البكاء علی الحسين عليه السلام

ان بكاء النبي صلى الله عليه واله على الحسين عليه السلام أمر مشهور ، وفي كتب التاريخ مسطور ، وحقّق ذلك المعنىٰ فعل النبيّ وتقريره وقوله صلى الله عليه واله : «إن العين تدمع ، والقلب يخشع ، ولا نقول ما يسخط الرب»
Sunday, January 1, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
البكاء علی الحسين عليه السلام
 البكاء  علی الحسين عليه السلام

 





 

ان بكاء النبي صلى الله عليه واله على الحسين عليه السلام أمر مشهور ، وفي كتب التاريخ مسطور ، وحقّق ذلك المعنىٰ فعل النبيّ وتقريره وقوله صلى الله عليه واله : «إن العين تدمع ، والقلب يخشع ، ولا نقول ما يسخط الرب» (1).
ومن رضا النبيّ صلى الله عليه واله بذلك تعرف رضاه برثاء ابنه وقطعة كبده ، ولا زال يقول : «حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله من أحبّ حسيناً ، وأبغض الله من أبغض حسيناً» (2) وما ثبت في عصر النبيّ صلى الله عليه واله فهو ثابت إلىٰ يوم القيامة ، إذ لا نبيّ بعده ولا سنّة.
*بكاء يعقوب علىٰ يوسف عليهما السلام
ولا ينقضي عجبي ممّن عدّ هذا من المنكرات؛ فهذا يعقوب بن إسحاق عليه السلام بكىٰ علىٰ فقد ابنه يوسف عليه السلام حتىٰ ذهب بصره واحدود ب طهره. وقد حكى الله ذلك في الكتاب العزيز بقوله : (يا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَضِيمْ) (3).
فاذا جاز البكاء ليعقوب عليه السلام ولم يناف منصب النبوة فكيف لا يجوز البكاء على الحسين عليه السلام ، وبكاء النبي صلى الله عليه واله على الحسين عليه السلام أمر معلوم لا يحتاج إلىٰ بيان ، وقد علمتم أن السنة هي قول النبي صلى الله عليه واله وفعله وتقريره؟
ولا يتوهم من له أدنىٰ شعور أن النبي صلى الله عليه واله يبكي علىٰ قتل الحسين عليه السلام ـ قبل وقوعه ـ ويكره البكاء بعد قتله. فالقول بتحريمه من المنكرات ، كيف وقد بكت جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين رجالاً ونساءً ومنهم سيدة النساء [وذلك] غير خفي علىٰ من سبر كتب التاريخ ، وهم ممن يعتمد عليهم ويقتدىٰ بهم ولا يمكن الطعن فيهم؛ كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأنس بن مالك ، وزيد ابن أرقم. وغيرهم ممن يطول تعدادهم.
*الحسن البصري يبكي الحسين عليه السلام
وفي (الينابيع) قال الزهري : (لما بلغ الحسن البصري خبر مقتل الحسين عليه السلام بكىٰ حتّى اختلج صدغاه ـ ثم قال ـ : أذل الله اُمّة قتلت ابن بنت نبيها) (4). وقد ورد في ذلك من طرق الخاصة والعامة ما لا يسع الوقت ذكره.
فالواجب علىٰ كلّ متكلّم أنْ ينظر بعين الإنصاف لا بعين السخط والاعتساف؛ فإنّ علىٰ كلّ حقّ حقيقة وعلىٰ كلّ صواب نوراً.
ولعلك تقول : إن إطلاق الحزن [يورث] الزفرة ويجري العبرة ، وهو يخمد الجمرة ، ويضعف قلب المصاب ، بل يفنى بجريان دموعه وتصاعد زفراته ، فينقطع الثواب المترتّب على أصل الحزن. ولو قيّد العبرة وحبس الدمعة ، لبقي الحزن والحرارة الثكل ، ودام واستمرّ ما يترتّب من الأجر والثواب.
