لأنّ الشعور بالظلم في نفس الخلفاء كان يقيّض لهم التوسّعَ في الإضرار. الخلفاء كانوا يشعرون بأنّهم ظلمواً عليّاً (عليه السلام) وغصبوه حقَّه المنصوص عليه من قبل النبي (صلّى الله عليه وآله) كقول الخليفة الثاني: «هذا مولاي ومولى كلِّ مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن». وقد ذكر الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أنّ هذا الحديث يدلّ على أنّ الخليفة الثاني «كان يميل أحياناً إلى تغيير الطريقة التي سار عليها الحزب في بداية الأمر مع الهاشميّين، غير أنّ الطابع السياسي الأوّل غلب عليه أخيراً» ولهذا قال عمر بن الخطّاب لابن عبّاس: «ما أظنّ صاحبك إلّا مظلوماً». (1)
نعم، لعلّهم لم يكونوا يشعرون بأنّهم أساؤوا إلى الإسلام بهذا الترتيب، وأنّ عملهم سوف يؤدّي إلى هدم الكيان الإسلامي، لعلّهم لم يكن لهم دقّة النظر وفهمُ تسلسل الأحداث ومنطق التاريخ كما ينبغي، لم يكونوا يقدّرون أنّه بعد مرور ستّين سنةً على وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) سوف يشرب خليفة المسلمين الخمر(2)، ويقتني الجواري للرقص والغناء والتسلية.
لعلّهم لا يستطيعون أن يفسّروا هذا التفسير، ولكنّهم -على أيّ حال- كانوا يشعرون بأنّهم غصبوا عليّاً (عليه السلام) وأنّهم أخذوا حقّه، ولهذا كانوا في مقام تبرير هذا نفسيّاً، أرادوا أن يبرّروا هذا، وظهر هذا السبيل على كلماتهم.
عمر -خليفة المسلمين- قال بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حاول أن يولّي عليّاً، لكنّي أنا منعته؛ احتياطاً للإسلام وحرصاً على مصلحة الإسلام(3)، وغير ذلك كثير.
كلّ هذه التبريرات النفسيّة إزاء وخز الضمير أنتجت انحرافاً خطيراً، أنتجت البناء النفسيَّ عندهم بأنّه لا يلزم التقيّد بما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
صحيحٌ أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال بأنّ عليّاً إمامٌ بعدي، وإنّه خليفةٌ بعدي، [ولكن] قد يكون هناك شيءٌ آخر أصلح من هذا لحال المسلمين. إنّهم للدفاع عن الذنب الذي كان موجوداً في نفوسهم قالوا هذا.
وحينما قام هذا المبدأ انفتحت كلُّ البدع والانحرافات، حتّى إنّ عمرَ لم يرَ مانعاً من أن يقول: «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنا اُحرّمهما»(4)، لم ير مانعاً من ذلك بعد أن عاش مدّةً من الزمن الشعورَ بالذنب، وحلَّ هذا التناقضَ بأنْ خدع نفسه وأقنعها خداعاً وتضليلاً، أصبح [يستطيع أن] يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا أقول.
هذا الباب -باب خدع النفس- فتح باباً آخر، وهو باب البدع والتضليل، باب حمل الشعارات الجزئيّة الهستيريّة غير الصحيحة.
هذه الاُمور الأربعة فرضت حتميّة الانحراف لتجربة الإسلام التي جاء بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتولّى قيادتَها بعده غيرُ أئمّة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).
مضاعفات وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
إنّ الذين تسلّموا القيادة الفعليّة وزمام التجربة الإسلاميّة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) كان من المحتوم أن ينحدروا إلى الانحراف، ويزرعوا البذرة الصغيرة التي تنمو على مرّ الزمن لتأتي على التجربة وتحطّمها تحطيماً كاملاً بعد أن تبعد في التاريخ، بينما لو تسلّمها الأئمّة (عليهم السلام) لكان العكس، ولَمَا وجدت تلك البذرة.ولكن قد يقال: إنّ الأشخاص الذين انتزعوا قيادة التجربة الإسلاميّة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) وإن كانوا غير مهيّئين سياسيّاًوروحيّاً، وإن كانوا يعيشون راسباً جاهليّاً على النحو الذي ذُكر، وبالتالي لم يكونوا يمثّلون الدرجة الكاملة للانصهار مع هذه الرسالة، هذه الدرجة التي هي شرطٌ أساسيٌّ لتزعّم هذه التجربة، [لكن] أَلا يكفي وجودُ أفرادٍ في الاُمّة يمكنهم أن يشرفوا على القيادة، فيعطوا الضمان والحماية الكافية لعدم انحراف القيادة، ولعدم مواكبتها لخطّ الرسالة؟!
