
الاطّراد بمعنىََ أنّ السنة التاريخية مطّردة ليست علاقة عشوائية ، وليست رابطة قائمة علىََ أساس الصدفة والحظ والاتّفاق ، وإنّما هي علاقة ذات طابع موضوعي لا تتخلّف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون علىََ السنن العامة ، وكان التأكيد علىََ طابع الاطّراد في السنة تأكيداً علىََ الطابع العلمي للقانون التاريخي ؛ لأنّ القانون العلمي أهمّ مميز يميزه عن بقية المعادلات والفروض هو الاطّراد والتتابع وعدم التخلّف .
ومن هنا استهدف القرآن الكريم من خلال التأكيد علىََ طابع الاطّراد في السنة التاريخية ، استهدف أن يؤكد علىََ الطابع العلمي لهذه السنة وأن يخلق في الإنسان المسلم شعوراً واعياً علىََ جريان أحداث التاريخ ، متبصّراً لا عشوائياً ولا مستسلماً ولا ساذجاً .
«ولَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللَّه تَبدِيلاً »(1)، «ولا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحوِيلاً »(2)، « ولا مُبدّلَ لِكَلِماتِ اللَّه »(3). هذه النصوص القرآنية تقدّم استعراضها ، تؤكد هذه النصوص طابع الاستمرارية والاطّراد ، أي طابع الموضوعية والعلمية للسنة التاريخية ، وتستنكر هذه النصوص الشريفة - كما تقدم في بعضها - أن يكون هناك تفكيرٌ أو طمع لدىََ جماعة من الجماعات بأن تكون مستثناة من سنة التاريخ .
«أم حَسِبتُم أن تدخُلُوا الجنَة وَلَمّا يأتِكُم مَثَلُ الذِينَ خَلَوْا مِن قَبلِكُم مسّتهُمُ البأساءُ والضَرّاءُ وزُلزِلُوا حَتىََ يَقُولَ الرسُولُ والذِينَ آمَنُوا مَعَه مَتَىََ نَصرُ اللَّه ألا إنّ نَصرَ اللَّه قَرِيبٌ »(4).
هذه الآية تستنكر علىََ من يطمع في أن يكون حالة استثنائية من سنة التاريخ كما شرحنا فيما مضى .
إذن الروح العامة للقرآن تؤكد علىََ هذه الحقيقة الاُولىََ وهي حقيقة الاطّراد في السنة التاريخية الذي يعطيها الطابع العلمي من أجل تربية الإنسان علىََ ذهنية واعية علمية يتصرّف في إطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ .
ربّانية السنّة التاريخية
ربانية السنة التاريخية ، أنّ السنة التاريخية ربانية مرتبطة باللَّه سبحانه وتعالىََ ، سنة اللَّه ، كلمات اللَّه علىََ اختلاف التعبير ، بمعنىََ أنّ كل قانون من قوانين التاريخ فهو كلمة من اللَّه سبحانه وتعالىََ ، وهو قرار ربّاني .هذا التأكيد من القرآن الكريم علىََ ربانية السنة التاريخية وعلىََ طابعها الغيبي ، يستهدف شدّ الإنسان - حتىََ حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون - باللَّه سبحانه وتعالىََ ، وإشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات ، ليس ذلك انعزالاً عن اللَّه سبحانه وتعالىََ ؛ لأنّ اللَّه يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة اللَّه ، وهي ممثلة لحكمة اللَّه وتدبيره في الكون .
