الإسلام في التكافل والضمان والتوازن الاجتماعي : فبدلاً عن أن يسدّ المعوز حاجته الآنيّة إلى النقد عن طريق الاقتراض والالتزام بدفع فائدة لدائنه ، يمكنه في المجتمع الإسلامي أن يسدّها عن طريق الدولة ، وما تنشئه من مؤسّسات للضمان الاجتماعي ، بحكم مسؤوليّات الدولة في الاقتصاد الإسلامي .
والسؤال الثاني تجيب عليه أحكام الإسلام في المضاربة ، التي تجعل بإمكان صاحب رأس المال أن يحصل على نصيب من الربح ، وذلك بأن يتّفق مع شخص آخر على الاتّجار بالمال ، ويتحمّل مسؤوليّات العمل التجاري ، ويقسّم الربح بينه وبين العامل المباشر بنسبة يتّفقان عليها مقدّماً ، فتحلّ المساهمة في الربح بنسبة مئويّة معيّنة محلّ الفائدة في جذب رؤوس الأموال التي يعجز أصحابها عن استثمارها إلى مجال الاستثمار .
ومن أمثلة الارتباط في النظام الإسلامي ، الصلة الوثيقة بين الاقتصاد الإسلامي ونظام الحكم في الإسلام : فالارتباط بين النظام الاقتصادي ونظام الحكم في الإسلام قوي ، بحيث إنّ الفصل بينهما في البحث يؤدّي إلى خطأ في فهم الموقف الإسلامي العامّ ، فإنّ للسلطة الحاكمة في النظام الاقتصادي الإسلامي صلاحيّات اقتصاديّة واسعة وملكيّات كبيرة تتصرّف فيها طبقاً لاجتهادها .
وهذه الصلاحيّات والملكيّات يجب أن تقرن في الدرس دائماً بواقع السلطة في الإسلام ، والضمانات التي وضعها الإسلام في نظام الحكم لنزاهة وليّ الأمر واستقامته ، من العصمة أو العدالة والاجتهاد والشورى مجتمعة . ففي ضوء هذه الضمانات نستطيع أن نفهم دور الدولة في المذهب الاقتصادي الإسلامي ونؤمن بصحّة إعطائها الصلاحيّات والحقوق المفروضة لها في الإسلام .
المبادئ الرئيسيّة في النظام الاقتصادي الإسلامي :
ويمكننا في استعراض إجمالي للنظام الاقتصادي في الإسلام ومقارنته مع الأنظمة الاقتصاديّة الاُخرى أن نلخّص خطوطه العريضة في المبادئ الرئيسيّة الثلاثة الآتية :ألف - مبدأ الملكيّة المزدوجة .
ب - مبدأ الحرّيّة الاقتصاديّة في نطاق محدود .
ج - مبدأ العدالة الاجتماعيّة .
ألف - مبدأ الملكيّة المزدوجة :
يختلف الإسلام عن الرأسماليّة والاشتراكيّة في نوعيّة الملكيّة التي يقرّرها اختلافاً جوهريّاً .فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاصّ للملكيّة ، أي بالملكيّة الخاصّة كقاعدة عامّة ، فهو يسمح للأفراد بالملكيّة الخاصّة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم ، ولا يعترف بالملكيّة العامّة إلّاحين تفرض الضرورة الاجتماعيّة وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك ، فتكون هذه الضرورة حالة استثنائيّة يضطرّ المجتمع الرأسمالي على أساسها إلى الخروج عن مبدأ الملكيّة الخاصّة واستثناء مرفق أو ثروة معيّنة من مجالها .
والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك ، فإنّ الملكيّة الاشتراكيّة فيه هي المبدأ العامّ الذي يطبّق على كلّ أنواع الثروة في البلد ، وليست الملكيّة الخاصّة لبعض الثروات في نظره إلّاشذوذاً واستثناء قد يعترف به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعيّة قاهرة .
وعلى أساس هاتين النظرتين المتعاكستين للرأسماليّة والاشتراكيّة ، يطلق اسم المجتمع الرأسمالي على كلّ مجتمع يؤمن بالملكيّة الخاصّة بوصفها المبدأ الوحيد ، وبالتأميم باعتباره استثناءً وعلاجاً لضرورة اجتماعيّة . كما يطلق اسم المجتمع الاشتراكي على كلّ مجتمع يرى أنّ الملكيّة الاشتراكيّة هي المبدأ ، ولا يعترف بالملكيّة الخاصّة إلّافي حالات استثنائيّة .