الفكرة في هذا الحديث تقوم على هذا الأساس، على أساس أنّ قيادة التجربة يجب أن تكون على مستوى العصمة. وهذا في الواقع ليس من مختصات الشيعة؛ ليس من مختصّات الشيعة الإيمانُ بأنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً، بل هذا ما تؤمن به كلُّ الاتجاهات العقائديّة في العالم على الإطلاق. أيُّ اتّجاهٍ عقائديٍّ في العالم يريد أن يبني الإنسان من جديدٍ في إطار عقيدته، ويريد أن ينشئ للإنسانيّة معالمَ جديدةً فكريّةً وروحيّةً واجتماعيّةً، هذا الاتجاه العقائدي يشترط -لأنْ ينجح، وأن يتنجَّز، وأن يأخذ مجراه في خطّ التاريخ- أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه معصوماً.
يشترط في القيادة التي تطبّق الماركسيّة -بوصفها اتجاهاً عقائديّاً يريد أن يصنعالإنسان ويبلوره في إطاره الخاصّ- أن يكون معصوماً، إلّا أنّ مقاييس العصمة تختلف. في الاتجاه الماركسي يجب أن يكون القائد الذي يمارس تطبيقه معصوماً بمقاييس الماركسيّة، والقائد الذي يمارس زعامة التجربة الإسلاميّة يجب أن يكون معصوماً بمقاييس إسلاميّة، والعصمة في الحالتين بمفهومٍ واحد، وهو عبارة عن: الانفعال الكامل في الرسالة، والتجسيد الكامل لكلّ معطياتها في النطاقات الروحيّة والفكريّة والعمليّة.
هذه هي العصمة، والشيعة لم يشذّوا -باشتراط العصمة في الإمام- عن أيّ اتجاهٍ عقائديٍّ آخر؛ ولهذا نرى في الاتجاهات العقائديّة الاُخرى كثيراً ما يُتّهم القائد الذي يمثّل الاتجاه بأنّه ليس معصوماً، توجَّه إليه نفس التهمة التي يوجّهها المسلمون الواعون -أصحابُ عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)- إلى الخلفاء الذين تولَّوا الخلافة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله). نفس هذه التهمة يوجّهونها إلى القادة الذين يعتقدون أنّهم لم ينصهروا برسالاتهم، ولم يتفاعلوا باتجاهاتها تفاعلاً كاملاً.
بالأمس القريب جزءٌ كبير من الماركسيّة في العالم انشطر [عن] قيادة الاتحاد السوفياتي، واتّهم [قادة] الاتحاد السوفياتي بأنّهم غير أهلٍ للحكم، بأنّهم غير مهيّئين لأنْ يكونوا قادةً للتجربة الماركسيّة(5)، يعني: غير معصومين بحسب لغتنا، إلّا أنّ نفي العصمة عنهم [هو] بمقاييس ماركسيّةٍ لا بمقاييسنا الخاصّة، أي ليس بمقاييس إسلاميّة.
الاتفاق حول أصل اشتراط العصمة، والاختلاف حول مقاييسها:
إذاً، فأصل الفكرة وجوهرها تؤمن به كلّ الاتجاهات العقائديّة، وإنّما مقاييسها تختلف باختلاف طبيعة تلك الاتجاهات.نعم، العصمة في الإسلام ذات صيغةٍ أوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائديّة الاُخرى. وهذه السعة في صيغة العصمة تنبع من طبيعة سعة الإسلام نفسها؛ لأنّ العصمة -كما قلنا- هي: التفاعل الكامل والانصهار الشامل والتجاوب مع الرسالة في كلّ أبعاد الإسلام. والرسالة الإسلاميّة تختلف عن أيّ رسالةٍ اُخرى في العالم؛ وذلك لأنّ أيّ رسالةٍ اُخرى في العالم لا تعالج إلّا جانباً من الإنسان:
1- الماركسيّة -التي تمثّل أحدث رسالةٍ عقائديّةٍ في العالم الحديث- تعالج جانباً من وجود الإنسان، تترك الإنسان حينما يذهب إلى بيته، حينما يذهب الإنسان إلى مخبئه، حينما يخلو الإنسان بنفسه، ليس لها أيّ علاقةٍ
مع الإنسان في هذه الميادين، وإنّما تأخذ بيده في مجال الصراع السياسي والاقتصادي لا أكثر من هذا المقدار. فصيغة الرسالة بطبيعتها صيغة منكمشة محدودة، صيغة تعالج جانباً من الحياة الإنسانيّة؛ فالعصمة العقائديّة التي لابدّ أن تتوفّر في قائدٍ ماركسيٍّ مثلاً هي العصمة في حدود هذه المنطقة التي تعالجها الرسالة العقائديّة الماركسيّة.
