
ان النار يوم القيامة تنادي بملء فيها بأن الله خلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً ، وخلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشيّاً؟ (1).
إلىٰ غير ذلك من الأمثال والنظائر؟
أو يجدها السامع كنادرة وظريفة تشبه ما حكي عن رجل شهد علىٰ آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان فقال : إنّه ناصبيّ خارجيّ معتزلي حروريّ جبريّ رافضيّ ، شتم علي بن الخطّاب وعمر بن قحافة وعثمان بن أبي طالب وأبابكر بن عفان ، يشتم الحجّاج الذي هدم الكوفة ، وحارب الحسين بن معاوية يوم القطائف.
فقال له جعفر بن سليمان : قاتلك الله ما أدري على أيّ شيء أحسدك ، أعلىٰ علمك بالأنساب ، أم بالأديان ، أم بالمقالات؟ (2).
أو كما حكي عن رجل يصوّر مصيبة الحسين عليه السلام يوم الطف ، فقال : لما اُتي برأس يحيىٰ عند يزيد ، قالت اُخت مرحب :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
إلىٰ غير ذلك من النوادر ، أو من الخيالات الّتي هي غير مترتّبة علىٰ تمحيص الحقائق.
ولكنّ مِن ألزم الاُمور في هذه العصور تعريف المتكلّم الذي نقل إليك هذه الخيالات ، بمن هو متّصف بالأعمال المنكرة ، الهادم لقواعد الإسلام بعوامل التفرقة. ولو لا مخافة أنْ نكون مصداقاً للناهي عن خلقٍ الآتي بمثله؛ لأطلقنا القلم في ميدان البيان.
ولكنْ لم نعلم أيّ أمر أوجب اتصافَ الشيعة بما زعم هذا المتكلم ، أهو الخلوصيّة في توحيد الله وتصديقهم بصفاته الثبوتية الراجعة إلى العلم والقدرة ، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، ونفيهم الأنداد ونفيهم الشريك ، فهو الخالق وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت ، فلا مؤثر في الوجود إلّا الله. إلىٰ غير ذلك من صفات الكلمال؛ لأنه واهب الكمالات ، فكيف يفقدها؟
وخالق الأشياء ، فكيف يشبهها؟ أم هو اعتقادهم بأن صفاته عين ذاته ، بمعنى أن ذاته بذاته يترتّب عليها آثار جميع الكمالات ، من غير افتقار إلىٰ معنى آخر يضم إليه؛ لأنه سبحانه غير متكثّر ولا متجِّزئٍ ، ولا محتاج تعالىٰ عن النقص والاحتياج ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام :
«كمال الإخلاص له نفي الصفات |عنه|؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصفة ، فمن [وصف الله سبحانه] فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنَّاه ، ومن ثناه فقد جَّزأه» (3).
أو الّذي أوجب اتّصافهم بذلك هو اعتقادهم بأن لهذا الجسم وجوداً ثانياً بعد تفرّقه بالموت؟ أو هو اعتقادهم بأنّه تعالىٰ عدل لا يجور ، منزه عن الظلم وعن كل ما يستقبحه العقل؟ أو اعتقادهم بأن الله لا يرىٰ بالبصر والعين ، وإنْ جاز أنْ يُرىٰ بالبصيرة والقلب؛ لأنه تعالىٰ منزه عن الجهات والحدود ولا يمكن الرؤية بالبصر إلّا للمحدود؟
أو الّذي أوجب اتّصافهم اعتقادهم بنبوّة محمد بن عبدالله صلى الله عليه واله ، وعصمته وتصديقه في جميع ما جاء به؟ أو اعتقادهم بأن الكتاب الذي اُنزل عليه للإعجاز ولبيان الأحكام ، لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة؛ لقوله تعالىٰ :
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (4).
وتمسّكهم به وبعترة رسول الله صلى الله عليه واله امتثالاً لقوله : «إنّي تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (5).
أو الّذي أوجب اتّصافهم بذلك اعتقادهم بأن النبي صلى الله عليه واله أوصىٰ إلىٰ رجل من أهل بيته مطهّر من الذنوب ، منزَّه من العيوب؟
أو عملهم بالدعائم الخمس : الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد؟
فيا إخواني المصلحين الغيارىٰ على الدين ، هل يجوز لمن كان هذا مقدار علمه أنْ يتكلّم في موضوع بدون قابلية واستعداد ذاتيّ ، وبدون اطّلاع بما عليه الشيعة من الاُصول الإٍسلاميّة والموازين القسطيّة ، والقوانين العدليّة والنواميس الشرعيّة والأحكام الفرعيّة ولا يفرق بين الشرط والركن للإسلام ، ولا يعرف المانع عن النظام ، ولا الضروري من غيره ولا الخاصّ والعامّ؟ فالسكوت له أحرىٰ من استبعاد القريب وتقريب البعيد باستنباط سخيف وذوق غير سليم.