الاتجاه القرآني الموضوعي والاتجاه اللاهوتي الغيبي :
وقد يتوهم البعض أنّ هذا الطابع الغيبي الذي يلبسه القرآن الكريم للتاريخ وللسنن التاريخية ، يُبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ ، ويجعله يتّجه اتّجاه التفسير الإلهي للتاريخ الذي مثّلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي علىََ يد عدد كبير من المفكرين المسيحيين اللاهوتيين ، حيث فسّروا التاريخ تفسيراً إلهياً قد يخلط هذا الاتّجاه القرآني بذلك التفسير الإلهي الذي اتّجه إليه أغسطين وغيره من المفكرين اللاهوتيين ، فيقال بأن إسباغ هذا الطابع الغيبي علىََ السنة التاريخية يحوّل المسألة إلىََ مسألة غيبية وعقائدية ، ويخرج التاريخ عن إطاره العلمي الموضوعي .لكن الحقيقة أنّ هناك فرقاً أساسياً بين الاتّجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب وفي إسباغ الطابع الغيبي علىََ السنة التاريخية ، وبين ما يسمّىََ بالتفسير الإلهي للتاريخ الذي تبنّاه اللاهوت . هناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين . وحاصل هذا الفرق : هو أنّ الاتجاه اللاهوتي
التفسير الإلهي للتاريخ
يتناول الحادثة نفسها ويربط هذه الحادثة باللَّه سبحانه وتعالىََ قاطعاً صلتها وروابطها مع بقية الحوادث ، فهو يطرح الصلة مع اللَّه بديلاً عن صلة الحادثة مع بقية الحوادث ، بديلاً عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية والتي تمثّل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة ، بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي علىََ الحادثة بالذات ، لا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرة بالسماء ، لا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن أوجه الإرتباط والعلاقات والأسباب والمسبّبات علىََ هذه الساحة التاريخية ، بل إنّه يربط السنة التاريخية باللَّه ، يربط أوجه العلاقات والإرتباطات باللَّه ، فهو يقرر أوّلاً ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية ، إلّا أنّ هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة اللَّه سبحانه وتعالىََ وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية .إذا أردنا أن نستعين بمثال لتوضيح الفرق بين هذين الاتجاهين من الظواهر الطبيعية ، نستطيع أن نستخدم هذا المثال :
قد يأتي إنسان فيفسّر ظاهرة المطر التي هي ظاهرة طبيعية فيقول بأنّ المطر نزل بإرادة من اللَّه سبحانه وتعالىََ ، ويجعل هذه الإرادة بديلاً عن الأسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر ، فكأنّ المطر حادثة لا علاقة لها ولا نسب لها ، وإنّما هي حادثة مفردة ترتبط مباشرة باللَّه سبحانه وتعالىََ بمعزل عن تيار الحوادث .
هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي لظاهرة المطر ، لكن إذا جاء شخص وقال بأنّ الظاهرة - ظاهرة المطر - لها أسبابها وعلاقاتها وأ نّها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء مثلاً ، الماء يتبخر فيتحول إلىََ غاز والغاز يتصاعد سحاباً والسحاب يتحوّل بالتدريج إلىََ سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر ، إلّا أنّ هذا التسلسل السببي المتقن ، هذه العلاقات المتشابكة بين هذه الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة اللَّه وتدبيره وحسن رعايته ، فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي والتفسير الموضوعي لظاهرة المطر ؛ لأنّنا ربطنا هنا السنة باللَّه سبحانه وتعالىََ ، لا الحادثة مع عزلها عن بقية الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها .
إذن القرآن الكريم حينما يُسبغ الطابع الرباني علىََ السنة التاريخية لا يريد أن يتّجه اتّجاه التفسير الإلهي في التاريخ ، ولكنّه يريد أن يؤكّد أنّ هذه السنن ليست هي خارجة ومن وراء قدرة اللَّه سبحانه وتعالىََ ، وإنّما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة اللَّه ، فهي كلماته وهي سننه وإرادته وحكمته في الكون لكي يبقىََ الإنسان دائماً مشدوداً إلىََ اللَّه ، لكي تبقىََ الصلة الوثيقة بين العلم والإيمان ، فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلىََ هذه السنن نظرة علمية ، ينظر أيضاً إليها نظرة إيمانية .
وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه علىََ تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية وعدم جعلها مرتبطة بالصدف ، أنّ نفس العمليات الغيبية أناطها في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضاً ، عملية الإمداد الإلهي بالنصر ، الإمداد الإلهي الغيبي الذي يساهم في كسب النصر ، هذا الإمداد جعله القرآن الكريم مشروطاً بالسنة التاريخية ، مرتبطاً بظروفها غير منفكّ عنها ، وهذه الروح أبعد ما تكون عن أن تكون روحاً تفسّر التاريخ علىََ أساس الغيب ، وإنّما هي روح تفسّر التاريخ علىََ أساس المنطق والعقل والعلم ، وحتىََ ذاك الإمداد الإلهي الذي يساهم بالنصر - ذاك الإمداد أيضاً - رُبط بالسنة التاريخية .
قرأنا فيما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنصر حينما قرأنا قوله سبحانه وتعالىََ : «أم حَسِبتُم أن تَدخُلُوا الجنّةَ ولمّا يأتِكُم مَثلُ الذين خَلوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البأساءُ والضّراءُ وزُلزِلوا حتىََ يَقُولَ الرسُولُ والذينَ آمَنُوا مَعَهُ متىََ نَصرُ اللَّه »(5).
الآن تعالوا نقرأ الآيات التي تتحدّث عن الإمداد الإلهي الغيبي لنلاحظ كيف أنّ هذه الآيات ربطت هذا الإمداد الإلهي الغيبي بتلك السنة نفسها أيضاً :
«إذْ تَقُولُ للمؤمنينَ ألَن يَكفيَكُم أن يُمِدّكم رَبكُم بِثلاثةِ آلافٍ مِن الملائكةِ مُنزَلينَ * بلىََ إن تَصبِرُوا وتَتَّقُوا ويأتُوكُم مِن فورِهِم هذا يُمدِدكُم ربّكُم بخمسةِ آلافٍ مِن الملائكةِ مُسَوّمين * وما جَعَلَهُ اللَّه إلّابُشرىََ لكم ولِتطمئِنّ قُلُوبُكُم به وما النّصرُ إلّامِن عِندِ اللَّه العزيزِ الحكِيمِ »(6).
هناك إمداد إلهي غيبي ولكنه شُرط بسنة التاريخ ، شرط بقوله : «بلىََ إن تصبروا وتتقوا ». اُجملت هنا شروط التاريخ التي فصّلت في الآيات الاُخرىََ . إذن هذا الإمداد الغيبي أيضاً مرتبط بسنة التاريخ : «إذ تَستَغِيثُونَ رَبّكُم فاستَجابَ لَكُم أنّي مُمِدّكُم بألفٍ من الملائكةِ مُردِفِينَ * وما جَعَلهُ اللَّه إلّابُشرَىََ ولِتطمئنَّ به قُلُوبُكُم وما النصرُ إلّامن عِندِ اللَّه إنّ اللَّه عَزيزٌ حَكيمٌ »(7).
إذن فمن الواضح أنّ الطابع الرباني الذي يسبغه القرآن الكريم ليس بديلاً عن التفسير الموضوعي ، وإنّما هو ربط لهذا التفسير الموضوعي باللَّه سبحانه وتعالىََ من أجل إكمال اتّجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم .
اختيار الإنسان ودوره في السنن التاريخية :
الحقيقة التي أكّد عليها القرآن الكريم من خلال النصوصالمتقدمة - : هي حقيقة اختيار الإنسان وإرادة الإنسان ، وهذه الحقيقة التأكيد عليها في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جداً ؛ إذ سوف يأتي إن شاء اللَّه تعالىََ بعد محاضرتين أنّ البحث في سنن التاريخ خلق وهماً ، وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث عند كثير من المفكرين : أنّ هناك تعارضاً وتناقضاً بين حرية الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ ، فإمّا أن نقول بأنّ للتاريخ سننه وقوانينه ، وبهذا نتنازل عن إرادة الإنسان واختياره وعن حريته ، وإمّا أن نسلّم بأنّ الإنسان كائن حرّ مريد مختار ، وبهذا يجب أن نلغي سنن التاريخ وقوانينه ونقول بأن هذه الساحة قد اُعفيت من القوانين التي لم تعف منها بقية الساحات الكونية .هذا الوَهْمُ ، وهم التعارض والتناقض بين فكرة السنة التاريخية أو القانون التاريخي وبين فكرة اختيار الإنسان وحرّيته ، هذا الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم أن يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات .
ومن هنا أكد سبحانه وتعالىََ علىََ أن المحور في تسلسل الأحداث والقضايا إنّما هو إرادة الإنسان . وسوف أتناول إن شاء اللَّه تعالىََ بعد محاضرتين الطريقة الفنية في كيفية التوفيق بين سنن التاريخ وإرادة الإنسان ، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الأمرين من خلال فحص للصيغ التي يمكن في إطارها صياغة السنة التاريخية . سوف أتكلم عن ذلك بعد محاضرتين . لكن يكفي الآن أن نستمع إلىََ قوله سبحانه وتعالىََ : «إنّ اللَّه لا يُغيِّر ما بِقَومٍ حتىََ يُغيِّروا ما بأنفُسِهِم »(8).
«وألّو استَقامُوا علىََ الطرِيقَةِ لأسقَيناهُم ماءً غَدَقاً »(9).
«وتلك القُرىََ أهلَكناهُم لمّا ظَلَمُوا وَجَعَلنا لِمَهلِكهم موعِداً »(10).
انظروا كيف أنّ السنن التاريخية لا تجري من فوق رأس الإنسان بل تجري من تحت يد الإنسان ، فإنّ اللَّه لا يغيّر ما بقوم حتىََ يغيّروا ما بأنفسهم وأن لو استقاموا علىََ الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً . إذن هناك مواقف إيجابية للإنسان تمثّل حريته واختياره وتصميمه ، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية ، تستتبع جزاءاتها المناسبة ، تستتبع معلولاتها المناسبة . إذن فاختيار الإنسان له موضعه الرئيسي في التصوّر القرآني لسنن التاريخ ، وسوف أعود إلىََ هذه النقطة مرة اُخرىََ إن شاء اللَّه تعالىََ .
إذن نستطيع أن نستخلص مما سبق أنّ السنن التاريخية ، أنّ السنن القرآنية للتاريخ ، ذات طابع علمي ؛ لأنّها تتميز بالاطّراد الذي يميّز القانون العلمي ، وذات طابع رباني ؛ لأنّها تمثّل حكمة اللَّه وحسن تدبيره علىََ الساحة التاريخية ، وذات طابع إنساني ؛ لأنّها لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي ولا تعطّل فيه إرادته وحريته واختياره ، وإنّما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته علىََ الساحة التاريخية .
مجال السنن على الساحة التاريخية :
الآن بعد أن استعرضنا الخصائص الثلاث التي تتميز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم نواجه هذا السؤال : ما هو ميدان هذه السنن التاريخية ؟كنا حتىََ الآن نعبّر ونقول بأنّ هذه السنن تجري علىََ الساحة التاريخية ، لكن هل أن الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان للسنن التاريخية ؟ أو أنّ ميدان السنن التاريخية يمثل جزءاً من الساحة التاريخية ، بمعنىََ أنّ الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية بوصفها قوانين ذات طابع نوعي مختلف عن القوانين الاُخرىََ الفيزيائية والفسلجية والبيولوجية والفلكية ، هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف ، هذا الميدان هل تتسع له الساحة التاريخية ؟ هل يستوعب كل الساحة التاريخية ، أو يعبر عن جزء من الساحة التاريخية ؟
لكن قبل هذا يجب أن نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخية ؟ الساحة التاريخية : عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرّخون ، المؤرّخون أصحاب التواريخ يهتمون بمجموعة من الحوادث والقضايا ، يسجّلونها في كتبهم ، والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتم بها المؤرّخون ويسجّلونها هي الساحة التاريخية .
