أنّ المجتمع يتكوّن من ثلاثة عناصر وهي الإنسان والطبيعة والعلاقة الاجتماعية ، وقد تحدّثنا عن الإنسان ودوره الأساسي في الحركة التاريخية ، وتحدّثنا عن الطبيعة وشأنها علىََ الساحة التاريخية ، وبقي علينا أن نأخذ العنصر الثالث وهو العلاقة الاجتماعية ، لنحدّد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعية علىََ ضوء ما انتهينا إليه من مواقف قرآنية تجاه دور الإنسان والطبيعة علىََ الساحة التاريخية .
العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعية وقد تقدّم أنّ العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين مزدوجتين : إحداهما علاقة الإنسان مع الطبيعة ، والاُخرىََ علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان . هذان خطّان من العلاقة الاجتماعية ، وهذان الخطان نؤمن بأنّ كلّ واحد منهما مختلف عن الآخر ومستقل استقلالاً نسبياً عن الآخر مع شيء من التفاعل والتأثير المتبادل المحدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك إن شاء اللَّه تعالىََ من حيث الأساس .
هذان الخطّان أحدهما مختلف عن الآخر ، ومستقل استقلالاً نسبياً عنه تبعاً للاختلاف النوعي في طبيعة المشكلة التي يواجهها كل واحد من هذين الخطين ، ونوع الحلّ الذي ينسجم مع طبيعة تلك المشكلة .
علاقة الإنسان مع الطبيعة :
فالخطّ الأوّل الذي يمثّل علاقات الإنسان مع الطبيعة من خلال استثمارها ومحاولة تطويعها وإنتاج حاجاته الحياتية منها ، هذا الخطّ يواجه مشكلة ، وهي مشكلة التناقض بين الإنسان والطبيعة ، وهذا التناقض بين الإنسان والطبيعة يعني تمرّد الطبيعة وتعصّيها عن الاستجابة للطلب الإنساني وللحاجة الإنسانية من خلال التفاعل ما بينهما .هذا التناقض بين الإنسان والطبيعة هو المشكلة الرئيسية علىََ هذا الحظ .
وهذا التناقض له حلّ مستمدّ من قانون موضوعي يمثّل سنّة من سنن التاريخ الثابتة ، وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ؛ ذلك لأنّ الإنسان كلما تضاءل جهله بالطبيعة وكلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانينها ازداد سيطرةً عليها وتمكّناً من تطويعها وتذليلها لحاجاته ، وحيث إنّ كل خبرة هي تتولّد في هذا الحقل عادة من الممارسة ، وكل ممارسة تولّد بدورها خبرة ، ولهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة قانوناً موضوعياً يكفل حلّ هذا التناقض ، يقدم الحلّ المستمر والمتنامي لهذا التناقض بين الإنسان والطبيعة ؛ إذ يتضاءل جهل الإنسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسته للطبيعة ، يكتسب خبرة جديدة ، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة علىََ ميدان جديد من ميادين الطبيعة ، فيمارس علىََ الميدان الجديد ، وهذه الممارسة بدورها أيضاً تتحول إلىََ خبرة ، وهكذا تنمو الخبرة الإنسانية باستمرار ما لم تقع كارثة كبرىََ طبيعية أو بشرية .
وهذا القانون بنموّه وبتطبيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة ، فهي مشكلة محلولة تاريخياً ومحلولة موضوعياً ، ولعلّ في الآية الكريمة :
«وآتاكُم مِنْ كُلِّ ما سَألْتُمُوه وإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّه لا تُحْصُوها »(1)لعلّ في الآية الكريمة إشارة إلىََ هذا الحلّ الموضوعي المستمدّ من قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ؛ لأنّ السؤال في الآية الكريمة «وآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَألْتُمُوه »لا يراد منه الدعاء طبعاً ، السؤال اللفظى الذي هو الدعاء ؛ لأنّ الآية تتكلّم عن الإنسانية ككل عمَّن يؤمن باللَّه ومن لا يؤمن باللَّه ، من يدعو اللَّه ومن لا يدعو اللَّه ، كما أنّ الدعاء لا يتضمّن حتماً تحصيل الشيء المدعوّ به .