2- أمّا الرسالة الإسلاميّة -التي هي رسالة السماء على وجه الأرض- فهي تعالج الإنسان من كلّ نواحيه، وتأخذ بيده إلى كلّ مجالاته، ولا تفارقه وهو على مخدعه في فراشه، وهو في بيته بينه وبين نفسه، وهو في أيّ مجالٍ من مجالات حياته، هذه الرسالة معه، وحيث إنّ هذه الرسالة معه ولا تفارقه في أيّ مجالٍ من مجالات حياته، لهذا تكون الصيغة المحدودة من العصمة على أساس هذه الرسالة أوسع نطاقاً وأرحب اُفقاً وأقسى شروطاً، وأقوى من ناحية مفعولها وامتدادها في كلّ أبعاد الحياة الإنسانيّة.
فعصمة الإمام ليست هي عبارة عن مجرّد النزاهة في الحكم، وليست هي عبارة عن مجرّد الترفّع عن المال، بل هي عبارة عن النزاهة في كلّ فكرة، وفي كلّ عاطفة، وفي كلّ الشؤون. والنزاهة في كلّ فكرة وعاطفة وشأن هي عبارة عن انصهارٍ كاملٍ مع مفاهيم وأحكام الرسالة الإسلاميّة في كلّ مجالات هذه الأفكار والعواطف والشؤون.
هذا استطرادٌ كان لا بدّ منه.
إذاً، فالعصمة شرطٌ لمجموع الاتجاهات العقائديّة، ونحن أيضاً نؤمن بأنّ العصمة هي شرطٌ في هذا الاتجاه.
وبطبيعة الحال حينما نقول بأنّ العصمة شرطٌ في هذا الاتجاه لا نقصد بها أمراً حتميّاً غير قابلٍ للزيادة والنقصان والتشكيك. نفس العصمة إذا حوّلناها إلى مفهوم النزاهة والتجاوب الكامل مع الرسالة تكون أمراً مقولاً بالتشكيك، مختلفاً في الشدّة والضعف، وبوصف أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) المرتبة الأسمى والأكمل من هذه المراتب المقولة بالتشكيك والمختلفة شدّةً وضعفاً نقول بإمامتهم.
عدم عصمة الاُمّة والزعامة التي خلفت النبي (صلّى الله عليه وآله):
ولنعد أخيراً إلى موضوع البحث فنقول: بأنّ هؤلاء الذين تسلّموا أمر التجربة الإسلاميّة وزعامتها بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يكونوا معصومين حتّى بأدنى مراتب العصمة، بأدنى مراتب النزاهة والتفاعل مع الرسالة الإسلاميّة كما أشرنا إلى ذلك بالأمس.وحينئذٍ، حيث إنّ التجربة تمثّل اتّجاهاً عقائديّاً ورساليّاً، وليس أنّ مجموعة من الناس يعيشون، مجرّد أنّهم يعيشون، وإنّما أيضاً هم هادفون، اُناس مثاليّون، اُناس يمثّلون وجهة نظر معيّنةٍ في الكون والحياة والمجتمع، يمثّلون رسالةً لتغيير الحياة على وجه الأرض وتغيير التاريخ.. إذاً: هذه التجربة العقائديّة الضخمة على هذا المستوى بحاجةٍ إلى قيادةٍ عقائديّةٍ معصومةٍ تتوفّر فيها فعاليّة عالية جدّاً من النزاهة والتجرّد والموضوعيّة والانفعال بمعطيات هذه الرسالة.
إذاً، لم تكن هذه موجودةً في القيادة.
قد يقال: إنّ العصمة كانت موجودةً في الاُمّة ككلّ، والاُمّة ككلٍكانت تمارس الإسلام، وكانت تمارس التوجيه، وكانت تمارس المراقبة للحكم القائم حتّى لا ينحرف، الاُمّة ككلٍكانت معصومة، وإذا كانت الاُمّة ككلٍّ معصومةً، إذاً فالعصمة قد حصلنا عليها عن طريق الوجود الكلّي للاُمّة. و[هذه هي] الفكرة التي قد يكون الحديث المروي من طرق العامّة يحاول تذليلها: «اُمّتي لا تجتمع على خطأ»(6).