ولكنك الخبير بأن القضايا الجليّة الّتي قياساتها معها ملازمة جريان الدمع للحزن الشديد ، ما لم يصب العين جمودٌ. قال الشاعر :
ألا إن عيناً لم تُجد يوم واسط / حوا عليك بجاري دمعها لجمودُ
فكيف يمكن انفكاك جريان دمع العين الصحيحة عن تأجّج نار الثكل؟ فلا يبقى أحدهما مع زوال الآخر والأجر والثواب مترتّبان علىٰ ذلك.
فإنْ قلت : إن العقل المجرّد عن الشوائب الوهميّة والعصبيّة والتقاليد القوميّة يحكم بكون الزفرة والتأوّه والصرخة ليست من صفات [الرجولة] ، ولا من الشهامة وعلوّ الهمّة ، فيكون مذموماً قبيحاً عند العقلاء. وقاعدة التلازم بين الحكم العقلي والشرعي تحرم ذلك.
قلت : إن فقد الأحبة بحسب الفطرة الإنسانيّة داع قويّ في جلب الحسرة للنفس والعبرة للعين والحرقة للقلب. ومن لطف الله بعباده أنْ جعل ذلك مسكِّناً يستوي فيه من علت همّته ومن دنت. ولو كان فقد الأحبّة والأجلّاء لا يوجب ذلك ، وأنه منافٍ لعلوّ الهمّة ، لما بكىٰ عالي الهمّة علىٰ فقد عزيز.
ومن الواضح وقوعه ممّن لا يختلف اثنان في شجاعته وعلوّ همّته وبسالته ، مَن مقاماته في الحروب تضرب بها الأمثال ، كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فإنّه بكىٰ علىٰ رسول الله صلى الله عليه واله والزهراء عليها السلام وعلى أصحابه؛ كعمار وخزيمة والمقداد والمرقال وابن التيهان. وقال يرثيهم :
ألا أيّها الموت الّذي ليس تاركي ... إلىٰ آخر الأبيات (5).
فلو كان ذلك منافياً لما اجتمع في أمير المؤمنين عليه السلام؛ لاستحالة اجتماع الضدّين ، ولما اجتمع في النسخة الكاملة في جميع الصفات الفاضلة؛ فإنّه بكىٰ علىٰ غير واحد من أعزّائه ، وبكىٰ علىٰ ولده الحسين عليه السلام قبل مصيبته كما قدّمنا.
ولعلك تقول : هب أن البكاء في وقت الحادث وأول الصدمة جائز مشروع ، [لكنه ليس] كذلك لو طالت المدّة والعهد وانقرضت الأزمان ، بل يعدّ عرفاً وعقلاً قبيحاً ، فيحرم شرعاً لقاعدة الملازمة.
فالبكاء على الحسين عليه السلام بعد مضيِّ هذه المدة وتفاني القرون والأحقاب يعد منافياً لما عليه العقلاء ، كمنافاة العزاء علىٰ نوح وموسىٰ وعيسىٰ عليهم السلام اليوم.
ولكنك الخبير أن هذه الدار الفانية دار ممرّ ، وسوق لأبنائها في إفادتهم واستفادتهم؛ فبين رابح وخاسر ، وفرح بربحه ومحزون لخسرانه. والربح والخسران قوّة وضعفاً يدوران مدار بقاء الحزن وسرعة زواله. والأرباح أقسام شتىٰ؛ فمنها الخطير ومنها الحقير ، ومنها الخاص ومنها العام ، ومنها العاجل ومنها الآجل. وهي تدور قوّة وضعفاً علىٰ عظم المفقود وحقارته.