نعم كل دعاء له استجابة ، لكن ليس لكل دعاء تحقيق لما تعلّق به الدعاء ، بينما هنا يقول : « وآتاكم من كلّ ما سألتموه »هنا إيتاء ، استجابة فعلية بعطاء ما سئل عنه ، فأكبر الظنّ أنّ هذا السؤال من الإنسانية ككل وعلىََ مرّ التاريخ وعبر الماضي والحاضر والمستقبل ، يتمثّل في السؤال الفعلي والطلب التكويني الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، هذه هي المشكلة التي يواجهها الخط الأول من العلاقات ، وهذا هو الحلّ الذي يوضع لهذا المشكلة .
علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان :
وأما الخطّ الثاني من العلاقات ، علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان في مجال توزيع الثروة أو في سائر الحقول الاجتماعية وأوجه التفاعل الحضاري بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فهذا الخط يواجه مشكلة اُخرىََ ، ليست المشكلة هنا هي التناقض بين الإنسان والطبيعة بل هي التناقض الإجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان .وهذا التناقض الاجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان يتّخذ علىََ الساحة الاجتماعية صيغاً متعدّدة وألواناً مختلفة ، ولكنّه يظلّ في حقيقته وجوهره ، يظلّ شيئاً ثابتاً وحقيقة واحدة وروحاً عامة ، وهي التناقض ما بين القوي والضعيف ، بين كائن في مركز القوة وكائن في مركز الضعف .
هذا الكائن الذي هو في مركز القوة إذا لم يكن قد حُلّ تناقضه الخاص ، جدله الإنساني من الداخل ، فسوف يبرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي ، ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني وفي شكلها التشريعي وفي لونها الحضاري ، فهي بالآخرة صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف ، قد يكون هذا القوي فرداً فرعوناً ، قد يكون عصابة ، قد يكون طبقة ، قد يكون شعباً ، قد يكون اُمّة ، كل هذه ألوان من التناقض كلها تحتوي روحاً واحدة ، وهي روح الصراع ، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحلّ تناقضه الداخلي وجد له الإنساني ، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال هذا الضعيف .
هذه أشكال متعدّدة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خطّ العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان ، وهذه الأشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد ، من تناقض رئيسي واحد ، وهو ذلك الجدل الإنساني - الذي شرحناه - القائم بين حفنة التراب وبين أشواق اللَّه سبحانه وتعالىََ .
ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني ، فسوف يظلّ هذه الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات ، حسب الشروط الموضوعية ومستوىََ الفكر والثقافة .
إذن النظرة الإسلامية من زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الإنسان وأخيه ـ الإنسان ، نظرة واسعة منفتحة معمّقه لا تقتصر علىََ لون من التناقض ، ولا تهمل ألواناً اُخرىََ من التناقض ، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض علىََ مرّ التاريخ وتنفذ إلىََ عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة وروحها المشتركة ، ثم تربط كل هذه التناقضات ، تربطها بالتناقض الأعمق ، بالجدل الإنساني .
ومن هنا يؤمن الإسلام بأنّ الرسالة الوحيدة القادرة علىََ حلّ هذه المشكلة التي يواجهها خط علاقات الإنسان مع الإنسان ، هو تلك الرسالة التي تعمل علىََ مستويين في وقت واحد ، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية علىََ الساحة ، لكن في الوقت [ نفسه ] وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوىََ الداخلي للإنسان ، من أجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية ، ويؤمن الإسلام بأنّ ترك ذلك المعين من الجدل والتناقض علىََ حاله والاشتغال بتصفية التناقضات علىََ الساحة الاجتماعية بصيغها التشريعية فقط ، هذا نصف العملية ، النصف المبتور من العملية ؛ إذ سرعان ما يفرز ذلك المعين صيغاً اُخرىََ وفق هذه العملية التي سوف تستأصل بها الصيغ السابقة .
الحلّ الإسلامي للمشكلة :
فلابدّ للرسالة التي تريد أن تضع الحلّ الموضوعي للمشكلة أن تعمل علىََ كلا المستويين ، أن تؤمن بجهادين : جهاد أكبر سمّاه الإسلام بالجهاد الأكبر وهو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الرئيسي ، لحلّ ذلك الجدل الداخلي .وجهاد آخر ، جهاد في وجه كل صيغ التناقض الاجتماعي ، في وجه كلّ ألوان استئثار القوي للضعيف من دون أن نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معينة من صيغ هذا الاستئثار ؛ لأنّ الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت صيغه .