وأمّا النظام الاقتصادي في الإسلام فلا يتّفق مع كلتا النظرتين ، ولا يؤمن بأنّ الملكيّة الخاصّة هي وحدها المبدأ ، ولا أنّ الملكيّة العامّة هي وحدها المبدأ ، بل يقرّر الأشكال المختلفة للملكيّة في وقت واحد ، ويضع بذلك مبدأ الملكيّة المزدوجة ( الملكيّة ذات الأشكال المتنوّعة) بدلاً من مبدأ الشكل الواحد للملكيّة . فهو يؤمن بالملكيّة الخاصّة والملكيّة العامّة وملكيّة الدولة ، ويخصّص لكلّ واحد من هذه الأشكال حقلاً خاصّاً ، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً أو علاجاً مؤقّتاً اقتضته الظروف .
ولهذا كان من الخطأ أن يسمّى المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسماليّاً ، وإن سمح بالملكيّة لرأس المال ببعض وسائل الإنتاج ، لأنّ الملكيّة الخاصّة ليست عنده هي القاعدة .
كما أنّ من الخطا أن نطلق على المجتمع الإسلامي اسم المجتمع الاشتراكي ، وإن أخذ بمبدأ الملكيّة العامّة في بعض الثروات ، لأنّ الشكل الاشتراكي للملكيّة ليس هو القاعدة في رأيه .
وكذلك من الخطأ أيضاً أن يعتبر مزاجاً مركّباً من هذا وذاك ، لأنّ تنوّع الأشكال الرئيسيّة للملكيّة في المجتمع الإسلامي لا يعني أنّ الإسلام مزج بين المذهبين الرأسمالي والاشتراكي وأخذ من كلّ منهما جانباً ، وإنّما يعبّر ذلك التنوّع في أشكال الملكيّة عن تصميم مذهبي أصيل ، لنظريّاته(2) الخاصّة التي تناقض النظريّات الخاصّة للرأسماليّة والاشتراكيّة .
وليس هناك أدلّ على صحّة الموقف الإسلامي من الملكيّة القائمة على أساس مبدأ الملكيّة المزدوجة ، من واقع التجربتين الرأسماليّة والاشتراكيّة ، فإنّ كلتا التجربتين اضطرّتا إلى الاعتراف بالشكل الآخر للملكيّة الذي يتعارض مع القاعدة العامّة فيها ، لأنّ الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للملكيّة .
فقد بدأ المجتمع الرأسمالي منذ أمد طويل يأخذ بفكرة التأميم ، وينزع عن بعض المرافق إطار الملكيّة الخاصّة . وليست حركة التأميم هذه إلّااعترافاً ضمنيّاً من المجتمعات الرأسماليّة بعدم جدارة المبدأ الرأسمالي في الملكيّة ، ومحاولة لمعالجة ما نجم عن ذلك المبدأ من مضاعفات وتناقضات .
كما أنّ المجتمع الاشتراكي من الناحية الاُخرى وجد نفسه - بالرغم من حداثته - مضطرّاً إلى الاعتراف بالملكيّة الخاصّة قانونيّاً حيناً وبشكل غير قانوني أحياناً .
ب - مبدأ الحرّيّة الاقتصاديّة في نطاق محدود :
وفي هذا المبدأ الثاني نجد أيضاً الاختلاف البارز بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظامين الرأسمالي والاشتراكي . فبينما يمارس الأفراد حرّيّات غير محدودة في ظلّ الاقتصاد الرأسمالي ، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريّات الجميع ، يقف الإسلام موقفاً وسطاً ، فيسمح للأفراد بممارسة حريّاتهم ضمن نطاق القيم والمثل واعتبارات العدالة التي يؤمن بها .والتحديد الإسلامي للحريّة الاجتماعيّة في الحقل الاقتصادي على قسمين : أحدهما التحديد الذاتي ، الذي ينبع من أعماق النفس ، والآخر التحديد الموضوعي الذي يعبّر عن قوّة خارجيّة تحدّد السلوك الاجتماعي وتضبطه .