إلّا أنّ هذه الفكرة غير صحيحة. نحن نؤمن بأنّ الاُمّة بوجودها المجموعي لم تكن معصومةً، كما هي الحال في الخلفاء الذين استولَوا على الزعامة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله). طبعاً إذا استثنينا من ذلك الزعامة المعصومة الموجودة في داخل هذه الاُمّة، والمتمثّلة في اتجاه أمير المؤمنين (عليه السلام).
إنجازات الاُمّة بقيادة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله):
هذا، بالرغم من أنّنا نعترف ونفتخر ونمتلئ اعتزازاً بالإيمان بأنّ الاُمّة الإسلاميّة التي أسّسها النبي (صلّى الله عليه وآله) والتي حرسها ضربت أروع نموذجٍ للاُمّة في تاريخ البشريّة على الإطلاق.الاُمّة الإسلاميّة كانت الاُمّة المثلى الكاملة التي أمكن للنبي (صلّى الله عليه وآله) في وقتٍ قصيرٍ جدّاً نسبيّاً في تاريخ إنشاء الاُمم، في مدّةٍ لا تبلغ ربع قرنٍ، أن ينشئ اُمّةً لها من الطاقة والإرادة والحرارة القدرُ الكبير، والذي لا يمكن للإنسان الاعتيادي أن يتخيّل كيف تمكّن من إيجادها.
هذه الاُمّة التي قدّمت من التضحيات في أيّام النبي (صلّى الله عليه وآله) في سبيل رسالتها ما لم تقدّم أيُّ اُمّةٍ قبلها، هذا التسابق على الجنّة، التسابق على الجهاد، التسابق على الموت، الإيثار الذي كان موجوداً بين المسلمين، روح التآخي التي شاعت في المسلمين، المهاجرون والأنصار كيف عاشوا؟ كيف تفاعلوا؟
كيف انصهروا؟
اُنظر إلى أهل بلدٍ واحدٍ، ينزح إليهم أهلُ بلدٍ آخر، يأتون إليهم ليقاسموا هؤلاء خيراتِ بلادهم ومعاشَهم وأموالَهم(7)، بل حتّى نساءهم(8)، وهؤلاء يستقبلونهم برحابة صدر، ينطلقون معهم، ينظرون إليهم [على] أنّهم إخوة لهم، يعيشون مجتمعاً واحداً وكأنّهم كانوا قد عاشوا [معاً] مئات السنين.
هذه الانفتاحات العظيمة في كلّ ميادين المجتمع التي حقّقتها الاُمّة بقيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، هذه الانفتاحات لا مثيل لها، وبالرغم من كلّ هذا نقول بأنّ الاُمّة لم تكن معصومة، وإنّ كلّ هذه الانفتاحات كانت قائمةً على أساس الطاقة الحراريّة التي كانت تمتلكها الاُمّة من لقاء القائد الأعظم، ولم تكن قائمةً على أساس درجةٍ كبيرةٍ من الوعي الحقيقي للرسالة العقائديّة.
الاُمّة الإسلاميّة بين الطاقة الحراريّة والتوعية النبويّة:
نعم، كان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يمارس عمليّة توعية الاُمّة، وعمليّة الارتفاع بالاُمّة إلى مستوى اُمّةٍ معصومة. هذه العمليّة -التي كانت مضغوطة، والتي بدأ بها النبي (صلّى الله عليه وآله)- لم ينجز شيئاً منها في هذا الخطّ، إنّما الشيء الذي اُنجز في هذا الخطّ -في خطّ عمل النبي (صلّى الله عليه وآله) على مستوى الاُمّة ككلّ، وليس على مستوى أفرادٍ معدودين- هو إعطاء الاُمّة طاقةً حراريّةً من الإيمان بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً، هذه الطاقة الحراريّة التي كانت تمتلكها الاُمّة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وفي كلّ لحظةٍ من لحظات انتصارها أو انكسارها هي المصدر، وهي السبب في كلّ هذه الانفتاحات العظيمة، وكانت روح القائد هي التي تجذب، وهي التي تحصد، وهي التي تقود هؤلاء إلى المثل العليا والقيم الضخمة الكبيرة التي حدّدها الرائد الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بين يديهم.إذاً، فهي طاقة حراريّة وليست وعياً.
: إنّ الطاقة الحراريّة والوعي قد يتّفقان في كثيرٍ من الأحيان، ولكن لا يمكننا المقارنة في الحالات الاعتياديّة بين اُمّةٍ واعيةٍ وبين اُمّةٍ تملك طاقةً حراريّةً كبيرةً دون درجةٍ كبيرةٍ من الوعي.
