![التوحيد في الاديان التوحيد في الاديان](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF%20-%D9%81%D9%8A%20-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%86.jpg)
فكرة التوحيد في التوراة:
التوحيد في الكتاب الأوّل يقوم على أساس إعطاء (إله) ، هذا الإله لا يستطيع هذا الكتاب أن ينتزع عنه الطابع القومي المحدود، فيشدّ هذا الإله إلى جماعةٍ معيّنةٍ، إلى شعبٍ معيَّن، هذا الشعب المعيَّن هو الشعب الذي قُدِّر أن تنزل الرسالة فيه، وأن يكون النبيُّ منه، فكانت التوراة باستمرارٍ تقدّم الإله في إطارٍ قومي، كأنّه إلهُ هؤلاء في مقابل الأصنام والأوثان التي هي آلهة سائر الشعوب والقبائل.فلم تقل التوراة بشكلٍ صريحٍ عميقٍ لهؤلاء: إنّ هناك إلهاً واحداً للجميع، وإنّ هذه الأصنام والأوثان يجب أن ترفضها البشريّة، وإنّما كأنّها عوضّت هؤلاء بالخصوص عن صنمٍ معيَّن ووثنٍ معيّنٍ بإلهٍ يعبدونه بدلاً عن هذا الصنم.
هذا الشيء الذي بعث في نفوس هؤلاء القوم -تاريخيّاً- الشعورَ بالاعتزاز، والشعور بالزهوّ والخيلاء على بقيّة الشعوب الاُخرى، هذا الشعور الذي لم يوجد في شعوبٍ متأخّرةٍ نزلت فيها نبوّات التوحيد، على أساس أنّ الإله الذي اُعطي إليهم كان إلهاً مشوباً بشيءٍ من المحدوديّة والطابع القومي، فخُيِّل لهم -على مرّ الزمن- أنّهم يحتكرون (الله) لأنفسهم، بينما الشعوب والقبائل الاُخرى هي ذات آلهةٍ شتّى وأصنامٍ شتّى.
ويُشير القرآن الكريم إلى فكرة الاحتكار التي كان يعتقدها اليهود بالنسبة إلى الله تعالى(1).
فكرة التوحيد في الإنجيل:
في الكتاب الثاني صَعَدَت فكرة (الله) مرتبة؛ وذلك لأنّ الطابع القومي انتُزع عن هذه الفكرة، أصبح (الإله) المقدَّم من قبل تلامذة المسيح للعالم إلهاً عالميّاً لا فرق فيه بين شعب وشعب(2)هو إلهُ العالَم على الإطلاق، إلّا أنّ هذا الإله -الذي هو إله العالم على الإطلاق- لم يغادر منطقةً قريبة من ذهن الإنسان المحسوس، لم يُجرَّد تجريداً كاملاً عن عالم الحسّ، بقي على صلةٍ وثيقةٍ جدّاً بالإنسان الحسّي، كأنّه أبوه، ولهذا يُعبَّر في الأناجيل كثيراً عن الإنسان بأنّه (ابن الله)(3).
المسيحيّة الرسميّة تفسّر هذا الإنسان بعيسى بن مريم: أنّ عيسى بن مريم هو ابن الله. لكن لا أظنّ أنْ يُقصد به هذا؛ الأناجيل تعبّر عن الإنسان -أيِّ إنسانٍ- بأنّه ابن الله، لا عن عيسى بن مريم بالخصوص أنّه ابن الله؛ لأنّها تعطي عن الله فكرةَ الأب الواحد للجماعة البشريّة، لا فكرة الخالق، السيّد، المطلق، المقتدر، الواهب، الكبير.. فكرةَ أبٍ له أبناء، هؤلاء الأبناء لهم لغات شتّى، ولهم اتّجاهات شتّى، ولهم مذاهب شتّى، ولهذا يجب أن يتآخوا، يجب أن يتآخوا لأنّهم أبناء أبٍ واحد.
فكرة التوحيد في القرآن:
بينما الكتاب الثالث الذي وصلت إليه النبوّة على يد الإسلام، هذا الكتاب الثالث يعطي فكرة التوحيد بأنصع وأوسع ما يمكن من التنزيه الذي يبقى محتفظاً بقدرته على تحريك الإنسانية؛ لأنّه يجرّد هذه الفكرة عن طابع الاُبوّة والعلائق الماديّة مع الإنسان على الإطلاق، يجرّد (الله) عن أيّ علاقةٍ ماديّةٍ مع أيّ إنسانٍ، حتّى مع أشرف إنسانٍ على وجه الأرض، مع صاحب الرسالة بالذات: محمّد (صلّى الله عليه وآله).يقف النبيُّ محمّد في لغة القرآن بين يَدَي الله عبداً ذليلاً خاضعاً يتلقّى الأوامر، وليس له إلّا أن يطيع، وإلّا أن ينفّذ حرفيّاً(4).