*وقفة مع المادية التاريخية
هذه هي النظرة المنفتحة الواقعية التي اثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها علىََ واقع الحياة خلافاً للنظرة الضيقة التي فسّرت بها المادية والثوّار المادّيون التي فسّروا بها التناقض ، فإنّ ماركس علىََ الرغم من ذكائه الفائق إلّاأ نّه لم يستطع أن يتجاوز حدود النظرة التقليدية للإنسان الاُوروبي ، كان بحكم كونه فرداً اُوروبياً ، كان رهين هذه النظرة التقليدية .
الإنسان الاُوروبي دائماً يرىََ العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الاُوروبية أو الساحة الغربية بتعبير أعمّ كما يرىََ اليهود ، كما يعتقد اليهود بأنّ الإنسانية هي كلّها في إطارهم : «ليْسَ عَلَيْنا في الاُمِّيينَ سَبِيلٌ »(2)، أولئك ليسوا بشراً ، ليسوا اُناساً ، أولئك اُميون همج ، كذلك الإنسان الاُوروبي اعتاد أن يضع الدنيا كلّها في إطار ساحته الاُوروبية وساحته الغربية . لم يتخلّص هذا الرجل من تقاليد هذه النظرة الاُوروبية ، كما أ نّه لم يتخلّص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دوراً في أفكار المادية التاريخية .
ومن هنا جاء لنا بتفسير محدود ضيق للتناقض الذي تواجهه الإنسانية علىََ هذا الخط : اعتقَد بأنّ مردّ كل التناقضات علىََ الساحة البشرية إلىََ تناقض واحد ، وهو التناقض الطبقي ، التناقض بين طبقة تملك كل وسائل الإنتاج أو معظم وسائل الإنتاج ، وطبقة لا تملك شيئاً من وسائل الإنتاج ، وإنّما تعمل من أجل مصالح الطبقة الاُولىََ ، تستثمر في تشغيل وسائل الإنتاج التي تملكها الطبقة الاُولىََ ، ثم هذه الثروة المنتجة التي جسّدت عرق جبين هذا العامل المستغَل ، هذه الثروة المنتجة تستولي عليها الطبقة الاُولىََ المالكة ولا تعطي للطبقة الثانية منها إلّاالحدّ الأدنىََ ، حدّ الكفاف الذي يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن إطار الطبقة الاُولىََ .
هذا هو التناقض الطبقي الذي اتّخذه قاعدة وأساساً لكل ألوان التناقض الاُخرىََ ، وهذا التناقض يتّخذ مدلوله الإجتماعي من خلال صراع مرير بين الطبقة المالكة وبين الطبقة العاملة ، وهذا الصراع المرير بين هاتين الطبقتين ينمو ويشتد كلّما تطوّرت الآلة وكلّما نمت الآلة الصناعية وتعقّدت ؛ وذلك لأنّ الآلة كلّما نمت وكلّما تطوّرت أدّت إلىََ تخفيض في مستوىََ المعيشة ، وهذا التخفيض في مستوىََ المعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأسمالية المالكة ، يعطي لها فرصة في أن تخفض أجر العامل ؛ لأنّها لا تريد أن تعطي العامل أكثر ممّا يديم به حياته ونَفَسَه .
إذن باستمرار تتطور الآلة ، وباستمرار تنخفض كلفة المعيشة ، وباستمرار يخفِّض الرأسمالي اُجرة العامل ، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية أنّ تطوّر الآلة وتعقّدها يقتضي إمكانية التعويض عن العدد الكبير من العمّال بالعدد القليل من العمّال ؛ لأنّ دقة الآلة وعملقة الآلة سوف يعوّض عن الجزء الآخر من العمّال ، وهذا يجعل الطبقة الرأسمالية تطرد الفائض من العمّال باستمرار .