فمن ألزم الاُمور علىٰ كل متكلّم أنْ يتصوّر قبلُ ، ويعلم كيف يتكلّم؛ ولهذا قال رئيس الموحدين : «لسان العاقل وراء قلبه ، وقلب [الأحمق] من وراء لسانه» (6) :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنّما / جعل اللسان على الفؤاد دليلاً (7)
فالشيعة تبرأ من تلك الاعتقادات ، بل هي عندهم من أعظم الكفر والضلالات. فتلك مؤلّفاتهم مطبوعة منتشرة ، مملوءة بالأدلّة والبراهين الساطعة.
ولعلّه لم يدرِ مَن الشيعة ، أو غلط في المصداق بإدخال من ليس منهم فيهم بدون فحص وعلم! فلم يسدّد السهم ولم يصب الهدف. فعليه إثبات من أحد مؤلّفات علمائهم من قديم أو حادث.
وليس الغرض مقابلة الناقل إليك بالمثل ، بل لا نزالُ محافظين على الغاية المقصودة والضالّة المنشودة. ولكنّ من ألزم الاُمور التنبيه علىٰ موارد رمي البريء بالسقيم ، والمحسن باللئيم ، والإشارة إلىٰ موارد الأغلاط والخطأ في التطبيق واشتباه المصداق؛ ليعلم المتكلّم قبل أنْ يتكلّم.
وإنْ أراد أنْ يتوسّع أو يتضلّع في مذهب رجع إلىٰ مصدر وثيق ذي دلائل قطعيّة وبراهين ساطعة ، لا ما ينقلها من لا يعطي الحقيقة حقّها والفحص حقّه. ولو أنه رجع إلىٰ مؤلّفاتهم ونظر فيها بعين الإنصاف لا بعين البغضاء والاعتساف ، واطّلع علىٰ ما فيها من الأدلّة القاطعة ، لعرف الحقيقة الراهنة.
فكل شيعي مخلص في توحيد الله ، ومعتقد بنبوّة محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله وبحقيقة ما جاء به من عند الله ، ومقرّ بالمعاد ودعائم الإسلام الخمس : الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد ، متمسّك بالقرآن ، معتمد عليه وعلى السنّة وضرورة العقل والإجماع.
نعم ، عند الشيعة باب الاجتهاد مفتوح ما لم يخالف أحد هذه الأدلّة الأربعة ، فانْ خالف [فهو] ليس علىٰ تلك الحقيقة وخارج عن تلك الطريقة. أمّا مخالفة بعض تلك الأدلّة لبعضٍ كمخالفة السنّة ـ أعني : الحديث ـ لكتاب الله ، فقد أجمع المسلمون علىٰ عدم جواز العمل به ، وأنه يضرب به على الجدار.
لكنّ المقصود من المخالفة ما كان علىٰ وجه المباينة ، كما لو جاء حديث في أن البيع حرام والربا حلال ، فلا يجوز العمل به لمخالفته
بالمباينة؛ لقوله تعالىٰ : (وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (8).
أما المخالفة بنحو تخصيص العامّ أو تقييد المطلق ، فلا مانع منها ، كما لو دلّ خبر الواحد فضلاً عن المتواتر ، علىٰ عدم الربا بين الوالد وولده والزوج وزوجته والسيد وعبده؛ فهو غير معارض لكتاب الله. نعم ، هو مخصص للعموم المستفاد من الآية. ومثل ذلك كثير في عمومات الكتاب ، حتّىٰ قيل : ما من عام إلّا وقد [خصِّصَ] غالباً.
والحاصل أن الكلّ متأدبّ بآداب الإسلام ، وداخل تحت كلمة التوحيد دخول النوع في الجنس ، وعلىٰ شطر وافر من الإيمان ومكارم الأخلاق.
فعلىٰ إخواني المسلمين تعليم الجاهل وإيقاظ الغافل ، عسى أنْ يكون الكلّ أغصاناً لتلك الشجرة الّتي سقاها المصلحون بماء العنايات والرعاية.
المصادر:
1- أشارة إلىٰ قوله صلى الله عليه واله : «خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان قرشياً». مناقب آل أبي طالب 164 : 4 ، البحار 82 : 46/ 75.
2- مروج الذهب 43 : 3 ، (باختلاف).
3- نهج البلاغة : 14/ الخطبة : 1 ، البحار 247 : 4/ 5.
4- الحجر : 9.
5- مسند أحمد 14 : 3 ، 17 ، 366 : 4 ـ 377 ، 181 : 5 ـ 182 ، 189 ـ 190 ، صحيح مسلم 1492 : 4/ 2408 ، المعجم الكبير 153 : 5 ـ 154/ 4921 ، 4922 ، 4923 ، الصواعق المحرقة : 42 ، ينابيع المودّة 41 : 1.
6- نهج البلاغة : 660/ الحكمة : 40.
7- البيت للأخطل. شرح شذور الذهب : 28.
8- البقرة : 275.