العلاقات الاجتماعية و حركة التاريخ

أنّ المجتمع يتكوّن من ثلاثة عناصر وهي الإنسان والطبيعة والعلاقة الاجتماعية ، وقد تحدّثنا عن الإنسان ودوره الأساسي في الحركة التاريخية ، وتحدّثنا عن الطبيعة وشأنها على‏ََ الساحة التاريخية ، وبقي علينا أن نأخذ العنصر الثالث وهو
Monday, December 19, 2016
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
العلاقات الاجتماعية و حركة التاريخ
 العلاقات الاجتماعية  و حركة التاريخ

 





 

أنّ المجتمع يتكوّن من ثلاثة عناصر وهي الإنسان والطبيعة والعلاقة الاجتماعية ، وقد تحدّثنا عن الإنسان ودوره الأساسي في الحركة التاريخية ، وتحدّثنا عن الطبيعة وشأنها على‏ََ الساحة التاريخية ، وبقي علينا أن نأخذ العنصر الثالث وهو العلاقة الاجتماعية ، لنحدّد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعية على‏ََ ضوء ما انتهينا إليه من مواقف قرآنية تجاه دور الإنسان والطبيعة على‏ََ الساحة التاريخية .
العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعية وقد تقدّم أنّ العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين مزدوجتين : إحداهما علاقة الإنسان مع الطبيعة ، والاُخرى‏ََ علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان . هذان خطّان من العلاقة الاجتماعية ، وهذان الخطان نؤمن بأنّ كلّ واحد منهما مختلف عن الآخر ومستقل استقلالاً نسبياً عن الآخر مع شي‏ء من التفاعل والتأثير المتبادل المحدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك إن شاء اللَّه تعالى‏ََ من حيث الأساس .
هذان الخطّان أحدهما مختلف عن الآخر ، ومستقل استقلالاً نسبياً عنه تبعاً للاختلاف النوعي في طبيعة المشكلة التي يواجهها كل واحد من هذين الخطين ، ونوع الحلّ الذي ينسجم مع طبيعة تلك المشكلة .

علاقة الإنسان مع الطبيعة :

فالخطّ الأوّل الذي يمثّل علاقات الإنسان مع الطبيعة من خلال استثمارها ومحاولة تطويعها وإنتاج حاجاته الحياتية منها ، هذا الخطّ يواجه مشكلة ، وهي مشكلة التناقض بين الإنسان والطبيعة ، وهذا التناقض بين الإنسان والطبيعة يعني تمرّد الطبيعة وتعصّيها عن الاستجابة للطلب الإنساني وللحاجة الإنسانية من خلال التفاعل ما بينهما .
هذا التناقض بين الإنسان والطبيعة هو المشكلة الرئيسية على‏ََ هذا الحظ .
وهذا التناقض له حلّ مستمدّ من قانون موضوعي يمثّل سنّة من سنن التاريخ الثابتة ، وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ؛ ذلك لأنّ الإنسان كلما تضاءل جهله بالطبيعة وكلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانينها ازداد سيطرةً عليها وتمكّناً من تطويعها وتذليلها لحاجاته ، وحيث إنّ كل خبرة هي تتولّد في هذا الحقل عادة من الممارسة ، وكل ممارسة تولّد بدورها خبرة ، ولهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة قانوناً موضوعياً يكفل حلّ هذا التناقض ، يقدم الحلّ المستمر والمتنامي لهذا التناقض بين الإنسان والطبيعة ؛ إذ يتضاءل جهل الإنسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسته للطبيعة ، يكتسب خبرة جديدة ، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة على‏ََ ميدان جديد من ميادين الطبيعة ، فيمارس على‏ََ الميدان الجديد ، وهذه الممارسة بدورها أيضاً تتحول إلى‏ََ خبرة ، وهكذا تنمو الخبرة الإنسانية باستمرار ما لم تقع كارثة كبرى‏ََ طبيعية أو بشرية .