ففقد من لا فائدة معتبرة في وجوده لا يعد فقده خسراناً ، بل يعدّ فقده راحة واستراحة. وفقد ذي الفائدة ـ ولو كانت آجلة كالطفل ـ يعدّ خسراناً وإن كانت مصائب الصغار صغار المصائب ويزول أثرها بسرعة. واذا كان يافعاً نافعاً ، كان الحزن عليه أشدّ وزواله أبطأ؛ لأن نفعه أقوىٰ وأشدّ منه فقد النافع البارّ بوالديه الواصل رحمه ، ذي النجدة المحامي الذائد؛ لأن فوائده أتم. فكلّما ذكروه توالت زفراتهم وحنّوا عليه حنين النيب (6) ، وربما كان ذلك مدة عمرهم كالخنساء. وأعظم من ذلك الزعيم العام ، القائد بالفوائد العظام لعامة الأنام ، سيما إذا لم يكن لخ خلف وفقد لا إلىٰ بدل؛ فيلازمهم الحزن الدائم. فأيّ عاقل يستهجن حزنهم؟
وأما بالنسبة إلىٰ نوح عليه السلام ومَن بعده فليس ذلك لطول المدّة ، بل لأن خسائر منافعهم متداركة بمن هو أرفع منهم. بل سيّدهم ومَن منافعه خير من منافعهم ، وفائدة كلّ نبيّ من قبله قطرة من بحره ، نبينا محمد صلى الله عليه واله الّذي لم يقم أحد مقامه؛ لهذا كانت مصيبته أجلّ والحزن عليه مؤبّد.
وقس علىٰ ذلك الخسارة في فقد أهل بيته؛ ومنهم الحسين عليه السلام. وخصّ بعظيم لعظم مصيبته؛ ولكونه خامس أصحاب الكساء ، ففقده فقدهم؛ إذ هو بقيّة أصحاب الكساء ولا بدل له من هذه الناحية. ولهذا قالت الصديقة الكبرىٰ : «اليوم مات جدي المصطفىٰ ، وأبي علي المرتضىٰ ، واُمي فاطمة الزهراء ، وأخي الحسن المجتبىٰ ، فالحزن عليه دائم مؤبّد» (7).
فطول الحزن وقصره يدور كثرة فوائد الفقيد وقلّتها ، والقانون الشرعيّ المحكم يقضي [بذلك] ، وهو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه؛ لقوله تعالىٰ : (وَلاَ تَبْخَسُوا النَاسَ أَشْيَاءهمْ) (8) ، فاعرف حقّ الحسين ، فإنّه أعظم الحقوق الموجب للاستمرار.
*القول بحرمة البكاء على الميّت
فإن قلت : البكاء على الميّت محرّم في الشريعة الإسلاميّة؛ لما رواه
البخاري : «إن الميت ليعذب ببكاء الحيّ عليه» (9).
قلت : إن البخاري روىٰ أن هذا الحديث غير صحيح عن عائشة اُم المؤمنين. وأنت تعلم وثاقتها وفقاهتها. قالت : (والله ما حدّث رسول الله صلى الله عليه واله : «إنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه» ، حسبكم القرآن : (وَلَا تَزِوُ وَازِرَةٌ وزْرَ اُخْرَىٰ) (10)
كيف والنبيّ صلى الله عليه واله بكىٰ على أبي طالب وحمزة ، وعلىٰ ولديه الحسين وإبراهيم ، وعمر بكىٰ على أخيه زيد ، وأمر نساء بني المغيرة بالبكاء علىٰ خالد بن الوليد ، وأبوبكر بكىٰ على النبي صلى الله عليه واله ، وعثمان بكىٰ على ابنته ، وعائشة على أبيها؟
وقد قال النبي صلى الله عليه واله : «إنّ العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب» (11).
وقال صلى الله عليه واله : «من لا يرحم لا يُرحم» (12).
فسيرة النبي صلى الله عليه واله وصحبه وكافّة المسلمين على البكاء لموتاهم ، بل عدمه من القساوة.
