في هذه المرحلة کان الائمة عليهم السلام قد مارسوا هذا الصراع السياسي لأجل إعطاء هذه النظريّة بكلّ وضوح، غاية الأمر: أنّنا نرى أنّ أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) لم يبدأ بالصراع الحادّ الواضح إلّا بعد موت عمر بن الخطّاب، في أيّام أبي بكر لم يبدُ أنّه اشتغل في صراعٍ واضحٍ مكشوف(1).
نعم، بعد السقيفة بأيامٍ سجَّل أمير المؤمنين هناك للتاريخ رأيه في السقيفة(2)، وسجّل ذلك الحواريّون من أصحاب أمير المؤمنين، من أمثال: سلمان والمقداد وعمّار، هؤلاء سجّلوا آراءهم، وهناك قالوا كلمتهم، وقالوا: بأنّ هذا ليس تعدّياً على عليّ، وإنّما هو تعدٍّ على الاُمّة الإسلاميّة، وعلى التجربة الإسلاميّة.
سلمان أخذ يصف المسلمين: ماذا يكون حالهم لو ولَّوا عليّاً! لو ولّوا عليّاً ماذا كان يصير حالهم(3)!
كما إنّ فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) في كلامٍ لها مع نساء المهاجرين والأنصار وصفت أيضاً حالة المسلمين بعد الانحراف، وحالة المسلمين لو أنّهم ولَّوا عليّاً(4).
لكن، بعد هذا، أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) لم يبدُ على مسرح الصراع بشكلٍ مكشوفٍ أيّام أبي بكر، وكذلك لم يبدُ على مسرح الصراع بشكلٍ مكشوفٍ أيّام عمر بن الخطاب، بالرغم من أنّ الانحراف كان قد بدأ من خلافة أبيبكر، لا الانحراف في تغيير شخص الحاكم، [بل] الانحراف في تغيير مضمون الحكم،
وسياسة الحكم، هذا بدأ في أيّام أبي بكر، واشتدّ في أيّام عمر، وكان الانحراف يسير في خطّ منحنٍ، حتّى وصل إلى الهاوية بعد ذلك.
وإنّما بدأ أمير المؤمنين معارضته لأبي بكر ولعمر ولعثمان وللزعامات المنحرفة جميعاً -بشكلٍ مكشوفٍ صريحٍ- بعد وفاة عمر مباشرةً، وقبل أن يتمّ الأمر لعثمان.
في ذلك الوقت بدأ بمعارضته الصريحة المكشوفة لكلّ هذه الزعامات المنحرفة في قوله لعبد الرحمن بن عوف حينما قال له عبد الرحمن بن عوف -وكانوا ستّةً مجتمعين للشورى- قال له: «مدّ لي يدك اُبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين»، يعني سيرة أبي بكر الصدّيق وعمر الفاروق.
كان يريد عبدُ الرحمن بن عوف من ذلك أن يجعل سيرةَ الشيخين ممثِّلاً شرعيّاً للنظريّة الإسلاميّة للحياة. النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة، هذه النظريّة أراد أن يجعل سيرةَ أبي بكر المنحرف وعمر المنحرف جزءاً وممثِّلاً هذه النظريّة.
لو أنّ عليّاً قبل بذلك لانتهى هذا التمثيل؛ لأنّه لم يكن يوجد في مقابل اُطروحة أبي بكر وعمر إلّا علي، فلا بدّ أن يوافق عليٌّ، ولو وافق عليٌّ على ذلك، إذاً لأصبحت هذه هي النظريّة السائدة.
عليٌّ هناك قال: «لا، لا أقبل، بايعني على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي»(5)، أمّا سيرة أبي بكر وعمر لا يمكن أن تُفرض كممثّلٍ شرعيٍّ للنظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة.
هنا بدأ أمير المؤمنين يشجب ويعارض هذه الزعامة المنحرفة، أمير المؤمنين رفض الخلافة، رفض الزعامة، رفض أن يكون حاكماً على المسلمين لأجل أن لا يُدخِل أبا بكر وعمرَ كجزءٍ من النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة.