وهذا القانون بنموّه وبتطبيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة ، فهي مشكلة محلولة تاريخياً ومحلولة موضوعياً ، ولعلّ في الآية الكريمة :
«وآتاكُم مِنْ كُلِّ ما سَألْتُمُوه وإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّه لا تُحْصُوها »(1)لعلّ في الآية الكريمة إشارة إلى‏ََ هذا الحلّ الموضوعي المستمدّ من قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ؛ لأنّ السؤال في الآية الكريمة «وآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَألْتُمُوه »لا يراد منه الدعاء طبعاً ، السؤال اللفظى الذي هو الدعاء ؛ لأنّ الآية تتكلّم عن الإنسانية ككل عمَّن يؤمن باللَّه ومن لا يؤمن باللَّه ، من يدعو اللَّه ومن لا يدعو اللَّه ، كما أنّ الدعاء لا يتضمّن حتماً تحصيل الشي‏ء المدعوّ به .
نعم كل دعاء له استجابة ، لكن ليس لكل دعاء تحقيق لما تعلّق به الدعاء ، بينما هنا يقول : « وآتاكم من كلّ ما سألتموه »هنا إيتاء ، استجابة فعلية بعطاء ما سئل عنه ، فأكبر الظنّ أنّ هذا السؤال من الإنسانية ككل وعلى‏ََ مرّ التاريخ وعبر الماضي والحاضر والمستقبل ، يتمثّل في السؤال الفعلي والطلب التكويني الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، هذه هي المشكلة التي يواجهها الخط الأول من العلاقات ، وهذا هو الحلّ الذي يوضع لهذا المشكلة .

علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان :

وأما الخطّ الثاني من العلاقات ، علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان في مجال توزيع الثروة أو في سائر الحقول الاجتماعية وأوجه التفاعل الحضاري بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فهذا الخط يواجه مشكلة اُخرى‏ََ ، ليست المشكلة هنا هي‏ التناقض بين الإنسان والطبيعة بل هي التناقض الإجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان .
وهذا التناقض الاجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان يتّخذ على‏ََ الساحة الاجتماعية صيغاً متعدّدة وألواناً مختلفة ، ولكنّه يظلّ في حقيقته وجوهره ، يظلّ شيئاً ثابتاً وحقيقة واحدة وروحاً عامة ، وهي التناقض ما بين القوي والضعيف ، بين كائن في مركز القوة وكائن في مركز الضعف .
هذا الكائن الذي هو في مركز القوة إذا لم يكن قد حُلّ تناقضه الخاص ، جدله الإنساني من الداخل ، فسوف يبرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي ، ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني وفي شكلها التشريعي وفي لونها الحضاري ، فهي بالآخرة صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف ، قد يكون هذا القوي فرداً فرعوناً ، قد يكون عصابة ، قد يكون طبقة ، قد يكون شعباً ، قد يكون اُمّة ، كل هذه ألوان من التناقض كلها تحتوي روحاً واحدة ، وهي روح الصراع ، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحلّ تناقضه الداخلي وجد له الإنساني ، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال هذا الضعيف .
هذه أشكال متعدّدة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خطّ العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان ، وهذه الأشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد ، من تناقض رئيسي واحد ، وهو ذلك الجدل الإنساني - الذي شرحناه - القائم بين حفنة التراب وبين أشواق اللَّه سبحانه وتعالى‏ََ .
ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني ، فسوف يظلّ هذه الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات ، حسب الشروط الموضوعية ومستوى‏ََ الفكر والثقافة .
إذن النظرة الإسلامية من زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الإنسان وأخيه ـ الإنسان ، نظرة واسعة منفتحة معمّقه لا تقتصر على‏ََ لون من التناقض ، ولا تهمل ألواناً اُخرى‏ََ من التناقض ، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على‏ََ مرّ التاريخ وتنفذ إلى‏ََ عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة وروحها المشتركة ، ثم تربط كل هذه التناقضات ، تربطها بالتناقض الأعمق ، بالجدل الإنساني .
ومن هنا يؤمن الإسلام بأنّ الرسالة الوحيدة القادرة على‏ََ حلّ هذه المشكلة التي يواجهها خط علاقات الإنسان مع الإنسان ، هو تلك الرسالة التي تعمل على‏ََ مستويين في وقت واحد ، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على‏ََ الساحة ، لكن في الوقت [ نفسه ] وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى‏ََ الداخلي للإنسان ، من أجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية ، ويؤمن الإسلام بأنّ ترك ذلك المعين من الجدل والتناقض على‏ََ حاله والاشتغال بتصفية التناقضات على‏ََ الساحة الاجتماعية بصيغها التشريعية فقط ، هذا نصف العملية ، النصف المبتور من العملية ؛ إذ سرعان ما يفرز ذلك المعين صيغاً اُخرى‏ََ وفق هذه العملية التي سوف تستأصل بها الصيغ السابقة .