وهكذا يشتدّ الصراع بين الطبقتين ويحتدم التناقض حتىََ ينفجر في ثورة ، هذه الثورة تجسّدها الطبقة العاملة ، تقضي بها علىََ التناقض الطبقي في المجتمع ، توحّد المجتمع في طبقة واحدة ، وهذه الطبقة الواحدة تمثّل حينئذٍ كل أفراد المجتمع ، وفي حالة من هذا القبيل سوف تستأصل كل ألوان التناقض ؛ لأنّ أساس التناقضات هو التناقض الطبقي ، فإذا اُزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الاُخرىََ الفرعية والثانوية .
هذا تلخيص سريع جداً لوجهة نظر هؤلاء الثوار تجاه التناقض الذي عالجناه ، إلّاأنّ هذه النظرة الضيّقة لا تنسجم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق علىََ تيار الأحداث في التاريخ . ليس التناقض الطبقي وليد تطوّر الآلة ، بل هو وليد الإنسان ، هو من صنع الإنسان الاُوروبي . ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل ، ليست الآلة هي التي خلقت النظام الرأسمالي ، وإنّما الإنسان الاُوروبي الذى وقعت هذه الآلة بيده أفرز نظاماً رأسمالياً يجسّد قِيَمه في الحياة وتصوراته للحياة .
وليس التناقض الطبقي هو الشكل الوحيد من أشكال التناقض ، هناك صيغ كثيرة من التناقض علىََ الساحة الاجتماعية ، وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيس بالنسبة إلىََ تلك الأشكال ، وإنّما كل هذه الأشكال من التناقض علىََ الساحة الاجتماعية هي وليد تناقض رئيس وهو جدل الإنسان ، هو الجدل المخبوء في داخل محتوىََ الإنسان ، ذاك هو التناقض الرئيس الذي يفرز دائماً وأبداً صيغاً متعدّدة من التناقض .
تعالوا نلاحظ ونقارن بين هذه النظرة الضيّقة وبين واقع التجربة البشرية المعاصرة لنرىََ أيّ النظرتين أكثر انطباقاً علىََ العالم الذي نعيشه ، ونرىََ ماذا كنا نتوقع ؟ ماذا كنا ننتظر ؟ لو كانت هذه النظرة وكان هذا التفسير للتناقض ، لو كان صحيحاً وواقعياً ، ماذا كنا ننتظر ؟ وماذا كنا نتوقع ؟
كنا ننتظر ونتوقع أن يزداد يوماً بعد يوم التناقض الطبقي والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الاُوروبية الصناعية التي تطوّرت فيها الآلة تطوراً كبيراً ، كان من المفروض أنّ هذه المجتمعات كإنجلترا والولايات الأمريكيه المتحدة وفرنسا وألمانيا يشتدّ فيها التناقض الطبقي والصراع يوماً بعد يوم ، ويتزلزل النظام الرأسمالي المستغِل ويتداعى يوماً بعد يوم .
كنا نترقب أن يزداد البؤس والحرمان في جانب الطبقة العاملة يوماً بعد يوم ، ويزداد الثراء علىََ حساب هؤلاء العاملين في طبقة الرأسماليين المستغلين من الأمريكان والإنجليز والفرنسيين وغيرهم . كنا نترقب حالة من هذا القبيل ، كنا نترقب أن تتضاعف النقمة ، أن يشتد إيمان العامل الاُوروبي والعامل الأمريكي بالثورة وبضرورة الثورة وبأ نّها هي الطريق الوحيد لتصفية هذا التناقض الطبقي . هذا ما كنا ننتظره لو صحّت هذه الأفكار عن تفسير التناقض .
لكن ماذا وقع خارجاً ؟ ما وقع خارجاً هو عكس ذلك تماماً ، نرىََ وبكل أسف أنّ النظام الرأسمالي في الدول الرأسمالية المستغِلّة يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم ، ويزداد تمحوراً وعملقة يوماً بعد يوم .
لا تبدو عليه بوادر الانهيار السريع ، تلك التمنّيات الطيبة التي تمنّاها ثوارنا المادّيون لإنجلترا وللدول الاُوروبية المتقدمة صناعياً ، تمنّوا لها الثورة في أقرب وقت بحكم التطور الآلي والصناعي فيها ، تلك التمنيات الطيبة تحوّلت إلىََ سراب ، بينما تحققت هذه النبوءات بالنسبة إلىََ بلاد لم تعش تطوّراً آلياً ، بل لم تعش تناقضاً طبقياً بالمعنىََ الماركسي ؛ لأنّها لم تكن قد دخلت الباب العريض الواسع للتطور الصناعي ، من قبيل روسيا القيصرية والصين(3) .