مثل هذه الفكرة هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه التنزيه والتعميق والترسيخ في فكرة التوحيد، مع الحفاظ على فاعليّة الفكرة وعلى محرّكيّتها.
هذا الخطّ -خطُّ وعي التوحيد وفكرةِ التوحيد- هو أوّل الخطوط التي تتغيّر مواقف النبوّات بموجبها؛ على أساس أنّ هذا الخطَّ هو المرتبط بالقاعدة الفكريّة الأساسيّة التي تعمل بموجبها كلُّ نبوّة؛ فمهما صعدت درجة الوعي لهذه القاعدة الأساسيّة يجب أن تُعطى لها الصيغة المعمّقة الأكبر.
المسؤوليّة الأخلاقيّة للدعوة :
الخطُّ الثاني هو خطُّ تحمّل أعباء المسؤوليّة الأخلاقيّة للدعوة، يعني: كون الإنسان بالغاً إلى درجةٍ تؤهّله لأنْ يتحمّل أعباء دعوةٍ لها ضريبتُها وواجباتُها وآلامُها وهمومُها.مثل هذا التحمّل أيضاً له درجات، ولم يستطع الإنسان بالطفرة أن يصل إلى درجة تحمّل أعباء رسالة عالميّة واسعة غيرِ محدودةِ الزمان والمكان، لم يستطع أن يصل إلى هذا بالطفرة، وإنّما استطاع أن يصل إلى ذلك عبر مرانٍ طويلٍ على تحمّل المسؤوليّات.
البشريّة بقيت تتحمّل المسؤوليّات عبر مرانٍ طويل، ونمت خلال مرانها الطويل حتّى استطاعت أن تتحمّل مسؤوليّةَ رسالةٍ لا حدَّ لها، ممتدّةٍ مع الزمان والمكان، وإلّا فأيّ مسؤوليّاتٍ كانت تتحمّلها اُمم الأنبياء السابقين؟!
الاُمم التي تنكشف أمامنا اليوم [تواريخُها] هي اُممُ موسى وعيسى، والمقارنة بين اُمم موسى وعيسى و[بين] المسؤوليّات التي تحمّلتها الاُمّة الإسلاميّة حينما نزل الوحي على النبي (صلّى الله عليه وآله) بالرسالة الخاتمة تكشف عن الدرجة الكبيرة في تحمّل المسؤوليّات، وهذه الدرجة الكبيرة في تحمّل المسؤوليّات تعبّر عن نموّ الاستعداد على مرّ الزمن.
موسى[ (عليه السلام)] مات وشعب بني إسرائيل في التيه، يعني: توّج حياته، توّج كلّ أعماله، توَّجَها بكلّ ما يُمكنه من جهاد وتضحية في سبيل أداء رسالته، ولكنّه أنهى حياته وشعبُ بني إسرائيل في التيه. كتب الله عليهم التيه أربعين عاماً(5)
لأنّهم لم يستجيبوا أبداً لمتطلّبات الرسالة، لم يستجيبوا أبداً لما تقتضيه رسالة موسى بالنسبة إليهم، حتّى خلّفهم موسى حيارى ومات.
أين هذا من اُمّةٍ حملت أعباء الرسالة؟
هذا هو الخطّ الثاني من الخطوط الثلاثة. لا بدّ لي أن أختصر الكلام.
سيطرة الإنسان على الطبيعة :
الخطّ الثالث من الخطوط الثلاثة هو خطّ سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة. هذا الخطّ خطٌّ متطوّر قبل الإسلام وبعد الإسلام، ولن يقف هذا الخطُّ عند مرحلةٍ من المراحل على الإطلاق.
الإنسان سوف لن تقف سيطرته -بإذن الله- عند مرحلةٍ من مراحل الاستيلاء على الكون والطبيعة. إن انتهى استيلاؤه الكامل على الأرض، سوف يفكّر في الاستيلاء على السماء، في الاستيلاء على كلّ أبعاد الكون(6).