الحلّ الإسلامي للمشكلة :

فلابدّ للرسالة التي تريد أن تضع الحلّ الموضوعي للمشكلة أن تعمل على‏ََ كلا المستويين ، أن تؤمن بجهادين : جهاد أكبر سمّاه الإسلام بالجهاد الأكبر وهو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الرئيسي ، لحلّ ذلك الجدل الداخلي .
وجهاد آخر ، جهاد في وجه كل صيغ التناقض الاجتماعي ، في وجه كلّ ألوان استئثار القوي للضعيف من دون أن نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معينة من صيغ هذا الاستئثار ؛ لأنّ الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت صيغه .
*وقفة مع المادية التاريخية
هذه هي النظرة المنفتحة الواقعية التي اثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها على‏ََ واقع الحياة خلافاً للنظرة الضيقة التي فسّرت بها المادية والثوّار المادّيون التي فسّروا بها التناقض ، فإنّ ماركس على‏ََ الرغم من ذكائه الفائق إلّاأ نّه لم يستطع أن يتجاوز حدود النظرة التقليدية للإنسان الاُوروبي ، كان بحكم كونه فرداً اُوروبياً ، كان رهين هذه النظرة التقليدية .
الإنسان الاُوروبي دائماً يرى‏ََ العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الاُوروبية أو الساحة الغربية بتعبير أعمّ كما يرى‏ََ اليهود ، كما يعتقد اليهود بأنّ الإنسانية هي كلّها في إطارهم : «ليْسَ عَلَيْنا في الاُمِّيينَ سَبِيلٌ »(2)، أولئك ليسوا بشراً ، ليسوا اُناساً ، أولئك اُميون همج ، كذلك الإنسان الاُوروبي اعتاد أن يضع الدنيا كلّها في إطار ساحته الاُوروبية وساحته الغربية . لم يتخلّص هذا الرجل من تقاليد هذه النظرة الاُوروبية ، كما أ نّه لم يتخلّص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دوراً في أفكار المادية التاريخية .
ومن هنا جاء لنا بتفسير محدود ضيق للتناقض الذي تواجهه الإنسانية على‏ََ هذا الخط : اعتقَد بأنّ مردّ كل التناقضات على‏ََ الساحة البشرية إلى‏ََ تناقض واحد ، وهو التناقض الطبقي ، التناقض بين طبقة تملك كل وسائل الإنتاج أو معظم وسائل الإنتاج ، وطبقة لا تملك شيئاً من وسائل الإنتاج ، وإنّما تعمل من أجل مصالح الطبقة الاُولى‏ََ ، تستثمر في تشغيل وسائل الإنتاج التي تملكها الطبقة الاُولى‏ََ ، ثم‏ هذه الثروة المنتجة التي جسّدت عرق جبين هذا العامل المستغَل ، هذه الثروة المنتجة تستولي عليها الطبقة الاُولى‏ََ المالكة ولا تعطي للطبقة الثانية منها إلّاالحدّ الأدنى‏ََ ، حدّ الكفاف الذي يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن إطار الطبقة الاُولى‏ََ .
هذا هو التناقض الطبقي الذي اتّخذه قاعدة وأساساً لكل ألوان التناقض الاُخرى‏ََ ، وهذا التناقض يتّخذ مدلوله الإجتماعي من خلال صراع مرير بين الطبقة المالكة وبين الطبقة العاملة ، وهذا الصراع المرير بين هاتين الطبقتين ينمو ويشتد كلّما تطوّرت الآلة وكلّما نمت الآلة الصناعية وتعقّدت ؛ وذلك لأنّ الآلة كلّما نمت وكلّما تطوّرت أدّت إلى‏ََ تخفيض في مستوى‏ََ المعيشة ، وهذا التخفيض في مستوى‏ََ المعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأسمالية المالكة ، يعطي لها فرصة في أن تخفض أجر العامل ؛ لأنّها لا تريد أن تعطي العامل أكثر ممّا يديم به حياته ونَفَسَه .
إذن باستمرار تتطور الآلة ، وباستمرار تنخفض كلفة المعيشة ، وباستمرار يخفِّض الرأسمالي اُجرة العامل ، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية أنّ تطوّر الآلة وتعقّدها يقتضي إمكانية التعويض عن العدد الكبير من العمّال بالعدد القليل من العمّال ؛ لأنّ دقة الآلة وعملقة الآلة سوف يعوّض عن الجزء الآخر من العمّال ، وهذا يجعل الطبقة الرأسمالية تطرد الفائض من العمّال باستمرار .