من ناحية اُخرىََ هل ازداد العمّال بؤساً وفقراً ؟ هل ازدادوا استغلالاً ؟ لا بالعكس ، العمّال ازدادوا رخاءً ، ازدادوا سعة ، أصبحوا مدلّلين من قبل الطبقة الرأسمالية المستغلّة ، العامل الامريكي يحصل علىََ ما لا يطمع به إنسان آخر يشتغل بكدّ يمينه ويقطف ثمار عمله في المجتمعات الاشتراكية الاُخرىََ .
هل ازدادت النقمة لدىََ الطبقة العاملة ؟ العكس هو الصحيح ، العمّال ،الهيئات التي تمثّل العمّال في الدّول الرأسمالية المستغلة ، تحوّلت بالتدريج ، أكثر هذه الهيئات تحوّلت إلىََ هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي ، تحوّلت إلىََ أشخاص لهم حالة الاسترخاء السياسي ، تركوا هموم الثورة ، تركوا منطق الثورة ، أصبحوا يتصافحون يداً بيد مع تلك الأيدي المستغِلّة ، مع أيدي الطبقة الرأسمالية ، أصبحوا يرفعون شعار تحقيق حقوق العمّال عن طريق النقابات وعن طريق البرلمانات وعن طريق الانتخابات .
هذه الحالة هي حالة الاسترخاء السياسي ، كل هذا وقع في هذه الفترة القصيرة من الزمن التي نحسّها ، كيف وقع هذا كلّه ؟ هل كان ( ماركس ) سيّئ الظن إلىََ هذه الدرجة بهؤلاء الرأسماليين ، بهؤلاء المجرمين والمستغِلّين بحيث تنبّأ بهذه النبوءات ثم ضاعت هذه النبوءات كلّها فلم يتحقق شيء منها ؟
هل كان هذا سوء ظن من ( ماركس ) لهؤلاء المستغلين ؟
هل أنّ هؤلاء الرأسماليين المستغلين دخل في نفوسهم الرّعب من ( ماركس ) ومن الماركسية ومن الثورات التحرّرية في العالم ؟
هل دخل في أنفسهم الرّعب ، فحاولوا أن يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم خوفاً من أن يثور العامل عليهم ؟
هل هذا صحيح ؟
هل أنّ المليونير الأمريكي يخالج ذهنه فعلاً أيّ شبح للخوف من هذه الناحية ؟ أشدّ الناس تفاؤلاً بمصائر الثورة في العالم لا يمكنه أن يفكّر في أنّ ثورة حقيقية علىََ الظلم في أمريكا يمكن أن تحدث قبل مئة سنة من هذا التاريخ . فكيف يمكن أن نفترض أنّ المليونير الأمريكي أصبح أمامه شبح الخوف والرعب ، وعلىََ أساس هذا الشبح تنازل عن جزء من مكاسبه ؟
هل أ نّه دخلت إلىََ قلوبهم التقوىََ فجأة ، استنارت قلوبهم بنور الإسلام الذي أنار قلوب المسلمين الأوائل الذين كانوا لا يعرفون حدّاً للمشاركة والمواساة ، والذين كانوا يشاطرون إخوانهم غنائمهم وسرّاءهم وضرّاءهم ؟
هل تحوّل هؤلاء بين عشية وضحاها إلىََ مسلمين ، إلىََ قلوب مسلمة ؟
لا ، لم يتحقق شيء من ذلك ، لا ( كارل ماركس ) كان سيّىء الظن بهؤلاء ، كان ظنّه منطبقاً علىََ هؤلاء انطباقاً تاماً ، ولا أنّ هؤلاء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من أجل إسكاته ، ولا أنّ قلوبهم خفقت بالتقوىََ ، لم تعرف التقوىََ ولن تعرف التقوىََ ؛ لأنّها انغمست في لذّات المال وفي الشهوات ، لم يتحقق شيء من ذلك . إذن ماذا وقع وكيف نفسّر هذا الذي وقع ؟
هذا الذي وقع في الحقيقة كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي منذ البداية ، لكن ( ماركس ) والثوّار الذين ساروا علىََ هذا الطريق لم يستطيعوا أنْ يكتشفوا ذلك التناقض ، ولهذا حصروا أنفسهم في التناقض الطبقي ، في التناقض بين المليونير الأمريكي والعامل الأمريكي ، بين الغني الانجليزي والعامل الإنجليزي ، ولم يدخلوا في الحساب التناقض الآخر الأكبر الذي أفرزه جدل الإنسان الاُوروبي ، أفرزه تناقض الإنسان الاُوروبي ، فغطّىََ علىََ هذا التناقض الطبقي ، بل جمّده ، بل أوقفه إلىََ فترة طويلة من الزمن .