ولعلك تقول : إن المصيبة مقدّرة من الله وممضيّة ، فالصرخة والبكاء والانتحاب يدلّ على السخط ، وعدم الرضا بفعل ربّ الأرباب؛ وذلك ذنب يوجب العقاب.
لكنك الخبير بأن لا ملازمة بين البكاء والسخط ، فكم باكٍ ممّن يهواه ومن أمر يرضاه ، كالألم المترتّب على العلاج المقصود إليه؟
وقد يبكىٰ علىٰ مقتول بحقّ بدافع الطبيعة الإنسانية والحنان الغريزيّ كالمقتولين بأسياف الباكين في يوم النهروان ، فأصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام يعتقدون أن قتلهم بحقّ ، ومع ذلك بدافع الطبيعة والإلفة بكوا عليهم. بل البغضاء والعداوة لا يمنعان الطبيعة والفطرة عن الرقّة للطبيعة. ومن ذلك بكاء اللعين ابن سعد العدو المبين لآل الرسول ، في يوم الطف بعد قتل الحسين عليه السلام وأصحابه ، وهجوم القوم الطغام علىٰ خيامهم لسلبهم ، وفرارهم من خيمة إلىٰ خيمة ، والقومتسلب ما عليهم من حليّ وحلل تضرم النار في مخيّمهم ، وهن يستغثن ولا مغيث (13). بكى اللعين لا سخطاً من ذلك الأمر الفظيع ، بل من باب : رقّ لها الشامت.
وكيف يجتري مجترٍ من الاُمّة الإسلامية علىٰ رسول الله صلى الله عليه واله ، وعلىٰ صحابته كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وفاطمة واُم سلمة ، وابن عباس وأمثاله ، من حملة الكتاب وخدمة العلم وأئمّة المذاهب ، ويقول : إنّهم بكوا سخطاً من الله ، أو إنّهم غير راضين بقضاء الله وقدره؛ وهم الأدلاء علىٰ مرضاته؟!.
فقد اتّضح لك كلّ الوضوح مشروعيّة البكاء واستحبابه وفضله ، وما يترتّب عليه من الثواب الجزيل. وبعده لا أظنّك تقول : إن البكاء من ترك الصبر الجميل ، وتاركه مذموم موزور ، والذمّ والوزر من الوازم المحرم؛ لأنك تعلم أن البكاء والانتحاب والتأثر منبعث من الجبلَّة ، ومثار من الطبيعة ، بل لو كلّف بتركه وقع في ضيق العسر والحرج ، بل وقع في لجّة الضرر ، (وما جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ) (14).
و «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (15).
مع أن ترك الصبر الجميل ليس من لوازم البكاء ، فالمصاب يبكي وهو علىٰ يقين برجوع الأمر لله ومفوّض له الحول والقوة ، لا يخلّ بشيء من التوكّل على الله والالتجاء إليه.
نعم ، قد يبكي هلعاً ويمضي فارغاً من زاد التقوىٰ كصاحب النفس الشرّيرة. ففرق واضح بين بكاء الأشرار وبين بكاء الصالحين الأخيار.
ولسنا في مقام ضيق المخرج ، إذ ليس كلّ صبر راجحاً فضلاً عن كون تركه محرماً؛ لأن المصائب المحدقة بالدين وبشريعة سيّد المرسلين إنكار المنكر ، وهل هو إلّا مصيبة على الدين؟
فكيف يصغىٰ إلىٰ قول : إن الصبر جميل وتاركه مذموم على الإطلاق؟
فالصبر حسن إلّا أن تكون المصيبة دينية ، فالصبر [مندرج] في سلسلة المقتضيات لا في سلسلة العلل التامّات؛ فهو حسن مالم يمنع مانع.
فإنْ قلت : إن عزاء سيّد الشهداء حادث في زمن الصفويّين ، وكلّ حادث بدعة ، فاللازم رفض تلك السنّة الّتي نصبت حبائل حيل ، وأشراك خدع.