وهكذا يشتدّ الصراع بين الطبقتين ويحتدم التناقض حتى‏ََ ينفجر في ثورة ، هذه الثورة تجسّدها الطبقة العاملة ، تقضي بها على‏ََ التناقض الطبقي في المجتمع ، توحّد المجتمع في طبقة واحدة ، وهذه الطبقة الواحدة تمثّل حينئذٍ كل أفراد المجتمع ، وفي حالة من هذا القبيل سوف تستأصل كل ألوان التناقض ؛ لأنّ أساس التناقضات هو التناقض الطبقي ، فإذا اُزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الاُخرى‏ََ الفرعية والثانوية .
هذا تلخيص سريع جداً لوجهة نظر هؤلاء الثوار تجاه التناقض الذي عالجناه ، إلّاأنّ هذه النظرة الضيّقة لا تنسجم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق على‏ََ تيار الأحداث في التاريخ . ليس التناقض الطبقي وليد تطوّر الآلة ، بل هو وليد الإنسان ، هو من صنع الإنسان الاُوروبي . ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل ، ليست الآلة هي التي خلقت النظام الرأسمالي ، وإنّما الإنسان الاُوروبي الذى وقعت هذه الآلة بيده أفرز نظاماً رأسمالياً يجسّد قِيَمه في الحياة وتصوراته للحياة .
وليس التناقض الطبقي هو الشكل الوحيد من أشكال التناقض ، هناك صيغ كثيرة من التناقض على‏ََ الساحة الاجتماعية ، وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيس بالنسبة إلى‏ََ تلك الأشكال ، وإنّما كل هذه الأشكال من التناقض على‏ََ الساحة الاجتماعية هي وليد تناقض رئيس وهو جدل الإنسان ، هو الجدل المخبوء في داخل محتوى‏ََ الإنسان ، ذاك هو التناقض الرئيس الذي يفرز دائماً وأبداً صيغاً متعدّدة من التناقض .
تعالوا نلاحظ ونقارن بين هذه النظرة الضيّقة وبين واقع التجربة البشرية المعاصرة لنرى‏ََ أيّ النظرتين أكثر انطباقاً على‏ََ العالم الذي نعيشه ، ونرى‏ََ ماذا كنا نتوقع ؟ ماذا كنا ننتظر ؟ لو كانت هذه النظرة وكان هذا التفسير للتناقض ، لو كان صحيحاً وواقعياً ، ماذا كنا ننتظر ؟ وماذا كنا نتوقع ؟
كنا ننتظر ونتوقع أن يزداد يوماً بعد يوم التناقض الطبقي والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الاُوروبية الصناعية التي تطوّرت فيها الآلة تطوراً كبيراً ، كان من المفروض أنّ هذه المجتمعات كإنجلترا والولايات الأمريكيه المتحدة وفرنسا وألمانيا يشتدّ فيها التناقض الطبقي والصراع يوماً بعد يوم ، ويتزلزل النظام الرأسمالي المستغِل ويتداعى يوماً بعد يوم .
كنا نترقب أن يزداد البؤس والحرمان في جانب الطبقة العاملة يوماً بعد يوم ، ويزداد الثراء على‏ََ حساب هؤلاء العاملين في طبقة الرأسماليين المستغلين من الأمريكان والإنجليز والفرنسيين وغيرهم . كنا نترقب حالة من هذا القبيل ، كنا نترقب أن تتضاعف النقمة ، أن يشتد إيمان العامل الاُوروبي والعامل الأمريكي بالثورة وبضرورة الثورة وبأ نّها هي الطريق الوحيد لتصفية هذا التناقض الطبقي . هذا ما كنا ننتظره لو صحّت هذه الأفكار عن تفسير التناقض .
لكن ماذا وقع خارجاً ؟ ما وقع خارجاً هو عكس ذلك تماماً ، نرى‏ََ وبكل أسف أنّ النظام الرأسمالي في الدول الرأسمالية المستغِلّة يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم ، ويزداد تمحوراً وعملقة يوماً بعد يوم .