معارضة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإشكاليّة باب التزاحم:
قد يقول قائلٌ بأنّ هذا بابُ التزاحم، هذا باب العناوين الثانويّة، ماذا كان يضيره أن يقول: «نعم، أنا أقبل بذلك، بايعني»؟! فيبايعه على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر. ثمّ بعد هذا، يقول أمير المؤمنين ويعمل أمير المؤمنين حسب رأيه، ويخون عهده إلى عبد الرحمن بن عوف؛ لأنّ كلَّ شرطٍ خالف كتاب الله وسنّة رسوله فهو مردود(6)، وهذا شرطٌ خالف كتاب الله وسنّة رسوله، فهو مردود.ماذا كان يضيره؟! أَوَلم يكن هذا هو التكليف الشرعي بناءً على أنّ الوصول إلى الخلافة واجب؟ و[تنحصر] مقدّمة هذا الواجب بأنْ يُمضي هذا الشرط! إذاً فهذا مقدّمة الواجب، فبالعنوان الثانوي يكون واجباً. أَلَم يكن هذا في المقام واجباً؟
لا، لم يكن واجباً؛ لأنّه ما أشدَّ ضياعَ الإسلام لو قال هذا، لو قال عليُبنأبي طالب ذلك إذاً لتمَّ هذا التخطيط، لتمَّ تخطيطُ أنّ النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة هي النظريّة التي قدّمها أبو بكر وعمر في المقام.
وقد قلنا -وسوف نشرح في ما بعد :[إنّ عود التجربة الإسلاميّة إلى الخطّ المستقيم على المدى البعيد البعيد لم يكن بالإمكان أصلاً حتّى لو تولّى علي بن أبي طالب الخلافة بعد عمر، إذاً فماذا يكون؟ ماذا يكون إلّا الخسارة، إلّا أن يُعطي هذا الإمضاء وهذا الصكّ للزعامات المنحرفة؟! صكّ أنّ عمل أبي بكر وعمر كان جزءاً من النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة!
هذا بنفسه هو جزءٌ من عمليّة إعطاء النظريّة الاُخرى للحياة الاجتماعيّة على أساس الإسلام.
هنا بدأ أمير المؤمنين يصارع، ثمّ بعد هذا في أيّام عثمان اتّضح صراعه السياسي بشكلٍ أوضح، كان (عليه الصلاة والسلام) هو الذي يعبّر عن آلام الاُمّة، وعن آمال الاُمّة، وعن مظالم الاُمّة أمام عثمان، ويعظه، ويوبّخه ويذكّره الله وأيّامَ الله، والآخرة ورسول الله، ولكنّ عثمان لم يكن يتّعظ(7).
مبرِّرات تأخير أمير المؤمنين (عليه السلام) الصراعَ السياسي مع الحكم:
أمير المؤمنين لماذا تأخّر في عمليّة الصراع السياسي إلى ما بعد موت عمر مباشرة؟ لماذا لم يصارع؟ لماذا لم يدخل في صراعٍ في أيّام أبي بكر وفي أيّام عمر؟!كان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) حريصاً كلَّ الحرص على أن يبدوَ صراعُه موضوعيّاً، عقائديّاً، يستهدف النظريّة لا الشخص، يستهدف تثبيت دعائم نظريّةٍ حقيقيّةٍ للإسلام، لا تدعيم شخصه.
يعني: كان الإمام حريصاً على أن تكون التصوّراتُ والانعكاساتُ التي يعيشها الناس عن صراعه هي على هذا المستوى، هي على مستوى أنّ صراعه صراعٌ نظريٌّ عقائدي، وليس صراعاً شخصيّاً؛ لأنّ هذا كان من أكبر الوسائل لتثبيت حقّانيّة هذه النظريّة التي يقدّمها.