أمّا التحديد الذاتي : فهو يتكوّن طبيعيّاً في ظلّ التربية الخاصّة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكّم الإسلام في كلّ مرافق حياته ، فإنّ للإطارات الفكريّة والروحيّة التي يصوغ الإسلام الشخصيّة الإسلاميّة ضمنها قوّتها المعنويّة الهائلة ، وتأثيرها في التحديد ذاتيّاً وطبيعيّاً من الحريّة الممنوحة لأفراد المجتمع الإسلامي ، وتوجيهها توجيهاً مهذّباً صالحاً دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريّتهم ، لأنّ التحديد ينبع من واقعهم الروحي والفكري ، فلا يجدون فيه حدّاً لحريّاتهم . ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديداً قانونيّاً للحريّة في الحقيقة ، وإنّما هو عمليّة إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحرّ ، إنشاءً معنويّاً صالحاً ، حيث تؤدّي الحريّة في ظلّه رسالتها الصحيحة .
وقد كان لهذا التحديد الذاتي نتائجه الرائعة في تكوين طبيعة المجتمع الإسلامي . وبالرغم من أنّ التجربة الإسلاميّة الكاملة كانت قصيرة الأمد ، فقد آتت ثمارها ، وفجّرت في النفس البشريّة إمكاناتها المثاليّة ، ومنحتها رصيداً روحيّاً زاخراً بمشاعر العدل والخير والإحسان . وناهيك من نتائج التحديد الذاتي أ نّه ظلّ وحده هو الضامن الأساسي لأعمال البرّ والخير في مجتمع المسلمين منذ خسر الإسلام تجربته للحياة ، وفقد قيادته السياسيّة وإمامته الاجتماعيّة . وبالرغم من ابتعاد المسلمين عن روح تلك التجربة والقيادة بعداً زمنيّاً وروحيّاً ، فقد كان للتحديد الذاتي الذي وضع الإسلام نواته في تجربته الكاملة للحياة دوره الإيجابي الفعّال في ضمان أعمال البرّ والخير ، التي تتمثّل في إقدام الملايين من المسلمين بملء حريّتهم على دفع الزكاة وغيرها من حقوق اللَّه ، والمساهمة في تحقيق مفاهيم الإسلام عن العدل الاجتماعي .
وأمّا التحديد الموضوعي : فنعني به التحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارج بقوّة الشرع . ويقوم هذا التحديد الموضوعي للحريّة في الإسلام على المبدأ القائل إنّه لا حريّة للشخص فيما يتعارض من ألوان النشاط مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها . وقد تمّ تنفيذ هذا المبدأ في الإسلام بالطريقة التالية :
أوّلاً : كفلت الشريعة في مصادرها العامّة النصّ على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ، المعيقة في نظر الإسلام عن تحقيق المثل والقيم التي يتبنّاها الإسلام ، كالربا والاحتكار وغير ذلك .
ثانياً : وضعت الشريعة مبدأ إشراف وليّ الأمر على النشاط العام ، وتدخّل الدولة لحماية المصالح العامّة ، وحراستها بالتحديد من حريّات الأفراد ، في ما يمارسون من أعمال . وسوف يأتي عند دراسة مسؤوليّات الدولة في الاقتصاد الإسلامي الحديث عن هذا المبدأ .
ج - مبدأ العدالة الاجتماعيّة :
والمبدأ الثالث هو مبدأ العدالة الاجتماعيّة التي جسّدها الإسلام في ما زوّد به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلاميّة .ويجب أن يكون واضحاً هنا أنّ الإسلام حين تبنّى العدالة الاجتماعيّة لم يأخذ بها بمفهومها التجريدي العام ، ولم ينادِ بها بشكل مفتوح لكلّ تفسير ، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانيّة التي تختلف في نظريّتها للعدالة الاجتماعيّة باختلاف أفكارها الحضاريّة ومفاهيمها عن الحياة ، وإنّما حدّد الإسلام هذا المفهوم وبلوره في مخطّط اجتماعي معيّن ، واستطاع بعد ذلك أن يجسّد هذا التصميم في واقع اجتماعي حيّ تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة .
والصورة الإسلاميّة للعدالة الاجتماعيّة تحتوي على جانبين عامّين ، لكلّ منهما خطوطه وتفصيلاته : أحدهما التكافل العام ، والآخر التوازن الاجتماعي . وفي التكافل والتوازن بمفهومها الإسلامي يوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعيّة .
المصادر :
1- اقتصادنا : 338 للسيد محمد باقر الصدر طاب ثراه
2- اقتصادنا: 323