لا تبدو عليه بوادر الانهيار السريع ، تلك التمنّيات الطيبة التي تمنّاها ثوارنا المادّيون لإنجلترا وللدول الاُوروبية المتقدمة صناعياً ، تمنّوا لها الثورة في أقرب وقت بحكم التطور الآلي والصناعي فيها ، تلك التمنيات الطيبة تحوّلت إلى‏ََ سراب ، بينما تحققت هذه النبوءات بالنسبة إلى‏ََ بلاد لم تعش تطوّراً آلياً ، بل لم تعش تناقضاً طبقياً بالمعنى‏ََ الماركسي ؛ لأنّها لم تكن قد دخلت الباب العريض الواسع للتطور الصناعي ، من قبيل روسيا القيصرية والصين‏(3) .
من ناحية اُخرى‏ََ هل ازداد العمّال بؤساً وفقراً ؟ هل ازدادوا استغلالاً ؟ لا بالعكس ، العمّال ازدادوا رخاءً ، ازدادوا سعة ، أصبحوا مدلّلين من قبل الطبقة الرأسمالية المستغلّة ، العامل الامريكي يحصل على‏ََ ما لا يطمع به إنسان آخر يشتغل بكدّ يمينه ويقطف ثمار عمله في المجتمعات الاشتراكية الاُخرى‏ََ .
هل ازدادت النقمة لدى‏ََ الطبقة العاملة ؟ العكس هو الصحيح ، العمّال ،الهيئات التي تمثّل العمّال في الدّول الرأسمالية المستغلة ، تحوّلت بالتدريج ، أكثر هذه الهيئات تحوّلت إلى‏ََ هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي ، تحوّلت إلى‏ََ أشخاص لهم حالة الاسترخاء السياسي ، تركوا هموم الثورة ، تركوا منطق الثورة ، أصبحوا يتصافحون يداً بيد مع تلك الأيدي المستغِلّة ، مع أيدي الطبقة الرأسمالية ، أصبحوا يرفعون شعار تحقيق حقوق العمّال عن طريق النقابات وعن طريق البرلمانات وعن طريق الانتخابات .
هذه الحالة هي حالة الاسترخاء السياسي ، كل هذا وقع في هذه الفترة القصيرة من الزمن التي نحسّها ، كيف وقع هذا كلّه ؟ هل كان ( ماركس ) سيّئ الظن إلى‏ََ هذه الدرجة بهؤلاء الرأسماليين ، بهؤلاء المجرمين والمستغِلّين بحيث تنبّأ بهذه النبوءات ثم ضاعت هذه النبوءات كلّها فلم يتحقق شي‏ء منها ؟
هل كان هذا سوء ظن من ( ماركس ) لهؤلاء المستغلين ؟
هل أنّ هؤلاء الرأسماليين المستغلين دخل في نفوسهم الرّعب من ( ماركس ) ومن الماركسية ومن الثورات التحرّرية في العالم ؟
هل دخل في أنفسهم الرّعب ، فحاولوا أن يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم خوفاً من أن يثور العامل عليهم ؟
هل هذا صحيح ؟
هل أنّ المليونير الأمريكي يخالج ذهنه فعلاً أيّ شبح للخوف من هذه الناحية ؟ أشدّ الناس تفاؤلاً بمصائر الثورة في العالم لا يمكنه أن يفكّر في أنّ ثورة حقيقية على‏ََ الظلم في أمريكا يمكن أن تحدث قبل مئة سنة من هذا التاريخ . فكيف يمكن أن نفترض أنّ المليونير الأمريكي أصبح أمامه شبح الخوف والرعب ، وعلى‏ََ أساس هذا الشبح تنازل عن جزء من مكاسبه ؟
هل أ نّه دخلت إلى‏ََ قلوبهم التقوى‏ََ فجأة ، استنارت قلوبهم بنور الإسلام الذي أنار قلوب المسلمين الأوائل الذين كانوا لا يعرفون حدّاً للمشاركة والمواساة ، والذين كانوا يشاطرون إخوانهم غنائمهم وسرّاءهم وضرّاءهم ؟
هل تحوّل هؤلاء بين عشية وضحاها إلى‏ََ مسلمين ، إلى‏ََ قلوب مسلمة ؟
لا ، لم يتحقق شي‏ء من ذلك ، لا ( كارل ماركس ) كان سيّى‏ء الظن بهؤلاء ، كان ظنّه منطبقاً على‏ََ هؤلاء انطباقاً تاماً ، ولا أنّ هؤلاء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من أجل إسكاته ، ولا أنّ قلوبهم خفقت بالتقوى‏ََ ، لم تعرف التقوى‏ََ ولن تعرف التقوى‏ََ ؛ لأنّها انغمست في لذّات المال وفي الشهوات ، لم يتحقق شي‏ء من ذلك . إذن ماذا وقع وكيف نفسّر هذا الذي وقع ؟
هذا الذي وقع في الحقيقة كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي منذ البداية ، لكن ( ماركس ) والثوّار الذين ساروا على‏ََ هذا الطريق لم يستطيعوا أنْ يكتشفوا ذلك التناقض ، ولهذا حصروا أنفسهم في التناقض الطبقي ، في التناقض بين المليونير الأمريكي والعامل الأمريكي ، بين الغني الانجليزي والعامل الإنجليزي ، ولم يدخلوا في الحساب التناقض الآخر الأكبر الذي أفرزه جدل الإنسان الاُوروبي ، أفرزه تناقض الإنسان الاُوروبي ، فغطّى‏ََ على‏ََ هذا التناقض الطبقي ، بل جمّده ، بل أوقفه إلى‏ََ فترة طويلة من الزمن .