أَلَيس هو يريد أن يثبّت في الذهنيّة الإسلاميّة أنّ النظريّة الإسلاميّة للحياة هذه، لا تلك التي يطبّقها الزعماء المنحرفون؟! كيف يستطيع أن يرسّخ هذا في الذهنيّة الإسلاميّة مع الالتفات إلى نقاط الضعف في الذهنيّة الإسلاميّة؟ وإلى عدم كون الذهنيّة الإسلاميّة ذهنيّةً واعية؟
يرسّخ هذا بأنْ لا يبدوَ منه أيُّ ظاهرةٍ يمكن أن تُفسَّر -حتّى على مستوى تلك الذهنيّة الضعيفة- عملٌ شخصي، وصراع شخصي، لا [أنّها] صراع عقائدي ونضالٌ في سبيل تثبيت النظريّة.
ولهذا انتظر أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أن يبرز الانحراف واضحاً، أن يتجلّى الانحراف واضحاً، ثمّ يبدأ بالصراع.
والانحراف لم يكن واضحاً مكشوفاً لدى الناس، أيّ ناس؟!
هؤلاء الناس غير الواعين، هؤلاء الناس غير الواعين لا يشعرون بمرارة الانحراف إلّا إذا دخل الانحراف إلى بيوتهم، إلّا إذا مسّ جلودهم، إلّا إذا أحرق شعرهم، إلّا إذا أذاب معاشهم ومالهم، إلّا إذا فتّت قواهم، حينئذٍ يشعرون بحرارة هذا الانحراف، بنار هذا الانحراف. أمّا قبل هذا، فلا يترقّب من اُمّة غير واعية -بذلك المستوى من الوعي- أن تشعر بالانحراف.
الانحراف بدأ في أيّام أبي بكر، ونما في أيّام عمر، ولكنّه كان انحرافاً مستوراً، وكان عمر موفّقاً جدّاً في أن يُلبِسَ هذا الانحراف في المقام الثوب الديني المناسب.
نحن لا نريد أن نعطي مفهومنا الخاصَّ عن عمر، نأخذ بمفهوم اهل السنّة عن عمر، إلّا أنّ عمرَ -حتّى بحسب المفهوم السنّي، لا بمفهومنا الخاص عنه (هو من المحتمل أنّه كان حقيقةً يفكّر في الإسلام على مستوى هذه الأثواب الدينيّة المصطنعة) -عمر بن الخطّاب ميّز بين الناس في العطاء، ووضع تركيباً طَبَقيّاً في المجتمع الإسلامي كما صنع عثمان، لكنْ فرقٌ بين عمر وعثمان؛ لأنّ عمرَ جعل هذا التركيب الطبقي على أساس خدمة الإسلام، هكذا قال: قال: بأنّ كلَّ من كان أقربَ إلى النبي أنا اُعطيه أكثر، وكلّ من كان أجلَّ سوابقَ وأعظم جهاداً في سبيل الإسلام، أنا اُعطيه أكثر(8).
هذا هو الثوب الديني الظاهر لهذه القصّة، وهذا ثوبٌ تقبله اُمّةٌ غيرُ واعيةٍ قبولاً إجماعيّاً أكثرَ ممّا تقبل النظريّة الإسلاميّة الحقيقيّة قبل أن تلتفت إلى نتائج هذا التركيب الطَبَقي.
في اللحظة الاُولى -قبل أن تلتفت إلى ما سوف يتمخّض عنه هذا التركيب الطبقي من بلايا ومن كوارث ومن محنٍ في المجتمع الإسلامي- تستسيغ هذا المطلب، تستسيغ أن يكون عمُّ رسول الله أكثر الناس عطاءً، أن تكون زوجة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أكثر الناس عطاءً، أن يكون البدريّون أكثر عطاءً من الاُحُديّين، وأن يكون المهاجرون أكثر عطاءً من غير المهاجرين، وأن يكون العرب -الذين كانوا مسلمين في أيّام رسول الله، وعاشوا مع الدعوة من مراحلها الاُولى- أكثر عطاءً من غير العرب من الشعوب الاُخرى التي دخلت جديداً في الإسلام.
هذا أمرٌ مستساغٌ على مستوى الذهنيّة الإسلاميّة غير الواعية يومئذٍ.