إذاً: فهو في نموٍّ مستمرّ لا ينقطع، ولا توضع له حدود مفترضة من هذه الناحية. فلو كانت النبوّة مرتبطةً بهذا الخطّ أيضاً، لتحتّم أن تتغيّر النبوّات على مرّ الزمن وإلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة.
ولكنّ النبوّة غير مرتبطةٍ بهذا الخطّ؛ لأنّ النبوّة لم تجئ لكي تأخذ بيد الإنسان في مجال السيطرة على الكون والطبيعة، وإنّما جاءت لتصنع من هذا الإنسان المسيطر على الكون والطبيعة -بالدرجة التي هيّأتها له ظروفه الموضوعيّة- إنساناً فاضلاً نبيلاً مدبِّراً حكيماً، سواءٌ أَكانت سيطرته على الطبيعة تهيّئهُ لأنْ ينتقل من بلدٍ إلى بلدٍ على رجليه، أو على الحمير، أو في الطائرات، أو في الصواريخ.
على جميع هذه التقادير، وفي جميع هذه المراحل التي تعبّر عن درجات من سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة، في جميع هذه المراحل: النبوّةُ لا يختلف دورها وطبيعة رسالتها.
ومن هنا لم يكن من الحَتْم أن تتغيّر النبوّة بموجب تغيّر الخطّ الثالث، بينما من المعقول -بل من الضروري- أن تتغيّر النبوّة بين حينٍ وحين وفقاً للخطّ الأوّل والخطّ الثاني.
ومن هنا، نعتقد نحن -كمسلمين- أنّ الخطّ الأوّل والخطّ الثاني -هذين الخطّين اللذين ترتبط بهما التغيّرات في النبوّة- لهما حدٌّ نهائي يصل إليه الإنسان، هذا الحدّ النهائي هو الحدّ النهائي الذي وصل إليه الإنسان حينما جاء الإسلام. الإسلام كرسالةٍ شاملةٍ كاملةٍ عامّةٍ للحياة، هذه الرسالة جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل من ناحية استعداده لتقبّل وعيٍ توحيديٍّ صحيح شامل كامل، ومن ناحية تحمّله لمسؤوليّة أعباء الدعوة.
ونحن -باستقراء تاريخنا المنظور منذ جاء الإسلام إلى يومنا هذا- لا نجد أيَّ تغيّرٍ حقيقيٍّ في هذين الخطّين، لا في مدى اتّساع الوعي التوحيدي عند الإنسان، ولا في اتّساع التحمّلات الأخلاقيّة لأعباء الدعوة، في كلا هذين الخطّين لا نجد أيَّ تغيّر حقيقي.
نعم، نجد التغيّر الواسع جدّاً في الخطّ الثالث الذي يُعتبر خارج نطاق عمل النبوّة ورسالتها.
أظنّ أنّ هذا المقدار كافٍ.
المصادر :
1- لاحظ قوله تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ المائدة: 18؛ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ الجمعة: 6؛ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى البقرة: 111؛ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا البقرة: 135.
2- إنّ الفكرة المقدّمة في الإنجيل عن نبي الله عيسى (عليه السلام) هي أنّه لم يُرسل «إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة» كما نقلوا عنه أثناء انصرافه إلى نواحي صور وصيداء، فراجع: الكتاب المقدَّس، العهد الجديد: 28جـ- ، إنجيل مَتّى، الأصحاح الخامس عشر، وهو موافقٌ لما ورد عندنا من أنّ «الله عزّ وجلّ أرسل عيسى (عليه السلام) إلى بني إسرائيل خاصّة، فكانت نبوّته ببيت المقدس» كمال الدين وتمام النعمة: 220، الحديث 2.
3- انظر: الكتاب المقدَّس، العهد الجديد: 6جـ- ، إنجيل مَتّى، الأصحاح الرابع؛ 56جـ- ، إنجيل مَرقُس، الأصحاح الأوّل؛ 60جـ- ، إنجيل مَرقُس، الأصحاح الثالث؛ 90جـ- ، إنجيل لوقا، الأصحاح الأوّل؛ 96 جـ- ، إنجيل لوقا، الأصحاح الثالث؛ 146جـ- و147جـ- ، إنجيل يوحنّا، الأصحاح الأوّل.
4- لاحظ من باب المثال قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ الحاقّة: 44-45؛ وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ المائدة: 49؛ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ المائدة: 67، وغيرها.
5- قال تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ المائدة: 26.
6- راجع حول (علاقة الإنسان مع الطبيعة): المدرسة القرآنيّة: 158، الدرس الثاني عشر.