ما هو ذلك التناقض ؟ نحن بنظرتنا المنفتحة يمكننا أن نبصر ذلك التناقض ، أن نضع إصبعنا على‏ََ ذلك التناقض ؛ لأنّنا لم نحصر أنفسنا في إطار التناقض الطبقي ، بل قلنا : إنّ جدل الإنسان دائماً يفرز أيّ شكل من أشكال التناقض الاجتماعي . ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغِل الاُوروبي والأمريكي ، وجد فيه أنّ من طبيعة هذا التناقض أن يتحالف مع العامل ، مع من يستغلّه لكي يشكّل هو والعامل قطباً في هذا التناقض .
لم يعد التناقض تناقضاً بين الغني الاُوروبي والعامل الاُوروبي ، بل إنّ هذين الوجودين الطبقيين تحالفا معاً ـ وكوّنا قطباً في تناقض أكبر بدأ تاريخياً منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدّث عنه ماركس .
لكن ما هو القطب الآخر في هذا التناقض ؟ القطب الآخر في هذا التناقض هو أنا وأنت ، هم الشعوب الفقيرة في العالم ، هم شعوب ما يسمّى‏ََ بالعالم الثالث ، هم شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، هذه الشعوب هي التي تمثّل القطب الثاني في هذا التناقض .
إنّ الإنسان الاُوروبي بكلا وجوديه الطبقيين تحالف وتمحور من أجل أن يمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقيرة ، وقد انعكس هذا التناقض الأكبر ، انعكس اجتماعياً من خلال صيغ الاستعمار المختلفة التي زخرت بها الساحة التاريخية منذ خرج الإنسان الاُوروبي والأمريكي من دياره ليفتّش عن كنوز الأرض في مختلف أرجاء العالم ، ولينهب الأموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقيرة .
هذا التناقض غطّى‏ََ على‏ََ التناقض الطبقي ، بل جمّد التناقض الطبقي ؛ لأنّ جدل الإنسان من وراء هذا التناقض كان أقوى‏ََ من جدل الإنسان من وراء ذلك التناقض ، والثراء الهائل الذي تكدّس في أيدي الطبقة الرأسمالية في الدول الرأسمالية لم يكن كلّه - بل ولا معظمه - نتاج عرق جبين العامل الاُوروبي والأمريكي ، وإنّما كان نتاج غنائم حرب ، كان نتاج غنائم غارات ، غارات على‏ََ هذه البلاد الفقيرة ، على‏ََ بلاد اُخرى‏ََ استطاع الإنسان الأبيض أن يغزوها وأن ينهبها .
هذا النعيم الذي تغرق فيه تلك الدول ليس من عرق جبين العامل الاُوروبي ، ليس من نتاج التناقض الطبقي بين الرأسمالي والعامل ، وإنّما هذا النعيم هو من نفط آسيا وأمريكا اللاتينية ، هو من ألماس تنزانيا ، هو من الحديد والرصاص والنحاس واليورانيوم في مختلف بلاد أفريقيا ، هو من قطن مصر ، هو من تنباك لبنان ، هو من خمر الجزائر ، نعم من خمر الجزائر ؛ لأن الكافر المستعمر الذي استعمر الجزائر حوّل أرضها كلّها إلى‏ََ بستان عنب لكي يقطف هذا العنب ويحوّله إلى‏ََ خمر ليُسكر به العمّال ، وليشعر اُولئك العمّال بالنشوة والخُيَلاء ؛ لأنّهم يشربون خمر الجزائر ، يقطفون عنب الجزائر فيحوّلونه إلى‏ََ خمر .