لو أنّ عليّاً كان يعارض وقتئذٍ هذا الثوب، لو كان يريد أن يعارض هذا الثوب لفُسِّر -على مستوى تلك الذهنيّة- بأنّه صراع شخصي وليس صراعاً عقائديّاً، لم يكن بإمكان عليٍّ يومئذٍ أن يقول للناس ماذا سيتمخّض عن هذه الجريمة -التي ارتكبها عمر- بعد عشرين سنة، ماذا سوف تجرّ هذه الجريمة من كوارث ومن محن، لم يكن بإمكانه أن يُفهِمَ المسلمين ذلك.
ولهذا سكت علي بن أبي طالب، لأجل أن لا يُلْبِس صراعَه الثوبَ الشخصي.
ولهذا هو يقول (عليه الصلاة والسلام): «أنا ساكتٌ ما سلمت اُمور المسلمين»(9)، ما دام الظلم، ما دام التعدّي عليَّ أنا أسكت، ما دام الناس يعيشون، ما دام الناس يشعرون بأنّ الاُمور بخير، فأنا أسكت، حتّى تصيبهم شرارة الانحراف.
بعد عمر مباشرةً أعلن رأيه في عمر بن الخطّاب، قبل أن تجيء الأحداث أعلن رأيه في عمر وأبي بكر، وهذا لم يكن صراعاً شخصيّاً؛ لأنّ عمر كان قد مات، وهو الآن عضوٌ في الشورى، ومصيره السياسي مرتبطٌ بانتخاب عبدالرحمن بن عوف له، وعبد الرحمن بن عوف لا ينتخبه إذا أعلن معارضة عمر.
إذاً، فإعلانه لمعارضة عمر في مجلس الشورى كان على العكس، هذا كان موقفاً عقائديّاً، موقفاً نضاليّاً، ولم يكن موقفاً شخصيّاً أبداً؛ لأنّ المصلحة الشخصيّة هنا كانت تقتضي أن يسكت عن عمر لا أن يعترض على عمر، [كانت تقتضي] أن يُمضي أعمالَ عمر لا أن يعترض على عمر.
هو تصيّد أوّل فرصة مناسبة لأنْ يعترض فيها على عمر، ثمّ يفسَّر موقفُه بأنّه موقف عقائدي لا أنّه موقف شخصي. المسلمون كلّهم يشعرون أنّه ليس بينه وبين الخلافة إلّا أنْ يقرَّ تصرّفاتِ عمر، إلّا أنْ يقرَّ سلوك عمر، فقال: «لا اُريد هذه الخلافة»(10).
هذا موقفٌ لا يُمكن أن يفسَّر على أساس الصراع الشخصي، وإنّما يفسَّر على أساس أنّ هذا الرجل يمسك بيده نظريّةً جديدة للإسلام، نظريّةً غيرَ النظريّة التي طبّقها عمر بن الخطّاب، والتي طبّقها أبو بكر من قبله.
ثمّ بعد هذا لمّا جاء عثمان، ولمّا تكشّف الانحراف إلى درجةٍ لم يكن بحاجة إلى صعوبةٍ لتشعر به الاُمّةُ غيرُ الواعيةِ ذلك الوعيَ الكاملَ، شعرت الاُمّة الإسلاميّة بذلك الانحراف، خصوصاً في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان.
دخل أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في الصراع بشكل مكشوف ليثبّت في الذهنيّة الإسلاميّة دعائم النظريّة الاُخرى، فكان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) هو رمزَ نظريّةٍ إسلاميّةٍ للحياة الاجتماعيّة تختلف عن النظريّة المطبَّقة في واقع الحياة، وبقي رمزاً لهذه النظريّة الإسلاميّة للحياة الاجتماعيّة،
دور الأئمّة (عليهم السلام) في صيانة التجربة الإسلاميّة:
هناك دورٌ مفروض للأئمّة (عليهم السلام) في عالم التشريع، وذلك بنصّ الشريعة الإسلاميّة المقدّسة، وهذا الدور هو عبارة عن صيانة التجربة الإسلاميّة -في إنشاء المجتمع الإسلامي العالمي- التي أنشأ بذرتها النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكان المفروض أنّ القيادة الإسلاميّة لهذه التجربة تتسلسل في هؤلاء الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) واحداً بعد الآخر.هذا هو الدور التشريعي المفروض والمنتظر بالنسبة للأئمّة (عليهم السلام).