ما هو ذلك التناقض ؟ نحن بنظرتنا المنفتحة يمكننا أن نبصر ذلك التناقض ، أن نضع إصبعنا علىََ ذلك التناقض ؛ لأنّنا لم نحصر أنفسنا في إطار التناقض الطبقي ، بل قلنا : إنّ جدل الإنسان دائماً يفرز أيّ شكل من أشكال التناقض الاجتماعي . ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغِل الاُوروبي والأمريكي ، وجد فيه أنّ من طبيعة هذا التناقض أن يتحالف مع العامل ، مع من يستغلّه لكي يشكّل هو والعامل قطباً في هذا التناقض .
لم يعد التناقض تناقضاً بين الغني الاُوروبي والعامل الاُوروبي ، بل إنّ هذين الوجودين الطبقيين تحالفا معاً ـ وكوّنا قطباً في تناقض أكبر بدأ تاريخياً منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدّث عنه ماركس .
لكن ما هو القطب الآخر في هذا التناقض ؟ القطب الآخر في هذا التناقض هو أنا وأنت ، هم الشعوب الفقيرة في العالم ، هم شعوب ما يسمّىََ بالعالم الثالث ، هم شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، هذه الشعوب هي التي تمثّل القطب الثاني في هذا التناقض .
إنّ الإنسان الاُوروبي بكلا وجوديه الطبقيين تحالف وتمحور من أجل أن يمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقيرة ، وقد انعكس هذا التناقض الأكبر ، انعكس اجتماعياً من خلال صيغ الاستعمار المختلفة التي زخرت بها الساحة التاريخية منذ خرج الإنسان الاُوروبي والأمريكي من دياره ليفتّش عن كنوز الأرض في مختلف أرجاء العالم ، ولينهب الأموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقيرة .
هذا التناقض غطّىََ علىََ التناقض الطبقي ، بل جمّد التناقض الطبقي ؛ لأنّ جدل الإنسان من وراء هذا التناقض كان أقوىََ من جدل الإنسان من وراء ذلك التناقض ، والثراء الهائل الذي تكدّس في أيدي الطبقة الرأسمالية في الدول الرأسمالية لم يكن كلّه - بل ولا معظمه - نتاج عرق جبين العامل الاُوروبي والأمريكي ، وإنّما كان نتاج غنائم حرب ، كان نتاج غنائم غارات ، غارات علىََ هذه البلاد الفقيرة ، علىََ بلاد اُخرىََ استطاع الإنسان الأبيض أن يغزوها وأن ينهبها .
هذا النعيم الذي تغرق فيه تلك الدول ليس من عرق جبين العامل الاُوروبي ، ليس من نتاج التناقض الطبقي بين الرأسمالي والعامل ، وإنّما هذا النعيم هو من نفط آسيا وأمريكا اللاتينية ، هو من ألماس تنزانيا ، هو من الحديد والرصاص والنحاس واليورانيوم في مختلف بلاد أفريقيا ، هو من قطن مصر ، هو من تنباك لبنان ، هو من خمر الجزائر ، نعم من خمر الجزائر ؛ لأن الكافر المستعمر الذي استعمر الجزائر حوّل أرضها كلّها إلىََ بستان عنب لكي يقطف هذا العنب ويحوّله إلىََ خمر ليُسكر به العمّال ، وليشعر اُولئك العمّال بالنشوة والخُيَلاء ؛ لأنّهم يشربون خمر الجزائر ، يقطفون عنب الجزائر فيحوّلونه إلىََ خمر .