فالسؤال هنا إذن هو هكذا : هل أنّ كلّ هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرّخون وتدخل في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية ، هل كلها محكومة بالسنن التاريخية ، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميز عن سنن بقية حقول الكون والطبيعة ؟ أو أنّ جزءاً معيناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ ؟
الصحيح أنّ جزءاً معيناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ . هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ ، بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجية أو قوانين الحياة أو أي قوانين اُخرىََ لمختلف الساحات الكونية الاُخرىََ .
مثلاً : موت أبي طالب ، موت خديجة في سنة معينة(لقد وقعت وفاة أبي طالب رضوان اللَّه عليه ووفاة اُمّ المؤمنين خديجة رضوان اللَّه عليها في العاشر بعد البعثة النبويّة وسمّي ذلك العام بعام الحزن ) ، حادثة تاريخية مهمة تدخل في نطاق ضبط المؤرّخين ، وأكثر من هذا هي حادثة ذات بعد في التاريخ ترتّبت عليها آثار كثيرة في التاريخ ، ولكنها لا يحكمها سنن التاريخ ، تحكمها قوانين فسلجية ، وتحكمها قوانين الحياة التي فرضت أن يموت أبو طالب ( رضوان اللَّه عليه ) وأن تموت خديجة عليها السلام في ذلك الوقت المحدّد . هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيات المؤرّخين ، ولكن الذي يتحكم في هذه الحادثة هي قوانين فسلجة جسم أبي طالب وجسم خديجة ، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة .
حياة عثمان بن عفان ، طول عمر الخليفة الثالث هذا حادثة تاريخية .
الخليفة الثالث ناهز الثمانين ، طبعاً هذه الحادثة التاريخية كان لها أثر عظيم في تاريخ الإسلام ، لو قدّر لهذا الخليفة أن يموت موتاً طبيعياً وفقاً لقوانينه الفسلجية قبل يوم الثورة كان من الممكن أن تتغير كثير من معالم التاريخ ، كان من المحتمل أن يأتي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلىََ الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف ، لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت أن يمتدّ به العمر إلىََ أن يُقتل من قبل الثائرين عليه من المسلمين .
هذه حادثة تاريخية - بمعنىََ أ نّها تدخل في اهتمامات المؤرخين ولها بُعد تاريخي أيضاً - لعبت دوراً سلباً أو إيجاباً في تكييف الأحداث التاريخية الاُخرىََ ، ولكنّها لا تتحكم فيها سنن التاريخ . إنّ الذي يتحكم في ذلك قوانين بنية جسم عثمان بن عفان ، قوانين الحياة ، وقوانين جسم الإنسان التي أعطت لعثمان بن عفان عمراً طبيعياً ناهز الثمانين .
مواقف عثمان بن عفان ، تصرّفاته الإجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ ، ولكن طول عمر عثمان بن عفان مسألة اُخرىََ ، مسألة حياتية أو مسألة فسلجية أو مسألة فيزيائية ، وليست مسألة تتحكم فيها سنن التاريخ .
إذن سنن التاريخ لا تتحكم علىََ كل الساحة التاريخية ، لا تتحكم علىََ كل القضايا التي يدرجها الطبري في تاريخه ، بل علىََ ميدان معين من هذه الساحة يأتي الحديث إن شاء اللَّه عنها .
المصادر :
1- الأحزاب : 62
2- الإسراء : 77
3- الأنعام : 34
4- البقرة : 214
5- البقرة : 214
6- آل عمران : 124 - 126
7- الأنفال : 9 - 10
8- الرعد : 11
9- الجن : 16
10- الكهف : 59