إلّا أنّنا لا نريد أن نتحدّث عن هذا الدور التشريعي وأدلّته ومبرّراته، بمعنى أنّنا لا نريد الخوض في بحث الإمامة وإثبات إمامتهم (عليهم السلام):
ألف- لأنّنا سنعتبر هذا البحث مفروغاً عنه.
ب- ولأنّ هدف هذا البحث هو دراسة مواطن العبرة من حياتهم (عليهم السلام)، ومحاولة فهم وضعهم (عليهم السلام) بعد أن اُقصوا عن مراكزهم القياديّة في تزعّم التجربة الإسلاميّة للمجتمع، للدولة، للاُمّة.
جـ- ولأنّ هذه الدراسة ربما تعطينا الضوء الذي نستعين به في تصوّرنا وموقفنا الإسلامي تجاه قضايانا وأهدافنا.
التسلسل المنطقي للانحراف بقطع النظر عن دور الأئمّة (عليهم السلام):
الفكرة التي اُريد عرضها خلال هذا البحث تتلخّص في عدّة أسطر، ولذا سنعرض هذا الملخّص، ومن ثمّ ننتقل إلى الشرح والتوسيع، والفكرة هي: أنّ الإسلام جابه بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) انحرافاً خطيراً في صميم التجربة التي أنشأها النبي (صلّى الله عليه وآله) للمجتمع الإسلامي والاُمّة الإسلاميّة.هذا الانحراف في التجربة الاجتماعيّة والسياسيّة للاُمّة، في الدولة الإسلاميّة، كان من المفروض -بحسب طبيعة الأشياء- أن يتّسع ويتعمّق بالتدريج وعلى مرّ الزمن؛ لأنّ الانحراف يبدأ بذرةً ثمّ تنمو، وكلّما تحقّقت مرحلة من هذا الانحراف مهّدت هذه المرحلة إلى مرحلةٍ أوسع وأرحب.
وبناءً عليه، كان من المفروض أن يصل هذا الانحراف في خطّه المنحني -طوال عمليّةٍ تاريخيّةٍ وزمنيّةٍ طويلة المدى- إلى الهاوية، أي إلى أبعد مدىً متصوّرٍ لهذا الانحراف، بحيث تصبح التجربة الإسلاميّة للمجتمع والدولة مليئةً بالتناقضات من كلّ جهةٍ وصوب، وتصبح عاجزةً عن مجاراة ومواكبة الحدّ الأدنى من حاجات ومصالح الاُمّة، بمعنى أن تتهاوى هذه التجربة بالتدريج، فتثبت عجزاً تلو عجز، وقصوراً تلو قصور، حتّى تعلن إفلاسها نهائيّاً عن مواكبة الحدّ الأدنى للقضايا التي تتبنّاها، وللرسالة التي تعلن عنها.
وحينما يتسلسل الانحرافُ في خطٍّ تصاعديٍّ من هذا القبيل أو في خطٍّ تنازليٍّ إلى الهاوية، فمن المنطقي -في فهم تسلسل الأحداث- أنّ هذه التجربة سوف تتعرّض بعد مدىً من الزمن لانهيارٍ كامل، أي: إنّ الدولة والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلاميّة -كقيادةٍ للمجتمع- سوف تتعرّض للانهيار الكامل؛ لأنّ هذه التجربة حينما تصبح ملأى بالتناقضات، حينما تصبح عاجزةً عن مواجهة وظائفها الحقيقيّة.. حينما تصبح بهذا الوضع، تصبح عاجزةً عن حماية نفسها، وتصبح الاُمّة نفسها عاجزةً عن حماية هذه التجربةلا بدّ أن تنهار هذه التجربة في مدىً من الزمن، وذلك كنتيجة نهائيّة وحتميّة لبذرة الانحراف التي غُرست فيها.