قلت : وما ينقضي عجبي من استمرار قول يضحك الثكلىٰ ، كيف وديدن الاُمّة العربيّة في جاهليّتها وإسلامها علىٰ إقامة عزاء المفقود العميد؟ وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه واله قوله ، حين رجوعه من اُحد إلى المدينة لما سمع البكاء من دور الأنصار : «لكنّ حمزة لا بواكي له» (16).
فسمع أهل المدينة ، فجاءت النساء إلىٰ بيت فاطمة عليها السلام فأقمن مأتم حمزة عندها.
وقد صحّ عن الصحابة يوم وفاة النبي صلى الله عليه واله اجتماعهم حوله يبكون ، وقد اجتمعت النساء عند عائشة يوم وفاة النبي لإقامة العزاء ، وقامت معهم تلتدم (17).
و [الالتدام] : ضرب الخدّ باليد في المصاب (18).
نعم ، إن ظهور ذلك كان في زمان الصفويّين ، لكن قل لي : أي زمن لم يقم فيه العزاء على العظماء والأعيان ، من زمن الرسول صلى الله عليه واله إلىٰ هذا الزمان.
فإنْ قلت : قد ثبتت مشروعيّة إقامة العزاء ورجحانه على السبط الشهيد عليه السلام ، لكنه من غير صرخة وعويل ، فقد ورد عن الصادق عليه السلام : أنه «نهىٰ رسول الله صلى الله عليه واله عن الرنّة وعن الصراخ عند الميّت» (19).
قلت : لا أرىٰ إلّا المشاركة في الفعل ، وإلّا فيراد بالتعجّب كلّ من فقد عزيزاً أو عميداً ملأ المحيط ضجيجاً و عجيجاً وعويلاً ، من السلف إلى الخلف ، [ومن] زمن النبي صلى الله عليه واله إلى اليوم.
فما هذا البحث في مأتم سبط الرسول صلى الله عليه واله؟ أهلْ خصّ مَن سواه بآية أو جاءت فيه رواية أفردته بالذكر ، مع أن المصيبة فيه على الإسلام والمسلمين أعظم ، والطامة أكبر؟ والسلف والخلف ملازمون لذلك جيلاً بعد جيل. والشاهد علىٰ ذلك الرواية الصادقيّة الّتي استشهد بها؛ فهي علىٰ عكس إرادة المستدلّ وأدلّ ، وهي واردة في بيان تحقيق الموضوع ، وحدّ الصيحة والصرخة ، وشاهد قوله ، ولكنّ الناس لا يعرفونه.
وقد روي في (الكافي) عن معاوية بن وهب قال : استأذنت على أبي عبدالله الصادق عليه السلام ، فقيل لي : اُدخل. فدخلت فوجدته في مصلّاه ، فسمعته يناجي ربّه ويقول : «يا من خصّنا بالكرامة».
إلىٰ قوله : «وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم الصرخة الّتي كانت لنا» (20).
وما رواه الصدوق عن دعبل الخزاعي : أن الإمام الرضا عليه السلام لا زال يستنشده الرثاء في الحسين عليه السلام ويبكي ، ونساؤه يصحن ، ويصرخن : واجدّاه.
إلىٰ غير واحد من الأخبار والروايات.
ومن سبر مقتل الحسين عليه السلام علىٰ تعدّد ناقليه ، لا يختلجه ريب في أن الواعية العظيمة والدهشة المريعة كانت نصب عين الإمام زين العابدين عليه السلام. والسيرة القطعيّة قائمة علىٰ ذلك بالغة حدّ الاستفاضة.
ولعلك تقول : إن النبي صلى الله عليه واله نهىٰ عن النياحة ، وقال : «النياحة من |عمل| الجاهلية» (21).
وقال بضعته الزهراء عليها السلام : «لا تقيمي عليَّ نائحة» (22).