نعم ذلك النعيم كلّه من هذه المصادر ، من هذه الينابيع . سكروا علىََ خمر الجزائر ولم يسكروا علىََ عرق جبين العامل الفرنسي أو الاُوروبي أو الأمريكي .
إذن التناقض الذي جمّد ذلك التناقض والذي أوقف ذلك التناقض ، هو هذا التناقض الأكبر ، التناقض بين المحور الرأسمالي ككل بكلتا طبقتيه وبين الشعوب الفقيرة في العالم .
من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالي الاُوروبي والأمريكي أنّ مِنْ مصلحته أن يقاسم العامل شيئاً من هذه الغنائم التي نهبها مني ومنك ، التي نهبها من فقراء الأرض والمستضعفين في الأرض ، وأنّ من مصلحته أن يعطي نعمة منها ، أن يسكر هو ويسكر العمّال أيضاً بخمر الجزائر ، أن يتزيّن بماسّ تنزانيا ويتزين العامل أو زوجة العامل بماسة من ماسات تنزانيا ، ولهذا نرىََ أنّ العامل بدأت حياته تختلف عن نبوءات ( ماركس ) ليس ذلك لأجل كرم طبيعي في الرأسمالي الاُوروبي والأمريكي ، وليس لتقوى ، وإنّما هي غنيمة كبيرة كان من المفروض أن يعطي جزءاً منها لهذا العامل ، والجزء وحده يكفي لأجل تحقيق هذا الرفاه بالنسبة إلىََ هذا العامل الاُوروبي والأمريكي .
إذن الحقيقة التي يثبتها التاريخ دائماً هو أنّ التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحدة ، التناقض له صيغ متعددة ؛ وذلك لأنّ كل هذه الصيغ تنبع من منبع واحد وهو التناقض الرئيسي ، الجدل الإنساني ، والجدل الإنساني لا تعوزه صيغة ، إذا حُلّت صيغة وضعت صيغة اُخرىََ مكانها . ليس من الصحيح أنّ نطوّق كل التناقضات في التناقض الطبقي ، وفي التناقض بين من يملك ومن لا يملك ، فإذا حلّلنا هذا التناقض قلنا بأن التناقضات كلّها قد حلّت .
التناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة ، التناقض هو استغلال القوي للضعيف ، حينما لا يكون هذا القوي قد حلّ تناقضه الذاتي ، وهذا القوي يستغل الضعيف بألف صيغة وصيغة اجتماعية ودستورية وتشريعية ، استغلال من يملك لمن لا يملك ، من يحكم لمن لا يحكم ، من يدير لمن لا يدير ، من يتشفع لمن لا يتشفع . آلاف الصيغ الاجتماعية يمكن أن يصنعها جدل الإنسان القوي حينما يواجه إنساناً ضعيفاً .
الملكيّة تعبير قانوني ، ظاهرة تشريعية قانونية ، هي إحدى الأدوات التشريعية والقانونية التي يمكن أن يجسّد من خلالها الاستغلال ، لكن الاستغلال يمكن أن يحدث من أوجه كثيرة تشريعية ، إذا [ لم ] يجفف المنبع الرئيسي للتناقضات ، إذا لم يحل جدل الإنسان وتناقض الإنسان من الداخل فسوف يبقىََ الإنسان يفرز هذه التناقضات .
إلىََ هنا اتّضح أ نّه توجد عندنا مشكلتان مختلفتان : مشكلة يواجهها خط علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ومشكلة يواجهها خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، ولكل من المشكلتين حلّها الموضوعي وقانونها المتميّز عن قانون خط الطرفين ، وهذا معنىََ الاستقلال النسبي لأحد الخطين عن الخط الآخر ، لكن مع هذا فإنّ القرآن يؤمن بوجود نوع من التأثير المتبادل بين هذين الخطين علىََ الرغم من الاستقلال النسبي ، فإنّ هناك نوعاً من التأثير المتبادل .
المصادر :
1- إبراهيم : 34
2- آل عمران : 75
3- انظر ( اقتصادنا ) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره : فصل مع الماركسية