وحينما تنهار هذه التجربة، يكون معنى ذلك أنّ الدولة الإسلاميّة تسقط، والحضارة الإسلاميّة تتخلّى عن قيادة المجتمع، والمجتمع الإسلامي يتفكّك، والإسلام يُقصى عن مركزه كقائدٍ للمجتمع وكقائدٍ للاُمّة.
ولكنّ الاُمّة تبقى طبعاً، المسلمون يبقون كاُمّة، التجربة في المجتمع والدولة تفشل وتخطئ وتنهار أمام أوّل غزو يغزوها، كما حصل أمام الغزو التتري الذي واجه الخلافة العباسيّة(11).
لكنّ هذه الاُمّة بقيت كمسلمين، ولكنْ -بحسب المنطق وتسلسل الأحداث- من المحتوم أن تنهار الاُمّة بعد انهيار التجربة. هذه الاُمّة -كاُمّةٍ تدين بالإسلام، وتؤمن بالإسلام، وتتفاعل مع الإسلام- أيضاً تنهار، لماذا؟
لأنّ هذه الاُمّة ما عاشت الإسلام الصحيح الكامل مدىً طويلاً من الزمن، [وإنّما] عاشت الإسلام الصحيح الكامل زمناً قصيراً، وهو الزمن الذي مارس فيه التجربةَ شخصُ الرسول (صلّى الله عليه وآله). ومن ثمّ عاشت تجربة منحرفة، هذه التجربة المنحرفة لم تستطع أن تعمّق فيها الرسالة، وتعمّق فيها المسؤوليّة تجاه عقيدتها، ولم تستطع أن تثقّفها، وتحصّنها، وتزوّدها بالضمانات الكافية لعدم الانهيار أمام حضارةٍ جديدةٍ وغزوٍ جديدٍ وأفكارٍ جديدةٍ يحملها الغازي إلى بلاد الإسلام.
هذا الغازي الذي يأتي فيحطّم التجربة ويحطّم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلاميّة يأتي معه بتقاليد ومفاهيم وحضارةٍ وتصوّراتٍ وعادات، هذه كلّها سوف تؤثّر على الاُمّة الإسلاميّة التي لم تعرف الإسلام معرفةً حقيقيّةً طيلة هذه التجربة المنحرفة، وسوف لن تجد هذه الاُمّة في نهاية تلك التجربة المنحرفة -وبعد أن نفدت روحها الحقيقيّة، وبعد أن اُهينت كرامتها، وبعد أن حُطّمت إرادتها، وبعد أن غلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة- ما تحصّن نفسها به ضدَّ ما يطرأ بعد انهيار التجربة.
وحينئذٍ ستنهار الاُمّة أيضاً، وسوف تندمج بالعالَم الكافر الذي غزاها وفتحها وسيطر عليها، وسوف تذوب الرسالة والعقيدة، وتصبح الاُمّة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقيّاً على مسرح التاريخ، وبعد هذا ينتهي دور الإسلام.
هذا هو التسلسل المنطقي بقطع النظر عن دور الأئمّة (عليهم السلام).
المصادر :
1- محمّد باقر الصدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق 197 :3، وانظر الوثيقة الخطيّة في: 306 :5، الوثيقة 292.
2- الخصال 548 :2، الحديث30؛ الاحتجاج 115 :1.
3- شرح نهج البلاغة 49 :2.
4- معاني الأخبار 354 - 355، الحديث 1. اُنظر بلاغات النساء (ابن طيفور): 32 - 33
5- شرح نهج البلاغة 188 :1.
6- الكافي 212 :5، الحديث 17؛ تهذيب الأحكام 22 :7، الحديث 93.
7- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 337 :4.
8- الطبقات الكبرى 225 :3؛ فتوح البلدان 38 :4؛ تاريخ اليعقوبي 153 :2. / تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 338 :4.
9- نهج البلاغة: 102، الخطبة 74.
10- شرح نهج البلاغة 188 :1.
11- تاريخ مختصر الدول: 269؛ تاريخ الإسلام 32 :48 وما بعد.