نعم، قد تكون هناك مظاهر مشتركة في كثيرٍ من الأحيان. ولكن في منعطفاتٍ معيّنةٍ من حياة هذه الاُمّة، في لحظاتٍ حاسمةٍ من حياة هذه الاُمّة، في مواقف حرجةٍ من تاريخها، يتبيّن الفرق بين الوعي والطاقة الحراريّة، يتبيّن هذا في لحظات الانفعال، الانفعال الشديد، سواءٌ كان انفعالاً موافقاً لعمليّات الانتقال أو انفعالاً معاكساً.
في هذه اللحظات يبدو حينئذٍ الفرقُ بين الطاقة الحراريّة وبين الوعي؛ لأنّ الوعي لا يتزعزع في لحظة الانفعال، يبقى ثابتاً وصامداً لا يتزعزع عن موضعه، ولا يلين ولا يتميّع في لحظة الانفعال.
وعي الإنسان وإيمانه بأهدافه ومسؤوليّاته فوق كلّ الانفعالات، فوق كلّ المشاكل والانتصارات، أيّ انتصارٍ يحقّقه الإنسان لا يمكن أن يخلق فيه انفعالاً يزعزع وعيه إذا كان واعياً وعياً حقيقيّاً، يبقى على الخطّ، لا يشطُّ ولا يشذُّ، ولا يزيد ولا ينقص.
محمّد (صلّى الله عليه وآله) -هذا الرجل العظيم- يدخل إلى بيت الله الحرام منتصراً، لحظة الانتصار هذه لم تزعزع من خُلقه، من وضعه، لم تخلق فيه نشوة الانتصار، وإنّما خلقت فيه ذُلّ العبوديّة، شعر بذلّ العبوديّة أكثر ممّا شعر بنشوة الانتصار(9). هذا هو الذي يمثّل الوعي العظيم، لكنّ المسلمين عاشوا نشوة الانتصار(10).
في لحظاتٍ عديدة، لحظات الصدمة، لحظات المشكلة، لحظات المأساة، الواعي يبقى صامداً أمام المشكلة لا يتزعزع، لا يلين ولا يتراخى، يبقى على خطّه واضحاً.
النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يكن يبدو عليه أيُّ فرقٍ بينه وهو داخلٌ مكّةَ فاتحاً، وبينه وهو مطرود في الحجاز من قبائل العرب المشركين. يتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى يقول له: «لا يهمّني ما يصنع هؤلاء إذا كنت راضياً عنّي»(11).
نفس الروح التي نجدها في لحظة انقطاعه، في لحظة مواجهته البشريّةَ التي تحمل ألوان الشرور، في لحظة تمرّد الإنسان على هذا الوجه الذيجاء ليُصلحه. لم تتبدّل حالته هذه اللحظة وبين حالته والإنسانيّة تستجيب، والإنسانيّة تخضع، والإنسانيّة تُطأطئ رأسها بين يديه، بين يدي القائد العظيم (صلّى الله عليه وآله).
هذا هو الوعي، أمّا الاُمّة لم تكن هكذا. ولا نريد أن نكرّر الشواهد مرّة اُخرى حتّى يأتي البحث اليوم كاملاً؛ الشواهد على أنّ الاُمّة كانت غير واعيةٍ وإنّما هي طاقة حراريّة مرّت في الأيام السابقة.
إذاً، فالاُمّة الإسلاميّة كانت تحمل طاقةً حراريّةً كبيرةً، ولم تكن اُمّةً واعيةً بدرجةٍ كبيرة؛ فلم تكن العصمة متوفّرةً لا في القيادة، ولا في الاُمّة بوجودها المجموعي، ومن أجل هذا كان الانحراف حتميّاً على النحو الذي بيّنّا بالأمس، وهكذا بدأ الانحراف بعد النبي (صلّى الله عليه وآله).
المصادر:
1- ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى 68 :1/فدك في التاريخ: 90، الهامش/ شرح نهج البلاغة 45 :6
2- (1) الفتوح 14 :5.
3- شرح نهج البلاغة 21 :12.
4- المناسك (ابن أبي عروبة): 82-83، الحديثان 50 و51؛ المسند (ابن حنبل) 325 :3.
5- موسوعة السياسة 701 :5.
6- تأويل مختلف الحديث 20 :1؛ «إنّ اُمّتي لا تجتمع على ضلالة» السنن (ابن ماجة) 1303 :2، الحديث 3950.
7- البداية والنهاية 228 :3 - 229.
8- أنساب الأشراف 31 :10.
9- المغازي 824 :2.
10- المغازي 2:821.
11- السيرة النبويّة (ابن هشام) 420 :1.