ويقول الباقر عليه السلام : «من أقام [النواحة] فقد ترك الصبر» (23).
وما في (صحيح البخاري) عن اُم عطية : أخذ علينا النبي صلى الله عليه واله عند البيعة ألّا ننوح فما وفت من إمرأة غير خمس (24).
ولكنك الفطن الخبير بأن الأخبار الواردة في ترك النياحة محمولة على النياحة الباطلة؛ وهي الإطراء بغير حقّ ، والقيديّة : الافتراء. مع أنها معارضة بما هو أقوىٰ سنداً وأوضح دلالة وأكثر عدداً؛ فإنّ النبي صلى الله عليه واله أمر بالنياحة علىٰ عمّه ، ورخّص عمر آل المغيرة بالنياحة ، وناحت فاطمة عليها السلام على أبيها ، وناحت عائشة على أبيها ، وناحت الأنصار علىٰ موتاهم. إلىٰ غير ذلك من موارد نياحة الأئمّة عليهم السلام وأعاظم الصحابة.
وهناك قال لي رجل منهم : لم لا تأمرون قرّاء الحديث بتلاوته تلاوة مفيدة بتؤدّة بدون ترجيع وترديد؟ وهل ذلك إلّا الغناء ، وهو محرم ، ولا يطاع الله من حيث يعصىٰ؟
فقلت له : إن مسألة موضوع الغناء عن العرف وأهل اللغة كمسألة محموله عند الفقهاء ، [وهي] مسألة واسعة ومعركة للآراء بين العلماء. والمتقّين من الغناء هو ما جمع هذه القيود ، أو لا يصدق أنه غناء عرفاً عاماً ، هذا [أولاً].
وثانياً : أن يكون مشتملاً على الترجيع.
وثالثاً : أن يكون مقصوداً به اللهو.
ورابعاً : أن يكون جامعاً لآلات الطرب ، حيث لا يكون حداء ولا دعاء ولا قراءة قرآن ، ولا في الأعراس الخالية من سماع الرجال.
فإذا كان جامعاً للقيود كان محرّماً إجماعاً ، وما لم يكن جامعاً فللبحث في حرمته مجال يوقفك عليه كتابا (المكاسب) (25) و (الجواهر) (26). فقراءة القراء إما خارجة موضوعاً أو محمولاً. [فاتضح] أن هناك غناء من ألحان الفسوق ، وهناك حسن صوت ونداوة جميلة؛ وهي في الصوت من الصفات الجميلة. وقد تتصف بها الأنبياء عليهم السلام ، وقد ورد عن نبيّنا صلى الله واله أن له صوت داود عليه السلام وحسن يوسف عليه السلام ، وأنه إذا قرأ القرآن توجّهت نحوه القلوب.
ومن الواضح أن قبح الصوت منفر عن استماعه ، والأنبياء منزّهون عن كل منفر؛ كي يتم البلاغ الإلهيّ عند اجتماع الناس.
والقارئ يقرأ بنداوة صوت كي يتمّ له الغرض. وفي قوله تعالىٰ : (إنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ) (27) تنبيه علىٰ ذلك؛ ولذلك اختار النبي صلى الله عليه واله بلالاً في الأذان ، حتّىٰ قال : «إن سين بلال عند الله شين» (28).
في بعض ما ينسب للشيعة وهم بُراء منه
على أن السيرة من عهد الصحابة وتابعيهم من القرن الأول إلىٰ [هذا] الحين ، وعمل زعماء الدين والرجال المصلحين دليل مضافٌ إلى الأصل. وعلىٰ مدّعي الحصر الدليل؛ لأنه نافٍ ، وهو المطالب بالدليل.
فقال بلهجته الدراجة : أحسنت لقد اتّضح لي قبس الحقّ ، ولكن يقولون : إن الشيعة يصلّون في مواضع قبور أئمّتهم ويعبدونهم ، وإنّهم يقولون : إن النار محرّمة على الشيعي إلّا قليلاً.