نعم ذلك النعيم كلّه من هذه المصادر ، من هذه الينابيع . سكروا على‏ََ خمر الجزائر ولم يسكروا على‏ََ عرق جبين العامل الفرنسي أو الاُوروبي أو الأمريكي .
إذن التناقض الذي جمّد ذلك التناقض والذي أوقف ذلك التناقض ، هو هذا التناقض الأكبر ، التناقض بين المحور الرأسمالي ككل بكلتا طبقتيه وبين الشعوب الفقيرة في العالم .
من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالي الاُوروبي والأمريكي أنّ مِنْ مصلحته أن يقاسم العامل شيئاً من هذه الغنائم التي نهبها مني ومنك ، التي نهبها من فقراء الأرض والمستضعفين في الأرض ، وأنّ من مصلحته أن يعطي نعمة منها ، أن يسكر هو ويسكر العمّال أيضاً بخمر الجزائر ، أن يتزيّن بماسّ تنزانيا ويتزين العامل أو زوجة العامل بماسة من ماسات تنزانيا ، ولهذا نرى‏ََ أنّ العامل بدأت حياته تختلف عن نبوءات ( ماركس ) ليس ذلك لأجل كرم طبيعي في الرأسمالي الاُوروبي والأمريكي ، وليس لتقوى ، وإنّما هي غنيمة كبيرة كان من المفروض أن يعطي جزءاً منها لهذا العامل ، والجزء وحده يكفي لأجل تحقيق هذا الرفاه بالنسبة إلى‏ََ هذا العامل الاُوروبي والأمريكي .
إذن الحقيقة التي يثبتها التاريخ دائماً هو أنّ التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحدة ، التناقض له صيغ متعددة ؛ وذلك لأنّ كل هذه الصيغ تنبع من منبع واحد وهو التناقض الرئيسي ، الجدل الإنساني ، والجدل الإنساني لا تعوزه صيغة ، إذا حُلّت صيغة وضعت صيغة اُخرى‏ََ مكانها . ليس من الصحيح أنّ نطوّق كل التناقضات في التناقض الطبقي ، وفي التناقض بين من يملك ومن لا يملك ، فإذا حلّلنا هذا التناقض قلنا بأن التناقضات كلّها قد حلّت .
التناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة ، التناقض هو استغلال القوي للضعيف ، حينما لا يكون هذا القوي قد حلّ تناقضه الذاتي ، وهذا القوي يستغل الضعيف بألف صيغة وصيغة اجتماعية ودستورية وتشريعية ، استغلال من يملك لمن لا يملك ، من يحكم لمن لا يحكم ، من يدير لمن لا يدير ، من يتشفع لمن لا يتشفع . آلاف الصيغ الاجتماعية يمكن أن يصنعها جدل الإنسان القوي حينما يواجه إنساناً ضعيفاً .
الملكيّة تعبير قانوني ، ظاهرة تشريعية قانونية ، هي إحدى الأدوات التشريعية والقانونية التي يمكن أن يجسّد من خلالها الاستغلال ، لكن الاستغلال يمكن أن يحدث من أوجه كثيرة تشريعية ، إذا [ لم ] يجفف المنبع الرئيسي للتناقضات ، إذا لم يحل جدل الإنسان وتناقض الإنسان من الداخل فسوف يبقى‏ََ الإنسان يفرز هذه التناقضات‏ .
إلى‏ََ هنا اتّضح أ نّه توجد عندنا مشكلتان مختلفتان : مشكلة يواجهها خط علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ومشكلة يواجهها خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، ولكل من المشكلتين حلّها الموضوعي وقانونها المتميّز عن قانون خط الطرفين ، وهذا معنى‏ََ الاستقلال النسبي لأحد الخطين عن الخط الآخر ، لكن مع هذا فإنّ القرآن يؤمن بوجود نوع من التأثير المتبادل بين هذين الخطين على‏ََ الرغم من الاستقلال النسبي ، فإنّ هناك نوعاً من التأثير المتبادل .
المصادر :
1- إبراهيم : 34
2- آل عمران : 75
3- انظر ( اقتصادنا ) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره : فصل مع الماركسية

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.