الصلاة عند قبور الأئمّة عليهم السلام
فقلت له : إن هذا من أهازيج المقال ، ولا سمادير الأقوال ، وتهويل بلا شاهد ودليل ، بلا عبادة غير الله من أعظم الكفر والضلالات ، بل دين الشيعة توحيد الله بنحو الخلوصيّة ونفي الشريك وتنزيه الخالق ، وإنّما عبادتهم في مواضع قبور أئمّتهم ككونها في المسجد؛ لشرف البقعة بهم.
المصادر:
1- الطبقات الكبرىٰ : 110 : 1 ، وقريب منه في صحيح البخاريّ 439 : 1/ 1241 ، البحار 325 : 12.
2- كامل الزيارات : 117/12 ، البحار 270 : 43/ 35 ، مسند أحمد 172 : 4 ، الجامع الصحيح (سنن الترمذيّ) 195 : 13/ 3784 ، سنن ابن ماجة 51 : 1/ 144 ، المصنّف في الأحاديث المصابيح 375 : 3/ 6169 ، كنز العمّال 120 : 12/ 34289 ، كشف الخفاء 358 : 1/ 1140 ، وليس فيها : «وأبغض الله من أبغض حسيناً».
3- يوسف : 84.
4- ينابيع المودة : 398.
5- ديوان الإمام علي عليه السلام : 84.
6- النيب : جمع النَّيوب وهي الناقة المسنة ، لسان العرب 364 : 14 ـ نيب.
7- مقاتل الطالبيين : 75 ، ينابيع المودة : 420 ، (باختلاف في المصدرين).
8- الأعراف : 85.
9- صحيح البخاري 432 : 1 ـ 433/1226 ، 1462 : 4/ 3759 ، (باختلاف).
10- الأنعام : 164 ، الإسراء : 15./ صحيح البخاري : 433 : 1/ 1226.
11- صحيح البخاري : 439 : 1/ 1241 ، وفيه : «ولا نقول إلّا ما يرضىٰ ربُّنا».
12- البحار 151 : 22/ 43 ، 1 : 295/ 56 ، صحيح البخاري 2235 : 5/ 5651.
13- تاريخ الطبري 334 : 3 ، الكامل في التاريخ 78 : 4.
14- الحجّ : 78.
15- الفقيه 243 : 4/ 777 ، البحار 276 : 2/27 ، مسند أحمد 313 : 1 ، سنن ابن ماجة 784 : 2/ 4340 ، وليس في الثلاثة الأخيرة : «في الإسلام».
16- إكمال الدين : 73 ، البحار 48 : 79/ 25 ، 92/44.
17- سيرة ابن هشام 306 : 4 ، تاريخ الطبري 232 : 2 ، الكامل في التاريخ 323 : 2.
18- الصحاح 2029 : 5 ـ لدم.
19- الفقيه 3 : 4/ 1 ، الوسائل 128 : 17 ، أبواب ما يكتسب به ، ب 17 ، ح 11.
20- الكافي 582 : 4 ـ 583/11.
21- الفقيه 272 : 4/ 828 ، الوسائل 272 : 3 ، أبواب الدفن ، ب 83 ، ح 2.
22- الكافي 527 : 5/ 4 ، معاني الأخبار : 390/33.
23- الكافي 222 : 3 ـ 223/1 ، الوسائل 271 : 3 ـ 272 ، أبواب الدفن ب 83 ، ح 1.
24- صحيح البخاري 440 : 1/ 1244.
25- المكاسب 106 : 1 ـ 119.
26- جواهر الكلام 44 : 22 ـ 49.
27- لقمان : 19.
28- عدّة الداعي : 21 ، مستدرك الوسائل 278 : 4 ، أبواب قراءة القرآن ، ب 23 ، ح 3.

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.